تنمية المعارضة السلمية في منهج الإمام الشّهيد الصدر(قدس سره)

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

تبنّى الإمام الشّهيد الصّدر(قدس سره) رأياً في المعارضة يختلف عن المرتكزات الذهنية السائدة في تقويم وتقييم آرائه ومواقفه، فهو يتبنّى المعارضة السلمية من أجل تقرير المفاهيم والقيم الإسلامية في واقع الحياة وجعلها حاكمة على الأفكار والممارسات التي يقوم بها الحاكم والأُمّة على حدٍّ سواء.

ويرى أَنَّ الدولة ظاهرة نبوية، ويرفض من خلال نظرته الإسلامية نظرية القوّة والتغلُّب، ونظرية التفويض الإلهي الإجباري، ونظرية العقد الاجتماعي، ونظرية الدولة عن العائلة، ويرى أَنَّ الدولة والحكومة غير منفصلة عن الدين، وهي اختصاص النبي أو الإمام أو الفقيه العادل الكفوء في عصر الغيبة، ويرى بأنّ الفقيه العادل الكفوء هو الحاكم المنصوب من قبل الله تعالى ورسوله والإمام المعصوم تنصيباً عاماً، وتقع على الأُمة مسؤولية الاختيار الواعي له عن طريق البيعة والانتخاب واختياره في حال تعدُّد المؤهلين لمنصب الحاكمية، وللأُمّة حقّ الاعتراض إنْ خالف الحاكم ثوابت الدستور الإسلامي.

ويرى أَنَّ الدولة على ثلاثة أنواع:

الأوّل: الدولة القائمة على قاعدةٍ فكريةٍ مضادة للإسلام، وهذه الدولة هي دولة كافرة.

الثاني: الدولة التي لا تملك لنفسها قاعدة فكرية معيّنة، حيث تقوم على أساس إرادة الحاكم وهواه، أو المسخّرة لإرادة أُمةٍ أُخرى ومصالحها، وهذه الدولة هي دولةٌ كافرةٌ أيضاً.

الثالث: الدولة الإسلامية، وهي الدولة التي تقوم على أساس الإسلام، وهي بدورها على أنحاء.

ـ الدولة المعصومة.

ـ الدولة التي تعارض في بعض تشريعاتها القاعدة الإسلامية، أو تعارضها في التنفيذ.

ـ الدولة التي تخالف القاعدة الإسلامية عن عمدٍ مستندة إِلَى هوى خاصٍّ أو رأيٍ مرتجل.

ويرى الإمام الشهيد وجوب معارضة الدولة الكافرة أو الدولة الإسلامية التي يشذ حكّامها عن القاعدة الإسلامية في التشريع والتنفيذ، ووجوب المعارضة مشروطٌ بملاحظة النتائج الإيجابية ومراعاة مصلحةالإسلام العليا كعقيدةٍ وككيانٍ وأفراد؛ للحيلولة دون حدوث فتنةٍ داخليةٍ إو إراقة دماءٍ دون الحصول على مكاسب ملموسة.

فهو يتبنّى المعارضة السلمية كأصل وأساس، وتبقى المعارضة العسكرية كخيارٍ استثنائيٍّ محدود النطاق، بحيث لا تزجّ جميع الطاقات في هذه المعارضة.

ومن الناحية العملية فإنّه ضيّق من دائرة المواجهة المسلّحة باعتماد أساليب الخلايا الجهادية والتنظيم السري، والعمل على تقويض رأس النظام العراقي من قبل مجاميع خاصّة مرتبطة به بنحو من الارتباط.

وكان تصعيده للمواجهة مع النّظام منطلقاً من فهمٍ واعٍ لسياسة النّظام التي تخطّط لتصفيته جسدياً في جميع الأحوال والظروف؛ ليكون لدمه دورٌ ملموسٌ في تقويض أركان النظام، وهذا ما تحقّق في ذكرى استشهاده؛ بحيث إِنَّ ضعف النّظام من الداخل ساعد في زواله من قبل القوات الأجنبية.

الاختلاف سنّةٌ تاريخية

من السُّنن التاريخية التي لا تختلف ولا تتخلّف أَنَّ الإنسان يختلف مع أخيه الإنسان في مختلف القضايا وعلى جميع المستويات الفكرية والعاطفية والسلوكية، وهذه حقيقة موضوعية لا تقبل الجدال، فالإنسان بغرائزه الروحية والمادية، وبطاقته النفسية والعقلية، وإمكاناته الذاتية يختلف عن غيره، ومن هنا كانت التعددية ظاهرة طبيعية لا يمكن إلغاؤها أو شطبها أو تحميلها ما لا يطاق.

وبسبب هذه التعددية تتولّد الخلافات والنزاعات التي تتخذ طابع الرفق أحياناً والعنف أحياناً أخر، تتخذ طابع التنافس المشروع تارةً وغير المشروع تارةً أُخرى، وخاصّة حينما يكون التعصُّب والأنانية محرّكاً للفكر والموقف العملي، ويتجلّى العنف والإلغاء والشطب في المجال السياسي حينما يختلف الحاكم مع المحكومين، فيواجه المعارضة بالإرهاب والقمع ظنّاً منه أَنَّه السبيل الوحيد لإلغائها وشطبها.

وفي مجال العلاقة بين الحاكم والمعارضة كان الإمام الشهيد محمد باقر الصدر يتبنّى رأياً مخالفاً للمرتكزات الذهنية السائدة في تقويم وتقييم آرائه ومواقفه، فهو يتبنّى المعارضة السلمية الهادئة والهادفة لإصلاح الواقع وتغييره. وفي البدء نتظرّق إِلَى رأيه ¨ في خصائص الحاكم، وشكل الحكومة، ثمّ ننتقل إِلَى بيان رأيه في معارضة الحاكم والحكومة المخالفة للثوابت الإسلامية.

الدولة ظاهرة نبوية

من خلال النظرة الشمولية للفهم الحقيقي للدين أو الإسلام، خصوصاً باعتباره النظام الشامل لجميع جوانب الحياة الإنسانية، يرى الإمام الصدر¨ أَنَّ الدولة ظاهرة نبوية، فيقول: «من ناحية تكوّن الدولة ونشوئها تاريخياً نرفض إسلامياً المذهب الفردي، أو مذهب عدم التدخُّل المطلق (أصالة الفرد)، والمذهب الاشتراكي أو (أصالة المجتمع)، ونؤمن بأنّ وظيفتها تطبيق شريعة السماء التي وازنت بين الفرد والمجتمع، كما أَنَّ النظرية الإسلامية ترفض الملكية، أي: النظام الملكي، وترفض الحكومة الفردية بكُلِّ أشكالها، وترفض الحكومة الأرستقراطية، وتطرح شكلاً للحكم يحتوي على كُلِّ النُّقاط الإيجابية في النظام الديمقراطي مع فوارق تزيد الشكل موضوعيةً وضماناً لعدم الانحراف. فالأُمة هي مصدر السيادة في النظام الديمقراطي، وهي محطّ المسؤولية أمام الله تعالى في النظام الإسلامي، والدستور كله من صنع الإنسان في النظام الديمقراطي، بينما تمثّل الأجزاء الثابتة من الدستور شريعة الله تعالى وعدالته التي تضمن موضوعية الدستور وعدم تحيّزه»[2].

وعلى ضوء ذلك، فالدولة والحكومة غير منفصلة عن الدين، بل هي دولة وحكومة دينية مهمتها إقرار مفاهيم الدين أو الإسلام في واقع الحياة وجعلها حاكمة على جميع الطبقات والشرائح الاجتماعية والسياسية، بلا فرقٍ بين الحاكم والمحكومين. فهم جميعاً مكلفون بهذه المسؤولية، ولكلٍّ دوره في تحقيقها في الواقع، ومن هنا يكون الإشراف على الدولة والحكومة من مهمّة النبي أو الإمام، سواء كان مبسوط اليد أو غير مبسوطها، وكذلك النائب عن الإمام بالنيابة العامة، وهو الفقيه الجامع للشرائط، وهو الثابت من خلال آراء الإمام الصدر (قدس سره)، كما ورد عن: «إِنَّ المرجعية الرشيدة هي المعبّر الشرعي عن الإسلام، والمرجع هو النائب العام عن الإمام من الناحية الشرعية، وعلى هذا الأساس يتولّى ما يلي:

أوّلاً: أَنَّ المرجع هو الممثل الأعلى للدولة، والقائد الأعلى للجيش.

ثانياً: المرجع هو الَّذِي يرشّح أو يمضي ترشيح الفرد أو الأفراد الَّذِين يتقدمون للفوز بمنصب رئاسة السلطةالتنفيذية»[3].

والخلافة العامة للأُمة: «على أساس قاعدة الشورى التي تمنحها حقّ ممارسة أُمورها بنفسها ضمن إطار الإشراف والرقابة الدستورية من نائب الإمام»[4].

حاكمية الفقيه في عصر الغيبة

الحاكمية في عصر الغيبة من اختصاص الفقيه الجامع للشرائط، والمتمثّل في المرجع، فهو يمثّل خطّ الشهادة على الأُمة على أساس أَنَّ المرجعية امتدادٌ للنبوة والإمامة.

ومن أهمّ مسؤولياته:

ـ أنْ يحافظ على الشريعة والرسالة.

ـ أنْ يكون في بيان أحكام الإسلام ومفاهيمه مجتهداً.

ـ أنْ يكون مشرفاً ورقيباً على الأُمة[5].

وهذا الرأي مطابقٌ للآراء الواعية لجمعٍ من فقهاء المذاهب الأُخرى الَّذِين يتبنون إمامة الفقيه العادل الكفوء.

فقد حدّد الماوردي الشافعي شروطاً ينبغي اتّصاف الإمام أو الحاكم الأعلى بها، وهي: «العدالة، والعلم المؤدي إِلَى الاجتهاد في النوازل، والرأي المفضي إِلَى سياسة الرعية، وتدبير المصالح»[6].

وقال النّووي: «كونه عدلاً عالماً مجتهداً شجاعاً ذا رأيٍ وكفاية»[7].

وقال القلقشندي في تحديد شروط الإمام: «العاشر: العدالة، فلا تنعقد إمامة الفاسق… لأنّ المراد من الإمام مراعاة النظر للمسلمين، والفاسق لم ينظر لنفسه في أمر دينه، فكيف ينظر في مصلحة غيره. الحادي عشر: الشجاعة والنجدة، فلا تنعقد إمامة الجبان. الثاني عشر: العلم المؤدي إِلَى الاجتهاد في النوازل والأحكام، فلا تنعقد إمامة غير العالم بذلك. الثالث عشر: صِحّة الرأي والتديُّن، فلا تنعقد إمامة ضعيف الرأي»[8].

وقيادة وحاكمية الفقيه العادل تنجسم مع روح الروايات التي توكّد دوره الريادي في المجتمع الإسلامي، فقد روي عن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) أَنَّه قال:

ـ «الفقهاء أُمناء الرسل»[9].

ـ «المتقون سادة، والفقهاء قادة، والجلوس إليهم عبادة»[10].

ـ وقال أمير المؤمنين (علیه السلام) في وصفه للعلم: «يرفع الله به أقواماً، يجعلهم في الخير أئمة، يقتدى بهم، ترمق أعمالهم، وتقتبس آثارهم…»[11].

ـ وقال (علیه السلام): «الملوك حكامٌ على الناس، والعلماء حكامٌ على الملوك»[12].

ـ وقال الإمام الحسين (علیه السلام): «ذَلِكَ بِأَنَّ مَجَارِيَ الْأُمُورِ وَالْأَحْكَامِ عَلَى أَيْدِي الْعُلَمَاءِ بِالله الْأُمَنَاءِ عَلَى حَلَالِهِ وَحَرَامِه‏»[13].

والرأي الَّذِي تبنّاه الإمام الشهيد منسجمٌ مع روح الإسلام الهادفة إِلَى هداية الناس وقيادتها نحو المطلق سبحانه وتعالى، بتقرير مفاهيم وقيم الإسلام في واقع الحياة، ولا يستطيع القيام بهذه المسؤولية إِلَّا من يكون عالماً باسسها وقواعدها الثابتة، ومجسداً لها في سلوكه العملي، وهو الفقيه الجامع للشرائط، والمتعارف بين جميع الأُمم على مختلف دياناتها أَنَّها لو خلّيت وإرادتها فإنّها ستختار من بينها من كان عارفاً بمفاهيمها وقيمها المتوارثة، ومن كان مجسّداً لها في واقعه السُّلوكي.

وحاكمية الفقيه هي الحاكمية الوحيدة التي تجعل القوانين والتوجيهات والأوامر والنواهي ذات قدسيةٍ خاصّة في العقول والقلوب، فتستجيب الأُمّة للفقيه دون تردُّد أو تراجع، وتندفع للاستجابة إِلَى أوامره عن قناعةٍ، وتستسلم استسلاماً ذاتياً؛ لأنّها تشعر بقدسية الأوامر والتوجيهات، وتشعر بأنّ الله تعالى هو الرقيب عليها قبل رقابة القانون؛ ولهذا لا تعارضه ما دام مجسّداً للمنهج الإلهي في واقعه السُّلوكي.

وتكون المعارضة إنْ وجدت ظاهرة استثنائية طارئة، تنطلق من الجهل وقلّة الوعي، ومن المصالح الضيقة الذاتية، أو من التمرُّد على المفاهيم والقيم الإسلامية، أو عدم الإيمان بصلاحيتها وقدرتها على مواكبة حركة البشرية، أو نتيجة للارتباط بمناهج غير إسلامية.

دورالأُمة في انتخاب الحاكم

من أساسيات المنهج الإسلامي الاعتماد على الأُمّة في إنجاح المسيرة التكاملية لحركة الإسلام الميدانية بالمشاركة في إقرار المفاهيم والقيم السامية في الواقع، وتحقيقها في صورةٍ عمليةٍ ذات معالم واضحة وملموسة، تترجم فيها التصوّرات والنُّصوص إِلَى مشاعر وأوضاع وارتباطات وحركات وأعمال وأخلاق في جميع مجالات الحياة الإنسانية.

وهذه المسؤولية تكليفٌ عامٌّ يشمل القائد والأُمّة، أو الحاكم والمحكومين، فلكُلٍّ منهم دورٌ محدّدٌ يساهم من خلاله في إنجاز المهمّات وإنجاح سير الأعمال.

ومن هنا منح المنهج الإسلامي للأُمّة دوراً واضحاً في اختيار الحاكم الأصلح من بين المؤهلين؛ وبهذا الدور تشعر الأُمة بمساهمتها في البناء، وفي إرساء أركان ومقومات النظام والحكومة، وفي تحميل المسؤولية في تنفيذ البرامج والمشاريع، أو المساهمة في تقريرها. وقد أوكل الإمام الشهيد اختيار الحاكم الإسلامي للأُمة على طبق الموازين والمعايير والشروط الثابتة، فقال: «وأمّا المرجع، فهو معيّنٌ تعييناً نوعياً، أي: أَنَّ الإسلام حدّد الشُّروط العامّة للمرجع، وترك أمر التعيين والتأكيد من انطباق الشُّروط إِلَى الأُمّة نفسها، ومن هنا كانت المرجعية كخطٍّ قراراً إلهياً، والمرجعية كتجسيدٍ في فردٍ معيّنٍ قراراً من الأُمة»[14].

وهذه المسؤولية تكليفٌ عامٌّ يشمل القائد والأمّة أو الحاكم والمحكومين، فلكُلٍّ منهم دور محدد يساهم من خلاله في إنجاز المهمات وإنجاح سير الأعمال.

ومن هنا منح المنهج الإسلامي للأمّة دوراً واضحاً في اختيار الحاكم الأصلح من بين المؤهلين، وبهذا الدور تشعر الأمة بمساهمتها في البناء وفي إرساء أركان ومقومات النظام والحكومة، وفي تحمّل المسؤولية في تنفيذ البرامج والمشاريع، أو المساهمة في تقريرها، وقد أوكل الإمام الشهيد اختيار الحاكم الإسلامي للأمة على طبق الموازين والمعايير والشروط الثابتة فقال: «وأمّا المرجع، فهو معين تعييناً نوعياً، أيْ: أَنَّ الإسلام حدّد الشروط العامة للمرجع وترك أمر التعيين والتأكيد من انطباق الشروط إِلَى الأمة نفسها، ومن هنا كانت المرجعية كخطٍّ قراراً إلهياً، والمرجعية كتجسيد في فرد معين قرار من الأمة»[15].

وقال أيضاً: «وأمّا المرجعية، فهي عهد رباني إِلَى الخط لا إِلَى الشخص، أي: أَنَّ المرجع محدد تحديداً نوعياً لا شخصياً، وليس الشخص هو طرف التعاقد مع الله، بل المركز كمواصفات عامة»[16].

والطريق الأفضل للاختيار هو طريق البيعة الذي يعبّر عن مساهمة الأمة في البناء الحكومي والاستشعار بأنّها جزء منه: «إنّها بالبيعة تحدّد مصيرها، وإنّ الإنسان حينما يبايع يساهم في البناء ويكون مسؤولاً عن الحفاظ عليه»[17].

والاختيار هو من مسؤولية الأمة: «إذ تقع على الأمة مسؤولية الاختيار الواعي له»[18].

وتساهم الأمّة في البناء عن طريق مبدأ الشورى؛ حيث إِنَّ الشورى هي الفيصل في حال اختلاف الآراء والقرارات والمواقف السياسية، وهذا ما أشار إليه الإمام الشهيد بالأخذ (بمبدأ الشورى، وبرأي الأكثرية عند الاختلاف)[19].

وعلى ضوء ما تقدّم نستطيع القول بأن للأُمّة حقّ الاعتراض ما دامت طرفاً في تشكيل الحكومة أو اختيار الحاكم، فلها حقّ الاعتراض إنْ خالف الحاكم القاعدة الفكرية التي يستند إليها، أو خالف بعض بنود الدستور، فتكون المعارضة وسيلة للإصلاح ووسيلة للبناء وإعادة الحاكم إِلَى جادة الصّواب؛ للتقيّد بالقاعدة الفكرية الحاكمة عليه وعلى الأمّة.

وبعد هذه المقدمة نتطرق إِلَى الموقف من الحكومة على اختلاف متبنياتها الفكرية ومواقفها العملية؛ حيث إِنَّ مسؤولية الأُمّة هي المراقبة للحكام وأجهزتهم التنفيذية.

أنواع الدولة والموقف منها

يرى الإمام الشهيد أَنَّ الدولة على ثلاثة أنواع.

أولا: «الدولة القائمة على قاعدة فكرية مضادة للإسلام، وهذه الدولة دولة كافرة؛ لأنّها لا تقوم على القاعدة الفكرية للإسلام، وهي بسبب تبنيها لقاعدة فكرية مناقضة للإسلام تعدّ كُلّ إمكاناتها للتبشير بتلك القاعدة ومحاربة كُلّ ما يناقضها بما في ذلك الإسلام بعقيدته وأفكاره وتشريعه. وحكم الإسلام في حقّ هذه الدولة: أنّه يجب على المسلمين أن يقضوا عليها، وأن ينقذوا الإسلام من خطرها إذا تمكنوا من ذلك بمختلف الطرق والأساليب التبشيرية والجهادية؛ لأنَّ الإسلام في هذه الدولة ـ حتى بصفته عقيدة ـ موضعٌ للهجوم وموضعٌ للخطر، فتكون الحالة معها حالة جهاد لحماية بيضة الإسلام، غير أَنَّ وجوب جهاد هذا العدو لا يعني بطبيعة الحال القيام بأعمال تعرُّض العاملين للخطر دون نتيجة إيجابية»[20].

ثانياً: الدَّولة التي لا تملك لنفسها قاعدة فكرية معينة، كما هو شأن الحكومات القائمة على أساس إرادة حاكم وهواه، أو المسخرة لإرادة أمّة أُخرى ومصالحها، وهذه الدولة دولة كافرة وليست دولة إسلامية، وإنْ كان الحاكم فيها والمحكومون مسلمين جميعاً؛ لأنَّ الصفة الإسلامية للدولة لا تنبع من اعتناق الأشخاص الحاكمين للإسلام، ومعنى اعتناق الدولة للإسلام، ارتكازها على القاعدة الإسلامية واستمدادها من الإسلام، تشريعاتها ونظريتها للحياة والمجتمع…

والإسلام في هذه الدولة وإنْ كان لإيجابه منها حرباً مركّزة على عقيدته وأفكاره إلا أنّه حيث أقصى عن قاعدته الرئيسية أصبح يفقد ضمان الدولة بكُلّ وجه من الوجوه، وأصبح وجوده في خطر.

«والحكم الشرعي في حقّ هذه الدولة أنّها ليست دولة شرعية، ويجب على المسلمين هدمها وإبدالها بدولةٍ إسلامية، وكذلك فإنّ وجوب إبدالها لا يعني القيام بأعمال تعرّض العاملين للخطر دون احتمال نتيجة إيجابية، كما أَنَّ الطرق التي تستعمل في سبيل هدمها وإبدالها تقدّر من حيث درجة العنف والقوة طبقاً لمدى الخطر الذي يتهدّد الإسلام منها، وطبقاً لإمكانات العاملين واحتمال عود جهادهم بنتيجةٍ على الإسلام»[21].

ورأي الإمام الشهيد في الموقف من هذين النوعين من الدولة هو تبنّي الجهاد لتغييرها، والجهاد المقصود هو الجهاد الأعمّ أو الجهاد بمعناه المطلق الذي يشمل الجهاد السّلمي أو السياسي والجهاد المسلّح، والجهاد السلمي أو السّياسي مقدّمٌ على غيره عن طريق المنابر الإعلامية السائدة المقروءة والمسموعة، وعن طريق التظاهرات والاعتصامات والعصيان المدني، فالظروف هي التي تحدّد الموقف.

ويراعى على ضوء ذلك مستوى الخطر الذي يهدّد الإسلام، فقد يكون التهديد منصباً على أمورٍ غير أساسية، وقد يكون منصباً على أساسيات الإسلام، فما دام حقّ التعبير وحقّ إبداء وجهات النظر قائماً فإنَّ المعارضة السلمية أو السياسية هو الموقف العملي الذي ينبغي اتّخاذه للمحافظة على الوجود الإسلامي، والمحافظة على حياة العاملين للإسلام.

ويراعى على ضوء ذلك مستوى الخطر الذي يهدّد الإسلام، فقد يكون التهديد منصباً على أُمورٍ غير أساسية، وقد يكون منصباً على أساسيات الإسلام، فما دام حقّ التعبير وحقّ إبداء وجهات النظر قائماً فإنّ المعارضة السلمية أو السياسية هي الموقف العملي الذي ينبغي اتّخاذه للمحافظة على الوجود الإسلامي والمحافظة على حياة العاملين للإسلام.

وفي جميع الأحوال والظروف ينبغي مراعاة المصلحة في اختيار نوع أو لون الجهاد، ومراعات النتائج الإيجابية من اتخاذ الموقف المعارض، فقد يكون الجهاد المسلّح مؤدياً الى نتائج سلبية على أساس وجود الإسلام ووجود العاملين، فالموقف هو التخلّي عنه؛ لأنّه لا يؤدي الى نتائج إيجابية ولا ينسجم مع المصلحة الإسلامية العليا، فالإمام الشهيد يتبنّى الجهاد السلمي أو السياسي، وهو الأصل الثابت، ويبقى الجهاد العسكري أو المسلّح هو الاستثناء الذي ينبغي إرجاعه إِلَى الأصل حين يحقّق نتائجه الإيجابية.

والظاهر من رأي الإمام الشهيد هو تجنُّب العنف قدر المستطاع ما دام لا يحقّق نتائج إيجابية على مستوى الفكر والوجود الإسلامي ومستوى العاملين للإسلام.

ثالثاً: «الدولة الإسلامية، وهي الدولة التي تقوم على أساس الإسلام وتستمدّ منه تشريعاتها، بمعنى أنّها تعتمد الإسلام مصدرها التشريعي، وتعتمد المفاهيم الإسلامية منظارها الذي تنظر به إِلَى الكون والحياة والمجتمع. وهي على أنحاء ثلاثة:

النحو الأول: أنْ تكون جميع التشريعات التي تقوم بها الدولة مستمدة من القاعدة الفكرية بحيث إِنَّ سير الدولة التشريعي والتنفيذي يكون منسجماً ومتفقاً مع متطلبات الإسلام وأحكامه وبصورة مضمونة دون أيّ قصور أو تقصير، وهذا إنّما يتأتّى فيما إذا كانت السلطة الحاكمة معصومة من الخطأ والهوى كالسلطة الحاكمة أيام النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وأمير المؤمنين (علیه السلام).

وحكم الإسلام بحقّ الدّولة من هذا النوع أنّه يجب إطاعتها ولا يجوز التخلُّف عن أوامرها وقراراتها التي تصدرها بصفتها سلطة حاكمة بحالٍ من الأحوال»[22].

وهذا النوع من الدولة لا وجود له في مرحلتنا الراهنة، وحكم الإسلام في مثل هذه الدولة هو وجوب الطاعة والاستسلام المطلق للأوامر والنواهي، وعلى ضوء ذلك فتكون معارضتها غير مشروعة، نعم تجوز المعارضة لبعض الولاة أو المسؤولين المقصّرين معارضة سلمية تستند إِلَى مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

النحو الثاني: «أن تكون التشريعات والتنفيذات متعارضة مع الإسلام تعارضاً ناشئاً من عدم اطلاع السلطة الحاكمة على حقيقة الحكم الشرعي أو طبيعة الموقف، وحكم الإسلام بحقّ الدولة من هذا النوع.

  1. أنّه يجب على العارف من المسلمين أن يشرح للدولة ما تجهله من أحكام الإسلام أداء لوجوب تعليم أحكام الإسلام لمن يجهلها خاصة السلطة الحاكمة.
  2. كما يجب على المسلمين إطاعة هذه السلطة في كُلّ الحقوق والمجالات التي تشملها صلاحياتها الشرعية.
  3. وإذا أصرّت السلطة الحاكمة على وجهة نظرها الخاطئة عن حسن نيةٍ، ولم يمكن لمن يختلف معها في وجهة نظرها أن يثبت لها رأيه، فإنْ كانت القضية من القضايا التي يجب توحيد الرأي كالجهاد والضرائب وأمثالها، وجب على المخالف إطاعة أمر الدولة وإنْ كان معتقداً خطأها. وإنْ لم تكن القضية مما يجب فيه توحيد الرأي كان للمخالف أن يطبق في مجاله الخاص اجتهاده المخالف لاجتهاد الدولة»[23].

فالإمام الشهيد يرى طاعة مثل هذه الدولة في المجالات المتعلقة بمصلحة الإسلام ومصلحة المسلمين العليا، فلا يجوز التخلُّف عن طاعة الأوامر والنواهي ما دامت منسجمة مع الموازين والمعايير والقيم الإسلامية.

ومعارضة مثل هذه الدولة تستند إِلَى مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي معارضة تصحيحية نقدية لإرشاد مسؤوليها إِلَى الرأي الأصوب والموقف الأصوب، وإعادتهم إِلَى الثوابت الإسلامية. ويتمّ ذلك عن طريق قنوات الاتصال المتنوعة، أو عن طريق الإعلام المقروء أو المسموع، ويحبذ أنْ يستثمر منبر صلاة الجمعة لهذه المهمة.

ويمكن التعبير عن المعارضة بالموقف الصامت، وهو اتخاذ الموقف المناسب للثوابت في الأمور التفصيلية أو الجزئية المخالفة القاصرة أو المقصرة إذا لم تكن من الأمور التي ينبغي وحدة الصف تجاهما.

فالموقف المعارض هو موقفٌ إصلاحيٌّ ترميميٌّ لا يترقى إِلَى هدم الحكومة أو تبديلها بغيرها، وخصوصاً إذا كانت الحكومة مراعية للثوابت الإسلامية ومراعية لحقّ الأُمّة في التعبير عن الرأي والنقد البنّاء، فيمكن من خلال صناديق الاقتراع تبديل الجهاز الحاكم، وهو أفضل وسيلة سلمية لتجسيد المعارضة في الواقع.

النحو الثالث: «أن تشذّ الحكومة في تصرفاتها التشريعية أو التنفيذية، فتخالف القاعدة الإسلامية الأساسية عن عمدٍ مستندة في ذلك إِلَى هوى خاص أو رأي مرتجل، وحكم الإسلام في هذه الدولة:

  1. أنّه يجب على المسلمين عزل السلطة الحاكمة واستبدالها بغيرها؛ لأنّ العدالة من شروط الحكم في الإسلام، وهي تزول بانحراف الحاكم المقصود عن الإسلام، فتصبح سلطة غير شرعية، ويشترط في ذلك أن يتوصّل المسلمون إِلَى عزل السلطة الحاكمة بغير الحرب الداخلية.
  2. وإذا لم يتمكن المسلمون من عزل الجهاز الحاكم وجب عليهم ردعه عن المعصية طبقاً لأحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الشريعة المقدسة.
  3. إذا استمرت السلطة المنحرفة في الحكم فإنّ سلطتها تكون غير شرعية ولا يجب على المسلمين إطاعة أوامرها وقراراتها فيما يجب فيه إطاعة ولي الأمر إلا في الحدود التي تتوقف عليها مصلحة الإسلام العليا، كما إذا داهم الدولة خطر مهدد وغزو كافر؛ فيجب في هذه الحالة أن يقف المسلمون إِلَى صفّها بالرغم من انحرافها وتنفيذ أوامرها بتخليص الإسلام والأمة من الغزو والخطر»[24].

فالإمام الشهيد يرى أَنَّ الدولة التي تستند على الإسلام كقاعدة فكرية أو تتبنى الدستور الإسلامي تعتبر دولة إسلامية، غاية الأمر يكون الجهاز الحكومي المتمثل بالحاكم الأعلى ومؤسساته التنفيذية مخالف لهذه القاعدة الفكرية في السيرة العملية، فالحكم فيها هو وجوب العمل لتبديل هذه السلطة وتبديل الحاكم؛ لأنّه غير مستوفي للشروط اللازمة التي يجب اتصاف الحاكم بها، ووجوب العزل مشروط بعدم إراقة الدماء في حرب داخلية بين العاملين للإسلام وبين السلطة القائمة التي تمتلك مصادر القوة الإعلامية والعسكرية والمالية.

فواجب العاملين ردع الحاكم وأجهزته عن المواقف المنحرفة بشتى الوسائل المتاحة، وطبقاً لدرجة انحرافه عن القاعدة الفكرية التي يتبنّاها على المستوى النظري، ولا يجب طاعة القرارات الصادرة من الحاكم إلا بحدود المصلحة الإسلامية العليا، كالدفاع عن الدولة في حال تعرضها للغزو.

وعدم الطاعة قاعدة إسلامية ثابتة، وخصوصاً في الأمور غير المشروعة أو في الأمور التي يخالف فيها الحاكم والسلطة الحاكمة الثوابت الإسلامية، كما ورد عن رسول الله‘ أنّه قال: «إنّما الطاعة في المعروف»[25].

وقال أيضاً: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»[26].

وقال أيضاً: «من أرضى سلطاناً بما أسخط الله تعالى خرج من دين الإسلام»[27].

والرأي الذي تبناه الإمام الشهيد قد تسالم عليه الكثير من فقهاء السنة.

قال الزمخشري: «والمراد بأولي الأمر منكم أمراء الحق؛ لأنّ أمراء الجور لا يعطفون على الله ورسوله في وجوب الطاعة لهم، وإنّما يجمع بين الله ورسوله والأمراء الموافقين لهم في إيثار العدل واختيار الحق»[28].

وقال البروسوي: «إنّما أمراء الجور بمعزل من استحقاق العطف على الله والرسول في وجوب الطاعة»[29].

وقال بدر الدين العيني: «وجوب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية؛ لأنّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والأخبار الواردة بالسمع والطاعة للأمة ما لم يكن خلافاً لأمر الله تعالى ورسوله، فإذا كان خلاف ذلك فغير جائز لأحد أنْ يطيع أحداً في معصية الله ومعصية رسوله، وبنحو ذلك قالت عامة السلف»[30].

وأكّد النووي على ذلك قائلاً: «تجب طاعة الإمام في أمره ونهيه ما لم يخالف حكم الشرع»[31].

وذهب جمع من فقهاء السنة إِلَى جواز تبديل الحاكم بالقوّة العسكرية أو حمل السلاح لردعه عن الانحراف.

قال ابن حزم الظاهري: «… فإن امتنع من إنفاذ شيء من هذه الواجبات عليه ولم يراجع وجب خلعه وإقامة غيره ممن يقوم بالحقّ، ولا يجوز تضييع شيء من واجبات الشرائع»[32].

وذهب الجرجاني إِلَى جواز خلعه بالقوة والخروج بالسيف فقال: «وللأمّة خلع الإمام وعزله بسببٍ يوجبه، مثل أن يوجد منه ما يوجب اختلال أحوال المسلمين وانتكاس أمور الدين… وإنْ أدّى خلعه إِلَى الفتنة احتمال أدنى المضرتين»[33].

وذهب الجويني إِلَى ذلك كما حكى عنه التفتازاني:«وإذا أجار والي الوقت فظهر ظلمه وغشمه ولم يرعوِ لزاجر عن سوء صنيعه بالقول، فلأهل الحلّ والعقد التواطؤ على ردعه ولو بشهر السلاح ونصب الحروب»[34].

وخلاصة القول: إِنَّ المعارضة للحاكم المنحرف ـ سواء كان يتبنّى الإسلام قاعدة فكرية للدولة أو لا يتبناه ـ هي أمرُ مشروعُ، بل هي واجبٌ شرعيٌّ لإصلاح الواقع المنحرف أو تبديله بشتى الوسائل، ابتداء بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وانتهاء باستخدام القوة العسكرية المشروطة بمراعاة المصلحة الإسلامية العليا؛ مصلحة الإسلام كقاعدة فكرية ومصلحة الوجود والكيان الإسلامي ومصلحة المواطنين وخصوصاً العاملين للإسلام.

والإمام الشهيد يتبنى المعارضة السلمية أو المعارضة المسلحة بشرط تحقيق النتائج الإيجابية في شتى الجوانب والمجالات بعد مراعاة الربح والخسارة في كُلّ موقف يتّخذه العاملون.

المعارضة في الواقع العملي

على ضوء متبنيات الإمام الشهيد تعتبر حكومة صدام حسين حكومة غير إسلامية؛ لأنّها لا تستند إِلَى الإسلام كقاعدةٍ فكريةٍ، بل تستند إِلَى الأهواء والرغبات المزاجية لرأس النظام، وما تمليه عليه تصوراته الضيقة من مفاهيم وأفكار وقرارات ومواقف، فقد خالف القاعدة الإسلامية في مبتنياته الفكرية وممارساته العملية، وتفرد بالسلطة وأصبح الحاكم المطلق الذي لا يستمع إِلَى رأي أو نصيحة، وتبنى الإرهاب كوسيلة لقمع مخالفيه، فصادر الحريات العامة ولم يسمح بأيّة ثقافة غير ثقافة الحزب الواحد أو ثقافة الحاكم الواحد.

وفي مثل هذه الظروف لم يلتجئ الإمام الشهيد إِلَى المعارضة العلنية بتبني الجهاد أو المعارضة المسلحة إلَّا بعد أن عجزت المعارضة السلمية أو السياسية من تحقيق أهدافها، فقد بيّن في أحد خطاباته حقيقة النظام الذي صادر أبسط حقوق المواطنين، وطالب باسم الشعب بإصلاح الواقع القائم.

فقال: «… أسقطوا الأذان من الإذاعة فصبرنا، أسقطوا صلاة الجمعة من الإذاعة فصبرنا، وطوقوا شعائر الإمام الحسين (علیه السلام)، ومنعوا القسم الأعظم منها فصبرنا. وحاصروا المساجد وملؤوها أمناً وعيوناً فصبرنا، وقاموا بحملات الإكراه على الانتماء إِلَى حزبهم فصبرنا. إنّي أطالب باسمكم جميعاً، أطالب بإطلاق حرية الشعائر الدينية وشعائر الإمام أبي عبد الله الحسين(علیه السلام)، وأطالب باسمكم جميعاً بإعادة الأذان وصلاة الجمعة والشعائر الإسلامية إِلَى الإذاعة. وأطالب باسمكم جميعاً بإيقاف حملات الإكراه على الانتساب إِلَى حزب البعث على كل المستويات. وأطالب باسم كرامة الإنسان بالإفراج عن المعتقلين بصورةٍ تعسفيةٍ، وإيقاف الاعتقال الكيفي الذي يجري بصورةٍ منفصلةٍ عن القضاء، وأخيراً أطالب باسمكم جميعاً باسم القيم التي تمثلونها بفسح المجال للشعب ليمارس بصورةٍ حقيقيةٍ حقّه في تسيير شؤون البلاد؛ وذلك عن طريق إجراء انتخابٍ حرٍّ ينبثق عنه مجلس يمثل الأُمّة تمثيلاً صادقاً»[35].

فقد طالب بأبسط الحقوق التي ينبغي أن يتمتع بها الشعب بما ينسجم مع متبنياته الفكرية، وهي بدورها لا تشكل خطراً على أساس النظام القائم، بل تكون مقدمة لإصلاحه وتعميق الثقة المتبادلة بينه وبين مواطنيه، فيشعرون بأنَّ النظام حريصٌ على مراعاة حقوقهم، ويسعى إِلَى تحقيقها بصورةٍ واضحة المعالم، فلا يبقى مجال للتقاطع والتدابر، وتتجذّر قوّة النظام، إلا أَنَّ النظام لم يدرك هذه الحقيقة فتمادى في ممارساته التعسفية، ولم يراعِ أبسط حقوق المواطنة.

وحينما واجه النظام هذه المطالب بحملةٍ إرهابيةٍ قمعيةٍ بقي الإمام الشهيد يتجنب المعارضة أو المواجهة المسلحة؛ للحيلولة دون إراقة الدماء، وقد بقي على موقفه هذا في جميع مراحل المواجهة السلمية أو السياسية مع النظام، وكان حريصاً على عدم زجّ جميع الطاقات في المعارضة أو المواجهة المسلحة.

التوازن بين ألوان المواجهة

كان الإمام الشهيد دقيقاً في تناول كُلّ موقف وكُلّ حركة، وكان ذا بعدٍ واسعٍ في التحليل العميق لمجريات الأحداث من حيث الأسباب والنتائج والعوامل المتعددة الفاعلة في الموقف والمسيّرة للأحداث، فهدفه الحقيقي إصلاح الواقع بتغيير ذهنية الأُمّة إِلَى ذهنيةٍ إسلاميةٍ، وسلوكها إِلَى سلوك إسلامي. وما السلطة إلا وسيلة لإتمام هذا الإصلاح أو عرقلة حركته، وقد كانت السلطة القائمة على رأس العقبات والعراقيل للحيلولة دون تحقيق الهدف في معالم منظورة ملموسة. وبما أَنَّ السلطة كانت مهيمنة على مقدرات الشعب، ولا تتردد بقمع أيّ صوت يجهر بالإصلاح، فقد اتّخذ الإمام الشهيد أسلوب الموازنة بين المواجهة بكلا نوعيها: السلمية والمسلحة بحدود ضيقة لم يزج فيها جميع الطاقات.

وقد أدرك خطورة المواجهة العلنية وإن كانت سلمية: وبعد تسعة أيام متتالية من وصول الوفود[36] إِلَى النجف الأشرف أمر السيد الصدر بعد التشاور بإيقافها؛ لأنَّ الآلاف التي شاركت في الوفود من مختلف مناطق العراق ومدنه استطاعت التعبير عن موقف الشعب والتفافه حول المرجعية الدينية ورفضه للسلطة الجائرة.

كما كان هناك حرص على عدم كشف كافة الأوساط الموالية والمؤيدة؛ إذ أَنَّ السلطة كانت تراقب الوفود بدقة، وتقتفي آثارها تمهيداً لحملة شرسة شنتها…[37].

وفي مقابل إيقاف المسيرات السلمية كان الإمام الشهيد يتبنى المواجهة المسلحة المحدودة، والتي تتركّز على اختيار مجاميع خاصة مهمتها اغتيال رئيس النظام، وقد نقل الشيخ محمد رضا النعماني هذه الحقيقة حيث يقول: «قام رضوان الله عليه بتشكيل خلايا فدائية ترتبط به بصورةٍ غير مباشرة مهمّتها اغتيال الطاغية المجرم صدام التكريتي، وكان المباشر لهذا العمل المرحوم الشيخ عبد الأمير محسن الساعدي، والمرحوم الشيخ جليل مال الله، والمرحوم الشيخ قاسم ضيف، وبعض الأخوة الأعزاء، وهؤلاء يقومون باختيار الشباب المضحين الانتحاريين وتوزيعهم على المناطق التي يتردد عليها الطاغية، متربصين به الفرصة المناسبة على أساس خطة موضوعة. وتمكن في الفترة الأخيرة من حياته من إرسال أحد الأطباء لينظمّ إِلَى الكادر الطبي الخاص برئاسة الجمهورية لينفذ المهمة السابقة»[38].

وبقي الإمام الشهيد على موقفه المتوازن، فلم يعمل على زجّ الطاقات الفاعلة في مواجهةٍ مكشوفةٍ مع أجهزة النظام وأتباعه على المستويين، بل سعى إِلَى تضييق الدائرة، وخصوصاً في مجال المواجهة المسلحة، وجعلها في ميدان محدود للحيلولة دون إراقة دماء العاملين الناشطين؛ ولذا أصرّ على اختيار أسلوب الخلايا وأساليب التنظيم السري كما ورد في تصريحات المقربين إليه.

وكان تأكيد الشهيد الصدر على العمل المسلّح ينبع من اعتقاده الجازم باستحالة العمل السلمي، ولم يكن منبثقاً عن رؤيةٍ متشددة تلتزم العنف كأسلوب من أساليب استلام السلطة، وقد نقل عنه بعض مريديه أنّه كان يرى فشل الأساليب المكشوفة من قبيل التظاهرات والمسيرات؛ للطابع الدموي للسلطة؛ ولذلك أصرّ على اختيار أسلوب الخلايا وأساليب التنظيم السري[39].

وكان الإمام الشهيد يدرك خطورة النظام على الوجود الإسلامي الذي يستدعى عدم السكوت وكان يقول: «إذا سكتنا فسوف تقضي السلطة على الوجود الإسلامي في العراق»[40].

وكان يدرك أَنَّ ظروف النظام وظروف الشعب العراقي لم تكن مهيئة لتحرّكٍ جماهيريٍّ واسع؛ لأنَّ الشعب غير مستعد لمواجهة تحسم الموقف لصالحه؛ لضعف الإمكانات وقلّة العاملين، وانفراد الإمام الشهيد بتبنّي العمل السياسي من بين المراجع، وعدم وجود مؤازرة حقيقية له؛ ولهذا قرّر بنفسه الاستمرار في المواجهة؛ لأنّ طبيعة النظام الدموي لا تسمح له بالبقاء حياً إِلَى مرحلةٍ أخرى، فكان يعلم بالمصير الذي يواجهه ويواجه العاملين، ولهذا قرّر المواجهة حتى الشهادة، وهو تقييم واقعي للظروف والأحداث، وتقييم واقعي للمصلحة العليا في تلك الظروف.

ويبدو «أَنَّ تحرُّش الشهيد الصدر بالسلطة لم يكن وقع صدى الروح الاستشهادية الممتدة والمتجذرة في النفوس، وإنْ كان ذلك حاضراً إِلَى حدٍّ ما إلّا أنّه يرجع إِلَى حسابٍ مفاده أَنَّ السلطة لا بدّ ستبطش بالإسلاميين، وهو على رأسهم، فلماذا لا يكون القرار والمبادرة مبادرتهم فتحفظ الكرامة ـ على أقلّ تقدير ـ في الوجدان الشعبي؟! كما أنّه بدأ يفكر على مدى المستقبل ومدى إمكانية بناء حصانة ذاتية للشعب العراقي تجاه الطغيان».

وبالفعل كان لشهادته الدور الأكبر في فضح النظام الذي يتمشدق بالحرية، وتحريك الضمائر الحية التي تجلّت في توسع دائرة المعارضة والمواجهة للنظام وإضعافه من الداخل مما سهل سقوطه.

وشاء الله تعالى أنْ يكون سقوطه في اليوم الذي استشهد فيه الإمام الشهيد؛ ليكون ثمرة من ثمار دمائه الزكية.

السَّيِّد شهاب الدين الحسيني[1]

[1] باحث إسلامي/ العراق

[2] الصدر، محمد باقر، الإسلام يقود الحياة: 23، دار الكتاب الإسلامي، قم، الطبعة الأُولى 1426هـ.

[3] المصدر نفسه: 19.

[4] المصدر نفسه: 22.

[5] المصدر نفسه: 149.

[6] الماوردي، علي بن محمد، الأحكام السلطانية: 6، نشر: مكتب الإعلام الإسلامي، طهران، 1406هـ.

[7] النّووي، أبو زكريا، روضة الطالبين 7: 262، نشر: دار الكتب العلمية، بيروت، بدون تاريخ.

[8] القلقشندي، مآثر الأناقة في معالم الخلافة 1: 26، نشر: عالم الكتب، بيروت، 1402هـ.

[9] المجلسي، محّمَّد باقر، بحار الأنوار 1: 216، كتاب العلم، باب: 6، حديث: 32، الطَّبعة الثَّالثة 1403، دار إحياء التُّراث، بيروت

[10] شيخ الطائفة الطوسي، محمد بن الحسن، الأمالي: 225، المجلس الثامن، نشر: دار الثقافة، قم، الطبعة الأُولى 1414هـ.

[11] بحار الأنوار 1: 166، مرجعٌ سابق.

[12] ابن أبي الحديد المعتزلي الشّافعي، شرح نهج البلاغة 20: 304، تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، مصوّرة عن الطَّبعة الثَّانية 1385لدار إحياء الكتب العربيّة، منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النَّجفي 1404.

[13] ابن شعبة الحرّاني، الحسن بن علي، تحف العقول عن آل الرَّسول: 238، تصحيح وتعليق على أكبر الغفّاري، الطَّبعة الثَّالثة 1404، مؤسسة النَّشر الإسلامي التَّابعة لجماعة المدرّسين، قم.

[14] الإسلام يقود الحياة: 128، مرجعٌ سابق.

[15] المصدر نفسه.

[16] المصدر نفسه: 129.

[17] المصدر نفسه: 142.

[18] الإسلام يقود الحياة: 149.

[19] الإسلام يقود الحياة: 150.

[20] ثقافة الدعوة الإسلامية 1: 134 منشورات الدعوة الإسلامية، 1401هـ .

[21] ثقافة الدعوة الإسلامية 1: 134، 135.

[22] ثقافة الدعوة الإسلامية 1: 136.

[23] ثقافة الدعوة الإسلامية 1: 136، 137.

[24] ثقافة الدعوة الإسلامية 1: 137.

[25] صحيح البخاري 9: 78، محمد إسماعيل البخاري، دار إحياء التراث العربي، بيروت 1313 هـ .

[26] مسند أحمد بن حنبل 1: 131، أحمد بن محمد بن حنبل، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1414 هـ .

[27] مستدرك الوسائل: 2: 364، حسين النوري الطبرسي، طهران، 1382 هـ .

[28] الفصل في الملل والأهواء والنحل: 175، ابن حزم الظاهري، دار المعرفة، بيروت، 1395 هـ .

[29] الكشاف 1: 288، محمد بن عمر الزمخشري، نشر البلاغة، قم، 1415 هـ .

[30] روح البيان 2: 288، إسماعيل حقي الروسوي، دار إحياء التراث، بيروت، 1985م.

[31] عمدة القاري 24: 44، بدر الدين العيني، دار الفكر بيروت، 1399 هـ .

[32] روضة الطالبين 7: 267، أبو زكريا النووي، دار الكتب العلمية، بيروت، بدون تاريخ.

[33] شرح المواقف 8: 253.

[34] شرح المقاصد: 233، 234، سعد الدين التفتازاني، منشورات الرضي، قم، 1409 هـ .

[35] سنوات المحنة وأيام الحصار: 274، محمد رضا النعماني، المطبعة العلمية، قم، 1417 هـ .

[36] الوفود التي جاءت لمبايعته على الطاعة.

[37] حزب الدعوة الإسلامية 4: 240، حسن شبر، مطبعة شريعت، قم/ 1427 هـ .

[38] محمد باقر الصدر: 214، محمد الحسيني، مطبعة  شريعت، قم، 1428هـ .

[39] سنوات المحنة وأيام الحصار: 263.

[40] سنوات المحنة وأيام الحصار: 263.