السر الأوّل
لكل خطاب ذاتية مركزية توحد نصوصه وتجمع شتات ابعاده، ومنها تنبثق عطاءات الهدف والغاية، وفي ضوئها يشخص الآخر، وتتحدد معالمه وصفاته، وطالما جهد الناقدون لاكتشاف تلك الذاتية التي تكمن وراء الخطاب لانها سره الذي يوجه ويرسم ويصمم. ومحمد باقر الصدر صاحب خطاب ذي مستويات وذي ميادين، وإذا كان احباؤه ورواده قد تعرفوا على هذا الخطاب كمحتوى أو مضمون بصورة المُعطى، فأنهم إلى الآن لم يكتشفوا ما قبل الخطاب!!، فوراء الخطاب سر والسر هو الذي يملك سلطان الكتابة بل هو الذي يهندس مجرياتها وحركتها على الورق، واعترف انّه من العسير ان نتغلغل إلى ما قبل الخطاب مع محمد باقر الصدر، فهذا الرجل طرق ابواب المعرفة على آفاق شتى ومن زوايا كثيرة، فلابد وهذه الحالة من جهد عميق ورصين في هذا المجال.. ونحاول في البداية ان نلتمس المسألة بخطوطها العريضة.. اي من خلال بعض طروحاته وليس كلّها..
الفلسفة:
كتب فيها مجدداً في الاسلوب «فلسفتنا» مبدعاً في المضمون «الاسس المنطقية للاستقراء»، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا..
ولِمَ أفنى فيه شطراً زاهراً من عمره؟!
لم يهدف محمد باقر الصدر بناء هيكل فلسفي عتيد كما صنع عمانوئيل كنت أو هيجل، ولم يكن يسعى إلى وضع قواعد منطقية للمران الفكري كما هو الحال عند اكثر الفلاسفة، ان محمد باقر الصدر كتب في الفلسفة وفي ضميره المعذّب غايتان متفاعلتان متداخلتان ترفضان اي عملية فصل أو اختزال، انهما باختصار شديد:
1ـ ان نفهم العالم.
2ـ ان نغير العالم.
لقد طرح الفكر الفلسفي بهذه المركزية العميقة، وإذا كانت صرخة الفيلسوف المادي الملتهب «كارل ماركس» بأن الفلسفة ينبغي ان تضطلع بـ «تغيير العالم وليس تفسيره» قد استفزت ارادة الإنسان صوب «الفعل» فان هتاف محمد باقر الصدر الرصين سوّغ هذا «الفعل» على اساس الفكر، اذ كوّن أو اكتشف «لا استطيع ان ابتّ في هذه القضية الآن» علاقة ضرورية متبادلة بين الارادة والعقل، الامر الذي يجعل من «الفعل» معقولاً ومراداً في آن واحد، فهو قد تجاوز «هيجل» باتجاه «كارل ماركس» واستوعب «كارل ماركس» باتجاه «هيجل»، ولكن لا أساس على الجمع التلفيقي المفتعل، وانما برؤية شاملة نابعة من ذكائه المفرط ومنغمسة بحرارة ايمانه، فعل وانفعال تبادلا المهمة في روحه اللاهبة ووجدانه المتمرد.. فهو ـ رحمة الله عليه ـ كتب فلسفتنا من اجل ان «يقول الإسلام كلمته.. قوية عميقة، صريحة واضحة، كاملة شاملة للكون والحياة والإنسان والمجتمع والدولة والنظام ليتاح للامة ان تعلن كلمة الله في المعترك وتنادي بها، وتدعو العالم اليها كما فعلت في فجر تاريخها العظيم»[1].
وبهذا تتجاوز الفلسفة في لغة محمد باقر الصدر نفسها كي تتحول من مشروع إلى وسيلة، فهي ليست قيمة بذاتها بل مقدمة لغيرها، أعني فهم العالم من اجل تغييره نحو الأحسن والافضل.
وفي الاسس المنطقية للاستقراء هدف إلى دمج المسلم في زحمة الحدث الوجودي، اراد انقاذه من محنة التأمل في الغرف الاغريقية، لان منهج الاستقراء سياحة مع الكون وليس اطلالة عليه من زاوية بعيدة..
الإقتصاد:
كتب فيه مكتشفاً «اقتصادنا» ومبرمجاً «صورة تفصيلية عن اقتصاد المجتمع المسلم»، اكتشف المذهب الاقتصادي الاسلامي، وبذلك انقذ احكامه الاقتصادية المبثوثة في الاحاديث النبوية وسيرة أهل البيت «ع» وتقريرات الفقهاء من محنة التراكم والتناثر، ووضع لها اطارها الذي يوحدها ويراصفها ويناضدها على اساس من التبرير المذهبي، التبرير الذي يعطيها شرعة القرار والفعل. وطرح في الاثناء قوانين هذا الاقتصاد التي تنظم المجتمع بشكل واضح، ولم يكن ذلك بدافع التكريس العلمي لقضية ما، لان محمد باقر الصدر ليس انساناً سجالياً، وانما هو انسان بنّاء، وجوهر خطابه الاقتصادي الذي تحكّم في خريطة افكاره وآراءه يتشكل هو الآخر من هدفين:
أـ وفرة الانتاج.
ب ـ عدالة في التوزيع.
ان مجمل طرحه الاقتصادي ـ المستمد من الإسلام العزيز ـ يقوم على التفاعل الحي بين هاتين المسألتين الحيويتين، ونظرة فاحصة إلى كل ذلك تكشف عن موقف «ذرائعي» من الكون، ولكن ما هي اسس وقانون هذه الذرائعية؟!
انها بايجاز شديد..
تكييف الوجود لصالح الإنسان بواسطة التشريع، لان الوجود طاقة قابلة للتكييف، وقوانين الاقتصاد يمكنها ان تساهم في خلق أو ايجاد هذا التكييف..
لنسمعه يقول:
«ان الاقتصاد الاسلامي يتفق مع كل المذاهب الاجتماعية في ضرورة الاهتمام بالانتاج وبذل كل الاساليب الممكنة في سبيل تنميته وتحسينه وتمكين الإنسان الخليفة من السيطرة على الارض.. ويقوم بتوزيع الثروة.. على اساسين احدهما العمل والآخر الحاجة ويستأصل كل اشكال الانتاج الرأسمالي»[2].
ان اشكال الانتاج الرأسمالي تكيّف الوجود لصالح «فرد»، فيما اشكال الانتاج الماركسي تكيّف الإنسان لصالح الوجود، اما الإسلام فهو القادر على تكييف الكون لصالح الإنسان، الإنسان المجتمع…[3]
الفقه:
كتب فيه مهندساً ومقنناً.. اراده «خبزاً يومياً» للانسان المسلم. وإذا تفحصنا «الفتاوى الواضحة» باعتبارها ثمرة جهوده الفقهية الجبارة لوقعنا على هذا السر الحيوي، وهذا السر هو الذي حرّك قلمه الفقهي، فسهولة العبارة وفنية العرض قد بسطتا سلطانهما الجميل على كل نص وكل فقرة، اذ محمد باقر الصدر كان يهدف «الإنسان المتفقه» وليس الإنسان الفقيه، وبهذا نقل الفقه في «فتاواه الواضحة» من افق المباراة اللفظية إلى مهمة البناء، فجاءت مطواعة للفهم والحفظ، وحررّها من «الاشهر، الأظهر، الاحوط..» لان هذه المقتربات تربط بين المسألة الفقهية ورؤية الفقيه، وليس لها اي علاقة بالانسان المتفقه الذي يريد خبزاً فقهياً، وليس معرفة أو احاطة بمناطات وملكات الاحكام تلك قضية اخرى، وهي لا تنفع هذا المتفقه «امثالنا نحن العوام!!». ان سهولة العبارة وفنية العرض وملامسة الواقع والابتعاد عن الفروض «الاغريقية».. كل هذه الامور نقلت المسألة الفقهية من الحيز إلى الفضاء، وجعلت الفقه على علاقة مستقيمة بمحوره الذي هو الإنسان، واخيراً وليس آخراً أنقذت الرسالة العملية الفقهاء من ضريبة الوساطة والاختلافات في تفسير العبارة.
* المجتمع الاسلامي:
كتب فيه منظّراً ومؤصّلاً، ونواة خطابه «تأصيل المجتمع» أي اعطائه حق الاولوية السياسية والحياتية، فان «الله سبحانه وتعالى اناب الجماعة البشرية في الحكم وقيادة الكون واعماره اجتماعياً وطبيعياً وعلى هذا الاساس تقوم نظرية حكم الناس لانفسهم وشرعية ممارسة الجماعة البشرية حكمها نفسها بوصفها خليفة عن الله تعالى..»[4].
- هذا هو جوهر الخطاب لدى محمد باقر الصدر..
- فهم العالم وتغييره.
- سعادة الإنسان وأصالة الجماعة.
– تحرير الإنسان من شروط الوجود المغلول «راجع نظرية المثل الاعلى في محاضراته عن السنن التاريخية».
– الانتقال بالفقه من محنة الوساطة إلى المباشرة.
ونظرة سريعة إلى ما قبل الخطاب تؤكد ان محمد باقر الصدر ليس صاحب مشروع بل هو بذاته مشروع، همه التحريك والبناء، فقتله الغرب. اذ وجد منه بديلاً خطيراً، وحاربته النفعية لانه كشف زيفها وخداعها، وشن عليه الرأسماليون والمستغلون حرباً شعواء، لأنّه اراد انقاذ الإنسان، وحقد عليه الشيوعيون الكاثوليكيون، لانه زعزع ثقة الإنسان بالمادية الجدلية.. كان محمد باقر الصدر الإسلام مجسّداً. نداء حيوياً لاهب الوجدان حريق القلب طافح الثورة كل ذلك من أجل الآخر.
من هو الآخر؟!
يعتبر الآخر العنصر الاساسي في اي خطاب، سواء كان فكرياً أو سياسياً أو اجتماعياً، ولا فرق ان يكون هذا الخطاب مكتوباً أو مقروءاً أو مسموعاً، وإذا كان الكاتب أو القائل يشكل عنصر «المكوِّن» فان الآخر هو «المكوَّن» لان أي خطاب يستدعي «مقابلاً»، ويرى عدد من الدارسين ان الخطاب لا يدل احياناً على صاحبه بقدر ما يدل على «الآخر»، وتتشكل بنيات الخطاب من نوع وجنس هذا الآخر الذي يتصوره الكاتب أو القارىء انّه ينتظر ويترقب، وطالما يصاغ الآخر جزءاً!آ، ومهما يقال في هذا المجال فان الذي لا ريب فيه، ان كل خطاب يفترض غيره، الآن أو غداً، الامر الذي يولّد صورة معينة لهذا «الآخر» لدى منشىء الخطاب ومؤسسه، وفي ميدان الكتّاب العرب نستطيع ان نستشف بعض ملامح هذا الآخر.
نموذج «أ»..
يتصور «الآخر» متلقياً، منفعلاً، ولهذا يرى منشىء الخطاب في شخصه صفة المكوِّن / الآمر، فهو يملي ويلقي، ويعتبر الكاتب الكبير عباس محمود العقاد نموذج هذا المجال. وفي الاطار ذاته يدخل أصحاب الالقاء الوعظي والقيمي.
نموذج «ب»..
يتصور «الآخر» مستمعاً صاحب مزاج وحكاية، فهو ينتظر فرصة الاستماع وليس التعلم، يريد ان يقتل وقت فراغه وليس املائه، ولذا فأن منشىء الخطاب هنا اشبه بـ «الحكاياتي» وخير مثال على هذا الصعيد الدكتور طه حسين، فهو يكتب ويفترض وجود «سمير» يأنس إليه وبه، ولعل فقدانه نعمة البصر لها دور في صيرورة هذه الحالة، كما ان نشأته الازهرية الاولى ربما ساهمت في ذلك، وكتابه الأيام يكشف بوضوح عن طبيعة الحكاية في خطابه.
نموذج «ج»..
يتصور «الآخر» مأزوماً، وعلى هذا الاساس طرح الدكتور نجيب محمود اكثر كتاباته المتأخرة، ومنشأ هذه الانطلاقة ان الدكتور يتصور ان الإنسان العربي يعيش ازمة حادّة بين انتماءه التاريخي والحضاري من جهة وضغط الزمن الغربي المتلاحق من جهة اخرى.
نموذج «د»..
يتصور «الآخر» وكأنه متهم!! ولذلك يتسم خطابه بالتحذير والحذق والقطيعة!! والشهيد سيد قطب جسّد هذه الصورة من الطرح وهو يخاطب المجتمع الحالي، فقد وصفه بالجاهلية المطلقة، ونفى كل مَعْلَم من معالم الخير أو النور!! وقد توّج طرحه هذا في كتابه الانفعالي «معالم في الطريق».. رحمه الله.
نموذج «هـ»..
يتصور «الآخر» مغفلاً ويحاول ان يلعب على اعصابه ويتسع هذا التصور في الكتابة السياسية المتزلقة، أي في حالة اللاموقف، ولذا من الصعب ان نكتشف الآتي أو نعرف معالم القادم مهما مهّد من اوليات! فالعبارات والكلمات راقصة على الطريقة الغجرية، إلاّ ان الفارق واحد، يعتمد الابهام بين «قبل» و«بعد»، فيما الراقصة الغجرية على فطرتها الاولى.
وبعد كل هذه النماذج والعينات والصور من ملامح «الآخر» لدى فريق من الكتاب العرب من حقنا ان نطرح السؤال التالي:
من هو الآخر في خطاب محمد باقر الصدر؟
انّه الإنسان!!
الإنسان الذي خلقه الله تعالى بأبعاده الروحية والمادية والعاطفية، اذ ان مزيداً من الامعان في خطابه نكتشف ما يلي:
1ـ براءته من صيغ التحدي، لانه صاحب رسالة، وفي الاطار نفسه اختقت تلك الشرطية الافتراضية المشهودة «ان قلتَ.. قلتُ» وحلّت مكانها لغة الطرح المسؤول الذي يعبر عن فكرة ورسالة.
2ـ ترفعه عن صيغ الاستفزاز المباشر وغير المباشر، فلم نجد تلك النبرة الامرية التي تفترض أسبقية الجهل أو الآخر المسكين التي يستبطنها النداء المشهور.. «فأفهم»!!
3ـ ابتعاده عن صيغ الاستدراج السقراطي التي غزت المباحث الاصولية والكلامية والفقهية.
4ـ برهانه لا يقوم على المباغتة أو المفاجأة وانما على الوضوح والابانة والصراحة وتشعر منذ البداية انّه هادف وقاصد وليس لاعباً أو مبارياً، ولذلك لا يفاجأ الخصم أو المقابل ولا يستدرجه وانما يصارحه بالخلاف على خطوات وتؤدة.
5ـ لم يدّعِ يوماً انّه استوعب التاريخ أو انّه جمّد حركة الفكر، بل بالعكس يؤمن بالطاقة الإنسانيّة وقدرتها الهائلة على الابداع المستمر، ولذا لم نقرأ في نصوصه ادعاءات تجميع التاريخ وتكريسه إلى الابد، لقد غابت في طروحاته «… وهذا ما بيّنّاه بما لا مزيد عليه!» أو «.. والقول الفصل!!» أو «.. وهذا لم يسبقنا إليه احد..» انّه تواضع العلماء الاتقياء.
6ـ وقد تنزه خطابه من أي عملية بتر اوتشويه وحرص على ان تكون الاحالة إلى الينابيع والمصادر بكل شرف وأمانة، ولعل كتاب فلسفتنا يكشف عن هذه الحقيقة بوضوح جلي، انّه ادرج اكثر من عشرين نصاً ماركسياً اصيلاً دونما حذف أو تحوير، وحرص على ادراج النصوص التي بامكانها ان تجلي جوهر الماركسية وحقيقتها. وتبلغ هذه الامانة الذروة عندما يرى ان الماركسيين طلبوا الفردوس للانسان ولكنهم اخطأوا الطريق، الامر الذي يذكرنا بمقولة جدّه الامام والإنسان علي بن أبي طالب عندما قيّم الخوارج بكلمته الخالدة على مدى الدهر الصروف (ليس من طلب الحقّ فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه).
هذا هو الآخر في خطاب محمد باقر الصدر!
انّه الإنسان.
انّه يكتب لا ليقنع أو يتبارى أو يتحدى! انما يكتب طارحاً رسالة يعتبرها بأخلاص وايمان اكبر من ذاته وأغلى من وجوده.
انّه الإسلام!
وهنا ظاهرة تستحق الالتفات. بل هي القُ الخطاب..
7ـ اننا لم نكتشف في أي نص من نصوصه ذاته المشخّص، وانما دائماً نكتشف «الفكرة»، وماذا عسانا نكتشف وراء خطاب تحرر من التحدي وتحرر من الاستخفاف وتنزه عن الاستغفال وتبرأ من التهم؟!
ماذا عسانا نكتشف من خطاب كهذا؟!
الفكرة.. والفكرة وحدها.
غالب حسن
[1] فلسفتنا، ص 6، ط المجمع العلمي للشهيد الصدر
[2] صورة تفصيلية لاقتصاد المجتمع الاسلامي، ص 41ـ 47.
[3] مسألة هذا التكييف وأساليبه تحتاج إلى دراسة مفصلة ليس هذا محلها.
[4] خلافة الإنسان وشهادة الانبياء، ص 14.