تطور منهج البحث الأصولي عند السيد الشهيد الصدر

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

((الإضافات الأصولية عند السيد الصدر))
 وما زالت بحوث الفقه والأصول، والفلسفة، والمباحث الفكرية العامة تشهد لهذا العالم المفكر بجلالة قدره، وطول باعه في تلك الميادين.
ومن تلك المبادين، التي أولاها عناية خاصة هي بحوثه وكتاباته، وتحقيقاته في علم الأصول، فعلم الأصول كما يعرفه أهل الاختصاص هو نظرية علم الفقه، ومكانته بالنسبة إلى الفقه كمكانة علم المنطق بالنسبة إلى الفكر البشري، على أنه هندسة لهذا العقل البشري، فكذلك الحال بالنسبة إلى علم الأصول ومكانته من علم الفقه، وهو بذلك يحتل مكانة خطيرة في الحقل الدراسي لدى الحوزات العلمية خصوصاً، وقد تطور هذا العلم لدى الحوزات الدينية التي تنهج طريق الاجتهاد في الأحكام الشرعية ولأنه في ملامحه العامة: هو علم عقلي مبني على التحليل العقلي، لذلك أصبحت إمكانية الإبحار في آفاق هذا العلم هي إمكانية خاصة لأولئك النفر من الباحثين والمحققين الذين حصلوا على قسط ليس بالقليل من الظفر بأسرار وخصائص هذا العلم، وأعطوه كل اهتمامهم وقصارى جهودهم.
والسيد محمد باقر الصدر من أولئك الرواد الكبار الذين عاشوا مع مفردات هذا العلم من خلال عصرهم، فالكبير في ميادين البحث العلمي إنما يصبح كبيراً، عندما يقدم مفردات ذلك العلم أياً كان من خلال عصره، لا من خلال عصور غيره، فالذين يقدمون مفردات ومواضيع العلوم، من خلال عصور غيرهم ويقفون عند ذلك ليسوا إلا نقلة وحفاظاً لتلك العلوم، أما الذين يقدمونها من خلال إيجاد التلاؤم وإدراك موضع الحاجة مع العصر الذي يعيشون فيه فيعطون للعلم نكهته في الكيف والكم ويدخلونه إلى عصرهم محبباً مرغوباً فيه، لا طارئاً غريباً ثقيل المزار، أولئك حقاً هم الكبار في الميادين العلمية المختلفة، والسيد محمد الصدر من أولئك الذين مارسوا هذا الاتجاه وأعطوه حقه رغم الاقتطاع الذي فاجأته به يد المنون فارتحل عن عالم الدنيا وهو على مشارف السنة الثامنة والأربعين من عمره الشريف.
كتب السيد الصدر في علم الأصول الدراسات التالية:
1- غاية الفكر في علم أصول الفقه:- وهو اتجاه جديد أدخله السيد رحمه الله في طريقة كتابة علم الأصول، وكان يأمل من ذلك أن يجعل من الكتابات الأصولية والأفكار التي يتضمنها علم الأصول نتاجاً قريباً من الحركة الثقافية العامة لدى الناس ولا سيما المثقفين منهم، حتى لا تكون المصطلحات والأفكار الأصولية حكراً على وسط معين، وحتى يوجد شيئاً من التقارب الثقافي بين الأوساط العلمية المختلفة، وهي حاجة أساسية من حاجات ومطالب العصر، والسيد الصدر في سعيه هذا إنما أوجد جسراً بين الثقافة الأصولية الخاصة والميادين الثقافية الأخرى، وهي مهمة لا يتمكن منها إلا الرواد والكبار في هذه الميادين العلمية.
2- دروس في علم الأصول: وهذه الدروس استوعبتها الحلقات الثلاث، الأولى والثانية والثالثة وهي في جزأين ووضعها السيد الصدر بصورة خاصة لطلبة الدراسة الحوزوية في مرحلة السطح، فالحلقة الأولى وضعها كبديل من دراسة المعالم، والحلقة الثانية تقابل كتاب ((أصول الفقه)) للشيخ المرحوم محمد رضا المظفر، والحلقة الثالثة بجزأيها تقابل كتاب ((الكفاية في الأصول)) لمؤلفها الشيخ محمد كاظم الخرساني المعروف ((بالآخوند)) رحمه الله.
وقد ذكر السيد الصدر في المقدمة التي كتبها للحلقات الثلاث بحثاً شائقاَ ذكر فيه الأسباب التي دعته إلى ذلك، والطريقة التي اعتمدها في الحلقات، فقال رحمه الله: ((إن الهدف الذي جعلنا على عهد الحلقات الثلاث تحقيقه وصممناها وفقاً لذلك هو إيصال الطالب إلى مرحلة الإعداد لبحث الخارج وجعله على درجة من الاستيعاب للهيكل العام لعلم الأصول، ومن الدقة في فهم معالمه وقواعده، تمكنه من هضم ما يعطى له في أبحاث الخارج هضماً جيداً)).
فالسيد الصدر يبدو من الوهلة الأولى مهتماً بتطوير المنهج من خلال تطوير الأسلوب العام في إعطاء المادة الأصولية، وتأكيده على أهمية المنهج والصياغة الفنية يتضح من خلال قوله: ((ولقد حرصنا على أن نطرح في الحلقات الثلاث أحدث ما وصل إليه علم الأصول من أفكار ومطالب من دون تقيد بما هو الصحيح من تلك الأفكار والمطالب لأن الإعداد المذكور لا يتوقف على تلقي الصحيح بل على الممارسة الفنية لتلك الأفكار، وإن كنا آثرنا الصحيح كلما لم نجد محذوراً منهجياً وتدريساً في ذلك)).
والصحيح وغير الصحيح اللذان يقصدهما في الفقرة أعلاه إنما هما بالنسبة إلى رأيه باعتباره أصولياً محققاً أظهرت ثمرات التحقيق لديه آراءً خاصة به استظهرها من خلال تحليل ومناقشة الأفكار الأصولية الأخرى سواء على مستوى الرأي المشهور كما هو معروف لدى محققي الأصول أو الرأي الآخر الذي جاء في تحقيقات بعض المحققين أو لرأي المسمى عندهم بالمختار وهو رأي صاحب البحث والتحقيق، وذكره للصحيح وغير الصحيح بالنسبة إلى ما اختاره هو في المسألة، فالصحة وغير الصحة يجب أن تفهما هنا في علم الأصول على أنهما التباين في الرأي تجاه المسألة المبحوث عنها والمتصورة لدى المحقق وهما لا تخلان بمباني علم الأصول ولا تفسدانه، وإنما تعتبران في حدود المناقشة العلمية الجادة والمتسلحة بأدوات العلم الضرورية التي هي جزء من علمية النمو التحليلي التي يمارسها علم الأصول، وبهذا يختلف الصحيح وغير الصحيح في علم الأصول عن غيره من العلوم الأخرى التي لا تنمو وتتكامل إلا بالصحيح والسليم من الآراء والنظريات.
3- بحوث في علم الأصول: وهي مجموعة الأبحاث والتحقيقات التي ألقاها السيد محمد باقر الصدر (رض) على كلية البحث الخارج والتي بدأ بها عام 1963م. وقد طبعها أحد مقرري بحثه من تلامذته الأوائل وهو السيد محمود الهاشمي في سبعة مجلدات،
كانت على النحو التالي:
1- مباحث الدليل اللفظي وهي ثلاثة مجلدات.
2- مباحث الحجج والأصول العملية، وهي أربعة مجلدات، والمجلد السابع والأخير سمي باسم تعارض الأدلة الشرعية.
وقد أشار السيد الصدر في مقدمة الحلقات إلى أن الوضع التفصيلي لمباحثه الأصولية لا تحتويه الحلقات الثلاث وإنما كل ذلك تحتويه بحوث في علم الأصول ولذلك قال: ((ومن هنا كان على الراغبين في الإطلاع على متبنياتنا الحقيقية في الأصول وعلى نظرياتنا وأساليب استدلالنا بكامل أبعادها أن يرجعوا إلى (بحوث في علم الأصول))).
هذه هي أهم الإنجازات الفكرية والعلمية التي تركها لنا السيد الصدر في موضوع علم الأصول الذي أحببنا في هذه المعالجة أن نستعرض شيئاً من الجهود العلمية التي أرسى قواعدها في مجال علم الأصول، ولإعطاء صورة تلك الجهود التي بذلها السيد الصدر رحمه الله أقترح أن أرسم مخطط تلك الجهود على قسمين:
1- القسم الأول: الإضافات الفكرية للسيد محمد باقر الصدر في ميدان البحث الأصولي.
2- القسم الثاني: المساهمة في صياغة المنهجية الأصولية من قبل السيد الصدر (رض).
القسم الأول: الإضافات الفكرية للسيد الصدر في ميدان البحث الأصولي.
في هذا القسم يتجلى فكر السيد الصدر الأصولي لا من خلال قدرته على منازلة المحققين في مجال البحث الأصولي، وإنما يتجلى في الإبداع الفكري الذي يجعل منه واحداً من رواد البحث الأصولي المعمق، وواحداً من المرشحين عن جدارة لإرساء قواعد مدرسة جديدة في مجال البحث والتحليل لهذا العلم الذي لا يتسنى لأي واحد أن يرقى مدارجه إلا أن يكون على قدر غير قليل من الملاكات العلمية والادراكات الواسعة والفطنة لمضامين وخفايا وأسرار هذا العلم.
وهذه السمات جميعها تبدو واضحة للوهلة الأولى عندما يدخل الباحث الأصولي السيد محمد باقر الصدر بمناقشة تعريف علم الأصول سواء في الحلقات الثلاث المسماة دروساً فقي علم الأصول والتي وضعها لطلبة دراسات المقدمات والسطوح، أو في بحوثه على طلبة الخارج المسماة (بحوث في علم الأصول). ومكن خلال نظرة سريعة إلى ما كتبه السيد الصدر في ميدان البحث الأصولي يمكن أن نسجل على نحو الاستطراد الإضافات التالية:
1- تعريفه لعلم الأصول.
2- إظهاره لمصطلح التزاحم الحفظي.
3- تأكيده على مصطلح السلطنة وإعطاؤه دوراً جديداً في بحوث الإرادة والطلب.
هذا ناهيك من الإفاضات الخاصة التي أوردها في كل باب ومطلب من مطالب البحث الأصولي، حيث إنه كأصولي صاحب رأي، كانت له في كل ذلك آراؤه الخاصة به سواء في مجال حجية القطع أو في النظر إلى المقسم عند القاطع، أو في باب الحكم الظاهري، والحكم الواقعي، وكذلك في مسألة الأصول العملية، أو في مناقشة قضية العلم الإجمالي وطريقته في إدخال حساب الاحتمالات، أو في الوضع ونظرته إلى نظرية مسلك التعهد، والمسلك المشهور والرأي المختار عنده، وإدخاله إلى قضية الاقتران الشرطي وجعلها من المصطلحات المنسجمة من حيثيات البحث الأصولي، وهي فكرة مستوحاة من البحث والتحليل النفسي العصبي، وكذلك رأيه ونظريته في مجال المعاني الحرفية والعلاقة بينها وبين المعاني الاسمية.
وطريقة إدخاله البحث الفلسفي في المجال الأصولي، بدون إثارة، متاعب الأصوليين في تناول هذه المادة، فقد جاء البحث الفلسفي في طيات البحث الأصولي طبيعياً سيالاً بطريقة انسيابية، ولم يحمل البحث الأصولي أكثر مما يجب ولا نأى به عن جادته، وهذه في نظري صفة علمية تضاف إلى الإبداع الذي حمله لنا السيد الصدر وتحلى به في أكثر من مجال من المجالات العلمية والفكرية التي طرقها.
فلقد ناقش فكرة الواحد لا يصدر إلا عن واحد بكل يسر وعذوبة، وفكرة ارتباط المعلولة بعلته بقاءً وحدوثاً دون أن يحدث إرباكاً في مسيرة البحث الأصولي، فاستخدامه للمطالب الفلسفية، واللغوية، والمنطقية، والرياضية، والنفسية، كان استخداماً يكشف عن موهبة الأداء الفني الرفيع الذي تمتع به السيد الصدر وسأعود لأبين وجه الإضافة في كل موضع من المواضع التي أشرت إليها آنفاً:- معتمداً في ذلك على خلاصة البحوث التي توصل إليها والتي سجلها في بحوث في علم الأصول، والتي أشار هو رحمه الله إليها واعتبرها محور نظرياته في مجال البحث الأصولي:
1 تعريف علم الأصول:
كان التعريف المدرسي لعلم الأصول قبل السيد الصدر يقول:- ((إنه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الحكم الشرعي)).
فالسيد الصدر لم يكتف بالاعتراضات التي وجهت إلى هذا التعريف من قبل محققي الأصول كالخراساني، والنائيني، والمحقق العراقي، والسيد الخوئي، وإنما شرع من الوهلة الأولى لتناول البحث بذكر تلك الاعتراضات وبيان وجهة نظره فيها سلباً وإيجاباً ثم تحول إلى الشروع بصياغة تعريف يختلف كلياً عن التعريف المدرسي، ويتكفل بناءً على طريقته بإبعاد كل الثغرات الممكنة عن التعريف من الناحية، الأصولية، وقد كانت آراء المعترضين على ذلك التعريف المدرسي تذهب إلى ما يلي بإيجاز:-
1- إن التعريف المدرسي لا يشمل المسائل الأصولية التي لا يستنبط منها حكم شرعي، كمسائل الأصول العملية.
2- إن ذلك التعريف ينطبق كذلك على القواعد الفقهية كقاعدة ما يضمن وما لا يضمن وقاعدتي لا ضرر ولا حرج، وقواعد فقهية أخرى كقاعدة الفراغ والتجاوز.
3- إنه لا يميز بين المواضع التي يدرسها علم الأصول والتي تدرسها العلوم الأخرى، كمسائل الرجال والمسائل اللغوية.
والسيد الصدر بعد أن استعرض الاعتراضات جميعها وبين السلبي والإيجابي مونها مع وجهة نظره، وحتى يعطي للموضوع شمولاً تحقيقياً ينسجم مع ما يريده من صياغة جديدة، ذهب إلى استعراض القواعد الفقهية وبين أقسامها بطريقة تحليلية حيث قسمها إلى خمسة أقسام:
1- ما ليس بقاعدة بالمعنى الفني كقاعدة لا ضرر.
2- ما يكون بنفسه حكماً واقعياً كلياً مجعولاً يجعل واحد كقاعدة (ما يضمن) الراجعة إلى الضمان باليد.
3- ما يكون حكماً ظاهرياً يحرز به صغرى الحكم الشرعي مثل قاعدة الفراغ وأصالة الصحة.
4- ما يكون حكماً ظاهرياً يمكن أن يتوصل به إلى الحجة على الحكم الشرعي كقاعدة الطهارة الجارية في الشبهات الحكمية.
5- القواعد الفقهية الاستدلالية، وهي القواعد التي يقررها الفقيه في الفقه ويستند إليها في استنباط الحكم الشرعي كقاعدة ظهور الأمر بالغسل.
أما التعريف الذي صاغه السيد الصدر لعلم أصول ودافع عنه دفاعاً أصولياً مقتدراً فهو ((العلم بالعناصر المشتركة في الاستدلال الفقهي خاصة التي يستعلمها# الفقيه كدليل على الجعل الشرعي الكلي)).
والسيد الصدر هو من أوائل الذين انتبهوا إلى خصائص المسألة الأصولية، فوضع للقاعدة الأصولية خصائص من خلال استقراء حالة المسألة الأصولية في الاستنباط.
ومن تلك الخصائص للمسألة الأصولية التي بحث عنها السيد الصدر والتي أراد من خلالها الرد على كل متسائل يأتي في المستقبل على التعريف الذي صاغه لعلم الأصول:
1- أنها تكون مشتركة لا تختص بباب دون باب من أبواب الفقه.
2- إن هذا العنصر المشترك هو كذلك من عناصر الاستدلال الفقهي تجاه الجعل الشرعي الكلي، فالذي لا يدخل في نطاق هذا الاستدلال لا يكون أصولياً.
3- أن يكون هذا العنصر المشترك مرتبطاً بطبيعة الاستدلال الفقهي خصوصاً، وليس من.العناصر المشتركة في عمليات الاستدلال على العموم.
4 – أن يكون هذا العنصر المشترك مما الفقيه في الاستدلال الفقهي دليلاً على الجعل الشرعي الكلي، من دون فرق بين أنحاء الدليلية.
وهنا حاول السيد إعطاء البحث غطاءً أكثر من الشمولية لمواجهة المعترضين حيث مثلما حاول أن يبين أقسام القاعدة الفقهية وخصائص المسألة الأصولية، كذلك حاول أن يوضح، بما لا يحتاج معه إلى التباس حول تعريف، أقسام الأدلة التي يستعملها الفقيه في الاستدلال الفقهي وهي:-
1– الدليل اللفظي وعرفه بأنه كل دليل تكون دلالته على أساس الوضع اللغوي أو العرفي العام فيشمل دلالة الفعل والتقرير.
2- الدليل العقلي البرهاني وهو الدليل الذي تكون دلالته على أساس علاقات وملازمات واقعية تثبت بحكم العقل البديهي أو بتوسط برهان.
3– الدليل العقلي الاستقرائي وهو الدليل القائمة على أساس حساب الاحتمالات.
4– الدليل الشرعي وهو ما جعله الشارع دليلاً لتشخيص الوظيفة العملية تجاه الحكم الشرعي المشتبه.
5– الدليل العقلي العملي وهو كل كبرى عقلية تشخص الوظيفة تجاه الواقع المشكوك به تعذيراً أو تنجيزاً، كقاعدة البراءة والاحتياط العقليين.
فكل هذه الأقسام تدخل في نطاق علم الأصول، لأنها عناصر مشتركة ومستعملة من قبل الفقيه كأدلة على الجعل الشرعي الكلي.
ثم إن السيد الصدر بعد أن يبني على ذلك أراد أن يقول في النهاية من خلال هذا التعريف قد استغنى عن استعمال كلمة استنباط لإخراج القواعد الفقهية غير الاستدلالية، وبذلك يضع السيد الصدر الإضافة الأولى التي مارسها في بحوث علم الأصول فيما يخص تعريف هذا العلم الذي عرَّفه تعريفاً يختلف بشكل كلي عن التعريف المدرسي المعروف في المباحث الأصولية.
حول تقسيمات علم الأصول:
من المبادرات التي تقترب من مشروع الإضافة بالمعنى الفني الخاص في علم الأصول، هو تقسيم هذا العلم الذي اقترحه السيد الصدر.
فقد قُّسِم علم الأصول في الماضي وقبل مرحلة السيد الصدر على النحو التالي:
1– ما يوصل إلى معرفة الحكم الشرعي بعلم وجداني – وهذا التعريف بمباحث الاستلزام العقلي.
2- ما يوصل إلى معرفة الحكم الشرعي بعلم تعبدي وهذا على نحوين:
أ – ما يبحث فيه عن الصغرى بعد الفراغ من الكبرى وهذه هي مباحث الألفاظ.
ب – ما يبحث فيه عن الكبرى: وهذه هي مباحث الحجج والأمارات الظنية.
3– ما يبحث فيه عن الوظيفة العملية الشرعية للمكلفين عند العجز عن معرفة الحكم الواقعي بعلم وجداني أو تعبدي، وهذه مباحث الأصول العملية.
4– ما يبحث فيه عن الوظيفة العملية العقلية في مرحلة الامتثال عند فقدان ما يعين الوظيفة الشرعية، وهذا هو مبحث الأصول العملية العقلية.
وقد أشكل السيد الصدر على هذا التقسيم إذا كان منظوراً إليه من ناحية الطولية والترتب بين الأقسام.
وبما أن السيد الصدر قد اعتبر بشكل نهائي أن المسائل الأصولية تتضمن البحث عن الأدلة المشتركة للاستدلال الفقهي، وهي متنوعة من حيث الدلالة في كونها لفظية أو عقلية أو شرعية ومتنوعة أيضاً من حيث نوع الدليل وكونه مرتبطاً بالشارع وصادراً منه أو لا، ومن حيث سنخ المجهول فيه وكونه هل هو الطريقية أو المنجزية أو الوظيفة العملية.
والسيد الصدر يرى أن البحث عن كل هذه الأمور في موضوع تقسيم مواد علم الأصول يتوقف على أصلٍ موضوعي لا بد منه قبل كل شيء وذلك الأصل هو حجية القطع إذ يعتبر السيد الصدر بدون هذا الأصل لا أثر للبحث في أي مسألة. وبما أن كل هذه الأدلة المذكورة يُراد منها استنباط حكم شرعي فلابد لتلك الأبحاث من فكرة مسبقة عن الحكم الشرعي وانقساماته إلى الواقعي والظاهري، والتكليفي والوضعي.
ولهذا فالسيد الصدر يقترح لمنهجه مواضيع علم من وضع مقدمة تشمل أمرين هما:
1– البحث عن حجية القطع.
2– حقيقة الحكم وما يتصور له من أقسام.
وبعد ذلك يقترح أن تصنف البحوث الأصولية على أساس المقياسين التاليين:
1- التقسيم بلحاظ نوع الدليلية.
2- التقسيم بلحاظ نوع الدليل.
التقسيم بلحاظ نوع الدليلية:
يقترح السيد الصدر أن يلاحظ في هذا التقسيم من حيث كونه لفظياً أو عقلياً أو تعبدياً وعلى هذا الأساس تصنف المسائل الأصولية كالتالي:
1– مباحث ألفاظ وتشمل البحث عن الدليلية وكل ما يرجع إلى تشخيص الظواهر اللغوية والعرفية فيقع في هذا القسم طل البحوث اللغوية الأصولية، وكل ظهور حالي أو سياقي يمكن أن يكون كاشفاً عن الحكم الشرعي ولو لم يتمثل بلفظ كما في دلالة فعل المعصوم (ع) أو تقريره على الحكم الشرعي.
2– مباحث الاستلزام العقلي: وتتضمن البحث عن الدليلية العقلية البرهانية غير الاستقرائية وهذه على قسمين:
أ – غير المستقلات العقلية: وهي القواعد العقلية التي يستنبط منها الحكم شرعي بعد ضم مقدمة شرعية إليها، وهذا يشمل كل أبحاث العلاقات والاقتضاءات التي يدركها العقل بين حكمين أو بين حكم وموضوعه أو متعلقه.
ب – المستقلات العقلية: وهي القواعد العقلية التي يمكن على أساسها أن يستنبط حكم شرعي بلا توسط المقدمة الشرعية المعبر عنها بقاعدة الملازمة بين ما حكم به العقل من تحسين أو تقبيح وما حكم به الشرع.
3– مباحث الدليل الاستقرائي: ويشمل البحث عن الإجماع والسيرة والتواتر التي يكون دليليتها قائمة على أساس حساب الاحتمالات.
4- الحجج الشرعية: وتشمل البحث عن الأدلة التي تثبت دليليتها بجعل شرعي وهي قسمين من الأدلة:
أ – الأمارات.
ب – الأصول العملية.
ويرى السيد الصدر في هذا المجال من الضروري وضع مقدمة يبحث فيها عن جعل الدليلية والحجية شرعاً وأدلتها المختلفة ويبحث فيها كذلك عن الفرق الجوهري بين حجية الأصل وحجية الأمارة.
5– الأصول العملية العقلية: وهي القواعد التي يقررها العقل تجاه الحكم الشرعي في موارد الشك البدوي أو المقرون بالعلم الإجمالي، ويشمل هذا الفصل كل مسائل الاشتغال زائداً على البحث عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان والتخيير العقليين. ثم يرى السيد الصدر أن يختم هذا الفصل بموضوع التعرض الواقع بين الأدلة المذكورة وأحكام التعارض.
التقسيم بلحاظ نوع الدليل:
وهذا هو المقترح الثاني الذي يضعه السيد الصدر لتقسيم مواضيع علم الأصول ويلاحظ في هذا التقسيم نوع الدليل من حيث ذاته، وعلى أساسه تصنف البحوث الأصولية إلى قسمين:
1– الأدلة: وهي القواعد الأصولية التي تشخص بها الوظيفة تجاه الحكم الشرعي بملاك الكشف عنه.
2– الأصول العملية: وهي القواعد التي تشخص الوظيفة العملية بلا توسط الكشف.
أما القسم الأول م هذا التقسيم فيرى السيد الصدر فيه ما يلي:
أن يبدأ البحث في الأدلة بصورة عامة ثم بعد ذلك تصنف إلى أدلة شرعية وهي التي تصدر عن التاريخ، وأدلة عقلية، وهي التي تكون قضايا مدركة من قبل العقل، ويبدأ بالبحث في الدليل الشرعي ويصنف الكلام فيه إلى جهاتٍ ثلاث:
1– تحديد دلالات الدليل الشرعي.
2– في إثبات صدوره من الشارع وهو ما يعرف بصغراه.
3– في حجية تلك الدلالات.
وفي الجهة الأولى يصنف الدليل الشرعي إلى لفظي وغيره. ويميز بين دلالات الدليل الشرعي اللفظي ودلالات الدليل الشرعي غير اللفظي ( الفعل والتقرير ). وفي مجال دلالات الدليل الشرعي اللفظي يرى السيد الصدر ضرورة وضع مقدمة تشمل مباحث الوضع والهيئات والدلالات اللغوية والمجازية.
لأن هذه المباحث ترتبط بدلالات هذا الصنف من الدليل ويدخل في نطاق دلالات الدليل الشرعي اللفظي مسائل صيغة الأمر ومادته وصيغة النهي ومادته والإطلاق والعموم والمفاهيم وغير ذلك من الضوابط العامة للأدلة.
وفيما يخص دلالات الدليل الشرعي غير اللفظي يتكلم على ما يمكن أن يدل عليه الفعل أو التقرير بضوابط عامة من الظهور العرفي أو القرنية العقلية الناشئة من عصمة الشارع.
وأما الجهة الثانية: فيستعرض فيها وسائل الإثبات الممكنة من التواتر والإجماع والسيرة والشهرة وخبر الواحد.
أما الجهة الثالثة: فيتكلم فيه على حجية الدلالة، وجواز الاعتماد على ظهور الكتاب والسنة وسائر ما يتصل بذلك من أقوال، وعلى تبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية في الحجية.
ويرى السيد الصدر في هذا المقترح الثاني أنه بعد هذه المسافة من البحث والتصنيف، ينتقل إلى الدليل العقلي ويدخل فيه البحث عن كل قضية عقلية يمكن أن يُستنبط منها حكم شرعي أما بلا واسطة أو بضم مقدمة شرعية أخرى أي المستقلات العقلية وغير المستقلات ويدخل في الدليل العقلي هذا كل أبحاث الملازمات والإقتضاءات.
وفيما يخص بحث الأصول العملية، فيبدأ الكلام على بحوث عامة في الأصول العملية، كالبحث عن ألسنتها وفوارقها مع الأدلة ومدى إثباتها لمواردها وعدم ثبوت المدلول الالتزامي بها، ثم يُبحث عنها ويشمل البحث عنها أولاً بيان الوظيفة المقررة للشبهة لا المجرد عن العلم الإلزامي بجميع التكاليف.وثانياً بيان مدى التغيير الذي يحدثه في الموقف افتراض علم من هذا القبيل، ويدخل في الأول بحث البراءة والاستصحاب، وفي الثاني، بحث الاشتغال والأقل والأكثر، وأيضاً مثلما هو الحال في المقترح الأول للتقسيم يرى السيد الصدر أن يختم هذا البحث بالتعارض الواقع في الأدلة والأصول وأقسامه وأحكامه.
وقد قام السيد الصدر بمقارنة بين التقسيمين المقترحين ولاحظ أن التقسيم الثاني هو أقرب إلى المنهج القديم في الدراسات الأصولية، في حين أن التقسيم الأول هو أوفق بالمنهج المتداول في الدراسات الأصولية الحديثة.
كما أنه يرى التقسيم الثاني يُلحظ فيه تقسيم البحوث إلى مجاميع بنحو متطابق مع أنحاء تجمعها في مجالات الاستدلال الفقهي.
بينما التقسيم الأول ليس كذلك لأن أبحاث الظواهر والألفاظ فصلت فيه عن البحوث حجية الخبر، مع أن الظهور وحجيته عنصران متلازمان عند الاستناد إليهما في عملية الاستدلال الفقهي.
ويرى السيد الصدر أن التقسيم الأول يتميز بإجراء التصنيف على أساس نوع الدليلية للقاعدة الأصولية وتجميع كل مجموعة تتفق في سنخ الدليلية وفي كونها لفظية أو عقلية برهانية أو استقرائية أو تعبدية بجعل الشارع في نطاق مستقل. ويرى السيد الصدر رحمه الله أن التقسيم الأول قد يكون هو الأفضل إذا نظر إلى علم الأصول بنظرة تجريدية أي بصورة منفصلة على تطبيقه في علم الفقه، وإن التقسيم الثاني هو الأفضل حينما ينظر إليه موزعاً من خلال التطبيق وعلم الفقه، وهو يرى أن مسألة أحد التقسيمين هي مجرد مسألة اختيار ونظر وتفصيل حسب وجهة النظر ولذلك وضع السيد الصدر منهج السير في بحوث الخارج وفق المقترح الأول لأنه أقرب في رأيه إلى المنهج المألوف في الكتب الأصولية التي وضعتها مدرسة الشيخ الأنصاري رحمه الله ن بينما فضَّل في الحلقات منهج التقسيم الثاني لأنه كان يرى فيه قدرة أثر على إعطاء الطالب صورة أوضح عن دور القاعدة الأصولية في المجال الفقهي. وبذلك يكون السيد الصدر في هذا الاتجاه ومن خلال تحمله عناء مقترحات تقسيم المنهج الأصولي قد أفاد الأصوليين والبحث الأصولي بإلقاء الضوء على القاعدة التي تتبع عادة في تقسيم مواد البحث الأصولي وما يُعرف به ذلك التحقيق من الحاجة إلى مزيد من المثابرة والجهد وإعمال الملاكات العقلية.
2- اكتشاف دور علم الأصول في البحوث اللفظية:
من الإسهامات التي ترقى إلى مصاف الإضافة بمعناها الخاص، هو محاولة السيد الصدر تحديد وتصوير دور علم الأصول في البحوث اللفظية، فهو قام بتقسيم البحث في مدلول اللفظ إلى قسمين:
بحث لغوي اكتشافي – تحديدي – وهو البحث عن تعيين مدلول اللفظ من اجل أن يصبح ذهننا قادراً على الانتقال إلى الصورة الذهنية المناسبة عند سماع اللفظ.
بحث فلسفي تحليلي لمدلول اللفظ بما هو أي للصورة الذهنية بهذه الحيثية، وهذا بحث لا أثر له في واقع ما يجري في الذهن ولا يوصل إلى صورة جديدة بسبب سماع الكلام لأن الفهم اللغوي له مكتمل سابقاً وإنما هو مجرد تحليل، ولاحظ السيد الصدر أن علماء الأصول يرون أن في كل من هذين البحثين قصوراً على مستوى الممارسات العملية له، أما البحث الأول فهو وإن كان من وظيفة علماء اللغة إلا أن جعله مما يدخل في هذا المجال لم تف بحوثهم بتوضيحه.
وأما المبحث الثاني، فلم تكن له أي ممارسة جادة قديماً حيث كانت الفلسفة متجهة إلى تحليل حقائق الأشياء الذهنية والخارجية بما هي أشياء لا بما هي مدلولات للكلام، ولما أحس الأصوليون بهذا النقص كان هذا الإحساس سبباً تدريجياً لمحاولات تنامت على مر الزمن لسد
هذا النقص وملء شيء من هذا الفراغ. ومن أجل ذلك يرى السيد الصدر وجوب دخول أبحاث من قبيل دلالة صيغة الأمر والنهي على الوجوب والحرمة في بحوث علم الأصول.
وكذلك دلالة أداة الشرط على المفهوم، وأبحاث من قبيل تحليل المعاني الحرفية ودلالات الهيئات في الجمل الناقصة والتامة والخيرية والإنشائية، ثم بين رحمه الله أن البحوث الأصولية في دلالات الألفاظ تنقسم إلى قسمين: بحوث تحليلية، وبحوث لغوية تحديدية واعتبر أن البحوث اللغوية التحديدية ما هي إلا بحوث تفسيرية وليست لغوية، وبذلك انتهى السيد الصدر إلى اكتشاف دور علم الأصول في بحوث الألفاظ وإعطاؤها البعد والدور التفسيري هو من مبتكرات السيد في هذا المجال، بالإضافة إلى انه ساهم في إعطاء الهوية العلمية للمجالات المتعددة التي يدخلها علم الأصول وهذه بحق تعبر عن إضافة يتميز بها السيد الصدر دون غيره.
مفهوم السلطنة
عندما وصل السيد الصدر في بحوثه الأصولية إلى مبحث الطلب والإرادة وهي الجهة الرابعة كما جاءت عنده في تسلسل من مباحث الدليل اللفظي. وعندما كان البحث عند المحققين الأصوليين قبل الصدر متجهاً إلى تحليل الأمر هل هو عين الإرادة أو غيرها، وهل هو أمر نفساني أو فعل خارجي وبما أن هذا المبحث قد كان موضع اهتمام الفرق الكلامية الإسلامية ووقع الاختلاف بين الأشاعرة والمعتزلة والعدلية في هذا الأمر إذ ذهبت الأشاعرة إلى القول بالمغايرة بين الطلب والإرادة، بينما ذهبت فرقة المعتزلة إلى القول بأن الطلب هو عين الإرادة، في حين قالت الأشاعرة بأن الأفعال مخلوقة لله وخارجة عن قدرة العبد مع أنهم يقولون إننا نرى أن في الشريعة قد وقع الطلب على الأفعال وتعلق بها، وبذلك قالوا بأن الطلب غير الإرادة، ولهذا وقع البحث فيهما: هل هما شيء واحد أم شيئان، هو موضوع عديم الجدوى لعدم ترتب فائدة من ورائه، وإنما المهم عنده كان هو أفاضه# الحديث حول الجبر والاختيار باعتبارهما من المسائل التي لا تزال تطرح على بساط البحث والمناقشة في أكثر من مناسبة، وعلى مختلف المستويات الاجتماعية بين الناس.
لذلك ميز السيد الصدر ومنذ البداية بين المسألة الكلامية التي وقع البحث فيها بين المعتزلة القائلين بالتفويض وبين الأشاعرة القائلين بالجبر والشيعة القائلين بالأمر بين الأمرين. معتبراً أن روح البحث في هذه المسألة وهذا النزاع هو في تشخيص فاعل الأفعال الصادرة من الإنسان فمذهب التفويض الذي يقول به المعتزلة يذهب إلى أن الفاعل محضاً هو الإنسان، ومذهب الجبر الذي يقول به الأشاعرة يقول بأن الفاعل محضاً هو الله سبحانه وتعالى والشيعة تقول بأن لكل منهما نصيباً في الفاعلية بالنحو المناسب له، أما المسألة الثانية فهي المسألة الفلسفية، وروح البحث في هذه المسألة عند السيد الصدر يرجع إلى أن فاعل هذه كما تصورته المذاهب الفلسفية في أن فاعل الأفعال سواء فرضناه في المسألة الأولى هو الإنسان أو الله أو هما معاً هل تصدر منه هذه الأفعال اختياراً أو بلا اختيار، ومن هنا يقول السيد الصدر إن المسألة الكلامية لا تكفي وحدها لحسم النزاع في موضوع بحث الجبر والاختيار والسيد الصدر ذهب إلى أن البحث في المسألة الأولى فيه خمسة احتمالات استعرضها كالتالي:
الاحتمال الأول: أن يكون الفاعل محضاً هو الإنسان ولا نصيب لرب العباد في هذه الفاعلية، وهذا هو مذهب التفويض وهو مذهب المعتزلة، ويرجع هذا المذهب إلى مقولة فلسفية تقول باستغناء المعلول عن العلة بقاء، ولو كان الإنسان محتاجاً إلى الله سبحانه وتعالى في بقائه، ووجوده البقائي هو علة أفعاله، ففي هذه الحالة لا يعقل إنكار ثبوت نصيب لله في الفعل عرضياً وطولياً، وبما أن هذا المذهب ساقط في الاعتبار سواء على مستوى الكلام أو الفلسفة، حيث ثبت بالبرهان حاجة الإنسان أو المعلول إلى علته بقاء مثلما هو بأمس الحاجة لها حدوثاً، وبهذا يثبت بطلان مذهب التفويض، والسيد الصدر لم يرغب في استعراض تلك البراهين حتى يحافظ على هوية البحث الأصولي.
الاحتمال الثاني: هو أن يكون الفاعل محضاً هو الله تعالى وإنما الإنسان محل قابل لذلك الفعل من قبيل ما يفعله النجار في الخشب حيث أن الخشب قابل للفعل، وليس لمبادئ الإرادة في نفس الإنسان أي دخل في الفعل، واقتران الفعل بالإرادة دائماً وإنما هي صدفة متكررة، فصدور الفعل من الله يقترن دائماً مع إرادة الإنسان، وهذا هو مذهب الأشعري، وهذا الاحتمال هو الذي ينبغي أن يكون مقابلاً بالوجدان المدعى في كلماتهم حيث قالوا إن هناك فرقاً بالضرورة بين حركة المرتعش، وحركة غير المرتعش، وهذا البحث بحسب الحقيقة لا يختص بالأفعال الاختيارية، بل يأتي في كل عالم الأسباب والمسببات فقد يقال الإحراق شغل الله مباشرة يقترن بنحو الصدفة بالنار والوجدان المبطل لذلك أيضاً عام يشمل كل عالم الأسباب والمسببات، وهو وجدان سليم بالقدر المبين في الأسس المنطقية.
الاحتمال الثالث: أن يكون لكل من الإنسان والله نصيب في الفاعلية بمعنى كونهما فاعلين طوليين أي أن الإنسان هو الفاعل المباشر للفعل بما أوتي من قدرة وسلطان وعضلات وتمام القوى التي استطاع بها أن يحرك لسانه ويديه ورجليه والله هو الفاعل غير المباشر من باب أن هذه القوى مخلوقة حدوثاً وبقاءً له تعالى ومفاضة آناً فآناً ومعطاة… من قبل الله وهذا على رأي السيد الصدر هو أحد الوجوه التي فُسر بها الأمر بين أمرين.
الاحتمال الرابع: أن يكون الفاعل المباشر هو الله، لكن الإرادة ومبادئها مقدمات إعدادية لصدورها من الله تعالى، ففرقه عن الثاني كان مجرد صدفة، وعلى هذا الوجه يكون من باب كون الإرادة مقدمة إعدادية للفعل، وفرقه عن الثالث أيضاً واضح إذ على الثالث يكون الفعل فعل الإنسان مباشرة والله فاعل الفاعل، وإما على هذا الوجه فالله هو الفاعل المباشر والإرادة مقدمة لقابلية المحل لأفاضة الفعل، وهذا أحد الوجوه التي فُسر بها الأمر بين الأمرين.
5- الاحتمال الخامس: ما ذهب إليه عرفاء الفلسفة ومتصوفوهم وهو أن الفعل له فاعلان الله والعبد لكن لا طوليان كما على الثالث ولا عرضيان كما على الرابع بل هي بحسب الحقيقة، فاعلية واحدة ن بنظر تنسب إلى العبد وبنظر آخر تنسب إلى الله تعالى مبنياً منهم على تصور عرفاني يقول أن نسبه العبد إلى الله هي نسبة الربط والفناء والمعنى الحرفي إلى المعنى الأسمي، فبالنظر الاندكاكي هو فعل الله، وبالنظر غير الاندكاكي هو فعل العبد، ويذكر السيد الصدر هذه الاحتمالات الخمسة ثم يعقب عليها قائلاً:
إن الاحتمال الأول وهو مذهب المعتزلة ساقط بالبرهان لأن المعلول مرتبط بعلته حدوثاً وبقاءً وليس كما قالوا بأنه مرتبط حدوثاً فقط.
والاحتمال الثاني وهو مذهب الأشعري: ساقط بالوجدان لأنهم أسقطوا الإرادة من نفس الإنسان وقرنوا فعل الله بإرادة الإنسان بواسطة الصدفة المتكررة.
أما الاحتمال الخامس: فذهب السيد الصدر إلى أن هذا الاحتمال هو مبني على تصور صوفي لا نفهمه.
فيبقى الاحتمال الثالث والرابع، ويقول السيد الصدر بأن على كل من هذين الاحتمالين يمكن تطبيق الأمر بين الأمرين ن ثم يستدرك فيقول: نعم إن الرابع يوجب القول بالجبر إلا أن هذا راجع إلى المسألة الثانية وهي المسألة الأشعرية، أما من زاوية المسألة الأولى وهي المعتزلية، فغن كلا الوجهين الثالث والرابع معقولان ن وبعد هذا انتقل السيد الصدر إلى مناقشة المسألة الفلسفية واعتبر أن هذه المسألة التي تحسم مسألة الجبر والاختيار إذ إنَّ اختيار المذهب الشيعي القائل بأن للإنسان دخلاً في الفاعلية كما أن لله دخلاً فيها أو اختيار مذهب الاعتزال القائل بأن الإنسان هو الفاعل محضاً، وذلك لا يحتم كون الإنسان مختاراً غير مجبور في أفعاله، فلعل منه كصدور الإحراق من النار بناء على فاعلية النار للإحراق.
أما مسألة الأشعري في كون الفاعل محضاً هو الله فإن ذلك يثبت كون الإنسان غير محتار وهذا المسلك أي مسلك الأشعري يثبت مذهب الجبر ولكن مسلك الشيعة والمعتزلة لا يثبت الاختيار فلابد إذن من مناقشة المسألة الفلسفية لحسم مسألة الجبر والاختيار، وهنا بدأ السيد الصدر مناقشة هذه المسألة وإعطاء السلطنة دورها الجديد الذي يعتبر من الإضافات الفنية الجيّدة التي اهتم بصناعة البرهان فيها.
يقول السيد الصدر إن المسألة الفلسفية في هذا الباب نشأت لدفع شبهة فلسفية تنفي الاختيار حتى بعد الاعتراف بأن الفعل هو فعل الإنسان، وهذه الشبهة مركبة من مقدمتين:
الأولى: تقول بأن الاختيار ينافي الضرورة ن والضرورة تساوق الاضطرار المقابل للاختيار من قبيل حركة اليد المرتعشة التي هي ضرورية.
الثانية: تقول إن صدور الفعل من الإنسان يكون بالضرورة لأن الفعل الصادر منه ممكن من الممكنات فتسوده القوانين السائدة في كل عالم الإمكان القائلة، بأن الممكن ما لم يجب بالغير لم يوجد، فالجمع بين هاتين المقدمتين يثبت أن الإنسان غير مختار في أفعاله إذ لا يصدر منه فعل إلا بالضرورة والضرورة تنافي الاختيار. وهذه الشبهة اختلفت المسالك في كيفية التخلص منها فبعضها يرجع إلى المناقشة في المقدمة الأولى، وبعضها يرجع إلى المناقشة في المقدمة الثانية، و السيد الصدر يرى أن المسلك الأول هو ما ذهب إليه المشهور من الفلاسفة فاعترفوا بالمقدمة الثانية، وهي أن فعل الإنسان مسبوق بالضرورة، لكنهم ناقشوا في المقدمة الأولى، وهي أن الضرورة تنافي الاختيار، وذلك أنهم قسّروا الاختيار بأن مرجعه إلى القضية الشرطية القائلة إن شاء وأراد فعل وإلا لم يفعل، والقضية الشرطية لا تتكفل حال شرطها وإنه هل هو موجود بالضرورة أو معدوم بالضرورة أو لا ؟
فمتى ما صدقت هذه القضية الشرطية فقد صدق الاختيار حتى إذا فرض أن الشرط وهو الإرادة مثلاً كان ضرورياً فكان الجزاء ضرورياً بالغير، أو كان ممتنعاً فكان الجزاء ممتنعاً بالغير دون فرق بين أن يكون وجوب الشرط وامتناعه بالغير كما في الإنسان أو بالذات كما يفترضونه في حق الباري لأن صفاته واجبة بالذات لأنها عين ذاته،و ضرورة الفعل الناشئة من الإرادة لا تنافي الاختيار بل تؤكده، لأن الاختيارية تكون بصدق القضية الشرطية القائلة لو أراد لصلى، فإذا ثبت أن الصلاة تبح ضرورية عند الإرادة فهذا تأكيد للملازمة وتحقيق بتي لصدق القضية الشرطية وبدون هذه الضرورة تكذب القضية الشرطية وليست مضمونة الصدق، وبالجملة الاختيار صادق متى ما صدقت هذه القضية الشرطية كما في حركة يد السليم وغير صادق متى لم تصدق القضية الشرطية كما في حركة يد المرتعش، وهذا لا ينافي ضرورة الفعل بالإرادة، ولا ضرورة الإرادة نفسها. و السيد الصدر يرى أن هذا التفسير هو الذي يوضح ما قاله الفلاسفة والحكماء عن الاختيار، وهو عبارة عن صدق القضية الشرطية، وإذا فرض التسليم بهذا التفسير يتم استلالهم، وهو أن القضية الشرطية صادقة في جميع الموارد للاختيار ولا يضر به الوجوب بالذات أو بالغير.
لا أن السيد الصدر اعتبر أن هذا التفسير هو مجرد اصطلاح فلسفي لأجل تغطية المسألة، وكون القضية في حدود الاصطلاح لا يوجب اختلافاً، وكذلك الأمر في حال تشخيص معنى الاختيار لغة، وأن واضع اللغة هكذا وضع اللفظ الاختيار، ولكن السيد الصدر يهتم بالقضية إذا كانت منظورة إلى الاستطراق إلى التكليف والحساب، فالفارق عنده بين حركة الأمعاء لدى الإنسان، وحركة أصابعه التي يحاسب عليها دون الأولى وهي حركة الأمعاء، فالسيد الصدر هنا يعتبر أن الحق هو أن نتكلم على الحسن والقبح العقليين أو نتكلم بناء على إنكار ذلك كما أنكره الأشاعرة صريحاً، وأنكره الفلاسفة بشكل مستور حيث أرجعوا الحسن والقبح العقليين إلى الأمور والقضايا العقلائية والمشهورة.
أما بناء على التسليم بالحسن والقبح فالسيد الصدر لا يرى مجالاً للتخلص من المشكلة، لأنه يرى أن الأمر إذا كان ناشئاً بالضرورة في حالة حركة الأصابع، والإرادة ناشئة بالضرورة من مبادئها، وهذه ناشئة بالضرورة من عللها، وهكذا إلى أن ينتهي الأمر إلى الواجب بالذات، فحال الأصابع هذه سيكون كحال حركة الأمعاء في حالة الخوف وكما يقبح المحاسبة والعقاب على الثانية، كذلك يقبح على الأولى بلا أي فرق، سوى أن واضع اللغة سمي الأولى اختياراً، وأما بناء على إنكار القبح والحسن العقليين فلا تبقى مشكلة من ناحية قبح المحاسبة والعقاب، ويرى السيد الصدر هناك فقط بقاء المشكلة اللغوية وأنه لا فائدة فيها بناءً على عدم الاختيار، فما الذي يدعو المولى إلى التكليف، ويرى أنه في هذه الحالة يكفي ما ذكروه فإن الحركة الناشئة من الإرادة وإن كانت ضرورية كحركة الأمعاء لكنها سنخ فعل يمكن التدخل التشريعي فيه بالتكليف والتخويف، فمن يشتهي الأكل من الطعام الحرام، لو علم بأنه يضرب ضربة أشد من لذة الطعام، أحجم عن ذلك ولو بلا اختيار، بخلاف حركة الأمعاء مثلاً، فإنه حتى لو عرف بالضرب على تقدير الحركة، تبقى الأمعاء تتحرك.
ثم يستعرض السيد الصدر المسلك الثاني، فيقول:
إن هذا المسلك يعاكس المسلك الأول، وأن الضرورة تساوق الاضطرار المنافي للاختيار، ويناقش أصحاب هذا المسلك في المقدمة الثانية فينكرون قوانين العلية ويفترضون أن الشيء يوجد رأساً من علم الإمكان إلى عالم الوجود بلا حاجة إلى توسيط الضرورة، وحال إلى هذا المسلك بعض الفلاسفة المتأخرين من غير المسلمين وتخيلوا أن هذا يساوق الاختيار والحرية، إذ يبقى الفعل ممكناً حتى صدوره، وهذا المسلك حاله حال أصل الشبهة يرتكبان خطأ فإن أصل الشبهة يقول السيد الصدر أنها جعلن الضرورة بقول مطلق منافية للاختيار، وهذا المسلك جعل الإمكان ونفي الضرورة ونفي مبادئ العلية مساوقاً مع الاختيار والسيد الصدر يرى أن كيلهما غير صحيح ويوضح ذلك على النحو التالي:
أما الأول: فلأن الضرورة إذا كانت في طول الاختيار فهي لا تنافي الاختيار، إما إذا لم تكن كذلك فهي تنافيه. وأما في الأمر الثاني، فلأن مجرد كون الفعل ليس ضرورياً لا يكفي يف كونه اختيارياً للفاعل، فإن إنكار مبادئ العلية معناه بحسب الحقيقة التسليم بالصدفة ومن الواضح أن الصدفة غير الاختيار، فلو فرض محالاً أن الماء على بلا علة وبلا نار فهذا معناه تحقق الغليان صدفة وليس معناه أن الغليان كان اختيارياً للماء لأنه وجد بلا علة فإن هذا غير ما يراه العقل اختياراً.
المسلك الثالث: يقول السيد الصدر أن هذا المسلك قد يتمسك به بعض المحدثين، ومختصر: أننا نرى الكائنات التي تعيش في ظل هذه الطبيعة مختلفة في مقدار تحديد الطبيعة لها في مجال سيرها، فمثلاً الحجر الذي قذف به إلى الأعلى يكون مجال سيره محدداً مائة بالمائة، ومن جميع الجهات، فقد فرض عليه أن يسير إلى أعلى بنحو مخصوص وإلى حد معين إلى أن تنتهي قوة الدفع فيرجع إلى أسفل محدداً أيضاً سيره من جميع الجهات بحيث يكون التنبؤ بالدقة عن حال صعوده ونزوله وتعيين وضعه بالسير صعوداً ونزولاً بالضبط هذا حال الحجر. وأما حال الحيوان الذي يضرب بحجر فيفر فالطبيعة لم تحدد له سيره تحديداً كاملاً بل عدة فرص، ولذا لا يتاح لنا بالدقة التنبؤ بأنه من أي جهة يهرب. وأكثر منه فرصة الإنسان، وذلك لأمرين: 1- أن ميوله وغرائزه أكثر تعقيداً وأشد من الحيوان، فمثلاً يفر الحيوان حينما يرى الحجر متوجهاً إليه في حين قد يميل الإنسان إلى أن يقف ويتلقف الحجر، 2- أنه أوتي عقلاً يحكمه في أفعاله ويلحظ المصالح والمفاسد، وهذه الفرص كلها يصعب التنبؤ بما سوف يفعل، والاختيار ينتزع من هذه الفرصة التي تعطيه إياها الطبيعة.
ويقول السيد الصدر معلقاً على ذلك: إن هذا الكلام وإن صدر من جملة من الفلاسفة المحدثين إلا أنه لا يرجع إلى محصل إذ مرجعه إلى أن الاختيار أمر وهمي، إذ كون الفرصة في الإنسان أكثر منها في الحيوان، وفيه أكثر منه في الحجر، فتمنع الفرصة عن التنبؤ مرجعه إلى الإطلاع للمتنبئ على كل الخصوصيات الداخلية في تصرف الإنسان أو الحيوان لشدة تعقيدها وهذه الفرصة انتزعت وهماً من هذه الخصوصيات المجهولة عند المتنبئ، ولو أنه أطلع على كل الخصوصيات لتنبأ كما يتنبأ حال الحجر وهذا هو عين القول بالجبر.
أما المسلك الرابع في هذا الاتجاه الذي ناقشه السيد الصدر فهو مسلك المحقق الأصولي محمد حسين النائيني، وهذا المحقق سلم بالمقدمة الأولى والثانية معاً إلا أنه لم يقبل إطلاق المقدمة الثانية، وقال بأن القوانين الخاصة بالعلية لا تشمل الأفعال الاختيارية للإنسان، فالإنسان حينما يلتفت إلى عمل ما كالصلاة، فقد صدر في الحقيقة من النفس بعدما تمت عندها الإرادة، وهنا عملان طوليان هما:
فعل خارجي وهو الصلاة.
فعل نفساني قائم بصقع النفس وهو أسبق رتبة من الفعل الخارجي وهو تأثير النفس وحملتها وإعمالها للقدرة، فالفعل يوجد بأعمال القدرة والاختيار، وهذا الفعل النفساني وهو إعمال القدرة والتحرك والتأثير نسبته إلى النفس نسبه الفعل إلى الفاعل لا نسبة العرض إلى محله كالإرادة، وهذه الحملة والتحرك التي هي فعل نفساني ليست معلولة للإرادة وفقاً لقوانين العلية بل النفس بعد الإرادة يبقى بإمكانها أن تتحرك نحو الفعل وإن لا تتحرك وإذا لاحظنا هذين الفعلين نرى أنهما اختياريان.
إما فعلها الأول وهو توجه النفس وتأثيرها فهو أمر اختياري إذ لم يتحتم ولم يصبح وجوده ضرورياً بالإرادة حتى يلزم خروجه من الاختيار، وأما فعلها الثاني وهو الفعل الخارجي كالصلاة، فهو وإن أصبح ضرورياً بعد الاختيار لكن هذه الضرورة لا تنافي الاختيار لأنها ضرورة نشأت من الفعل الأول الذي هو عين اختيار النفس وإعمالها لقدرتها والضرورة في طول الاختيار لا تنافي الاختيار، ولكن السيد الصدر لم يقبل من المحقق النائيني افتراضه فعلين للنفس وله عليه التعليقات التالية:
يقول السيد الصدر أن ما جعله النائيني فعلاً نفسياً وراء الفعل الخارجي، وهو تأثير النفس واختيارها وإعمالها لإمكانيتها في إيجاد الصلاة، ليس هذا بحسب الحقيقة أمراً وراء الفعل الخارجي، فإن الإعمال عين العلم والتأثر عين الأثر وهذه عناوين انتزاعية منتزعة من نفس العمل والأثر فالإعمال والعمل والإيجاد والوجد والتأثير والأثر مفهومان مختلفان بالاعتبار متحدان خارجاً فمثلاً الإحراق تارة يلحظ منسوباً إلى المحل فيسمى وجوداً واحتراقاً.
إن إدخال فرضية وجود عمل نفساني وراء العمل الخارجي وتوسيطه بين الإرادة والفعل لا دخل له في حل الشبهة، فيمكننا أن نلتزم رأساً في الفعل الخارجي بما التزم به المحقق النائيني في الفعل النفسي من خروجه عن قانون إن الشيء ما لم يجب لم يوجد، فإن كان هذا التخصيص لذاك القانون كافياً لرفع الشبهة فيمكن أن يطبق ابتداءً على الفعل الخارجي وإن لم يكن كافياً لذلك فافتراض فعل آخر متوسط بين الإرادة والفعل لا يؤثر في رفع الشبهة.
إننا إذا لاحظنا الفعل الخارجي ونسبته إلى الفعل النفساني رأينا إن حاله حال سائر الحوادث في عالم الطبيعة أي ينطبق عليه قانون أن الشيء ما لم يوجد إذ هو وليد الفعل النفساني وأما إذا لاحظنا الفعل النفساني فقد افترض المحقق النائيني إنه خارج عن قانون إن الشيء ما لم يجب لم يوجد، وسواء فرضنا إن الفعل النفساني هو الخارج عن هذا القانون أو فرضنا أن الفعل الخارجي ابتداءً هو الخارج عن هذا القانون نقول: إنه من الواضح إن هذا القانون لم يكن قانوناً تعبدياً يقبل التخصيص تعبداً وإنما هو قانون عقلي فيأتي السؤال عن أنه ما هو المصحح لوجود هذا الفعل بعد فرض عدم وجوبه الذاتي وكيف وجد؟ يقول السيد الصدر: أن الأمر في ذلك لا يخلو من أحد فروض:
أن يكون المصحح لوجوده هو الوجوب بالغير والضرورة المكتسبة من العلة وهذا خلف الخروج من قاعدة إن الشيء ما لم يجب لم يوجد.
أن يكون المصحح له مجرد الإمكان الذاتي أي أن مجرد إمكان صدوره عن الفاعل يكفي في صدوره وهذا أيضاً غير صحيح إذ من الواضح بالفطرة إن الإمكان الذاتي الذي معناه كون نسبه الشيء إلى الوجود والعدم على حد سواء لا يكفي مرجحاً لجانب الوجود ويأتي السؤال عن أنه ما هو الفرق بين الإمكان هنا والإمكان في سائر المجالات حيث لم يكف الإمكان في سائر المجالات للوجود وكفى له هنا. هذا مضافاً إلى أن ذلك لا يصحح الاختيار إذا هذا معناه الصدفة لا الاختيار والصدفة غير الاختيار.
أن يفترض أن الفعل الخارجي صادر بهجوم النفس على حد تعبير المحقق النائيني وذاك الهجوم صادر بهجوم آخر وهكذا. وهذا أيضاً باطل للزوم التسلسل، فلم يبق إلا الفرض الرابع الذي هو الفرض المعقول في المقام والذي قصر عنه المنقول من كلمات المحقق النائيني، فلعل هذا هو المقصود ولكن قصرت العبارة عن أدائه.
أن نطرح مفهوماً ثالثاً في مقابل مفهومي الوجوب والإمكان وهذا المفهوم هو مفهوم السلطنة وهذا الوجه هو الذي يبطل به البرهان على الجبر كما نوضح ذلك من خلال عدة نقاط.
مفهوم السلطنة عند السيد الصدر
عد مناقشة المسالك الأربعة التي طرحت للتخلص من الشبهة الفلسفية، والتي رأى فيها السيد الصدر أنها غير قادرة على التخلص من تلك الشبهة بعد استعراضها جميعاً خلص رحمه الله إلى بيان مفهوم السلطنة معطياً إياه دوراً جديداً في أبطال مسألة الجير. فقال:
الأولى – إن قاعدة أن الشيء ما لم يجب لم يوجد لو كانت قاعدة قام عليها البرهان فلا معنى للالتزام بالتخصيص إذ ما يقوم عليه البرهان العقلي لا يقبل التخصيص والتقييد ولكن الصحيح إنها قاعدة ليست مبرهنة بل هي قاعدة وجدانية من المدركات الأولية للعقل وإن كان قد يبرهن على ذلك بأن الحادثة لو وجدت بلا علة ووجوب لزم ترجيح أحد المتساويين على الآخر وهو محال، لكنك ترى أن استحالة الترجيح أو الترجح بلا مرجح هي عبارة أخرى عن أن المعلول لا يوجد بلا علة، إذن فلا بد من الرجوع في هذه القاعدة إلى الفطرة السليمة مع التخلص من تشويش الاصطلاحات والألفاظ لنرى ما هو مدى حكم الفطرة والوجدان بهذه القاعدة فننتقل إلى النقطة الثانية.
الثانية – إن الفطرة السليمة تحكم بأن مجرد الإمكان الذاتي لا يكفي للوجود وهنا أمران إذا وجد أحدهما رأى العقل إن يكفي لتصحيح الوجود (أحدهما) الوجوب بالغير فإنه يكفي لخروجه عن تساوي الطرفين ويصحح الوجود (والثاني) السلطنة فلو وجدت ذات في العالم تملك السلطنة رأى العقل بفطرته السليمة إن هذه السلطنة تكفي للوجود وتوضيح ذلك إن السلطنة تشترك مع الإمكان في شيء ومع الوجوب في شيء وتمتاز عن كل منهما في شيء.
فهي تشترك مع الإمكان في أن نسبتها إلى الوجود والعدم متساوية لكن تختلف عن الإمكان في أن الإمكان لا يكفي لتحقق أحد الطرفين بل يحتاج تحققه إلى مؤنة زائدة وأما السلطنة فيستحيل فرض الحاجة معها إلى ضم شيء آخر إليها لأجل تحقق أحد الطرفين إذ بذلك تخرج السلطنة عن كونها سلطنة وهو خلف بينما في الإمكان لا يلزم من الحاجة إلى ضم ضميمة خلف مفهوم الإمكان إذن فالسلطنة لو وجدت فلا بد من الالتزام بكفايتها.
وهي تشترك مع الوجوب في الكفاية لوجود شيء بلا حاجة إلى ضم ضميمة وتمتاز عنه بأن صدور الفعل من الوجوب ضروري ولكن صدوره من السلطنة ليس ضرورياً إذ لو كان ضرورياً لكان خلف السلطنة وفرق بين حالة (له أن يفعل) وحالة (عليه أن يفعل) وقد فرضنا أننا وجدنا مصداقاً للسلطنة وأن له أن يفعل ومن السلطنة ينتزع العقل باعتبار وجدانها لهذه النكات – مفهوم الاختيار لا من الوجوب ولا من الصدفة، وقد تحصل أن المطلوب في هذه النقطة الثانية إنه لو كانت هناك سلطنة في العالم لكانت مساوقة للاختيار وكفت في صدور الفعل.
الثالثة – إن هذه السلطنة هل هي موجودة أم لا؟..
يمكن البرهان على إثباتها في الجملة وتعيينها في الله وهذا خارج عما نحن بصدده ويرجع إلى بحث قدرة الله وأما في الإنسان الذي هو الداخل في محل البحث فلا برهان عليه بل ينحصر الأمر في إثبات ذلك بالشرع أو بالوجدان بأن يقال مثلاً أننا ندرك مباشرة بالوجدان ثبوت السلطنة فينا وإننا حينما يتم الشوق الأكيد في أنفسنا نحو عمل لا نقدم عليه قهراً ولا يدفعنا إليه أحد بل نقدم عليه بالسلطنة بناءً على دعوى أن حالة السلطنة من الأمور الموجودة لدى النفس بالعلم الحضوري من قبيل حالة الجوع أو العطش أو حالة الحب أو البغض أو بأن يقال أننا كثيراً ما نرى إننا نرجح بلا مرجح كما يقال في رغيفي الجائع وطريقي الهارب، فلو كان الفعل لا يصدر إلا بقانون الوجوب بالعلة إذن لبقي جائعاً إلى أن يموت لعدم المرجح لأحدهما بينما بناءً على قاعدة السلطنة يرجح أحدهما بلا مرجح وإن عرض هذا الكلام على الحكماء لقالوا إن المرجح موجود في علم المولى أو بعض الملائكة المدبرين للأمور إلا أن يقال في مقابل ذلك إن الوجدان يحكم بعدم المرجح دائماً حتى في علم المولى أو الملائكة فأيضاً رجع إلى الوجدان.
ويوضح السيد الصدر أنه مضى في المسألة الأولى في تشخيص فاعل الأفعال وأنه الله أو الإنسان وقد شرحت خمسة وجوه وكان الوجه الثالث والرابع كلاهما معقولاً إلا إذا ثبتت السلطنة بالشرع أو بالوجدان بطل على ضوئه الوجه الرابع هناك إذ هو مستلزم للجبر حيث أنه يجعل من مبادئ الإرادة مجرد مقدمات إعدادية موجبة لقابلية المحل.
الثاني: إن الاختيار المدعى ثبوته للإنسان ليس مطلقاً وخارج حدود اختياره فهو اختيار محدود لا محالة وضابطه أن كل فعل أو ترك يكون لاعتقاد الإنسان (بالمصلحة أو المفسدة فيه) دخل في تحقيقه هو أمر اختياري فيدخل تحت هذا الضابط أمران:
الأفعال الصادرة من جوارح الإنسان في الخارج كالصلاة والصوم أو أفعال الجوانح المنشآت من قبل النفس كعقد القلب والإنشاء ونحو ذلك، وانطباق الضابط على هذا النوع واضح.
الحب والشوق أو البغض والكراهة التي هي مبادئ الأفعال الاختيارية فإنها أيضاً قد تكون اختيارية وينطبق عليها الضابط المذكور بأحد وجهين:
الأول: إن الحب والبغض يتولدان عادة مون الاعتقاد بالمصلحة والاعتقاد بالمفسدة في المحبوب والمكروه فمن يعتقد المصلحة في أكل شيء يشتاق إلى الأكل ومن يعتقد المفسدة فيه يكرهه، وبهذا الاعتبار كانت هذه الصفات داخله تحت اختيار الإنسان في كثير من الحالات وصح التكليف بها كالأمر بحب النبي(ص) والأئمة(ع) وبغض أعدائهم.
الثاني: أن يفرض المصلحة في نفس الشوق المؤكد فلو فرض أنه لا يرى مثلاً أي مصلحة في نفس القيام لكن قال له شخص لو أردت القيام واشتقت إليه أعطيتك ديناراً سواء قمت بالفعل أم لا فيقال أنه سوف ينقدح في نفسه الإرادة والشوق نحو القيام وقد طبق ذلك على بعض الفروع الفقهية وهذا ما ينبغي نحته تحت عنوان نشوء الإرادة عن مصلحة في نفسها لا في متعلقها، وبهذه الملاحظات والتنبيهات أنهى السيد الصدر إشادة البناء الكامل لنظرية السلطنة ودورها في تقويم الاختيار عند الإنسان ورفض مسألة الجبر وما تحيك حولها من إشكالات، وهكذا استطاع السيد الصدر وهو في أوج تيار المباحث الأصولية أن يجيب عن أعقد مسألة انشغل بها أهل الحكم والمتصوفة وأهل الفلسفة والأصول زماناً ليس بالقليل.
وهذه النظرية أي نظرية السلطنة في مقام الإجابة عن مسألة الجبر والاختيار تنحو منحى استدلالياً تحليلياً بعيداً عن التوقف والدوران حول تكرار بعض الآيات القرآنية المباركة أو بعض الأحاديث النبوية الشريفة ذات العلاقة بالموضوع، إذ كثيراً ما يحتاج المتناقشون إلى تفسير وتحليل للأمر بعيداً عن الاستعانة بالآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية وهي حاجة كما تبدو أساسية بالنسبة للمبلغين اليوم وخطباء، المنابر، والمثقفين بشكل عام.
الوضع ونظرية الاقتران عند السيد الصدر (رض)
في الدلالة اللفظية في مباحث علم الأصول اختلف المحققون حول حقيقة الوضع بعد الاتفاق على تفسير الاتجاه العام في تفسير العلاقة الحاصلة بين اللفظ والمعنى، وفي هذا الإطار هناك عدة نظريات لعل أهمها:
نظرية الاعتبار: وأصحاب هذه النظرية يقولون بأن الواضع للغة يمارس عملية اعتبارية إنشائية تتولد على أساسها العلاقة اللغوية بين اللفظ والمعنى.
نظرية المتعهد: وأصحاب هذه النظرية يقولون بأن الوضع ليس اعتباراً وإنما هو تعهد من قبل الواضع بأن لا يتلفظ بالكلمة إلا إذا كان يريد إفهام المعنى الخاص الذي يحاول ربطه بها ولكن السيد الصدر لم يقبل النظريتين في كل تفاصيلهما وبين محاسن وسلبيات كل من النظريتين، ثم اتجه إلى صياغة، نظرية جديدة في تفسير ظاهرة الوضع يمكن أن ننتزع من جملة كلماته وشروحه في هذا الأمر أنه يذهب إلى نظرية الاقتران بل إن عباراته كانت متطابقة مع هذا الاتجاه ونفس هذه الكلمة إنما أخذناها من شرحه للموضوع الذي وضعه تحت عنوان الرأي المختار في حقيقة الوضع في بحوثه الأصولية:
وقد شرع السيد الصدر في إشادة وتمهيد الأرضية اللازمة لنظريته كعادته في صياغة المطالب الجديدة لديه.
فأشار إلى وجود قانونين تكوينيين في الطبيعة وهما السببية في انتقال الذهن وتكوين صورة عن الشيء باعتباره استجابة طبيعية للإحساس بذلك الشيء وهذا هو قانون تكويني ويشير السيد الصدر إلى وجود قانونين ثانويين يوسعان من دائرة تلك الاستجابة الذهنية:
وهما:
انتقال صورة الشيء إلى الذهن عن طريق إدراك مشابهة.
انتقال صورة الشيء إلى الذهن عن طريق إدراك الذهن لما وجده مشروطاً ومقترناً بذلك الشيء على نحو أكيد وبالغ، وهذا هو ما يسمى في المصطلح الحديث بالمنبه الشرطي والاستجابة الحاصلة منه بالاستجابة الشرطية، وهذا الاقتران والاشتراط الذي يوجب الاستجابة المذكورة، بل لابد وأن يكون على وجه مخصوص، أي لا يكفي فيه مطلق الاقتران، بل لابد وأن يكون اقتراناً مركزاً مترسخاً في الذهن أما نتيجة كثرة تكرر الاقتران خارجاً أمام إحساس الذهن وهذا هو العامل الكمي لتركيز الاقتران.
أو نتيجة ملابسات اكتنفت الاقتران ولو دفعه واحدة جعلته لا ينمحي عن الذهن وهذا هو العامل الكيفي.
والإنسان تحدث استجاباته الذهنية وفق القوانين الثلاثة المذكورة أعلاه وهي بشكل مختصر:
قانون السببية.
قانون الإدراك المشابه.
قانون الإدراك عن طريق الاقتران والشرط.
فاعتمد الإنسان على القانون الثاني في استخدام الإشارات التعبيرية والتصويرية، واعتمد كذلك على القانون الثالث عن طريق جعل لفظ أو صوت مخصوص مقترناً ومشروطاً بمعنى مخصوص اقتراناً أكيداً ناشئاً من التكرار أو نتيجة عامل كيفي معين وبذلك نشأت العلقة الوضعية أي السببية والاستتباع بين ذلك الصوت المخصوص والمعنى المخصوص.
وهذه هي حقيقة الوضع عند السيد الصدر من خلال نظرية الاقتران، فالواضع عنده يمارس عملية الاقتران بين اللفظ والمعنى بشكل أكيد بالغ، وهذا الاقتران البالغ إذا كان على أساس العامل الكمي – كثرة التكرار – سمي بالوضع التعيني وإذا كان على أساس العامل الكيفي سمي بالوضع التعيني وبذلك خلص السيد الصدر إلى إبعاد القول بالاعتبارية والإنشائية في الوضع، لأنه عنده هو عبارة عن أمر تكويني يتمثل في أشراط مخصوص بين اللفظ والمعنى المحقق لصغرى قانون الاستجابة الشرطية الذي هو قانون طبيعي.
وأن الدلالة في الوضع عنده هي دلالة تصورية دائماً ورد على القائلين بأن الدلالة تصديقية، بأن حقيقة الوضع في الاقتران المخصوص أمر دائر بين الوجود والعدم وليس بين الإطلاق والتقييد، ثم أن السيد اصدر وضع أساسين للوضع هما:
أ- الأساس العلمي أي أن الانتقال والاقتران بين اللفظ والمعنى يكون على أساس العلم بالوضع.
ب- الأساس التلقيني: كأن نقرن أمام الطفل بين اللفظ والمعنى على نحو خاص فتحصل العلقة في ذهنه عن طريق هذا التلقين فتؤثر هذه العلقة أثرها وإن لم يكن الطفل عالماً بنفس هذه العلقة، وهذا التفسير يمكن الاستفادة منه في مجال التربية والتعليم كثيراً، وهذه النظرية كما ترى هي من الإضافات العلمية التي جاد بها ذهن السيد الصدر وهو في مقام بناء بحوثه الأصولية بشكل متكامل من حيث الشكل والمضمون.
التزاحم الحفظي
من المعطيات الجديدة في البحث الأصولي ما أفاده السيد الصدر رحمه الله حوله التزاحم الحفظي باعتباره نوعاً جديداً يضاف إلى النوعين السابقين الذين ذكرهما محققو الأصول وهما:
التزاحم الملاكي:- وهو في حالة افتراض وجود ملاكين في موضوع واحد أحدهما يقتضي محبوبيته والآخر يقتضي ما ينافيها ويضادها كالمبغوضية مثلاً فيقع التزاحم الملاكي بمعنى أنه يستحيل أن يؤثر كل منهما في مقتضاهما لمكان التضاد بينهما ومن خصائص هذا التزاحم أنه لا يكون إلا في موضوع واحد وإلا لم يكن هناك اجتماع.
فلو كان كل من الملاكين في موضوع أو حيثية تقيدية غير موضوع الآخر فلا محذور في تأثيرهما معاً في أبحاث الحب والبغض، وكذلك من أحكام هذا التزاحم تأثير أقوى المقتضيين بعد الكسر والانكسار في إيجاد مقتضاه وحينئذٍ يكون مقتضاه فعلياً ومقتضى الآخر ساقطاً.
التزاحم الامتثالي: وهو القسم الآخر من أقسام التزاحم التي قال بها بعض محققي الأصول قبل السيد الصدر ومعناه إذا كان الملاكان في موضوعين وفعلين إلا أن للتضاد بينهما لا يمكن الجمع بينهما في مقام الامتثال فهذا التزاحم إنما هو في مرحلة الامتثال الناشئ من ضيق القدرة على الجمع والقدرة تكون دخيلة في التحريك والأمر ولا يشترط وجودها في المحبوب أو المبغوض ومن هنا تكون مبادئ الحكم من الحب والبغض فعليه في موارد هذا السنخ من التزاحم ما لم يفرض دخل القدرة في الملاك والغرض نفسه.
التزاحم الحفظي: وهذا القسم هو من إضافات السيد الصدر رحمه الله: وهذا في حاله إذا فرض عدم التزاحم الملاكي لتعدد الموضوع وعدم التزاحم الامتثالي لإمكان الجمع بين مصب الغرضين والفعلين المطلوبين واقعاً وإنما التزاحم في مقام الحفظ التشريعي من قبل المولى عند الاشتباه واختلاط موارد أغراضه الإلزامية والترخيصية أو الوجوبية والتحريمية فإن الغرض المولوي يقتضي الحفظ المولوي له في موارد التردد والاشتباه بتوسيع دارة المحركية بنحو يحفظ فيه تحقق ذلك الغرض فإذا فرض وجود غرض آخر في تلك الموارد فلا محالة يقع التزاحم بين الغرضين والمطلوبين الواقعيين في مقام الحفظ حيث لا يمكن توسعه دائرة المحركية بلحاظهما معاً فلا محالة يختار المولى أهمها في هذا المقام. ومن هنا يعرف أن هذا التزاحم بين الغرضين والملاكين ليس بلحاظ تأثيرهما في إيجاد الحب والبغض لأنهما متعلقان بموضوعين واقعيين متعددين ولا بلحاظ تأثيرهما في الإلزام الواقعي بهما بقطع النظر عن حالة الاشتباه والتردد لأنهما بوجوديهما الواقعيين مما يمكن الجمع بينهما بل بلحاظ تأثيرهما في توسيع دائرة المحركية من قبل المولى وحفظه التشريعي لكل منهما بالنحو المناسب له.
لقد وضع السيد الصدر هذه الإضافة في باب التزاحم بين الأحكام لأنه بعد أن اطلع عن طريقة المحققين السابقين في تعاملهما مع كيفية الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي فلم يكتف بتلك الآراء والحلول وإنما رأى من المناسب وضع مقدمتين الأولى قال فيها بعد شرح يطول على هذه الصفحات مقامه، بأنه لابد من توسعه دائرة المحركية بحيث تكون أوسع من متعلق الغرض الواقعي، وهو رحمه الله اعتبر أن هذه التوسعة أمر وجداني لا نزاع في، وهذا يعني عنده أن الخطاب الموسع الذي هو الخطاب الظاهري ليس على طبق غرضه في متعلقه ولكنه مع هذا ليس بمعنى أن المصلحة في نفس جعله كما تقدم في بعض الوجوه التي درست في هذا التحقيق، وإنما إن هذه الخطابات خطابات جدية وتحريكات مولوية حقيقية يراد بها التحفظ على الغرض الواقعي المهم في نظر المولى ولهذا تكون رافعة عند السيد الصدر لقاعدة البراءة العقلية بالنسبة للذين قالوا بها.
ثم إن السيد الصدر لم يعترف بالتفسير الفلسفي لمعنى الإرادة المعبر عنه عندهم بالشوق المؤكد المستتبع لتحريك العضلات، لأنه في هذه الحالة لا يكون الفعل الاختياري صادراً عن أمر من هذا القبيل وإنما في رأيه أن الفعل الاختياري يصدر عن أعمال القدرة والسلطنة.
مفهوم المولوية عند السيد الصدر
من الإضافات الأخرى التي أفادها السيد الصدر رحمه الله في مبحث القطع هو توجيه أنظار المحققين الأصوليين والفقهاء إلى مبحث المولوية عندهم، فقد جاءت نظراتهم إلى مولوية المولى على النحو التالي:
أن تكون مولوية المولى أمراً واقعياً موضوعها واقع التكليف بقطع النظر عن الانكشاف ودرجته، وهذا المسلك اعتبره السيد الصدر باطل جزماً لأنه في نظره يستلزم أن يكون التكليف في موارد الجهل المركب منجزاً ومخالفته عصياناً وهو عنده خلف معذرية القطع.
الفئة الثانية اعتبرت أن يكون حق الطاعة في خصوص ما يقطع به ويصل إلى المكلفين من تكاليف المولى وهذا هو روح الموقف عند المشهور من المحققين وهو يعني التبعيض في مولوية المولى بين موارد القطع والوصول وموارد الشك والسيد الصدر يرى بطلان هذا المسلك أيضاً لأنه يرى مولوية المولى من أتم المراتب على حد سائر صفاته، وحقه في الطاعة على العباد أكبر حق لأنه ناشئ من المملوكية والعبودية الحقيقية.
المولوية في حدود ما لم يقطع بالعدم، وهذه هي المولوية التي يراها السيد الصدر واختارها في أبحاث القطع وعليها سار ومن خلالها أنكر قاعدة قبح العقاب بلا بيان وعلى هذا الأساس يرى السيد الصدر أن الفرق بين القطع وغيره من درجات الاحتمال والرجحان في أمرين هما:
إن القطع حجة في جانبي التنجيز والتعذير معاً بخلاف المراتب الأخرى التي لا يكون في مواردها إلا التنجير.
إن منجزيه غير القطع من الظن والاحتمال قابله للردع عنها شرعاً بجعل ترخيص ظاهري على الخلاف بعد الجواب على شبه ابن قبة في كيفية الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي وامتداداتهما، وأما منجزيه القطع فغير قابلة لذلك وهذا هو الذي وقع في خصوص القطع الحاصل من غير الكتاب والسنة. وهكذا يرى السيد الصدر أن جعل الخطب الظاهري في مورد القطع لا يعقل لا نفسياً لأنه يستلزم التضاد، ولا يعقل طريقياً لأن القاطع في هذه الحالة يرى نفسه مستثنى من الخطاب روحاً وملاكاً وإن كان مشمولاً له صورة. وكل خطاب يكون شموله للمكلف م باب ضيق الخناق وبحسب الصورة فقط فهو لا يكون منجزاً ولا معذراً. هذه هي خلاصة رأي السيد الصدر في موضوع القطع ومولوية المولى وكيفية النظر إليها والتي اختلف بها مع الآخرين من المحققين وجاء بنظرية جديدة في باب المولوية.
هذه هي أهم الإنجازات العلمية التي أشاد صرحها السيد محمد باقر الصدر في مباحث علم الأصول اكتفيت ببيان المباحث التي تستحق هوية الإضافة بمعناها الاصطلاحي الخاص وميزاتها العلمية ولم أتعرض كما ذكرت في المقدمة إلى كل تفاصيل آرائه المختارة في مختلف المطالب الأصولية والتي جاءت هي الأخرى متميزة تقربها عيون المحققين، ولكنها تبقى على كل حال آراء مبثوثة في طيات البحث الأصولي ستكون شاهداً على جدارة الرجل وطول باعه وقوة نظره في المسائل الأصولية ومتعلقات البحث الأصولي سواء في الجوانب الفلسفية أو اللغوية أو الفكرية العامة. أسأله تعالى أن ينفع الإسلام بالمزيد من الرجال الصالحين والعلماء الأبرار من أمثال هذا الرجل الذي قل نظيره في شعاب البحث العلمي ودروبه الكثيرة.

د.علي التميمي