دراسات في المفاهيم الاقتصادية لدى المفكرين الإسلاميين الفكر المعاصر

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

دار الفارابي، 1990م: ص: 196 ـ 226

وفي آخر الستينات أيضاً، أصدر الإمام الشيعي اللبناني محمد باقر الصدر كتابه الضخم المعنون اقتصادنا. والأهمية الكبيرة لهذا المؤلف تأتي من أن كاتبه قدم به عملاً مترابطاً متسقاً لأول مرة، في هيكل نظري ذي منطق منسجم إلى درجة أكبر من الأعمال الأخرى التي تعالج الاقتصاد الإسلامي. وبالإضافة إلى أن محمد باقر الصدر استقى معلوماته من شتى المصادر الفقهية السنية إلى جانب الشيعية، فإن استنتاجاته قد تصلح لكي يتبناها اتباع الفريقين على السواء، إذا استبعدنا أجزاء قليلة تفصيلية. ولضخامة العمل، لن نستطيع أن نتعرض لجميع النقط التي يتضمنها، وإنما سوف نكتفي بعرض مجموعة من الآراء الأساسية التي يقدمها:

يجد باقر الصدر سبب الدعوة للاقتصاد الإسلامي في خصوصية المجتمع الإسلامي بنضاله من أجل التحرر من السيطرة الأوروبية على أشكالها. يقول:

(عبّرت التبعية في العالم الإسلامي لتجربة الإنسان الأوروبي الرائد للحضارة الحديثة عن نفسها بأشكال ثلاثة مترتبة زمنياً، ولا تزال هذه الأشكال الثلاثة متعاصرة في أجزاء مختلفة من العالم الإسلامي. الأول التبعية السياسية التي تمثلت في ممارسة الشعوب الأوروبية الراقية اقتصادياً حكم الشعوب المتخلفة بصورة مباشرة. الثاني التبعية الاقتصادية الثالث التبعية في المنهج التي مارستها تجارب عديدة في داخل العالم الإسلامي حاولت أن تستقل سياسياً وتتخلص من سيطرة الاقتصاد الأوروبي اقتصادياً، وأخذت تفكر في الاعتماد على قدرتها الذاتية في تطوير اقتصادها والتغلب على تخلفها غير أنها لم تستطع أن تخرج من فهمها لطبيعة المشكلة التي يجسدها تخلفها الاقتصادي من إطار الفهم الأوروبي لها فوجدت نفسها مدعوة لاختيار نفس المنهج الذي سلكه الإنسان الأوروبي في بنائه الشامخ لاقتصاده الحديث).

ولكن التجارب الأوروبية ذات مناهج كثيرة، ومنها المناهج الرأسمالية والأخرى الاشتراكية. فأيها يختار باقر الصدر؟

(نحن حين نخرج من نطاق المقارنة بين هذه المناهج الاقتصادية في محتواها الفكري والمذهبي إلى المقارنة بينها في قابلتيها التطبيقية لإعطاء إطار للتنمية الاقتصادية، يجب ألا نقيم مقارنتنا على أساس المعطيات النظرية لكل واحد من تلك المناهج فحسب،بل لابد أن نلاحظ بدقة الظروف الموضوعية للأمة وتركبيها النفسي التاريخي لأن الأمة هي مجال التطبيق لتلك المناهج، فمن الضروري أن يدرس المجال المفروض للتطبيق وخصائصه وشروطه بعناية ليلاحظ ما يقدر لكل منهج من فاعلية لدى التطبيق.

فنظرة إنسان العالم الإسلامي إلى السماء قبل الأرض يمكن أن تؤدي إلى موقف سلبي تجاه الأرض وما في الأرض من ثروات وخيرات تتمثل في الزهد أو القناعة أو الكسل إذا فصلت الأرض عن السماء. أما إذا ألبست الأرض إطار السماء وأعطي العمل مع الطبيعة صفة الواجب ومفهوم العبادة، فسوف تتحول تلك النظرة الغيبية لدى الإنسان المسلم إلى طاقة محركة وقوة دفع نحو المساهمة بأكبر قدر ممكن في رفع المستوى الاقتصادي ومفهوم إنسان العالم الإسلامي عن التحديد الداخلي والرقابة الغيبية الذي يجعله لا يعيش فكرة الحرية بالطريقة الأوروبية، يمكن أن يساعد إلى درجة كبيرة في تفادي الصعاب التي تنجم عن الاقتصاد الحر والمشاكل التي تواجهها التنمية الاقتصادية في ظله عن تخطيط عام يستمد مشروعيته في ذهن إنسان العالم الإسلامي من مفهومه عن التحديد الداخلي والرقابة غير المنظورة، أي يستند إلى مبررات أخلاقية).

الاقتصاد الإسلامي في نظره إذن (اقتصاد حرّ) في أساسه. يقول:

تتجلى خلال البحوث أصالة الاقتصاد الإسلامي، ومناقضته للاشتراكية في موقفه من الملكية الخاصة واحترامه لها، واعترافه – في حدود مستمدة من نظريته العامة – بمشروعية الكسب الناتج عن ملكية مصدر من مصادر الإنتاج غير العمل).

ويرى الكاتب أن الأحكام الفقهية للسلف لا تستيطع أن تقدم حلولاً لجميع المشاكل الاقتصادية المعاصرة بكليتها، فإن هناك ما يسميه (منطقة فراغ) ويضيف:

(لا تدل منطقة الفراغ على نقص في الصورة التشريعية أو إهمال من الشريعة لبعض الوقائع والأحداث، بل تعبر عن استيعاب الصورة وقدرة الشريعة على مواكبة العصور المختلف. لأن الشريعة لم تترك منطقة الفراغ بالشكل الذي يعني نقضاً أو إهمالاً، وإنما حددت للمنطقة أحكامها بمنح كل حادثة صفتها التشريعية الأصيلة، مع إعطاء ولي الأمر صلاحية منحها صفة تشريعية ثانوية حسب الظروف)[1].

ويتوقف محمد باقر الصدر أمام موضوع صفة الاقتصاد الإسلامي. فينفي عنه أنه علم، بل يقول عنه أنه مذهب، بمعنى أنه غير مستنتج من وقائع النظم الإسلامية الماضية، وإنما من أحكام الفقه. يقول:

(علم الاقتصاد هو العلم الذي يتناول تفسير الحياة الاقتصادية وأحداثها وظواهرها، وربط تلك الأحداث والظواهر بالأسباب والعوامل العامة التي تتحكم فيها. هذا العلم حديث الولادة، فهو لم يحدث – بالمعنى الدقيق للكلمة – إلا في بداية العصر الرأسمالي منذ أربعة قرون تقريباً، وإن كانت جذوره البدائية تمتد إلى أعماق التاريخ. فقد ساهمت كل حضارة في التفكير الإقتصادي بمقدار ما أتيح لها من إمكانات، غير أن الاستنتاج العلمي الدقيق الذي نجده لأول مرة في علم الاقتصاد السياسي مدين للقرون الأخيرة.

أما المذهب الاقتصادي للمجتمع، فهو عبارة عن الطريقة التي يفضل المجتمع اتباعها في حياته الاقتصادية وحل مشاكلها العملية. وعلى هذا الأساس لا يمكن أن نتصور مجتمعاً دون مذهب اقتصادي. لأن كل مجتمع يمارس إنتاج الثروة وتوزيعها لابد له من طريقة يتفق عليها في تنظيم هذه العمليات الاقتصادية. وهذه الطريقة هي التي تحدد موقفه المذهبي من الحياة الاقتصادية.

فنحن حين نطلق كلمة (الاقتصاد الإسلامي) لا نعني بذلك علم الاقتصاد السياسي مباشرة، لأن هذا العلم حديث الولادة نسبياً، ولأن الإسلام دين دعوة ومنهج حياة، وليس من وظيفته الأصلية ممارسة البحوث العلمية. وإنما نعني بالاقتصاد الإسلامي المذهب الاقتصادي للإسلام، الذي تتجسد فيه الطريقة الإسلامية في تنظيم الحياة الاقتصادية، بما يملك هذا المذهب ويدل عليه من رصيد فكري، يتألف من أفكار الإسلام الأخلاقية والأفكار العلمية الاقتصادية أو التاريخية التي تتصل بمسائل الاقتصاد السياسي أو بتحليل المجتمعات البشرية.

عندما يستكمل المجتمع الإسلامي تربته وصيغته العامة، عندئذ فقط نستطيع أن نترقب من الاقتصاد الإسلامي أن يقوم برسالته الفذة في الحياة الاقتصادية، وأن يضمن للمجتمع أسباب السعادة والرفاه، وأن نقتطف منه أعظم الثمار. أما أن ننتظر من الرسالة الإسلامية الكبرى أن تحقق كل أهدافها من جانب معين من جوانب الحياة، إذا طبقت في هذا الجانب بصورة منفصلة عن سائر شعب الحياة الأخرى، فهذا خطأ.

ارتباط الاقتصاد الإسلامي بمفاهيم الإسلام عن الكون والحياة، وطريقته الخاصة في تفسير الأشياء، كالمفهوم الإسلامي عن الملكية الخاصة وعن الربح. فالإسلام يرى أن الملكية حق رعاية يتضمن المسؤولية، وليس سلطاناً مطلقاً. كما يعطي للربح مفهوماً أرحب وأوسع مما يعنيه الحساب المادي الخالص، فيدخل في نطاق الربح – بمدلوله الإسلامي – كثير من النشاطات تعتبر خسارة بمنظار آخر غير إسلامي يمتاز المذهب الاقتصادي في الإسلام عن بقية المذاهب الاقتصادية بإطاره الديني العام. فإن الدين هو الإطار الشامل لكل أنظمة الحياة في الإسلام، فكل شعبة من شعب الحياة حين يعالجها الإسلام يمزج بينها وبين الدين، ويصوغها في إطار من الصلة الدينية للإنسان بخالقه وآخرته.

أما المذهب الإسلامي (للاقتصاد)، فهو لا يزعم لنفسه الطابع العلمي، كالمذهب الماركسي، كما أنه ليس مجرداً عن أساس عقائدي معين ونظرة رئيسية إلى الحياة والكون كالرأسمالية. ونحن حين نقول عن الاقتصاد الإسلامي إنه ليس علماً، نعني أن الإسلام دين يتكفل الدعوة إلى تنظيم الحياة الاقتصادية كما يعالج سائر نواحي الحياة وليس علماً اقتصادياً على طراز علم الاقتصاد السياسي. وبمعنى آخر، هو ثورة لقلب الواقع الفاسد وتحويله إلى واقع سليم، وليس تفسيراً موضوعياً للواقع. فهو حينما يضع مبدأ الملكية المزدوجة (الخاصة والعامة) مثلاً، لا يزعم بذلك أنه يفسر الواقع التاريخي لمرحلة معينة من حياة الإنسانية، أو يعكس نتائج القوانين الطبيعية للتاريخ كما تزعم الماركسية حين تبشر بالملكية الاشتراكية، بوصفها الحالة الحتمية لمرحلة معينة من التاريخ والتفسير الوحيد لها وعلى هذا الأساس يمكن القول بأن العملية التي نمارسها هي عملية اكتشاف. وعلى عكس من ذلك المفكرون المذهبيون الذين بشّروا بمذاهبهم الرأسمالية والاشتراكية، فإنهم يمارسون تكون المذهب وإبداعه).

وكمثال، ننظر إلى رأي الكاتب في عملية الإنتاج. يقول:

(عملية الإنتاج لها جانبان: أحدهما الجانب الموضوعي المتمثل في الوسيلة التي تستخدم والطبيعة التي تمارس والعمل الذي ينفق خلال الانتاج. والآخر الجانب الذاتي الذي يتمثل في الدافع النفسي، والغاية التي تستهدف من تلك العملية، وتقييم العملية تبعاً للتصورات المتبناة من العدالة وفي هذا المجال (يقصد الموضوعي) ليس للمذهب الاقتصادي، مهما كان نوعه، أي دور إيجابي. لأن الكشف عن القوانين العامة والعلائق الموضوعية بين الظواهر الكونية أو الاجتماعية من وظيفة العلم، ولا يدخل في صلاحيات المذهب اطلاقاً. لهذا كان لمجتمعات مختلفة في مذاهبها الاقتصادية أن تلتقي على الصعيد العلمي وتتفق على استخدام معطيات علم الاقتصاد وسائر العلوم والاسترشاد بها في مجالات الإنتاج. وإنما يظهر الدور الإيجابي للمذهب في الجانب الذاتي من عملية الإنتاج. ففي هذا الجانب ينعكس التناقض المذهبي بين المجتمعات التي تختلف في مذاهبها الاقتصادية. فلكل مجتمع وجهة نظره الخاص إلى عملية الإنتاج، وتقييمه لتلك العملية على أساس تصوراته وطريقته المذهبية في تحديد الدوافع وإعطاء المثل العليا للحياة)[2].

ما هي الأركان الرئيسية لهذا المذهب الاقتصادي الإسلامي؟

يقول باقر الصدر:

(يتألف الهيكل العام للاقتصاد الإسلامي من أركان رئيسية ثلاثة يتحدد وفقاً لها محتواه المذهبي، ويتميز بذلك عن سائر المذاهب الاقتصادية الأخرى في خطوطها العريضة. وهذه الأركان هي كما يلي:

مبدأ الملكية المزدوجة.

مبدأ الحرية الاقتصادية في نطاق محدود.

مبدأ العدالة الاجتماعية

المجتمع الإسلامي لا تنطبق عليه الصفة الأساسية لكل من المجتمعين (الرأسمالي والاشتراكي). لأن المذهب الإسلامي لا يتفق مع الرأسمالية في القول بأن الملكية الخاصة هي المبدأ، ولا مع الاشتراكية في اعتبارها الملكية الاشتراكية مبدأ عاماً. بل إنه يقرر الأشكال المختلفة للملكية في وقت واحد، فيضع مبدأ الملكية المزدوجة (الملكية ذات الأشكال المتنوعة) بدلاً من مبدأ الشكل الواحد للملكية، الذي أخذت به الرأسمالية والاشتراكية. فهو يؤمن بالملكية الخاصة، والملكية العامة وملكية الدولة، ويخصص لكل واحد من هذه الأشكال الثلاثة للملكية حقلاً خاصاً تعمل فيه، ولا يعتبر شيئاً منها شذوذاً واستثناه، أو علاجاً مؤقتاً اقتضته الظروف.

وأما التحديد الموضوعي للحرية، فنعني به التحديد الذي يفرض على الفرد في المجتمع الإسلامي من خارج، بقوة الشرع. ويقوم هذا التحديد الموضوعي للحرية في الإسلام على المبدأ القائل إنه لا توجد حرية للشخص فيما نصت عليه الشريعة المقدسة من ألوان النشاط التي تتعارض مع المثل والغايات التي يؤمن الإسلام بضرورتها.

والصورة الإسلامية للعدالة الاجتماعية تحتوي على مبدأين عامين،لكل منهما خطوطه وتفصيلاته. أحدهما مبدأ التكافل العام، والآخر مبدأ التوازن الاجتماعي. وفي التكافل والتوازن بمفهومهما الإسلامي، تحقق القيم الاجتماعية العادلة ويوجد المثل الإسلامي للعدالة الاجتماعي.

من الواضح أن هذه المبادئ الثلاثة تعتمد على نظرية أخلاقية للأمور الاقتصادية. ويؤكد الكاتب ذلك قائلاً:

(تعني الصفة الخلقية (الأخلاقية) من ناحية الطريقة أن الإسلام يهتم بالعامل النفسي، خلال الطريقة التي يضعها لتحقيق أهدافه وغاياته. فهو في الطريقة التي يضعها لذلك، لا يهتم بالجانب الموضوعي فحسب – وهو أن تحقق تلك الغايات – وإنما يعني بوجه خاص بمزج العامل النفسي والذاتي بالطريقة التي تحقق تلك الغايات ولأجل ذلك تدخل الإسلام وجعل الفرائض المالية – التي استهدف منها إيجاد التكافل – عبادة شرعية، يجب أن تنبع من دافع نفسي نيّر، يدفع الإنسان إلى المساهمة في تحقيق غايات الاقتصاد الإسلامي بشكل واع مقصود، طالباً بذلك رضا الله تعالى والقرب منه)[3].

وفي نظر الكاتب أن الاقتصاد الإسلامي مزدوج الهدف والتكوين. وتذكرنا قراءة ما كتب في هذا الشأن بما مرّ علينا من قبل من آراء تؤكّد خصوصية المجتمع الإسلامي وضرورة تطابق الاقتصاد فيه مع ظروفه الاجتماعية. يقول باقر الصدر:

(حين ندرس مصالح الإنسان في حياته المعيشة، يمكننا تقسيمها إلى فئتين. أحداهما مصالح الإنسان التي تقدمها الطبيعة له بوصفه كائناً خاصاً، كالعقاقير الطبية مثلاً. فإن من مصلحة الإنسان الظفر بها من الطبيعة. وليست لهذه المصلحة صلة بعلاقاته مع الآخرين، بل إن الإنسان بوصفه كائناً معرضاً للجراثيم الضارة، بحاجة إلى تلك العقاقير، سواء كان يعيش منفرداً أم ضمن مجتمع مترابط وسوف نطلق على الفئة الأولى اسم المصالح الطبيعية. وعلى الفئة الثانية اسم المصالح الاجتماعية.

إن الدين هو الإطار الوحيد الذي يمكن للمسألة الاجتماعية أن تجد ضمنه حلها الصحيح. ذلك أن الحل يتوقف على التوفيق بين الدوافع الذاتية والمصالح الاجتماعية العامة. وهذا التوفيق هو الذي يستطيع أن يقدمه الدين للإنسانية، لأن الدين هو الطاقة الروحية التي تستطيع أن تعوض الإنسان عن لذائذه الموقوتة التي يتركها في حياته الأرضية أملاً في النعيم الدائم، وتستطيع أن تدفعه إلى التضحية بوجوده عن إيمان بأن هذا الوجود المحدود الذي يضحي به ليس إلا تمهيداً لوجود خالد، وحياة دائمة.

هذا هو الواقع في النظام الاجتماعي للإسلام تماماً. فهو يشمل على جانب رئيسي ثابت يتصل بمعالجة الحاجات الأساسية الثابتة في حياة الإنسان، كحاجته إلى الضمان المعيشي والتوالد والأمن وما إليها من الحاجات التي عولجت في أحكام توزيع الثروة وأحكام الزواج والطلاق وأحكام الحدود والقصاص ونحوها من الأحكام المقررة في الكتاب والسنة.

ويشتمل النظام الاجتماعي في الإسلام أيضاً جوانب مفتوحة للتغيير وفقاً للمصالح والحاجات المستجدة، وهي الجوانب التي سمح فيها الإسلام لولي الأمر أن يجتهد فيها وفقاً للمصلحة والحاجة، على ضوء الجوانب الثابتة من النظام.

الإسلام – كما نتصوره – يميز بين هذين النوعين من العلاقات. فهو يرى أن علاقة الإنسان بالطبيعة أو الثروة تتطور عبر الزمن تبعاً للمشاكل المتجددة التي يواجهها الإنسان باستمرار وتتابع، خلال ممارسته للطبيعة والحلول المتنوعة التي يتغلب بها على تلك المشاكل. وكلما تطورت علاقاته بالطبيعة ازداد سيطرة عليها وقوة في وسائله وأساليبه. وعلاقة الإنسان بأخيه، فهي ليست متطورة بطبيعتها، لأنها تعالج مشاكل ثابتة جوهرياً، مهما اختلف إطارها ومظهرها)[4].

وإن التمييز الذي يقوم به الكاتب بين الحاجات الإنسانية الطبيعية – وهي العنصر المتغير في نظره – وبين الحاجات الاجتماعية في الاقتصاد الإسلامي، هذا التمييز ليشكل المحور الأساسي للكتاب، والنقطة التي ينطلق منها في تحليلاته لشتى القضايا، كما سنرى فيما يلي.

فهو ينفي بقوة أن نمط الإنتاج هو الذي يحدد السمات الأساسية للمجتمع واقتصاده[5]. وبرهانه أن المجتمع الإسلامي خلال تاريخه عرف تطوراً في أساليب الإنتاج دون أن تتغير أساسياته الاجتماعية. وعليه ، فيقول إن الذي يحدد تلك السمات الاجتماعية هو التوزيع وعلاقاته، وهو عنصر ثابت حسب رأيه في المجتمع الإسلامي. ويقول في هذا الموضوع، مميزاً ما يسميه التوزيع قبل الإنتاج عن التوزيع بعده:

(علاقات التوزيع منفصلة عن شكل الانتاج. يمارس الناس في حياتهم الاجتماعية عمليتين مختلفتين، احداهما عملية الإنتاج والأخرى عملية التوزيع. فهم من ناحية يخوضون معركة مع الطبيعة في سبيل اخضاعها لرغباتهم ويتسلحون في هذه المعركة بما تسمح به خبرتهم من أدوات الإنتاج. ومن ناحية أخرى يقيم هؤلاء الناس بينهم علاقات معينة، تحدد صلة الأفراد بعضهم ببعض في مختلف شؤون الحياة. وهذه العلاقات هي التي نطلق عليها اسم النظام الاجتماعي. وتندرج فيها علاقات التوزيع للثروة التي ينتجها المجتمع. فالأفراد في عملية الإنتاج يحصلون على مكاسبهم من الطبيعة، وفي النظام الاجتماعي الذي يحدد العلاقات بينهم يتقاسمون تلك المكاسب. وبديهي أن عملية الإنتاج في تطور وتحول أساسي دائم، وفقاً لنمو العلم وعمقه. فبينما كان الإنسان يستخدم الإنسان في انتاجه المحراث، أصبح يستخدم الكهرباء والذرة.

وفي تقديره أن الماركسية تقول بوجود صلة حتمية بين تطور الإنتاج وتطور النظام الاجتماعي. فيقول:

(وأما الإسلام، فهو يرفض هذه الصلة الحتمية بين تطور الإنتاج وتطور النظام الاجتماعي، ويرى أن للإنسان حقلين، يمارس في احدهما عمله مع الطبيعة، فيحاول بمختلف وسائله أن يستثمرها ويسخرها لإشباع حاجاته. ويمارس في الآخر علاقاته مع الأفراد الآخرين في شتى مجالات الحياة الاجتماعية. وأشكال الإنتاج هي حصيلة الحقل الأول، والأنظمة الاجتماعية هي حصيلة الحقل الثاني. وكل من الحقلين – بوجوده التاريخي – تعرض لتطورات كثيرة في شكل الإنتاج أو في النظام الاجتماعي. ولكن الإسلام لا يرى ذلك الترابط المحتوم بين تطورات أشكال الإنتاج وتطورات النظم الاجتماعية. ولأجل ذلك، فهو يعتقد أن بالامكانية أن يحتفظ نظام اجتماعي واحد بكيانه وصلاحيته على مرّ الزمن مهما اختلفت أشكال الإنتاج.

في ضوء الإسلام، ليست الحياة الاجتماعية بأشكالها نابعة من الأشكال المتنوعة للانتاج، وإنما هي نابعة من حاجات الإنسان نفسه، لأن الإنسان هو القوة المحركة للتاريخ، لا وسائل الانتاج، وفيه نجد ينابيع الحياة الاجتماعية. فقد خلق الإنسان مفطوراً على حب ذاته والسعي وراء حاجاته، وبالتالي استخدم كل ما حوله في سبيل ذلك. وكان من الطبيعي أن يجد الإنسان نفسه مضطراً إلى استخدام الإنسان الآخر في هذا السبيل أيضاً لأنه لا يتمكن من اشباع حاجاته إلا عن طريق التعاون مع الأفراد الآخرين. فنشأت العلاقات الاجتماعية على أساس تلك الحاجات. واتسعت تلك العلاقات ونمت باتساع تلك الحاجات ونموها خلال التجربة الحياتية الطويلة للإنسان. فالحياة الاجتماعية إذن وليدة الحاجات الإنسانية، والنظام الاجتماعي هو الشكل الذي ينظم الحياة الاجتماعية وفقاً لتلك الحاجات الإنسانية.

خرجنا بنتيجة هي أن النظام الاجتماعي لصالح الإنسانية ليس من الضروري لكي يواكب نمو الحياة الاجتماعية أن يتطور ويتغير بصورة عامة. كما أنه ليس من المعقول (أن تبقي) كليات الحياة بتفاصيلها في صيغ ثابتة ، بل – يجب أن يكون في النظام الاجتماعي جانب رئيسي ثابت، وجوانب مفتوحة للتطور والتغير، مادام الأساس للحياة الاجتماعية (الحاجات الإنسانية) يحتوي على جوانب ثابتة وجوانب متغيرة فتنعكس كل من جوانبه الثابتة والمتطورة في النظام الاجتماعي الصالح.

وهكذا، خلافاً للماركسية القائلة بتبعية علاقات التوزيع، وبالتالي النظام الاجتماعي كله لأشكال الانتاج، نستطيع أن نقرر انفصال علاقات التوزيع عن شكل الانتاج. فمن الممكن لنظام اجتماعي واحد أن يقدم للمجتمع الإنساني علاقات توزيع صالحة له، في مختلف ظروف الانتاج وأشكاله، وليس كل نوع من علاقات التوزيع مرهوناً بشكل معين من أشكال الإنتاج، لا يسبقه ولا يتأخر عنه كما ترى الماركسية.

ولا يسعنا في هذه النقطة إلا أن نتعجب من أن هذا الكاتب الكبير يسترسل بهذا الشكل في تأملات فيغمض عينيه عن الواقع التاريخي البديهي الذي يناقض رأيه إلى درجة كبيرة. فهذه مصر مثلاً، وقد صاحب تحولها الصناعي والزراعي إلى الوسائل التقنية الانتاجية الحديثة (مثل استعمال الآلات والري الدائم والكهرباء والمحرك البترولي) اختفاء أشكال معينة من العلاقات الاجتماعية الماضية مثل الرق والسبي والولاء القبائلي، وخفوت علاقات أخرى مثل العشائرية والقبائلية.

ثم يتناول التوزيع قبل الانتاج والتوزيع بعده (والأغلب أنه يقصد بالأول ملكية وسائل الانتاج وبالتالي ملكية المنتج حسب الاصطلاحات العلمية المقررة). يقول، ممهداً لرأيه القائل أن العمل هو أساس التوزيع في النظام الاقتصادي الإٍسلامي.

(وجهة نظر الإسلام في الحاجة. فإن لها في رأيه دوراً إيجابياً مهماً، لأنها لم تكن سبباً لحرمان العامل الموهوب من ثمار عمله إذا زادت عن حاجته، غير أنها سبب فعال في التوزيع بالنسبة إلى الفئة الثانية من فئات المجتمع وهي الفئة التي لا تملك القدرة الفكرية والجسدية إلا الدرجة التي تسمح لها بالحصول على الحد الأدنى من ضرورات الحياة الإسلام لم يكتف بالعمل وحده لتنظيم جهاز التوزيع بين العاملين، بل جعل للحاجة نصيباً من ذلك واعتبر عجز الفئة الثانية عن تحقيق المستوى العام للرفاه لوناً من الحاجة، ووضع الأساليب والطرق المعينة لمعالجة هذه الحاجة. فالعامل الموهوب الطيب الحظ لن يحرم مما زاد على حاجته من نتاج عمله، ولكن العامل الذي لم يمنح الحد الأدنى من الطاقة العملية سوف يحصل على نصيب أكبر من إنتاجه.

الجانب الإيجابي من نظرية التوزيع قبل الإنتاج) يوازي جانبها السلبي ويكمله، فهو يؤمن بأن العمل أساس مشروع لاكتساب الحقوق والملكيات الخاصة في الثروات الطبيعية النظرية تميز بين نوعين من الأعمال، أحدهما الانتفاع والاستثمار، والآخر الاحتكار والاستئثار.

فأعمال الانتفاع والاستثمار ذات صفة اقتصادية بطبيعتها. وأعمال الاحتكار والاستئثار تقوم على أساس القوة ولا تحقق انتفاعاً ولا استثماراً مباشراً. ومصدر الحقوق الخاصة في النظرية هو العمل الذي ينتمي إلى النوع الأول.وأما النوع الثاني من العمل (الاحتكار والاستئثار)، فلا قيمة له لأنه مظهر من مظاهر القوة وليس نشاطاً اقتصادياً من نشاطات الانتفاع والاستثمار للطبيعة وثروتها. والقوة لا تكون مصدراً للحقوق الخاصة، ولا مبرراً كافياً لها. وعلى هذا الأساس، ألغت النظرية العامة العمل لحيازة الأرض والاستيلاء عليها ولم تقم على أساسه أي حق من الحقوق الخاصة، لأنه في الحقيقة من أعمال القوة، لا من أعمال الانتفاع والاستثمار وعلى هذا الأساس نستطيع أن ندرج حيازة المصادر الطبيعية من أراض ومناجم وعيون، في أعمال الاحتكار والقوة، التي لا قيمة لها في النظرية. وندرج حيازة الثروات التي تنقل وتحمل في أعمال الانتفاع والاستثمار التي هي المصدر الوحيد للحقوق الخاصة في الثروات الطبيعية.

أما القضية الأخرى التي تربط ملكية الفرد بالقيمة التبادلية التي تتولد عن العمل (يقصد الماركسية في أغلب الظن)، فهي تتعارض مع اتجاه النظرية العامة للإسلام في توزيع ما قبل الانتاج. لأن الحقوق الخاصة في المصادر الطبيعية، وإن كانت تقوم في الإسلام على أساس امتلاك الفرد نتيجة عمله، ولكن نتيجة العمل التي يمتلكها العامل الذي أحيى قطعة من الأرض خلال عمل أسبوع مثلاً ليست هي القيمة التبادلية التي ينتجها عمل أسبوع كما ترى الماركسية، بل النتيجة التي يملكها العامل في الأرض التي أحياها هي فرصة الانتفاع بتلك الأرض، وعن طريق تملك هذه الفرصة، ينشأ حقه الخاص في الأرض نفسها، ومادامت هذه الفرصة قائمة، يعتبر حقه في الأرض ثابتاً.

وأما بالنسبة لما بعد الانتاج، (الإنسان المنتج في النظرية الإسلامية لتوزيع ما بعد الانتاج هو المالك الأصيل للثروة المنتجة من الطبيعة الخام، ولا حظّ لعناصر الانتاج المادية في تلك الثروة، وإنما يعتبر الإنسان المنتج مديناً لأصحاب الوسائل التي يستخدمها في إنتاجه، فيكلف بإبراء ذمته ومكافأتهم على الخدمات التي قدمتها وسائلهم. فنصيب الوسائل المادية المساهمة في عملية الانتاج يحمل طابع المكافأة على خدمة، ويعبر عن دين في ذمة الإنسان المنتج، ولا يعني التسوية بين الوسيلة المادية والعمل الإنساني أو الشركة بينهما في الثروة الناتجة على أساس موحد[6].

والإسلام هنا ينكر تبعية التوزيع لأشكال الانتاج وتكيفه تبعاً لها بقوة القانون الطبيعي للتاريخ كما تزعم الماركسية (كذا!). لا بقطع الصلة بالمرة بين التوزيع وشكل الانتاج. ولكن الصلة في رأي الإسلام بين التوزيع والانتاج ليست علاقة تبعية وفقاً لقانون طبيعي. وإنما هي صلة يفرضها المذهب وتقوم الفكرة في هذه الصلة على أساس النقط التالية:

أولاً – إن الاقتصاد الإسلامي يعتبر قواعد التوزيع التي جاء بها ثابتة وصالحة في كل زمان ومكان، لا يختلف في ذلك عصر الكهرباء والذرة عن عصر البخار، ولا عصر البخار عن عصر الطاحونة الهوائية والعمل اليدوي.

ثانياً – إن عمليات الانتاج التي يمارسها الفرد تعتبر مرحلة تطبيق القواعد  العامة في التوزيع

وثالثاً: إن الانتاج إذا ارتفع مستواه، وازدادت وسائله وإمكاناته، نمت سيطرة الإنسان على الطبيعة، وأصبح بإمكان الفرد المجهز بقوة الانتاج أن يمارس نشاطه في نطاق أوسع من المجالات التي كانت تتاح له قبل نمو الانتاج وارتفاع مستواه)[7].

وإحدى النتائج الفرعية لهذه النظرية أن المشكلة الاقتصادية – مشكلة التخلف والفقر – ليست نتيجة توازنات طبقية معينة أو الافتقار إلى مستوى تقنوي مرتفع، بل نتيجة أخلاقيات سيئة للإنسان. يقول الكاتب:

(المشكلة قبل كل شيء مشكلة الإنسان نفسه، لا الطبيعة ولا أشكال الانتاج إن الله تعالى قد حشد للإنسان في هذا الكون الفسيح كل مصالحه ومنافعه، ووفر له الموارد الكافية لإمداده بحياته وحاجاته المادية. ولكن الإنسان هو الذي ضيّع على نفسه هذه الفرصة التي منحها الله له، بظلمه وكفرانه (إن الإنسان لظلوم كفار). فظلم الإنسان في حياته العملية وكفرانه بالنعمة الإلهية، هما السببان الأساسيان للمشكلة الاقتصادية في حياة الإنسان)[8].

وينكر الكاتب أن العمل يخلق القيمة. فهذه الأخيرة تعود في رأيه إلى شيء أسماه الرغبة الاجتماعية. أما العمل فهو سبب من الأسباب الرئيسية للملكية، يقول:

(يختلف الإسلام عن الاقتصاد الاشتراكي القائل إن الفرد هو الذي يمنح المادة قيمتها التبادلية. فالمواد الطبيعية كالخشب والمعادن وغير ذلك من ثروات الطبيعة لا تستمد قيمتها – في رأي الإسلام – من العمل، بل قيمة كل مادة حصيلة الرغبة الاجتماعية العامة في الحصول عليها وإنما العمل في الإسلام سبب لملكية العامل لنتيجة عمله. وهذه الملكية الخاصة القائمة على أساس العمل، تعبير عن ميل طبيعي في الإنسان إلى تملك نتائج عمله، ومرد هذا الميل إلى الشعور كل فرد بالسيطرة على عمله. فإن هذا الشعر يوحي طبيعياً بالميل إلى السيطرة على نتائج العمل ومكاسبه. وبذلك تكون الملكية القائمة على أساس العمل حقاً للإنسان نابعاً من مشاعره الأصيلة.

والقاعدة الإسلامية أن العمل سبب لتملك العامل للمادة،وليس سبباً لقيمتها. فالعامل، حيث يستخرج اللؤلؤ لا يمنحه بعمله هذا قيمته، وإنما يملكه بهذا العمل دور الحاجة في التوزيع: إن العمل هو الأداة الرئيسية  الأولى في جهاز التوزيع بوصفه أساساً للملكية.

وعلى هذا الأساس، يستنتج الكاتب ازدواج الملكية في الإسلام، يقول:

(تنقسم الأموال بحسب طبيعة تكوينها وإعدادها إلى ثروات خاصة وعامة. فالثروات الخاصة كل مال يتكون أو يتكيف طبقاً للعمل البشري الخاص المنفق عليه، كالمزروعات والمنسوجات والثروات التي أنفق عمل لاستخراجها من الأرض والبحر فإن العمل البشري يتدخل هنا إما في تكوين نفس المال وإما في تكييف وجوده وإعداده بالصورة التي تسمح بالاستفادة منه وأما الثروات العامة فهي كل مال لم تتدخل اليد البشرية فيه كالأرض. فإنها مال لم تصنعه اليد البشرية. والإنسان، وإن كان يتدخل أحياناً في تكييف الأرض التي يجعلها صالحة للزراعة والاستثمار، غير أن هذا التكييف محدود مهما فرض أمده. فإن عمر الأرض أطول منه، فهو لا يعدو أن يكون تكييفاً لفترة محدودة من عمر الأرض.

يتضح أن القاعدة العامة هي أن الملكية الخاصة لا تظهر إلا في الأموال التي امتزجت في تكوينها وتكييفها بالعمل البشري، دون الأموال والثروات التي لم تمتزج بالعمل. لأن سبب الملكية الخاصة هو العمل. فما لم يكن المال مندرجاً ضمن نطاق العمل البشري، لا يدخل في مجال الملكية الخاصة).

وحيث أن الملكية عنصر أساسي في (التوزيع) قبل الانتاج وبعده، يصبح للعمل نصيب وإن لم يكن كله من المنتج أحياناً. يقول

(هذه هي الصورة الإسلامية للتوزيع، نستخلصها مما سبق ضمن هذه السطور:

العمل أداة رئيسية للتوزيع، بوصفه أساساً للملكية. فمن يعمل في حقل الطبيعة يقطف ثمار عمله ويتملكها.

الحاجة أداة رئيسية للتوزيع بوصفها تعبيراً عن حق إنساني ثابت في الحياة الكريمة، وبهذا تكفل الحاجات في المجتمع الإسلامي ويضمن إشباعها.

الملكية أداة ثانوية للتوزيع عن طريق النشاطات التجارية التي سمح بها الإسلام ضمن شروط خاصة لا تتعارض مع المبادئ الإسلامية للعدالة الاجتماعية، التي ضمن الإسلام تحقيقها.

وما دور العرض والطلب، ثم النقد في عملية التوزيع؟ يقدم الكاتب نظرية مبنية على وجود التوازن بين العرض والطلب، ويوصم النقد بالضرر وصمة أصيلة. يقول:

(إن العرض والطلب كانا يميلان إلى التساوي في عصر المقايضة، لأن كل منتج كان ينتج حاجاته، ويستبدل الفائض عن حاجته بسلع أخرى يحتاجها في حياته، من غير النوع الذي ينتجه. فالمنتوج دائماً يوازي حاجته، أي أن العرض دائماً يجد طلباً مساوياً له. وبذلك تتجه أثمان السوق إلى درجتها الطبيعية التي تعبر عن القيم الحقيقية للسلع وأهميتها الواقعية في حياة المستهلكين. وبعد أن بدأ عصر النقد وتنمية الملك لأجل إشباع الحاجة، عند ذلك يختل طبعاً التوازن بين العرض والطلب لم يقتصر النقد على أن يكون أداة اكتناز، بل أصبح أداة تنمية المال عن طريق الفائدة التي يتقاضاها الدائنون من مدينهم، أو يتقاضاها أصحاب الأموال من المصارف التي يودعون أموالهم فيها… وهكذا أصبح الاكتناز في البيئة الرأسمالية سبباً لتمييز الثروة بدلاً من الانتاج).

وتتلخص النقط الرئيسية في الموقف الإسلامي من مشاكل التداول فيما يلي:

أولاًَ- منع الإسلام من اكتناز النقد، وذلك عن طريق فرض ضريبة الزكاة على النقد المجمد بصورة تتكرر كل عام، حتى تستوعب النقد المكتنز كله تقريباً إذا طال اكتنازه عدة سنين.

وثانياً- حرم الإسلام الربا تحريماً قاطعاً لا هوادة فيه. وبذلك قضى على الفائدة ونتائجها الخطيرة في مجال التوزيع، وما تؤدي إليه من إخلال بالتوازن الاقتصادي العام. وانتزع من النقد دوره بوصفه أداة تنمية للملك مستقلة بذاتها

وثالثاً- أعطى لولي الأمر صلاحيات تجعل له الحق في الرقابة الكاملة على سير التداول والاشراف على الأسواق، للحيلولة دون أي تصرف يؤدي إلى ضرر وزعزعة الحياة الاقتصادية.

نعرف أن العمل المنفق الذي اعتبرته النظرية مصدراً وحيداً للكسب ليس هو العمل المباشر فحسب، بل يشمل العمل المختزن أيضاً. فما دام هناك إنفاق واستهلاك للعمل، فمن حق صاحب العمل المنفق أن يحصل على المكافأة التي يتفق عليها مع صاحب المشروع، سواء أ كان العمل الذي يستهلكه المشروع مباشراً أو منفصلاً (في الإسلام) حرمت أدوات الانتاج من المشاركة في الربح، ولم تسمح لها الشريعة بالكسب على هذا الأساس. وإنما أعطتها فرصة للكسب على أساس الأجر الثابت. فمن يملك أداة الانتاج ليس له أن يدفعها إلى العامل على أساس المشاركة في الناتج والربح إن من يملك شبكة صيد أو أي آلة أخرى لا يجوز دفعها إلى العامل على أساس المشاركة فيما يصطاد، فإذا اصطاد بها شيئاً كان الصيد كله له ولم يكن لصاحب الشبكة شيء منه وهكذا نعرف الفرق من هذه الناحية بين ا لعمل المباشر والعمل المختزن. فالعمل المباشر ممارسة من العامل للمادة تبرر تملكه لشيء منها، إذا تنازل مالكها السابق عن حق السبق الزمني. وأما العمل المختزن في أداة الانتاج فهو ليس ممارسة من صاحب الأداة في العملية؛ فلا يكون له حق الملكية في المادة، سواء تنازل الممارس للعمل – الصياد مثلاً – عن حقه أم لا، وإنما له حق الأجرة كمكافأة أو تعويض عما تبدد من عمله المختزن خلال العملية. وفي هذا الضوء، نستطيع أن نضيف إلى المبدأ المتقدم في النظرية القائل إن كل عامل يملك نتيجة عمله، مبدأ جديداً وهو أن ممارسة الفرد للانتفاع بثروة طبيعية تجعل له حقاً فيها، ما دام مواصلاً لانتفاعه بتلك الثروة. ولما كانت الحيازة في مجال الثروات المنقولة عملاً من أعمال الانتفاع، فيستوعبها هذا المبدأ ويقيم على أساسه حقاً للفرد في الثروة التي حازها)[9].

والحقيقة أن لدى الكاتب فكرة أساسية تجعله يعطي حقوقاً معينة للعمل وأخرى لمصادر الثروة الطبيعية، وتجعله يحرم النقد – هذه الأداة التي اصطنعها الإنسان اصطناعاً كاملاً – من أي حق وخاصة الفائدة باعتبارها ربا. وهذه النظرية العامة هي النظرية الفقهية المعروفة بأصل النماء والتي سبق التعرض لها من قبل. يقول محمد باقر الصدر:

(هناك ارتباط بين إلغاء رأس المال الربوي وإحكام الإسلام الأخرى في المضاربة والتكافل العام والتوازن الاجتماعي. فإنه إذا درس تحريم الربا بصورة منفردة، كان مثاراً لمشاكل خطيرة في الحياة الاقتصادية. أما إذا أخذناه بوصفه جزءاً من عملية واحدة مترابطة، فسوف نجد أن الإسلام وضع لتلك المشاكل حلولها الواضحة، التي تنسجم مع طبيعة التشريع الإسلامي وأهدافه وغاياته، وذلك خلال أحكام المضاربة والتوازن والتكافل والنقد.

توزيع الثروة يتم على مستويين، أحدهما توزيع المصادر المادية للانتاج والآخر توزيع الثروة المنتجة. فمصادر الانتاج هي الأرض، والمواد الأولية والأدوات اللازمة لانتاج السلع المختلفة وأما الثروة المنتجة فهي السلع التي تنجز خلال عمل بشري على الطبيعة، وتنتج عن عملية تركيب بين تلك المصادر. فهناك إذن ثروة أولية وهي مصادر الانتاج. وثروة ثانوية، هي ما يظفر به الإنسان عن طريق استخدام تلك المصادر، من متاع وسلع.

إننا، إذ نتحدث عن توزيع المصادر في الإسلام وأشكال ملكيتها ، لابد لنا من أن نستبعد من مجال البحث المصدرين الأخيرين وهما رأس المال والعمل. أما رأس المال، فهو في الحقيقة ثروة منتجة، وليس مصدراً أساسياً للانتاج، لأنه يعبر اقتصادياً عن كل ثروة تم إنجازها وأما العمل، فهو العنصر المعنوي من مصادر الانتاج، وليس ثروة مادية تدخل في نطاق الملكية الخاصة أو العامة. وعلى هذا الأساس، تكون الطبيعة وحدها من بين مصادر الانتاج موضوع دراستنا الآن، لأنها تمثل العنصر المادي السابق للانتاج.

إن منح صاحب الصوف ملكية النسيج، وصاحب كل مادة ملكية تلك المادة بعد ممارستها في عملية الانتاج لا يقوم على أساس أن الصوف والمادة الأولية نوع من رأس المال في عملية الغزل والنسيج. وإنما يقوم على أساس ظاهر الثبات في الملكية التي تقرر أن من يملك مادة يظل محتفظاً بملكيته لها ما دامت المادة قائمة والمبررات الإسلامية للملكية باقية وهذا يقرر بوضوح أن منح ملكية السلعة المنتجة لمالك المادة لا العامل يقوم على أساس ما أطلقنا عليه اسم ظاهرة الثبات في الملكية، ولا يستمد مبرره الإسلامي من وجهة نظر الرأسمالية التي تقول إن السلعة المنتجة يملكها رأس المال، وإن العامل أجير لدى رأس المال الذي يتقاضى أجره على عمله منه.

وعلى هذا الضوء، نستطيع أن ندرك أيضاً الفرق بين أصحاب أدوات الانتاج الذين لم يسمح لهم المشاركة في الناتج وبين صاحب الأرض في عقد المزارعة (المقاسمة العينية) وصاحب المال التجاري في عقد المضاربة ونحوهما مما يسمح له بنصيب من الربح. فإن هؤلاء المالكين الذين يسمح لهم بنصيب من الربح أو الناتج يملكون في الحقيقة المادة التي يمارسها العامل.

الحقيقة هي أن الربح الذي يحصل عليه المالك نتيجة لاتجار العامل بأمواله، ليس قائماً على أساس المخاطرة. وإنما يستمد مبرره من ملكية صاحب المال للسلعة التي أتجر بها العامل. فإن هذه السلعة، وإن كانت قيمتها تزداد غالباً بالعمل التجاري الذي ينفقه العامل عليها، من نقلها إلى السوق وإعدادها بين أيدي المستهلكين، لكنها تبقى مع ذلك ملكاً لصاحب المال، لأن كل مادة لا تخرج عن ملكيتها لصاحبها بتطوير شخص آخر لها، وهذا ما أطلقنا عليه ظاهرة ثبات الملكية)[10].

وحيث أن وسائل الانتاج كانت في الأصل مستمدة من الطبيعة، فملكيتها تتوقف على سبب تحولها إلى حوزة المالك أو المنتفع. ويركز الكاتب بصورة خاصة على الأرض باعتبارها وسيلة الانتاج الرئيسية. يقول:

(طبقت الشريعة على الأراضي التي تضمها دار الإسلام الاشكال الثلاثة للملكية. فحكمت على قسم منها بالملكية العامة، وعلى قسم آخر بملكية الدولة وسمحت للملكية الخاصة بقسم ثالث. وهي في تشريعاتها هذه تربط نوع ملكية الأرض بسبب دخولها في حوزة الإسلام، والحالة التي كانت تسودها حين أصبحت أرضاً إسلامية.

ولما كانت الخلافة في الأصل للجماعة، وكانت الملكية الخاصة أسلوباً لإنجاز الجماعة أهداف هذه الخلافة ورسالتها، فلا تنقطع صلة الجماعة ولا تزول مسؤوليتها عن المال لمجرد تملك الفرد له، بل يجب على الجماعة أن تحمي المال من سفه المالك إذا لم يكن رشيداً، لأن السفيه لا يستطيع أن يقوم بدور صالح في الخلافة.

إن ولي الأمر يدع الأرض المفتوحة عنوة إلى القادرين على استثمارها من أفراد المجتمع الإٍسلامي، ويتقاضى منهم أجرة على الأرض لأنها ملك مجموع الأمة، فحينما ينتفع المزارعون باستثمارها يجب عليهم تقديم ثمن انتفاعهم إلى الأمة. وهذا الثمن أو الأجرة هو الذي أطلق عليه في الخبر اسم الخراج الحقيقة أن احتفاظ الدولة بالأراضي المفتوحة وعدم تقسيمها بين المقاتلين كما تقسم سائر الغنائم، ليس تطبيقاً لمبدأ التأميم، وإنما هو تطبيق لمبدأ الملكية العامة، فإن الأرض المفتوحة لم تشرع فيها الملكية الخاصة وتقسيم الفيء (الغنيمة) مبدأ وضعه الشارع في الغنائم المنقولة فقط. فالملكية العامة للأرض المفتوحة إذن طابع أصيل لها في التشريع الإٍسلامي وليست تأميماً وتشريعاً ثانوياً بعد تقرير الملكية الخاصة.

إن اختصاص الفرد بالأرض والحق الشخصي فيها ينشأ من أحد أسباب ثلاثة:

إحياء الفرد لشيء من أراضي الدولة.

إسلام أهل البلاد واستجابتهم للدعوة طوعاً.

دخول الأرض في دار الإسلام بعقد صلح ينص على منح الأرض للمصالحين.

وفي هذا المجال، يجب أن نستبعد الحيازة  والاستيلاء المجرد، بوصفه مبرراً أصيلاً لاختصاص الفرد بالأرض التي يحوزها ويستولي عليها. لأن لا نملك نصاً صحيحاً يؤكد ذلك في الشريعة وإنما الشيء الوحيد الذي عرفنا أنه يبرر الاختصاص شرعاً هو الإحياء، أي إنفاق الفرد جهداً. خاصاً على أرض ميتة، من أجل بعث الحياة فيها.

إن الأرض – منظوراً إليها بوضعها الطبيعي الذي هي عليه حين تسلمت الإنسانية هذه الهبة من الله تعالى – ليست ملكاً أو حقاً لأي فرد من الأفراد، وإنما هي ملك الامام – باعتبار المنصب لا الشخص – ولا تزول – بموجب النظرية الاقتصادية للإسلام عن الأرض – ملكية الإمام لها، ولا تصبح الأرض ملكاً للفرد بالعنف والاستيلاء، بل وحتى بالإحياء. وإنما يعتبر الإحياء مصدراً لحق الفرد في  الأرض. فإذا بادر شخص بصورة مشروعة إلى إحياء مساحة من الأرض وأنفق فيها جهده، كان من الظلم أن يساوي في الحقوق بينه وبين سائر الأفراد الذين لم يمنحوا تلك الأرض شيئاً من جهودهم، بل وجب اعتباره أولى من غيره بالأرض والانتفاع بها.

إن الاسلام قد اعترف إلى جانب الإحياء الذي هو عمل اقتصادي بطبيعته، بالعمل السياسي، والعمل السياسي الذي يتجسد في الأرض ويمنح العامل حقاً فيها، هو العمل الذي يتم بموجه ضم الأرض إلى حوزة الإسلام، وجعلها مساهمة بالفعل في الحياة الإسلامية وتوفير إمكاناتها المادية فإن كان ضم الأرض إلى حوزة الإسلام ومساهمتها في الحياة الإسلامية نتيجة للفتح، فالعمل السياسي هنا يتعبر عمل الأمة، لا عمل فرد من الأفراد. ولذلك تكون  الأمة هي صاحبة الأرض. وينطبق على الأرض، لأجل ذلك، مبدأ الملكية العامة.

فإذا تم كل ما تقدم (أي الأحوال المختلفة للفتح وما يترتب عليها في رقبة الأرض) أمكن القول بأن الأرض كلها ملك الدولة أو المنصب الذي يمثله النبي أو الإمام، ولا استثناء في ذلك إطلاقاً. وعلى هذا الضوء نفهم قول الإمام علي عليه السلام في رواية أبي خالد الكابلي عن محمد بن علي الباقر عنه : والأرض كلها لنا فمن أحيا أرضاً من المسلمين فليعمرها وليؤد خراجاً إلى الامام وأما المجتمع الإسلامي، فيمكنه الاعتماد على حقوق الملكية العامة وملكية الدولة في مشاريع الانتاج الكبرى، ويبقي الملكيات الخاصة للمجالات التي تتسع لها إمكانياتها)[11].

في هذا التصور، تلعب الدولة دوراً خطيراً. فهي مالكة الأرض الزراعية، وهي المسيطرة على الأحوال الاقتصادية، وهي تقيم التوازن والتكافل الاجتماعيين. يقول الكاتب:

(والعامر طبيعياً من تلك الأراضي (يقصد التي فتحها المسلمون) ملك للدولة، أو بتعبير آخر ملك المنصب الذي يمارسه النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وخلفاؤه الشرعيون وفقاً للنصوص الفقهية والتشريعية، حتى جاء في تذكرة العلامة الحلي أن إجماع العلماء قائم على ذلك.

والدولة تمنع الاحتكار وتركيز الثروات، فتكون عاملاً في تنمية الانتاج حسب قوله:

(محاولة المنع من تركيز الثروة وفقاً للنص القرآني (لئلا يكون دولة بين الأغنياء منكم) كما سنشرح ذلك وهذا المنع عن التركيز، وإن كان يرتبط بصورة مباشرة بالتوزيع، ولكنه يرتبط أيضاً بشكل غير مباشر بالانتاج لأن الثروة حين تتركز في أيد قليلة، يعم البؤس وتشتد الحاجة لدى الكثرة الكاثرة. ونتيجة لذلك سوف يعجز الجمهور عن استهلاك ما يشبع حاجاتهم من السلع لانخفاض قوتهم الشرائية. فتتكدس المنتجات دون تصريف ويسيطر الكساد على الصناعة والتجارة ويتوقف الانتاج.

ويمكننا أن نقدر على هذا الضوء أن الإسلام لو كان قد استلم القيادة بدلاً من الرأسمالية في عصر ولادة الآلة البخارية، لما سمح باستعمال الآلة الجديدة، إلا بعد أن يتغلب على المشاكل والأضرار التي تجلبها الآلة لهؤلاء، لأن التنمية التي تحققها الآلة قبل التغلب على تلك المشاكل سوف لن تكون هدف طريق بل هدف غاية.

وحين عالج الإسلام قضية التوازن الاجتماعي ليضع منه مبدأ للدولة في سياستها الاقتصادية، انطلق من حقيقتين، أحدهما كونية والأخرى مذهبية.

أما الحقيقة الكونية فهي تفاوت أفراد النوع البشري في مختلف الخصائص والصفات، النفسية والفكرية والجسدية فإن من الخطأ محاولة تفسير تلك التناقضات والفروق بين الأفراد على أساس ظرف اجتماعي معين أو عامل اقتصادي خاص فالاختلاف في الأفراد حقيقة مطلقة وليس نتيجة إطار اجتماعي معين. فلا يمكن لنظرة واقعية تجاهلها، ولا لنظام اجتماعي إلغاؤه في التشريع أو في عملية تغيير لنوع العلاقات الاجتماعية

وأما الحقيقة الأخرى في المنطق الإسلامي لمعالجة قضية التوازن فهي القاعدة المذهبية للتوزيع القائلة بأن العمل هو أساس الملكية ومالها من حقوق.

ويخلص الإسلام إلى القول بأن التوازن الاجتماعي هو التوازن بين أفراد المجتمع في مستوى المعيشة، لا في مستوى الدخل. والتوازن في مستوى المعيشة معناه أن يكون المال موجوداً لدى أفراد المجتمع ومتداولاً بينهم إلى درجة تتيح لكل فرد العيش في المستوى العام، أي أن يحيا جميع الأفراد مستوى واحداً من المعيشة مع الاحتفاظ بدرجات داخل هذا المستوى الواحد تتفاوت بموجبها المعيشة ولكنه تفاوت درجة وليس تناقضاً كلياً في المستوى كالتناقضات الصارخة بين مستويات المعيشة في المجتمع الرأسمالي.

ويقدم الكاتب فكرة شبيهة بالرأسمالية غير المستغلة التي اشتهرت الناصرية بها:

(ينتج عن الموقف الإسلامي طبيعياً عدم قدرة رأس المال الفردي غالباً على التوسع في حقول الانتاج والتجارة، بالدرجة التي تضر التوازن. لأن توسع الأفراد في مشاريع الانتاج والتجارة إنما يعتمد في مجتمع كالمجتمع الرأسمالي على المصارف الرأسمالية التي تمد تلك المشاريع بحاجتها إلى المال نظير فائدة محددة. فإذا منع الاكتناز وحرمت الفائدة لم يتيسر للمصارف أن تكدس في خزائنها النقد بشكل هائل، ولا أن تمد المشاريع الفردية بالقروض. فتبقى النشاطات الخاصة على الصعيد الاقتصادي في الحدود المعقولة التي تواكب التوازن العام. وتترك – طبيعياً – المشاريع الكبرى في الانتاج إلى الملكيات العامة.

وليس للكاتب برنامج تنمية محدد يقدمه، ولكنه يترك الأمر للدولة الإسلامية:

(هذه هي الخدمات التي قدمها الإٍسلام بوصفه المذهبي لتنمية الانتاج وزيادة الثروة. وترك بعد ذلك للدولة أن تدرس الشروط الموضوعية للحياة الاقتصادية، وتحصي ما في البلاد من ثروات طبيعية، وتستوعب ما يختزنه المجتمع من طاقات وما يعيشه من مشاكل، وتضع على ضوء ذلك كله، وفي الحدود المذهبية، السياسة الاقتصادية التي تؤدي إلى زيادة الانتاج ونمو الثروة وتضمن يسر الحياة ورخاء المعيشة.

وتدخل الدولة في الحياة الاقتصادية يعتبر من المباديء المهمة في الاقتصاد الإسلامي التي تمنحه القوة والقدرة على الاستيعاب والشمول. ولا يقتصر تدخل الدولة على مجرد تطبيق الأحكام الثابتة في الشريعة، بل يمتد إلى ملئ منطقة الفراغ من التشريع. فهي تحرص من ناحية على تطبيق العناصر الثابتة من التشريع، وتضع من ناحية أخرى العناصر المتحركة وفقاً للظروف.

ومن ضمن هذا التدخل، يكون للدولة الإسلامية حق تحديد أسعار المنتجات أو بعضها الاساسي على الأقل. يقول باقر الصدر:

(جاءت في عهد الإمام (علي) إلى مالك الاشتر أوامر مؤكدة بتحديد الاسعار وفقاً لمقتضيات العدالة. فقد تحد ث إلى واليه عن التجار وأوصاه بهم، ثمن عقب قائلاًُ: وأعلم – مع ذلك – أن في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحاً قبيحاً واحتكاراً للمنافع وتحكماً في البيعات.وذلك باب مضرة للعامة، وعيب على الولاة. فامنع من الاحتكار فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم منع منه. وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازن عدل وأسعار لا تجحف الفريقين في البائع والمبتاع)[12].

[1] محمد باقر الصدر : اقتصادنا ، ص 9 ،12، 14 ،22، 429، 725.

[2] محمد باقر الصدر : شرحه ، ص 28، 29، 31، 310، 312، 317، 331، 389، 647/ 648.

[3] محمد باقر الصدر : شرحه ، 295_297، 300، 303، 306.

[4] محمد باقر الصدر : شرحه ، ص ص 318، 325، 339، 723.

[5] نلاحظ هنا بشكل عابر أن الكاتب لم يدرك مفهوم نمط الإنتاج الادراك العلمي الصحيح، إذ اعتبره فقط مساوياً (لأسلوب) الإنتاج من الناحية التقنوية وفي طريقة تنظيمه، مسقطاً منه علاقات الإنتاج أو علاقة الاستقلال.

[6] نلاحظ هنا نوعاً من التناقض. فإذا كان الفلاح مثلاً يدفع لصاحب الجرار أجرة مقابل استعماله، فإن هذه الأجرة سوف تدخل بطبيعة الحال في قيمة المنتج. أليس هذا نوعاً من المشاركة من صاحب الجرار للفلاح في هذه القيمة؟ وقد نجد تفسيراً لهذا في قول الكاتب بعد ذلك أنه يعتبر الجرار عملاً مختزناً يعطي لصاحبه حقاً في مشاركة الفلاح على شكل الأجرة.

[7] محمد باقر الصدر : شرحه ، ص ص 335-340، 355، 530-539، 556-560، 583، 677 / 678.

[8] محمد باقر الصدر : شرحه ، ص 347.

[9] محمد باقر الصدر : شرحه ، ص ص 351، 352، 360 وبعدها، 369-373، 619، 631، 553.

[10] محمد باقر الصدر : شرحه ، ص ص 313، 433-437، 599، 631، 634.

[11] محمد باقر الصدر : شرحه ، ص ص 441 وبعدها ، 475، 483، 487 وبعدها، 493، 566، 662.

[12] محمد باقر الصدر : شرحه ، ص 481، 662/ 663، 673، 707/ 708، 719، 665/ 666، 721، 728.