اتّفق الأُصوليون المتأخرون على أنّ المرجع في الشبهات الحكمية هو البراءة العقلية، فإذا شكّ الإنسان في وجوب شيء أو حرمته بعد الفحص عن مظان الدليل، يحكم العقل بعدم وجوبه وحرمته ظاهراً مستنداً إلى قبح العقاب بلا بيان، ولتوضيح مقصدهم نقول:
إنّ التمسك بالبراءة العقلية يتحدّد بأُمور:
الأوّل: عدم ورود البيان من المولى في المورد، سواء أكان البيان بالعنوان الأوّلي أم بالعنوان الثانوي، مثلاً إذا شككنا في حرمة شرب التتن، فالعقل لا يمنع من الارتكاب بشرط أن لا يرد في المقام بيان في حرمة شرب التتن، إمّا بما هو هو كما إذا قال: لا تشرب التتن، أو بما هو مشكوك الحرمة كأن يقول: إذا شككت في حرمة شيء فعليك بالاحتياط، فالبراءة العقلية رهن عدم وجود أحد البيانين وإلاّ يرتفع موضوعها.
الثاني: عدم احتمال وجود غرض مهم للمولى في المورد بخصوصه على نحو لا يرضى بتركه حتّى في صورة الظن والشكّ، كما إذا شاهدنا غريقاً نحتمل أنّه ولد المولى، فالعقل يحكم بالاحتياط؛ لافتراض أنّ التكليف فعلي منجز في صور الاحتمال أيضاً، كما هو كذلك في صورتي الظن والقطع.
الثالث: إذا تمكّن المولى من البيان، على نحو يكون قادراً على بيان مقاصده وأغراضه بأحد الوجهين، ومع ذلك ترك البيان، ولم يُلزم العبدَ بالإيجاب والترك فعندئذٍ يستقل العقل بعدم مسؤولية العبد أمام مولاه؛ إذ لو كان له غرض لازم الاستيفاء لبيّنه ولما سكت عنه.
نعم يمنع من إجراء البراءة، انتفاء أحد الأُمور الثلاثة الماضية، وذلك بتحقق واحدٍ ممّا يلي:
أ ـ ورود البيان من المولى إمّا بالعنوان الأوّلي أو بالعنوان الثانوي.
ب ـ احتمال وجود غرض مطلوب للمولى في المورد على نحوٍ يكون الحكم فعلياً حتّى في صورة الشكّ أيضاً.
ج ـ كون المولى غير متمكّن من البيان، عاجزاً عن تقرير مقاصده، وممنوعاً من التكلّم على نحو تنقطع معه صلته بالمكلَّف.
والمفروض وجود الشرائط الثلاثة وعدم انتفائها، فتجري البراءة العقلية، لعدم تمامية الحجّة على العبد، لو لم نقل بالعكس.
إنّ استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان لا يتوقّف على إدخاله تحت عنوان الظلم بأن يكون العقاب مع عدم البيان ظلماً بالنسبة إلى العبد؛ لما قلنا في محلّه من أنّ المستقلات العقلية في الحكمة العمليّة أكثر من القضيتين المعروفتين: بـ((حسن العدل وقبح الظلم))، بل ربما يستقل العقل بأُمور، وإن لم ينطبق عليها عنوان الظلم أو العدل، كاستقلاله بحسن الوفاء بالميثاق وقبح نقضه، وكاستقلاله بحسن جزاء الإحسان بالإحسان وقبح جزائه بالسوء، والمقام أيضاً من هذا القبيل، فالعقل مستقلّ بقبح العقاب مع تمكّن المولى من البيان سواء أكان العقاب في هذه الحالة من مصاديق الظلم أم لا.
ثم إنَّ الأُمور الثلاثة التالية تؤيّد كون موقف العقل، عند الشكّ في الحكم الشرعي الإيجابي أو التحريمي، هو البراءة:
1ـ إنّ النظام السائد بين العقلاء فيما يرجع إلى أمر الطاعة، هو البراءة ما لم يكن بيان في المقام، فالرئيس لا يحتج على من دونه في الرتبة والدرجة، إلاّ بما بيّنه وشرحه له وأمره باتّباعه، ولو قام أحد الموظّفين، بكلّ ما أُمر به وبُيّن له، على نحو لم يفته شيء منه، ولكنّه ترك ما شكّ في مطلوبيته ممّا لم يكن موجوداً في برنامجه، يعدُّ مطيعاً غير عاصٍ، ولا يحتجّ الرئيس عليه بالشك والترديد، لأنّه كان متمكناً من البيان، وما هو إلاّ لقضاء فطرتهم وعقولهم بذلك، فاتّفاقهم على تلك الضابطة من وحي الفطرة، ولأجل ذلك صارت القاعدة عالمية لا تختص بقطر دون قطر أو شعب دون شعب، و السعة والعمومية ـ كما قلنا في محلّه ـ آية كون الحكم فطريّاً نابعاً من صميم ذات الإنسان لا أمراً اتّفق عليه العقلاء لمصالح وأغراض خاصّة.
2ـ إنّه سبحانه يصرّح في غير واحدة من آياته، أنّ الغاية من إرسال الرسل، هو قطع عذر العباد، وإبطال حجّتهم على الله، وهذا يدلّ على أنَّه لولا إرسال الرسل، لكانت الحجّة للعباد على الله تعالى.
يقول سبحانه:
رُسُلاً مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجّةٌ بَعْدَ الرّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً[1].
فالآية صريحة في أنّه سبحانه أبطل حجّتهم، بإرسال الرسل وأتم الحجّة عليهم به، وهي خير دليل على أنّه لا يحتجّ عليهم إلاّ بالبيان الواصل، وإلاّ لاحتجّ العباد على الله سبحانه بأنّه أهمل بيان مقاصده وأغراضه بترك إرسال الرسل.
وليست الآية، هي الآية الفريدة في المقام، بل تعزّزها آيات أُخرى يشهد الكلّ على الاحتجاج لا يتمّ إلاّ ببيان واصل، لا بالشك في التكليف، يقول سبحانه:
وَلَوْ أَنّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَذِلّ وَنَخْزَى[2].
فالآية كنظيرتها، صريحة في أنّ احتجاجه سبحانه على العباد، أو احتجاجهم عليه، يدور مدار البيان الواصل وعدمه، فلو صدر البيان من المولى، لصحّ الاحتجاج على العباد، وإلاّ لصحّ العكس، والله سبحانه لإيصاد باب إحتجاجهم عليه؛ بعث الأنبياء مبشرين ومنذرين ليكون لله سبحانه عليهم الحجّة، دون أن يكون لهم الحجّة عليه.
3ـ أنّه سبحانه يتبرأُ في كثير من آياته من التعذيب قبل البيان، ويراه أمراً غير ممكن أو غير لائق بشأنه تعالى، وما هذا إلاّ لقبحه ويقول:
وَمَا كُنّا مُعَذّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً[3].
مَا كَانَ رَبّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتّى يَبْعَثَ فِي أُمّهَا رَسُولاً[4]. ان ((كان)) الناقصة إذا استعملت مع ((ما)) النافية يراد بها أحد معنيين:
1ـ نفي الشأنيّة وأنَّ المنفيَّ غير لائق بمقامه سبحانه مثل قوله
وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ[5].
والمراد من الإيمان الصلاة إلى البيت المقدس، فأطلق الإيمان وأُريد به العمل.
2ـ نفي الإمكان مثل قوله سبحانه:
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلّا بِإِذْنِ اللّهِ[6].
والمراد نفي الإمكان الذاتي؛ لاستحالة وجود الممكن (الموت) بلا علته التامة وهي إرادته سبحانه.
وفي ضوء ذلك فالمراد من قوله: ما كُنّا مُعذّبين وقوله: ومَا كانَ رَبَّكَ مُهلِكَ القُرى إمّا نفي الشأنية وانّه أجلّ من أن يرتكب هذا الأمر القبيح، (التعذيب بلا بيان)، أو نفي الإمكان الوقوعي لا الذاتي فإنّ التعذيب قبل البيان بملاحظة ما لله سبحانه من صفات الحكمة أو العدل، لا يصدر منه ولا يقع.
وإن أردت إرجاع المعنيين إلى معنى واحد فلا مشاحّة.
فبهذه الأُمور الثلاثة، يتّضح أنّ ملاك الاحتجاج عند العقل على العباد، هو البيان الواصل، لا البيان المشكوك، وتكون البراءة العقلية في الشبهات الوجوبية أو التحريميّة أصلاً راسخاً لا تحركه العواصف.
فإن قلت: سلّمنا انّه لا يجوز العقاب إلاّ عند البيان، ولكنّه لا ينحصر بالقطعي، بل يعمّ الظنّي والاحتمالي، فالظن بالتكليف أو احتماله نوع بيان له.
قلت: أنّ الموضوع لوجوب الطاعة، أو حرمة التمرّد هو البيان الواصل، فلا يصدقان إلاّ مع وصوله، أمّا الظن بالحكم واحتماله، فهما موضوعان لحسن الاحتياط، فلا يحسن إلاّ إذا كان هناك أحد الأمرين، فيجب تمييز ما هو موضوع لوجوب الطاعة عمّا هو موضوع لحسن الاحتياط، فالبيان الظني أو الاحتمالي موضوعان للثاني دون الأوّل، ولو كان البيان الاحتمالي كافياً في إتمام الحجّة لما تبرأ منه سبحانه، لوجوده في أكثر الناس قبل بعث الرسل.
فإن قلت: ما الفرق بين مقاصد العبد وأغراضه، ومقاصد المولى وأغراضه، فإنّ سعي العبد لا يتحدد بصورة القطع بها، بل يعمّ صورتي الظن والاحتمال، فليكن سعي العبد وراء مقاصد المولى وأغراضه كذلك، أفهل يمكن أن تكون مقاصد الشريعة، أقل قيمة من أغراض العبد،ولا يجب تحصيلها عند الظن والشك.
قلت: لا شكّ أنّ مقاصد الشريعة أولى وأفضل من المقاصد الدنيوية للعبد، لكن الكلام في حدّ دائرة مسؤولية العبد عند العقل، فهل هو مسؤول عن عامة مقاصد المولى وأغراضه سوءا أكانت مقطوعة أم مظنونة أم مشكوكة، أو هو مسؤول عمّا قامت الحجّة عليه، سواء أكان هناك غرض أم لا؟ إنَّ العقل الفطري يحكم بالثاني.
وإن شئت قلت: الواجب على العبد طاعة المولى فيما أمر ونهى، وعدم التمرد، حتى يدور في فلك العبودية ولا يخرج عن زيّ الرقية، وصدق الطاعة أو التمرد، فرع وجود موضوع لهما، ولا موضوع إلاّ إذا تمّ البيان من المولى.
نعم ربما يكون الاحتمال منجّزاً للواقع، وباعثاً إلى الحركة نحو المحتمل، فيما لو احتمل انّه لو كان للمولى غرض في المقام، لما رضي بتركه ـ كما مرّ ـ وهو خارج عن محط البحث.
ثم إنّ لغير واحد من المحقّقين بياناً آخر لتقرير البراءة العقلية نذكره مشفوعاً بالنقد والتحليل.
1ـ البيان الواقعي غير محرّك:
ذكر المحقّق النائيني ـ قدس سره ـ وجهاً لحكم العقل بالبراءة عند الشكّ في التكليف، حاصله: أن مجرد البيان الواقعي، مع عدم وصوله إلى المكلّف، لا يكفي في صحّة المؤاخذة واستحقاق العقوبة، لأنّ وجود البيان الواقعي كعدمه، غير قابل لأن يكون باعثاً ومحركاً لإرادة العبد ما لم يصل إليه الأمر ويكون له وجود علمي[7].
ويلاحظ عليه: أنّ الأمر مطلقاً ـ بوجوده الواقعي وبوجوده العلمي ـ ليس محركاً للعبد نحو المطلوب، وليس له أثر ـ حتّى بعد الوصول ـ سوى بيان موضوع الطاعة، وإنّما المحرك لإرادة العبد هو الخوف من العقاب، أو الطمع في الثواب، ونسبة التحرك إلى الأمر، نسبة مجازية باعتبار كونه موضوعاً لما يترتّب على مخالفته العقاب، وعلى موافقته الثواب.
فإذا لم يكن للأمر تأثير سوى بيان موضوع الطاعة، فلابدّ من نقل الكلام إلى تحديد مسؤولية العبد ـ عند العقل ـ أمام المولى، فلو كان مسؤولاً فيما تُعد موافقته طاعة، ومخالفته تمرّداً، فلا يجب الاحتياط في صورة الظن بالتكليف أو احتماله، ولو كان مسؤولاً امام المولى مطلقاً في عامة الحالات، فلا بدّ من الاحتياط، فكون الأمر محركاً في صورة الوصول وغير محرّك عن غير هذه الصورة كأنّه أجنبيّ عمّا هو المقصود، ولا بدّ من التركيز على مقدار مسؤولية العبد أمام مولاه كما عرفت، والعقل الفطري يحدد كمّية المسؤولية، بما لو خرج عنه لعدّ متمرّداً،ولا يصدق التمرّد إلاّ إذا كان البيان واصلاً.
2ـ الحكم الحقيقي متقوم بالبيان
وهنا بيان آخر لتبيين قبح العقاب بلا بيان وهو ما أفاده المحقّق الاصفهاني فقال: إنّ مدار الإطاعة والعصيان على الحكم الحقيقي، والحكم الحقيقي متقوم بنحو من أنحاء الوصول؛ لعدم معقولية تأثير الإنشاء الواقعي في انقداح الداعي، وحينئذٍ لا تكليف حقيقي مع عدم الوصول فلا مخالفة للتكليف الحقيقي، فلا عقاب، فإنّه على مخالفة التكليف الحقيقي[8].
ويلاحظ عليه: أوّلاً المنع من عدم كون الحكم الإنشائي حكماً؛ بشهادة صحّة تقسيمه إلى الإنشائي والفعلي، تقسيماً حقيقياً لا مجازياً.
وثانياً: أنّ الحكم الحقيقي أعمّ من الحكم الواصل إلى المكلّف، كما إذا تم البيان من المولى ولكن حالت الموانع بينه وبين المكلّف، فالحكم عندئذٍٍ فعليّ حقيقيّ غير منجّز، فلو كان المدار في وجوب الطاعة، هو الحكم الحقيقي، فيجب الاحتياط إذا احتمل تمامية البيان من المولى أو ظن بها، مع أنّه مجرى البراءة لدى القائل.
والأولى تحديد موضوع وجوب الطاعة وحرمة التمرّد، فهل موضوع الوجوب هو انكشاف الواقع، انكشافاً علميّاً، أو يعمّ مطلق الانكشاف ولو كان احتمالياً؟ فمن قال بعدم وجوب الاحتياط قال بالوجه الأوّل، ومن قال بوجوبه قال بالوجه الثاني، فالواجب علينا تحرير موضوع وجوب الطاعة لا إحراز صدق الحكم وعدم صدقه.
وقد عرفت أنّ العبد مسؤول أمام المولى فيما أمر ونهى، إذ عندئذٍ يصدق أنّه مطيع لمولاه، غير متمرد ولا خارج عن زي الرقية، وليس مسؤولاً عمّا ظن واحتمل كما مرّ.
3ـ قبح العقاب بلا بيان عقلي لا عقلائي:
وربما يتصوّر أنّ قبح العقاب بلا بيان، أمر عقلائي أمضاه الشارع، وليس له من حكم العقل رصيد.
ويلاحظ عليه: أنّه لو صحّ ما ذكر ـ وأغمضنا عمّا قلناه من قضاء العقل الفطري به بشهادة كونه عالمياً ـ لانقلبت البراءة العقلية عندئذٍ إلى البراءة الشرعية، وهو خلف؛ لأنّ بناء العقلاء لا يحتجّ به إلاّ إذا أمضاه الشارع، وبعد الإمضاء يصير أصلاً شرعياً، لا عقلياً، مع أنّ القائل يرى البراءة العقلية، غير البراءة الشرعية.
حقّ الطاعة للمولى
لا شكّ أنّ للمولى حقّ الطاعة على عبده، ولكنّه يتحدّد ـ بقضاء العقل الفطري ـ بما إذا تمّت الحجّة عليه من جانب المولى ببيان ما وظيفته بأحد الوجهين، وبالتالي يتحدد بصورة القطع بالوظيفة الواقعية أو الظاهرية، ولا يشمل صور الظن بالحكم أو الشكّ فيه.
وليس تحديد العقل موضوعَ الطاعة في المقام بمعنى حكومته على المولى سبحانه وتحديد مولويته بصورة العلم بالحكم، بل هو كاشف عن واقعية ثابتة، وذلك بالنظر إلى ما للمولى سبحانه من صفات ككونه حكيماً عادلاً، إلى غير ذلك من الصفات الكمالية نظير حكم العقل بعدم صدور القبيح منه، فحكم العقل بعدم الصدور بمعنى استكشافه ذلك منه بالنظر إلى ما للمولى سبحانه من صفات تستلزم ذلك.
وقد وقفت على كلام للسيد الشهيد الصدر ـ قدس سره ـ وهو ينكر هذه القاعدة أي قبح العقاب بلا بيان، ويعتمد على قضية حقّ الطاعة ويقول إنّ للمولى حقّ الطاعة في المجالات الثلاثة: القطع بالحكم، والظن به، والاحتمال له.
ثم إنّه أوضح ذلك بما ألّفه بقلمه الشريف كالحلقات وبما قرره تلامذته، ونحن نذكر ما وقفنا عليه من كلماته أوّلاً ثمّ نردفه بنقل ما ذكره في محاضراته وقد أسماه بـ مسلك حق الطاعة، وذكره في غير موضع من حلقاته، كما ذكر ثمار المسلكين في الحلقة الثانية[9]. وإليك مقتطفات من كلامه.
حقّ الطاعة أوسع من العلم بالتكليف:
قال: إنّ دائرة حقّ الطاعة أوسع من التكاليف المعلومة، بل يعمّ المظنونة والمحتملة، فحكم العقل بحقّ الطاعة للمولى غير محدّد بصورة العلم بالتكليف، وذلك لأنّ مرجعه إلى تحديد دائرة حقّ الطاعة في التكاليف المعلومة، خاصة فيما يرجع حكم العقل بمنجزية التكاليف المحتملة عندنا، إلى توسعة دائرة حقّ الطاعة الخ[10].
ثمّ إنّه ـ قدس سره ـ بيّن ما يتبناه تحت عنوان مسلك حقّ الطاعة وقال: نحن نؤمن في هذا المسلك بأنّ المولوية الذاتية الثابتة لله سبحانه وتعالى لا تختص بالتكاليف المقطوعة، بل تشمل مطلق التكاليف الواصلة ولو احتمالاً، وهذا من مدركات العقل العملي وهي غير مبرهنة، فكما أنّ أصل حقّ الطاعة للمنعِم والخالق مدرك أوّلي للعقل العملي غير مبرهن، كذلك حدوده سعة وضيقاً، وعليه فالقاعدة العملية الأوّلية هي أصالة الاشتغال بحكم العقل ما لم يثبت الترخيص الجادّ في ترك التحفظ، فلا بدّ من الكلام على هذا الترخيص وإمكان إثباته شرعاً، وهو ما يسمى بالبراءة الشرعية[11].
ويلاحظ عليه بوجهين:
أولهما: أنّ ما أفاده من ((أنّ أصل حقّ الطاعة للمنعم والخالق مدرك أوّلي للعقل العملي غير مبرهن كذلك حدوده سعة وضيقاً)) منظور فيه، فإن أراد بالبرهان، البراهين الفلسفية التي يستلزم فرض نقيض المطلوب فيها اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما فهو صحيح، لكن هذا النوع من البرهان يختصّ بمسائل الحكمة النظرية لا الحكمة العملية، والمفروض أنّ المقام من القسم الثاني، وعدم وجود هذا النوع من البرهان في المقام لا يضرّ بقطعية القضية؛ لاستقلال العقل العملي بالبراءة عندئذٍ.
وإن أراد من عدم كونه برهانيّاً إنّ العقل العملي لا يدرك إدراكاً وجدانياً ما هو حكمه في مورد حقّ الطاعة ولا موضوعه سعة وضيقاً، فهو مرفوض؛ إذ لا معنى لأن يتوقّف العقل في الموضوعات الّتي له فيها حقّ القضاء، وقد عرفت إنّ العقل في الشبهات الحكمية البدوية يحكم بحكمين:
1ـ إذا احتمل العبد أنّ للمولى غرضاً لازم الاستيفاء في عامة المجالات وإن كان مشكوكاً، فعندئذٍ يستقلّ بالاشتغال وإعمال الاحتياط، ومورد هذا النوع من الشكّ متوفّر في الشبهات الموضوعية غالباً.
2ـ إذا شكّ في حرمة شيء أو وجوبه ولم يكن المورد من قبيل القسم الأوّل، فالعقل يستقلّ بالبراءة؛ لافتراض أنّ المولى متمكن من بيان وظيفة العبد بأحد النحوين الماضيين، فإذا سكت، يستكشف العقل عدم حكم إلزامي في المقام وإلاّ لأعرب وأبان.
والثاني: لو افترضنا قضاء العقل الدقيق بلزوم الاحتياط في المشكوكات، فإنّما يصحّ الاعتماد عليه إذا كان الحكم (لزوم إطاعة المولى في المظنونات والمشكوكات) أمراً واضحاً عند أكثر العقول، فعلى المولى أن يعتمد على قضاء عقل العبد في ذلك المجال، وأمّا إذا كان حكمه مغفولاً عنه عند العامة، حيث اعتاد الناس أنّ الامتثال رهن البيان، وقد عرفت أنّ السائد بين العقلاء فيما يرجع إلى الرئيس والمرؤوس هو ذاك، فاعتماد المولى على هذا الحكم الخفيّ على أكثر الناس، غير صحيح.
هذا تحليل ما وقفنا عليه في الحلقة الثالثة من حلقاته الّتي ألّفها بقلمه الشريف.
ثمّ إنّه ـ قدس سره ـ بسط الكلام فيما تبناه من تقدّم حقّ الطاعة على قبح العقاب بلا بيان في محاضراته، وجاء فيها ما يميط الستر عن مرامه، ونحن نذكر نصّ التقرير لكن بتلخيص.
التبعيض في التنجيز تبعيض في المولوية:
يقول قدس سره: إنّ المولوية وحقّ الطاعة ينقسم إلى أقسام ثلاثة:
1ـ المولوية الذاتية الثابتة بلا جعل واعتبار والتي هي أمر واقعي على حدّ واقعيات لوح الواقع، وهذه مخصوصة بالله تعالى بحكم مالكيته، لنا، الثابتة بملاك خالقيته.
2ـ المولوية المجعولة من قبل المولى الحقيقي، كما في المولوية المجعولة للنبيّ أو الوليّ، وهذه تتبع في السعة والضيق مقدار جعلها لا محالة.
3ـ المولوية المجعولة من قبل العقلاء أنفسهم بالتوافق على أنفسهم، كما في الموالي والسلطات الاجتماعية، وهذه أيضاً تتبع مقدار الجعل والاتّفاق العقلائي.
ثمّ قال: إنّ المشهور ميّزوا بين أمرين: مولوية المولى ومنجزية أحكامه، فكأنّه يوجد عندهم بابان:
أحدهما: باب مولوية المولى الواقعية، وهي عندهم أمر واقعي مفروغ عنه لا نزاع فيه، ولا يكون للبحث عن حجّية القطع ومنجزيته مساس به.
والباب الآخر هو: منجّزية القطع، وأنهّ متى يكون تكليف المولى منجزاً؟ وفي هذا الباب ذكروا إنّ التكليف يتنجز بالوصول والقطع ولا يتنجز بلا وصول، ولهذا حكموا بقاعدة قبح العقاب بلا بيان.
يقولون هذا وكأنّهم لا يفترضون أنّه تفصيل بحسب روحه في الباب الأوّل وفي حدود مولوية المولى وحق طاعته.
لكن هذا المنهج غير صحيح، وإنّ المنجزية التي جعلوها باباً ثانياً إنّما هي من لوازم أن يكون للمولى حقّ الطاعة على العبد في مورد التنجيز، وأيَّ تبعيض عقلي في المنجزية بحسب الحقيقة، تبعيض في المولوية، فلا بدّ من جعل منهج البحث ابتداءً عن دائرة مولوية المولى وأنّها بأيّ مقدار، وهنا فرضيات:
1ـ أن تكون مولوية المولى أمراً واقعياً موضوعها واقع التكليف بقطع النظر عن الانكشاف ودرجته، وهذا باطل جزماً؛ لأنّه يستلزم أن يكون التكليف في موارد الجهل المركب منجزاً ومخالفته عصياناً، وهو خلف لمعذّرية القطع.
2ـ أن يكون حقّ الطاعة في خصوص ما يقطع به ويصل إلى المكلّفين من تكاليف المولى، وهذا هو روح موقف المشهور الذي يعني التبعيض في المولوية بين موارد القطع والوصول وموارد الشكّ، ولكنّا نرى بطلان هذه الفرضية أيضاً؛ لأنّا نرى أنّ مولوية المولى من أتمّ مراتب المولوية على حدّ سائر صفاته، وحقّه في الطاعة على العباد أكبر حقّ؛ لأنّه ناشئ من المملوكية والعبودية الحقيقية.
3ـ المولوية في حدود ما لم يقطع بالعدم، وهذه هي التي ندّعيها وعلى أساسها ننكر قاعدة قبح العقاب بلا بيان التي على أساسها ذهب المشهور إلى التبعيض في المولوية، وكأنّهم قاسوا ذلك ببعض المولويات العقلائية التي لا تثبت في غير موارد وصول التكليف، نعم لو قيل بأنّ الشارع أمضى السيرة والطريقة المعتادة في المولويات الثابتة عند العقلاء وبمقدار ما تستوجبه من الحقّ، فلا بأس به ويكون مرجع هذا بحسب الحقيقة إلى البراءة الشرعية المستكشفة عن طريق إمضاء السيرة العقلائية[12].
ويلاحظ عليه أوّلاً: أنّ تخصيص المشهور التنجزَ بصورة البيان الواصل ليس لغاية التبعيض في حق الطاعة، لافتراض أنّه أمر واقعي نابع من خالقيته أو منعميته، بل تخصيصه بصورة وجود البيان لأجل وجود القصور في ناحية المطيع، لجهله بالحكم وعدم علمه بالوظيفة، فالمقتضي للطاعة وإن كان موجوداً، لكن المانع غير مفقود.
وثانياً: لو كان تخصيص التنجيز بصورة البيان الواصل، تخصيصاً في مولوية المولى، يلزم تخصيص التنجيز بصورة ما لم يقطع بالعدم تبعيضاً في حقّ الطاعة أيضاً؛ لاستلزامه خروج صورة القطع بالخلاف من تحت حقّ الطاعة، فلو كان حقّ الطاعة غير قابل للتبعيض يكون الملاك هو الصورة الأُولى التي ليس فيها أي تحديد للتنجيز وبالتالي لمولويته، وقد اعترف ـ قدس سره ـ ببطلانه.
ثمّ إنّ لـه ـ قدس سره ـ كلاماً آخر، في مبحث البراءة يتحد مضمونه مع ما سبق قال:
إن هناك خطأ أساسيا ًفي هذا الطرز من التفكير، حيث فُصل بين الحجّية والمولوية، مع أنّه لا فصل بينهما، بل البحث عن الحجّية بحث عن حدود المولوية بحسب الحقيقة؛ لأنّ المولوية عبارة عن حقّ الطاعة، وحق الطاعة يدركه العقل بملاك من الملاكات كملاك شكر المنعم أو ملاك الخالقية أو المالكية، ولكن حقّ الطاعة له مراتب، وكلما كان الملاك آكد كان حقّ الطاعة أوسع.
فقد يُفرض بعضُ المراتب من منعمية المنعم لا يترتب عليه حقّ الطاعة إلاّ في بعض التكاليف المهمة في كلّها، وقد تكون المنعمية أوسع بنحو يترتّب حقّ الطاعة في خصوص التكاليف المعلومة، وقد تكون مولوية المولى أوسع دائرة من ذلك، بأنْ كانت منعميته بدرجة يترتّب عليه حقّ الطاعة حتّى في المشكوكات والمحتملات من التكاليف، فهذا بحسب الحقيقة سعة في دائرة المولوية، إذن فالحجّية ليست شيئاً منفصلاً عن المولوية وحق الطاعة.
ومرجع البحث في قاعدة قبح العقاب بلا بيان إلى البحث عن إنّ مولوية المولى هل تشمل التكاليف المحتملة أم لا؟ ولا شكّ أنّه في التكاليف العقلائية عادة تكون المولوية ضيّقة ومحدودة بموارد العلم بالتكليف، وأمّا في المولى الحقيقي فسعة المولوية وضيقها يرجع فيهما إلى حكم العقل العملي تجاه الخالق سبحانه، ومظنوني أنّه بعد الالتفات إلى ما بيّناه لا يبقى من لا يقول بسعة مولوية المولى الحقيقي بنحو تشمل حتّى التكاليف الموهومة، ومن هنا نحن لا نرى جريان البراءة العقلية[13].
ويلاحظ عليه: أنّه أي صلة بين كون المولوية ذاتية غير مجعولة نابعة من خالقيته ومنعميّته، وبين سعة الاحتجاج في صورة الشكّ في التكليف وعدم قيام الحجّة على العبد؟ فيمكن أن تكون مولويته وسيعة، لكن يكون حقّ الطاعة مضيّقاً؛ وذلك لأنّ سعة المولوية تابعة لسعة ملاكها، وهو كونه سبحانه في عامة الحالات خالقاً موجداً للعبد من العدم إلى الوجود فهو مولى العباد في جميع الأحوال.
وأمّا سعة الطاعة وضيقها فليسا تابعين لسعة المولوية وضيقها، بل تابعان لصحّة الاحتجاج على العبد عقلاً وعدمها، وقد عرفت اختصاصها بصورة وجود موضوع الطاعة.
وبعبارة ثانية: إنّ جعل سعة الطاعة وضيقها مترتبين على سعة المولوية وعدمها غيرُ صحيح؛ فإنّ السعة والضيق في مجال الطاعة تابعان لصحّة الاحتجاج وعدمها، فإن قلنا بأنّه يصحّ الاحتجاج على العبد في كلّ الأحوال الثلاثة: القطع والظن والشك،وجب على العبد الطاعة من دون حاجة إلى ملاحظة سعة مولويته أو ضيقها.
وأمّا لو قلنا بعدم صحّة الاحتجاج على العبد إلاّ فيما تمت الحجّة فيه على العبد، فلا يصحّ الاحتجاج في صورة الظن والشكّ، وإن كانت مولويته وسيعة.
والشاهد على ذلك أنّه ربما تفترق المولوية، عن حقّ الطاعة والتنجيز في صورة القطع بالخلاف، فالمولوية ثابتة حتّى مع الجهل المركب، ولا يمكن سلبها عن العباد؛ لكونها نابعة من أمر تكويني ذاتي، دون حقّ الطاعة أو التنجيز فإنه مرتفع؛ لكون القطع بالخلاف مانعاً من التنجز، وليكن الجهل بالواقع كالقطع بالخلاف مانعاً لا لقصور في المقتضي بل لوجود المانع.
وبعبارة ثالثة هاهنا أمران:
أحدهما: ملاك الطاعة ومنشؤها.
ثانيهما: موضوع الطاعة. فملاك الطاعة ليس إلاّ المولوية، لكن موضوعها هو حكم المولى، والوصول شرط لوجوب الطاعة، وهذا هو الوجه في كون دائرة المولوية أوسع من وجوب الطاعة، إذ الطاعة متفرعة عل حكم المولى الواصل إلى العبد، وإن كان منشؤها هو مولوية المولى.
تحليل الاعتراض على قاعدة مسلك الطاعة:
خاتمة المطاف: قد تعرّفت على مغزى قاعدة قبح العقاب بلا بيان وأنّها قاعدة محكمة رصينة، تعدّ من أحكام العقل العملي في الحكمة العملية، كما تعرّفت على مفاد قاعدة حق الطاعة وأنّها كسابقتها، رصينة محكمة، لكنّها محدّدة بما إذا قام الدليل على وجود التكليف، ولا يكفي الظن بالتكليف ولا احتماله.
وقد اعترض على مسلك حق الطاعة بأُمور أهمّها: وجود التزاحم بين الإلزام المستفاد من قاعدة حقّ الطاعة عند الشكّ في الوجوب، وملاك الإباحة الإقتضائية التي تقتضي الترخيص والحرية في العمل، وإليك بيان الاعتراض كما في بعض الرسائل:
إننا في موارد الشكّ في التكليف كما نحتمل أن يكون الحكم الواقعي حكماً تكليفياً مشتملا على ملاك اقتضائي للألزام، كذلك نحتمل أن يكون حكماً ترخيصياً مشتملا على ملاك اقتضائي للإباحة، فلو كان الاحتمال الأوّل مقتضياً لحكم العقل بالبناء على الالزام، لضمان الحفاظ على الملاك الإلزامي المحتمل على فرض وجوده، لكان الاحتمال الثاني أيضاً مقتضياً لحكم العقل بالبناء على الترخيص؛ لضمان الحفاظ على الملاك الترخيصي المحتمل على فرض وجوده، لأنّ كليهما من الملاكات ذات الأهمية عند المولى على فرض وجوده، ولا وجه لترجيح الأوّل على الثاني ما لم نحرز كونه أهمّ منه عند المولى إلى درجة تقتضي تقديم ضمان حفظه على ضمان حفظ الثاني عند التزاحم بينهما في مقام الحفظ.
نقد الاعتراض
الظاهر أنّ الاعتراض غير وارد على مسلك حق الطاعة على فرض صحته وشموله لحالتي الظن بالتكليف واحتماله، ويظهر ذلك من خلال بيان أمرين:
الأوّل: الفرق بين الحكم والتكليف
لا شكّ أنّ الحكم مشترك بين الأحكام الخمسة، فالترخيص الاقتضائي رهن إنشاء إباحة ناشئة عن ملاك الترخيص الموجود في الشيء المباح، المقتضي الحكم بالتساوي بين الفعل والترك، وشأن هذا الإنشاء كشأن سائر الأحكام الأربعة: الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة، فالجميع رهن الإنشاء ونتاجه كما هو واضح.
وأمّا التكليف فهو وإن كان من أقسام الحكم، لكن يتميّز عن مطلق الحكم بالسمات التالية:
أ ـ أنّ التكليف يشتمل على طلب وبعث أو نهي وزجر سواء أكان الزامياً أم لم يكن.
ب ـ إنّ امتثال التكليف يتصف بالمشقة والعناء غالباً.
ج ـ إنّ التكليف يتصوّر فيه الإطاعة والعصيان كما في الوجوب والحرمة، أو الموافقة والمخالفة كما في الاستحباب والكراهة، وبالتالي يكون المكلّف بالنسبة إليه إمّا مطيعاً أو عاصياً أو موافقاً أو مخالفاً.
د ـ إنّ حقيقة التكليف تُلقي مسؤولية على عاتق المكلّف سواء أكانت بنحو الإلزام، أم لا.
وهذه كلّها من سمات التكليف وهي متوفرة في الأحكام الأربعة دون الإباحة الاقتضائية؛ فهي حكم، ولكن ليس بتكليف؛ فليس فيها طلب لا بعث أو نهي أو زجر، ولا يستلزم العمل بها أي تعب وعناء، ولا يتصوّر فيها الطاعة والعصيان ولا الموافقة والمخالفة، ولا يثقل كاهل المكلّف بالحكم بالإباحة، كلّ ذلك واضح عند التدبّر.
فإن قلت: كيف تكون الإباحة من مقولة الحكم دون التكليف مع أنّ الحكم منحصر في التكليفي والوضعي؟ وعلى هذا فالإباحة الإقتضائية من مقولة التكليف أخذاً بحصر الحكم فيهما.
قلت: إنّ تسمية الأحكام الخمسة بالأحكام التكليفية من باب الغلبة؛ لأنّ الأربعة الباقية من مقولته.
نعم، الإباحة الوضعية ـ كما في قوله سبحانه: أحلَّ الله البيعَ بمعنى إمضاء البيع وجعله ماضياً أمّا من مقولة التكليف، أو موضوع للتكليف، ولعل الثاني أظهر.
فخرجنا بالنتيجة التالية: إنّ في مورد الإباحة الذاتية حكم شرعي نابع من ملاك ذاتي في الفعل يقتضي إنشاء التسوية والترخيص، وليس هناك من جانب المولى تكليف ملقى على عاتق العبد.
نعم، الإباحة من الأحكام الشرعية، فلو قلنا بالموافقة الإلتزامية يجب الاعتقاد بها تفصيلاً، وإن لم قلنا بكفاية الاعتقاد بصحّة ما جاء به النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، فليس في موردها تكليف وبالتالي امتثال.
الثاني: مصب حق الطاعة هو التكليف لا مطلق الحكم
إنّ حقّ الطاعة عبارة عن تحمّل العبد مسؤولية أمام المولى، ولزوم مثوله بين يديه فيما أمر به أو نهى عنه، فتختص بالطبع بموارد التكليف ولا تعمّ مطلق الحكم، وبالتالي لا تشمل الإباحة الاقتضائية المعلومة تفصيلاً، فضلاً عن الإباحة المحتملة.
كلّ ذلك لا لأجل التمسّك بلفظ الطاعة والجمود عليه، بل لأنَّ واقع الطاعة الذي هو عبارة عن مثول العبد أمام المولى يُحدِّد حقيقة الطاعة بما إذا كان العبد مسؤولاً عمّا كُلِّف به، وأمّا الأحكام الإباحيّة الّتي ليس للمولى فيها طلب ولا بعث للعبد، فليست موضوعاً للطاعة ولا للمسؤولية.
وعندئذٍ فإذا دار الأمر بين كون الحكم الواقعي حكماً تكليفياً مشتملاً على ملاك مقتض للإلزام أو حكماً ترخيصياً مشتملاً على ملاك يقتضي الترخيص والتسوية بين الفعل والترك، فإن قلنا: إنّ حقّ الطاعة يختصّ بالتكاليف المبيّنة من جانب المولى ـ كما هو المختار، لم يكن في مورد الشبهة أيّ موضوع لحقّ الطاعة؛ أمّا بالنسبة إلى الوجوب المحتمل؛ فلأجل اختصاص القاعدة بالوجوب المعلوم لا المحتمل، وأمّا بالنسبة إلى الإباحة الاقتضائية؛ فلأجل عدم وجود موضوع للطاعة حتّى يحكم العقل بوجوب الطاعة.
وأمّا إذا قلنا: إنّ حقّ الطاعة يسع التكاليف المعلومة والمظنونة والمحتملة، فلا يزاحمه احتمال كون الحكم الواقعي إباحة اقتضائية؛ لعدم وجود موضوع للطاعة فيها، ويتفرَّد الحكم الإلزامي المحتمل بالطاعة.
فإن قلت: هب إنّ الإباحة الاقتضائية ليست من أقسام التكليف ولا يتصوّر فيها الامتثال والعصيان، لكن الغرض من إنشائها هو تيسير الأمر على المكلّف وإطلاق العنان له بين الفعل والترك، وعلى هذا فلو كان الأمر دائراً بين كونه واجباً أو مباحاً اقتضائياً، فإيجاب الاحتياط بمقتضى قاعدة حقّ الطاعة وإلزام المكلّف بالأخذ بالفعل، ينافي ملاك الإباحة الاقتضائية التي مدارها إعطاء المكلّف كامل الحرية بين الفعل والترك، فكون الفعل محتمل الوجوب يقتضي الإلزام والضيق، كما أنّ كونه محتمل الإباحة يقتضي التيسير والسهولة وإطلاق العنان، فشمول القاعدة لهذه الصورة يوجد التزاحم بين الملاكين المحتملين.
قلت: إنّ الغرض من جعل الإباحة الاقتضائية يتلخص في أمرين:
الأوّل: اعتقاد المكلّف بكون حكم الله في هذا المورد هي الإباحة لا غير، وهذا هو المسمّى بالموافقة الالتزامية، فلو كان الحكم أي الإباحة معلومة بالتفصيل وجب الاعتقاد بإباحتها تفصيلاً، وإن لم تكن معلومة بالتفصيل كما في المقام كفى الاعتقاد بصحّة ما جاء به النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في هذا المورد إجمالاً، كلّ ذلك بناء على وجوب الموافقة الالتزامية.
الثاني: ترخيص المكلّف على الصعيد العملي من جانب الشارع دون أن يكون هناك إلزام، فإذا كان المطلوب من جعل الإباحة الاقتضائية، هو الترخيص بما هو هو، فهذا حاصل غير منتف؛ إذ ليس من جانب المولى أي إيجاب أو تحريم، بل حُكْم بالتسوية بين الفعل والترك، ولكنّه لا ينافي أن يتعلّق إلزام بالفعل المباح القطعي، فضلاً عن المحتمل، لأجل انطباق عنوان آخر.
ويشهد على صحّة ما ذكرنا الأمران التاليان:
1ـ إنّ الفعل المباح، إذا صار مبدأ للضرر والحرج، يعرض عليه اللزوم دون أن يتصوّر وجود التزاحم بين ملاك الإباحة الاقتضائية، وملاك حرمة الضرر والحرج، حتّى يكون تقديم حكمهما على الأُولى من باب الأولوية والأحقية، لانّ اقتضاء التسوية بما هو هو لا ينافي ترجيح أحد الطرفين لأجل عامل خارجي، فاقتضاء الميزان تساوي الكفّتين، لا ينافي ترجيح أحد الطرفين بعامل خارجي، فلا موضوع للتزاحم حتّى يرجح أثر العامل الخارجي، على التساوي الداخلي.
2ـ إنّ الفعل المباح ربما يقع مقدمة للواجب والحرام، فإذا قلنا بالملازمة بين حكمي المقدمة وذيها، فعندئذٍ يعرض عليها الإلزام بالفعل والترك، ولا يتصوّر فيه أي تزاحم بين ملاك الحكمين، حتّى يكون تقديم الإلزام على الإباحة من باب الأهميّة والاولوية.
وما ربما يقال: من أنّ العبد في الإباحة الاقتضائية مكلّف بحفظ غرض الشارع ومقصده، وهو الترخيص والتسهيل، فغير مفيد، فإن أُريد أنّه مكلف في مرحلة الاعتقاد، فهو صحيح، فأي اعتقاد بحكم الفعل يضاد الإباحة، فهو تشريع محرم.
وإن أُريد أنّه مكلّف به في مرحلة العمل، فهو لازم الاتباع، لكن لو لم يحمله عامل خارجي على الأخذ بأحد الطرفين إلزاماً.
تمّ الكلام حول القاعدتين يوم اندلعت نار الحرب بين الحكومة العراقية، وقوات الاحتلال البريطانيّة والأمريكية ـ خذلها الله ـ وذلك في الخميس، السادس عشر من شهر محرم الحرام من شهور عام 1424 ه .
اللّهم احفظ الإسلام والمسلمين، وردّ كيد الظالمين إلى نحورهم وبلادهم.
الشيخ جعفر السبحاني