منذ ما اصطلح عليه خطأً «بداية عصر النهضة» في البلاد العربيّة، تدفّق كمٌّ هائلٌ من الترجمات والكتابات المقتبسة من اللّغات الأوروبيّة التي تحلّل وتشرح مظاهر التخلّف والانحطاط في الشرق، طبقاً لما تعكسه مرآة الآخر عنه. وفي ضوء ذلك، تبلورت أفكار ومقولات ومؤسّسات وتجمّعات ثقافيّة متنوّعة تشترك في استلهامها صورة «الأنا» من «الآخر»، وإعادة إنتاج تصوّراته وتشخيصاته ومقولاته، فبرزت دعوات، ونودي بشعارات القطيعة مع الماضي والالتحام بالغرب، واستعارة كلّ منتجات الإنسان الغربي بخيرها وشرّها (حسب تعبير طه حسين)، واستنساخ تجربته الحياتيّة بتمام آفاتها المعرفيّة والمدنيّة.
وأضحى العالِم آنئذٍ هو العالِم بالفكر والتراث والتاريخ الغربي، والمثقّف هو من يردّد بعض المفاهيم والمصطلحات التي التقطها من الكتّاب الغربيّين، وهكذا الأديب والشاعر هو من يتجاوز عروض الفراهيدي، وتتحرّك قافيته في قنوات الموضات الأدبيّة الأوروبيّة المعاصرة، والفنّان هو من يستوحي الذوق الفنّي لـ«پيكاسو»، والفيلسوف هو من يستعير آراء «ماركس» أو «سارتر» أو «البيركامو»..
ولم يتنبّه هؤلاء إلى أنّ السياق التاريخي الحضاري الذي أنتج الشعر الأوروبي الحديث والفنّ الأوروبي الحديث، وهكذا الفلسفة والفكر الحاضرين في الغرب، إنّما هو تاريخ شعوب وجماعات بشريّة عاشت في إطار بيئة حضاريّة خاصّة، تتميّز بدين واحد وتاريخ مشترك وأدب وثقافة ولغة تنحدر من جذور واحدة، فضلاً عن العرق والدم منذ عصر اليونان حتّى اليوم.
وهكذا تموضعت المنظومة المعرفيّة في هذا العالم في إطار ذلك الواقع المتميّز، والذي لن يتكرّر في أيّة بقعة أخرى خارج فضاءاته في المعمورة، كما لا يمكن استنساخه وإحلاله في بيئات أخرى.
وتلك حقيقةٌ أخرى واضحة لكلّ من له خبرة في تاريخ الأمم والجماعات، وسنن حركتها التاريخيّة. فكلّ أمّة تحتضن تجربتها التاريخيّة التي تتفرّد بها، وتواصل سيرها وتطوّرها في أفق تلك التجربة ومعطياتها، لأنّ حاضر كلّ أمّة ليس هو إلا ماضيها الذي يسعى للتكيّف مع حالتها الراهنة مطلاًّ على مستقبلها.
إلا أنّ عدداً كبيراً من الكتّاب والمفكّرين والسياسيّين في ديارنا جهل أو تجاهل هذه الحقيقة منذ ما يسمّى بـ«بداية عصر النهضة» منذ حوالي قرن ونصف، وأصرّوا على تسيير إنسان المنطقة في مسالك وعرة قاسية، بهدف الاستتباع القسري للآخر، فتبدّدت تبعاً لذلك طاقات بشريّة وثروات طبيعيّة هائلة، كان الإنسان المسلم بأمسّ الحاجة لهذا في البناء والتنمية والتقدّم، واستهلكت جهود عقليّة كبيرة في غمرة الصراع الذي نجم عن ذلك، في الجدل والسجال المستمرّ حول ما عرف بـ«ثنائيّات عصر النهضة»، هذا فضلاً عن تصفية الكثير من العقول الكبيرة التي أبت الانصياع لتلك الدعوات أو تغييبها في الزنزانات الرهيبة، أو فرارها وهجرتها إلى الغرب، بعد أن ضيّق عليها دعاة المشروع التغريبي موارد رزقها وأمنها.
ومع كلّ ما بذله هؤلاء من جهود سياسيّة وثقافيّة من خلال تجييش وسائل الإعلام والمؤسّسات الثقافيّة والمنتديات الاجتماعيّة، لكنّهم لم يفلحوا في إعادة تشكيل مجتمعاتنا والبنى التراثيّة فيها طبق الصورة الغربيّة، مع أنّهم سعوا جاهدين في تسريع عمليّة التغيير الاجتماعي، والقفز على بعض المراحل في مشروعات التحديث، إلا إنّ الكثير من المؤسّسات الثقافيّة والبنى الاجتماعيّة استعصت على عمليّات التذويب والتدمير.
ولم تنتج تلك المحاولات سوى مؤسّسات كسيحة مشوّهة تتماهى مع الغرب ومؤسّساته، حتّى أضحى حالها كحال من فقد مشيته الطبيعيّة دون أن يقدر على التكيّف مع مشية الغير.
وبذلك، تبدّد إمكان النهوض الحضاري في تلك المؤسّسات التي أصرّ القيّمون عليها بقطع العلاقة بينها وبين بيئتها التي ولدت وترعرعت فيها، ووقع التنافي بينها وبين بيئتها، وصارت كنبتة الأرزّ المغروسة في صحراء قاحلة.
في هذه الظروف التي اضطلع فيها روّاد المشروع التغريبي في بلادنا بتفتيت بنية مجتمعاتنا، واستنبات أجسام غريبة فيها، سعى هؤلاء لإشاعة أفكار دعائيّة استعاروها من الاستشراق التقليدي، ترتكز هذه الأفكار على تأكيد تفوّق الغرب في كلّ شيء، وتجلّي روح الإبداع في معطيات مدنيّته ومظاهرها المتنوّعة، بينما تُغَيَّب كلّ روح إبداعيّة أو تفكير عقلاني في الشرق، ويُطمس التراث الخالد للحضارة الإسلاميّة في مختلف الحقول، وكأنّ الإنسان الشرقي يعيش بدون تاريخ أو تراث.
ومن الملفت للنظر أنّ جلّ هؤلاء المتغرّبين ممّن لم يحيطوا علماً بالموروث المعرفي الإسلامي، فضلاً عن الإبداعات الحاضرة للمفكّرين المسلمين، فمن الذي قرأ الإنجازات الفلسفيّة للعلاّمة السيّد محمّد حسين الطباطبائي!؟!
ومن الذي قرأ الاكتشافات المعرفيّة للمفكّر الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر!؟!
ومن الذي اطّلع على إنجازات المفكّرين الإسلاميّين في القرن العشرين؟!
قد يستهلك بعض الأساتذة والباحثين والكتّاب عندنا جهداً وزمناً كبيرين في قراءة «دِكارت» و«كَنْت» و«هِگِل» و«ماركس» و«هايدگر» و«سارتر» و«فوكو» و«شتراوس» و«دريدا».. وغيرهم، لكنّه لم يتعرّف مباشرةً على «الكندي» و«الفارابي» و«السهروردي» و«ابن سينا» و«الغزالي» و«ابن رشد» و«ابن عربي» و«صدر المتألّهين» و«الطباطبائي» و«الصدر»..
لقد توهّم دعاة المشروع التغريبي أنّ مجتمعاتنا تعيش خارج فضاء الزمان الحضاري، وأنّها غير قادرة على أيّ إبداع، وليس أمامها من خيار سوى الجري وراء الإنسان الغربي والتلمّذ عليه واستيراد منتجاته وأفكاره وذوقه الفنّي، كي تستطيع الحضور في العصر ومواكبة حركة التقدّم والتمدّن.
الوعي الحضاري في إنجازات الشهيد الصدر!:
دأب الإمام الشهيد الصدر! منذ بواكير حياته على التخطيط لمشروع نهضويّ متكامل، تمثّل أحد أبرز مرتكزاته الدراسات المنهجيّة المعمّقة لمواجهة حملات المسخ والتشويه التي تتعرّض لها الأمّة الإسلاميّة، التي دشّنتها الحملات الصليبيّة والكثيرُ من المستشرقين فيما بعد، ومن ثمّ تولاّها تلامذتهم في ديارنا.
وفي الوقت الذي تصدّت فيه دراسات الشهيد الصدر! لتلك الحملات، عملت على تأكيد الهويّة الحضاريّة المتميّزة للأمّة أيضاً، حيث اعتمدت التأصيل المنهجيّ كأساسٍ للتحصين الحضاري، بعد تشخيصها لآليّة الصراع الحضاري بين «الأنا» و«الآخر»، وبذلك «وجدت الأنا هويّتها في «فلسفتنا» و«اقتصادنا»، من أجل التركيز على خصوصيّتها في مواجهة الآخر، وفي نفس الوقت تنقد ثقافة الآخر الذي قام بإثبات طرف وإنكار طرف آخر في «الأسس المنطقيّة للاستقراء»[1] حسب تعبير الدكتور حسن حنفي.
في جدل «الأنا» و«الآخر»، أدرك الشهيد الصدر) أنّ شيوع المناهج الالتقاطيّة في البحث والتأليف، التي تعتمد على اقتطاع بعض النظريّات والمقولات من سياقها الحضاري الأوروبي، ومن ثمّ تترجمها وتشرحها وتبشّر بأفكارها وتهتمّ بالتثقيف عليها وتزريقها[2] في وعي الأمّة ولا وعيها، من دون غربلة وتمحيص واستيعاب وتهذيب، هو لونٌ من ألوان التآمر على عقل الأمّة وتراثها وشخصيّتها.
لذا انبرى الشهيد الصدر) للنهوض بمهمّة فكريّة كبرى، لأجل تحصين الهويّة الإسلاميّة للأمّة، كما أخبرنا عن ذلك في الصفحة الأولى من أوّل عملٍ في مشروعه وهو «فلسفتنا» بقوله:
«غزا العالم الإسلامي، منذ سقطت الدولة الإسلاميّة سريعة بأيدي المستعمرين، سيلٌ جارفٌ من الثقافات الغربيّة، القائمة على أسسهم الحضاريّة ومفاهيم عن الكون والحياة والمجتمع. فكانت تمدّ الاستعمار إمداداً فكريّاً متواصلاً في معركته التي خاضها للإجهاز على كيان الأُمّة وسرّ أصالتها، المتمثّل في الإسلام.
وفدت بعد ذلك إلى أراضي الإسلام السليب، أمواجٌ أخرى من تيّارات الفكر الغربي ومفاهيمه الحضاريّة، لتنافس المفاهيم التي سبقتها إلى الميدان، وقام الصراع بين تلك المفاهيم الواردة على حساب الأمّة، وكيانها الفكري والسياسي الخاص.
وكان لا بدّ للإسلام أن يقول كلمته في معترك هذا الصراع المرير، وكان لا بدّ أن تكون الكلمة قويّةً عميقةً صريحةً واضحةً كاملةً شاملةً للكون والحياة والإنسان والمجتمع والدولة والنظام، ليتاحَ للأمّة أن تعلن كلمة «الله» في المعترك، وتنادي بها، وتدعو العالم إليها، كما فعلت في فجر تاريخها العظيم، وليس هذا الكتاب إلا جزءاً من تلك الكلمة..»[3].
لقد جاء مشروع الصدر! معبّراً عن وعيه الدقيق لطبيعة الصراع بين الإنسان المستضعف من جهة، والإنسان الغربي من جهة أخرى، وكيف أنّ الأوّل وتراثه وثرواته وقع فريسة تنتهشها مخالب الأخير الضارية، حتى كان «الثراء الهائل الذي تكدّس في أيدي الطبقة الرأسماليّة في الدول الرأسماليّة، لم يكن كلّه، بل ولا معظمه، نتاج عرق جبين العامل الأوروبي والأمريكي، وإنّما كان نتاج غنائم حرب، كان نتاج غنائم غارات، غارات على هذه البلاد الفقيرة، على بلاد أخرى استطاع الإنسان الأبيض أن يغزوها وأن ينهبها. هذا النعيم الذي تغرق فيه تلك الدول ليس من عرق جبين العامل الأوروبي، ليس من نتاج التناقض الطبقي بين الرأسمالي والعامل، وإنّما هذا النعيم هو من نفط آسيا وأمريكا اللاتينيّة، هو من ألماس تنـزانيا، هو من الحديد والرصاص والنحاس واليورانيوم من مختلف بلاد أفريقيا، هو من قطن مصر، هو من تنباك لبنان، هو…»[4].
في ضوء هذه الرؤية الواضحة لمأساة الإنسان المستضعف، أكّد الشهيد الصدر! على أنّ الخروج من نفق التخلّف، يجب أن يعتمد على المقوّمات الذاتيّة للأمّة، من هويّتها وعقيدتها وتراثها وآدابها وما تختزنه من إمكانات النهوض والتقدّم، ولذا أوضح بأنّ «حركة الأُمّة كلّها شرط أساسيٌّ لإنجاح أيّ تنمية وأيّ معركة شاملة ضدّ التخلّف، لأنّ حركتها تعبيرٌ عن نموّها، ونموّ إرادتها، وانطلاق مواهبها الداخليّة. وحيث لا تنمو الأُُمّة، لا يمكن أن تمارس عمليّة تنمية.. وتجربة الإنسان الأوروبي الحديث، هي بالذات تعبيرٌ تاريخيٌّ واضحٌ عن هذه الحقيقة. فإنّ مناهج الاقتصاد الأوروبي كإطارات لعمليّة التنمية، لم تسجّل نجاحها الباهر على المستوى المادي في تاريخ أوروبا الحديث، إلاّ بسبب تفاعل الشعوب الأوروبيّة مع تلك المناهج، وحركتها في كلّ حقول الحياة وفقاً لاتّجاه تلك المناهج ومتطلّباتها واستعدادها النفسي المتناهي خلال تاريخٍ طويلٍ لهذا الاندماج والتفاعل. فحين نريد أن نختار منهجاً أو إطاراً عامّاً للتنمية الاقتصاديّة داخل العالم الإسلامي، يجب أن نأخذ هذه الحقيقة أساساً ونفتّش في ضوئها عن مركّب حضاريٍّ قادرٍ على تحرّك الأُمّة، وتعبئة كلّ قواها وطاقاتها للمعركة ضدّ التخلّف، ولا بدّ حينئذ أن ندخل في هذا الحساب مشاعر الأُمّة ونفسيّتها، وتاريخها، وتعقيداتها المختلفة. ومن الخطأ ما يرتكبه كثيرٌ من الاقتصاديّين الذين يدرسون اقتصاد البلاد المتخلّفة، وينقلون إليها المناهج الأوروبيّة للتنمية، دون أن يأخذوا بعين الاعتبار درجة إمكان تفاعل شعوب تلك البلاد مع هذه المناهج، ومدى قدرة هذه المناهج المنقولة على الالتحام مع الأُمّة..»[5].
على أساس هذا الوعي بمشكلات التخلّف، وما أفرزته أنماط التنمية المستوردة من تنمية للتخلّف، ولدت مؤلّفات الإمام الشهيد الصدر!، والتي جاء كلُّ واحد منها معبّراً عن حلقة في مشروع نهضويّ متكامل، يقوم على تأسيس نظامٍ معرفيٍّ جديد، كما سنلاحظ في إشارتنا للإسهام المنهجي لمشروع «الأسس المنطقيّة للاستقراء».
«الأسس المنطقيّة للاستقراء» محاولةُ اكتشاف نظام معرفيٍّ جديد:
تمركز المشروع الفكري الأساسي في أعمال الشهيد الصدر! على إعادة تشكيل النظام المعرفي الذي تستند إليه مجموعة الرؤى والأفكار، حيث تمثّل هذا المشروع في كتاب «الأسس المنطقيّة للاستقراء»، الذي خصّص الإمام الصدر! سنواتٍ عديدةً من عمره الشريف للتفكير في بنائه النظريّ[6]، وإشادة أركانه، وإكمال صياغته، بعد أن درّسه للنابهين من تلامذته، ووجّههم نحو الدور الكبير الذي ينبغي أن يناط بالمذهب المعرفيّ الذي بشّر به هذا الكتاب[7]، حيث يشتمل هذا الكتاب «على أبدع أفكار وابتكارات الشهيد الإمام محمد باقر الصدر! وهو من أحلى ثمار ذهن الشهيد الصدر!، الذهن الوقّاد الباحث والمبدع، ويمكن القول بجرأة إنّ هذا الكتاب أوّل كتاب في تاريخ الثقافة الإسلامية حرّره فقيهٌ مسلمٌ متناولاً فيه إحدى أهمّ مشكلات «فلسفة العلم والمنهج العلميّ» المصيريّة، مع وضوح وبصيرة وشمول في عرض ونقد نظريّات حكماء الغرب والشرق..»[8]، مضافاً إلى أنّه «كتابٌ تحقيقيٌّ علميٌّ لفقيه فيلسوف، أثبت عمق بصيرته ودقّة فكره، في ميدان قضايا الفلسفة الحديثة، ويشتمل الكتاب على ابتكارات وإبداعات تليق لطرحها على مستوى النوادي العلميّة العالميّة. إنّ هجمات الشهيد الصدر! الجريئة والمدروسة على أغوال نظير «لاپلاس» و«كينـز» و«رسل»، وفي قضيّة في غاية التعقيد والدقّة، أثبتت شجاعته الفكريّة، واقتداره العلمي..»[9].
وكان الشهيد الصدر! يطمح إلى أن يجد المذهب المعرفي الذي تبلور في «الأسس المنطقيّة للاستقراء» دلالاته في إعادة بناء بعض النظريّات والمقولات المتوارثة في علوم المعقول الإسلامي.
و نلاحظ ثمرات هذا المذهب واضحةً في علم أصول الدين، وإثبات وجود الله، حيث برهن «على أنّ العلم والإيمان مرتبطان في أساسهما المنطقي الاستقرائي، ولا يمكن ـ من وجهة النظر المنطقيّة للاستقراء ـ الفصل بينهما.
وهذا الارتباط المنطقي بين مناهج الاستدلال العلمي، والمنهج الذي يتّخذه الاستدلال على إثبات الصانع بمظاهر الحكمة، قد يكون هو السبب الذي أدّى بالقرآن الكريم إلى التركيز على هذا الاستدلال من بين ألوان الاستدلال المتنوّعة على إثبات الصانع، تأكيداً للطابع التجريبي والاستقرائي للدليل على إثبات الصانع.. هذا إضافةً إلى أنّ الدليل التجريبي على وجود الله ـ الذي يضع هذا الكتاب أساسه المنطقي ـ أقرب إلى الفهم البشريِّ العام، وأقدر على ملء وجدان الإنسان ـ أيّ إنسان ـ وعقله بالإيمان من البراهين الفلسفيّة ذات الصيغ النظريّة المجرّدة التي يقتصر معظم تأثيرها على عقول الفلاسفة وأفكارهم..»[10].
وأوضح الشهيد الصدر! هذه الحقيقة في العنوان الشارح للكتاب بقوله: «الأسس المنطقيّة للاستقراء: دراسةٌ جديدةٌ للاستقراء تستهدف اكتشاف الأساس المنطقي المشترك للعلوم الطبيعيّة وللإيمان بالله»[11].
وقد دوّن الإمام الشهيد الصدر! بحثاً معمّقاً (موجز في أصول الدين) مقدمةً لرسالته الفقهيّة «الفتاوى الواضحة»، تجلّى فيه تطبيق هذا المذهب الذي قدّمه كتاب «الأسس» ، كما أشار هو لذلك في مقدّمة هذا البحث بقوله:
«وعلى هذا، فالمنهج الذي نتّبعه في الدليل العلمي لإثبات الصانع تعالى، هو منهج الدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات، ومن أجل ذلك نعبّر عن الدليل العلمي لإثبات الصانع بالدليل الاستقرائي.. ومنهج الدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات له صيغ معقّدة، وبدرجة عالية من الدقّة، وتقييمه الشامل الدقيق، يتمّ من خلال دراسة تحليليّة كاملة للأسس المنطقيّة للاستقراء ونظريّة الاحتمال»[12].
كما سعى الشهيد الصدر! إلى إعادة تدوين علم أصول الدين «علم الكلام الإسلامي» على أساس معطيات منهجه الجديد، وقد أنجز قسطاً منه في أيّامه الأخيرة، إلا أنّ يد الغدر اختطفته، ولمّا يرَ هذا العمل النور[13].
وظهرت آثار منطق الاستقراء ونظريّة الاحتمال في الدرس الأصولي للشهيد الصدر!، كما نلمح ذلك في مباحث الحجج والعلم الإجمالي، ومباحث أخرى من دراساته في أصول الفقه[14].
كما إنّ الشهيد الصدر! كان يأمل أن يُترجم كتاب «الأسس المنطقيّة للاستقراء» إلى اللغتين الإنجليزيّة والفرنسيّة[15]، ليعلن عن نهاية العهد الذي كان فيه الشرق وإنسانه موضوع دراسة للغرب، والانتقال إلى أن يصبح الغرب وحضارته موضوع دراسةٍ، وبتعبير آخر:
إنّ الشهيد الصدر! كان يهدف إلى تدشين مرحلة جديدة من مراحل الإنتاج المعرفي في العالم الإسلامي، وهي مرحلة عودة الإبداع والعطاء الفكري المبتكر، ليواصل ما بدأه السلف في العصر الإسلامي الأوّل، وكيف كانت أوروبا والعالم المعروف آنذاك متلمّذاً على معارف المسلمين، إنّها مرحلة تصدير المعارف إلى الغرب التي كانت طليعتها «مرحلة التصدير في فكر السيّد الشهيد الصدر!»[16].
مشكلة الاستقراء:
المشكلة التي بحثت في كتاب «الأسس المنطقيّة للاستقراء»، من المشكلات القديمة التي اهتمّ ببحثها المنطق منذ عصر «أرسطو» أو قبل ذلك، وتتابعت دراستها فيما بعد على أيدي المناطقة والفلاسفة المسلمين في إطار النتائج التي انتهى إليها «أرسطو» في بحثها، بينما نحت الفلسفة الأوروبيّة منحىً آخر في بحث مشكلة الاستقراء. ومنذ ما يربو على أربعة قرون، أضحى هذا المنحى محوراً لتآليف ودراسات عديدة فيها.
وبذلك وجدت مدرستان في تحليل مشكلة الاستقراء ودراستها: واحدة في الغرب، تأسّست على قطيعة مع المنهج في دراستها، أي لم تقطع الأخيرة مع منهج «أرسطو» في دراسة مشكلة الاستقراء، فكانت كلّ طريقة جديدة في معالجة المشكلة تتحرّك في فضاءات المنهج الأرسطي ولا تتقاطع معه.
حتّى جاء الشهيد الصدر!، فقدّم أطروحة «الأسس المنطقيّة للاستقراء» التي «ـ دون مبالغةٍ في القول ـ نقلتنا مع بعض وجوه مشكلات الاستقراء ونظريّة الاحتمال ما يقرب من ثلاثة قرون، واختزلت المسافات الزمنيّة التي تفصلنا عمّا عليه الوضع في غرب القارّة، في وجوه أخرى أكثر من قرن، ومن ثمّ طرحت معالجةً هي أقرب لروحنا في الشرق»[17].
لقد حلّل الشهيد الصدر! طبيعة المشكلة التي جعلها محوراً لدراسته في هذا الكتاب بقوله:
«..وأمّا في حالات الاستقراء، فإنّ الدليل الاستقرائي يقفز من الخاص إلى العام، لأنّ النتيجة في الدليل الاستقرائي أكبر من مقدّماتها، وليست مستنبطة فيها، فهو يقرّر في المقدّمات أنّ كميّة محدودة من قطع الحديد لوحظ تمدّدها بالحرارة، ويخرج من ذلك بنتيجة عامّة، وهي أنّ كلّ حديد يتمدّد بالحرارة.
وهذا الانتقال من الخاص إلى العام لا يمكن تبريره على أساس مبدأ عدم التناقض كما رأينا في الدليل الاستنباطي، لأنّ افتراض صدق المقدّمات وكذب النتيجة لا يستبطن تناقضاً، فبالإمكان أن نفترض أنّ تلك الكميّة المحدودة من القطع الحديديّة قد تمدّدت بالحرارة فعلاً، ونفترض في نفس الوقت أنّ التعميم الاستقرائيّ القائل «إنّ كلّ حديد يتمدّد بالحرارة» خطأ، دون أن نقع في تناقض منطقي، لأنّ هذا التعميم غير مستبطن في الافتراض الأوّل، وهكذا نعرف أنّ منهج الاستدلال في الدليل الاستنباطي منطقيٌّ، ويستمدُّ مبرّره من مبدأ عدم التناقض.
وخلافاً لذلك منهج الدليل في الدليل الاستقرائي، فإنّه لا يكفي لتبريره منطقيّاً مبدأ عدم التناقض، ولا يمكن على أساس هذا المبدأ تفسير القفزة التي يصطنعها الدليل الاستقرائي في سيره من الخاص إلى العامّ، وما تؤدّي إليه من ثغرة في تكوينه المنطقي.
ونحن في هذا الكتاب، إذ نحاول إعادة بناء نظريّة المعرفة على أساس معيّن، ودراسة نقاطها الأساسية في ضوء يختلف عمّا تقدّم في كتاب «فلسفتنا»، سوف نتّخذ من دراسة الدليل الاستقرائي ومعالجة الثغرة فيه أساساً لمحاولتنا هذه»[18].
وقد تبلور عمل الشهيد الصدر! في هذا الكتاب في «نظريّتين أساسيّتين، تناولت الأولى تفسير الاحتمال وصياغة نظريّة جديدة للاحتمال، تمّ له على هديها تفسير الدليل الاستقرائي، ومن خلال تفسير الاستقراء على أساس نظريّة الاحتمال يمنح التعميم الاستقرائي تصديقاً منطقيّاً، لكنّه تصديقٌ ناقصٌ لا يبلغ درجة القطع واليقين،.. أمّا النظريّة الثانية، فهي اتجاهٌ جديدٌ في تفسير اليقين الاستقرائي والمعرفة البشريّة بعامّة، حيث يمنح الدليل الاستقرائي في مراحل متقدّمة يقيناً، لكنّه يقينٌ غير ضروري ومن ثمّ فهو غير منطقي، وفي الوقـت ذاته ليس يقيناً فوضويّاً قائماً على أسـاس النزعة السيكولوجيّة المحضـة، بل هو يقينٌ يرتكز على مبرّرات موضوعيّة، وله شروطه المنطقيّة»[19].
المذهب الذاتيّ للمعرفة:
تمثّل الإنجاز الأساسي في كتاب «الأسس المنطقيّة للاستقراء» في اكتشاف وصياغة مذهب جديد في تفسير كيفيّة نموّ المعرفة البشريّة وتوالدها، عبّر عن اتّجاه آخر في تفسير المعرفة، غير ما كان معروفاً بين المذهبين التجريبي والعقلي، وتُعَدّ ولادة هذا المذهب الذي اصطلح عليه الشهيد الصدر! بـ«المذهب الذاتي للمعرفة» أعظم إنجاز شهدته دراسات المعقول الإسلامي في القرن الأخير، وإن لم يكتشف هذا الإنجاز إلاّ بشكل محدود جدّاً.
ومن المناسب أن نتعرّف على الملامح الإجماليّة لهذا الابتكار، من خلال استخلاص تعريف الصدر! له، فهو يقول:
«نريد بالمذهب الذاتي للمعرفة اتّجاهاً جديداً في نظريّة المعرفة، يختلف عن كلٍّ من الاتّجاهين التقليديّين اللذين يتمثّلان في المذهب العقلي والمذهب التجريبي»[20].
ولكي يتمّ التمييز بصورة أساسيّة بين المذاهب الثلاثة، يحدّد الشهيد الصدر! نقطتين رئيسيّتين في تفسير المعرفة البشريّة هما:
الأولى: في تحديد المصدر الأساسيّ للمعرفة:
فالتجريبيّون يؤمنون بأنّ التجربة والخبرة الحسيّة هي المصدر الوحيد للمعرفة، فلا توجد لدى الإنسان أيّة معرفة قبليّة بصورة مستقلّة عن الحسّ والتجربة. والعقليّون يؤمنون بوجود قضايا ومعارف يدركها الإنسان بصورة قبليّة ومستقلّة عن الحسّ والتجربة، وأنّ هذه القضايا تشكّل الأساس للمعرفة البشريّة، والقاعدة التي يقوم على أساسها البناء الفوقي للمعرفة كلّها.
وفي هذه النقطة، يتّفق المذهب الذاتي مع المذهب العقلي.
الثانية: في تفسير نمو المعرفة:
بمعنى أنّ هذه المعارف القبليّة الأوّليّة كيف يمكن أن تنشأ منها معارف جديدة؟ وكيف يمكننا أن نستنتج من القضايا التي تشكّل الأساس الأوّل للمعرفة قضايا أخرى، وهكذا حتّى يتكامل البناء؟
وفي هذه النقطة يختلف المذهب العقلي مع المذهب الذاتي اختلافاً أساسيّاً: فالمذهب العقلي لا يعترف عادةً إلاّ بطريقة واحدة لنموّ المعرفة، وهي طريقة التوالد الموضوعي، بينما يرى المذهب الذاتي أنّ في الفكر طريقتين لنموّ المعرفة:
إحداهما: التوالد الموضوعي.
والأخرى: التوالد الذاتي.
ويعتقد المذهب الذاتي بأنّ الجزء الأكبر من معرفتنا بالإمكان تفسيره على أساس التوالد الذاتي. وفي ضوء ذلك يرى الشهيد الصدر! «إنّ في كلّ معرفة جانباً ذاتيّاً وجانباً موضوعيّاً»[21].
أمّا المقصود بالتوالد الموضوعي فهو: «أنّه متى ما وجد تلازمٌ بين قضيّة أو مجموعة من القضايا وقضيّة أخرى، فبالإمكان أن تنشأ معرفتنا بتلك القضيّة من معرفتنا بالقضايا التي تستلزمها، فمعرفتنا بـ«أنّ خالداً إنسان» و«أنّ كلّ إنسانٍ فانٍ» تتوالد منها معرفةٌ بـ«أنّ خالداً فانٍ». وهذا التوالد موضوعيٌّ، لأنّه نابعٌ عن التلازم بين الجانب الموضوعي من المعرفة المولّدة والجانب الموضوعي من المعرفة المتوّلدة. وهذا التوالد الموضوعي، هو الأساس في كلّ استنتاج يقوم على القياس الأرسطي، لأنّ النتيجة في القياس دائماً ملازمةٌ للمقدّمات التي يتكوّن منها القياس، فتنشأ معرفتنا بالنتيجة من معرفتنا بالمقدّمات على أساس التوالد الموضوعي، والتلازم بين القضايا المستدلّ ببعضها على البعض الآخر بصورة قياسيّة»[22].
فيما يعني التوالد الذاتي: «أنّ بالإمكان أن تنشأ معرفةٌ ويولد علمٌ على أساس معرفةٍ أخرى، دون أيّ تلازم بين موضوعَي المعرفتين، وإنّما يقوم التوالد على أساس التلازم بين نفس المعرفتين، فبينما كان المبرّر لنشوء معرفة من معرفة أخرى في حالات التوالد الموضوعي هو التلازم بين الجانبين الموضوعيّين، نجد في حالات التوالد الذاتي أنّ المبرّر لنشوء معرفة من معرفة أخرى هو التلازم بين الجانبين الذاتيّين للمعرفة، وأنّ هذا التلازم ليس تابعاً للتلازم بين الجانبين الموضوعيّين»[23].
وقد برهن الشهيد الصدر! على «أنّ العلم الاستقرائي التجريبي ـ أي العلم بالتعميم القائم على أساس الاستقراء والتجربة ـ لا يمكن أن يُفسَّر بطريقة التوالد الموضوعي، وأنّ المحاولة التي قام بها المنطق الأرسطي لإعطاء الاستدلال الاستقرائي شكلاً قياسيّاً لكي يقوم على أساس التوالد الموضوعي لم تكن ناجحة»[24]، وبذلك اكتشف المذهب الذاتي للمعرفة «أنّ طريقة التوالد الموضوعي ليست هي الطريقة الوحيدة التي يستعملها العقل في الحصول على معارفه الثانويّة، بل يستعمل إلى جانبها أيضاً طريقة التوالد الذاتي»[25].
تلك لمحة موجزة في تعريف المذهب الذاتي للمعرفة، هذا المذهب الذي بشّرت به نظريّة المعرفة في كتاب «الأسس المنطقيّة للاستقراء».
«منطق الاستقراء» مدخل لدراسة «الأسس المنطقة للاستقراء»:
بالرغم من صدور كتاب «الأسس» قبل ما يربو على الثلاثين عاماً، إلاّ أنّ هذا الاكتشاف المعرفي جهله أو تجاهله الكثير من الباحثين، فلم يلقَ الاهتمام المناسب له في الجامعات ومراكز البحوث والدراسات الإسلاميّة، فلم يُدْرَس أو يُدَرَّس إلا في حالات محدودة ـ من قبل بعض تلامذة الشهيد الصدر! ـ، وكذا لم يكن موضوعاً للبحث العلمي، فضلاً عن أنّه لم يترجم ـ ترجمة علميّة دقيقة[26] ـ إلى اللغات الأخرى التي كان يطمح السيّد الصدر! في ترجمته لها.
وأضحى هذا الأثر الخالد حبيسَ رفوف المكتبات الشخصيّة لعشاق الشهيد! ومريديه، كرمز وذكرى للسيّد الشهيد! الذي تسلّل حبّه إلى أفئدة الملايين.
ويبدو أنّها ليست الحالة الأولى التي يهمل فيها عملٌ كبيرٌ، فقد أهملت «مقدّمة ابن خلدون» قرون عديدةً، حتى جاء من نفض الغبار عنها، ونبّه الباحثين إلى ما تكتنزه «المقدّمة» من رؤى وأفكار تأسيسيّة في «علم الاجتماع» و«فلسفة التاريخ».
يبدو أنّ السيّد «عمّار أبو رغيف» ـ أحد تلامذة الشهيد الصدر! ـ كان قد نبّه إلى هذه المسألة، فانبرى لإظهار وشرح أطروحة أستاذه، ودعوة العلماء والمفكّرين في العالم لدراستها والإفادة منها، حيث تمثّلت محاولته الأولى في صياغة مداخلة نقديّة مفصّلة على عرض نقديّ لكتاب «الأسس»، حرّره بالفارسيّة الدكتور «عبد الكريم سروش»، ونشره في إحدى المجلات الثقافيّة الصادرة في إيران، ثم كرّر نشره ثانيةً بعد سنوات في كتابه «تفرّج صنع».
فعكف السيد أبو رغيف على نقل بحث الدكتور سروش إلى العربيّة، وأعقبه بتقويمٍ موضوعيٍّ للنقود التي أوردها «سروش»[27].
وقد لاحظ السيّد «أبو رغيف» «أنّ العثرات التي يمنى بها دارسو كتاب «الأسس المنطقيّة للاستقراء»، تعودُ في الدرجة الأولى إلى قصور في الفهم، أي إنّ الاعتراضات التصديقيّة التي تسجّل غالباً، ترجع أساساً إلى فقدان التصوّر السليم بشأن أطروحة «الأسس». وفي هذا المناخ ارتسم لي ـ والكلام للسيد «أبو رغيف» ـ دورٌ واضحٌ في الأفق، وحُملّتُ مهمّة أساس في المرحلة الأولى، ذلك أن أبدأ في بسط ما يلفّه الغموض من أطروحة الأستاذ، وتعميم إمكانيّة الإفادة من هذا الأثر الحيوي.
[ثمّ لقيت إصراراً من قبل بعض الأصدقاء على إيضاح الموقف من ملاحظات سروش النقديّة، فقدّمت هذا المهمّ، وصدر كتاب «الأسس المنطقيّة للاستقراء في ضوء دراسة الدكتور سروش»]، وما زادتني معالجة دراسة «سروش» إلا إصراراً على ضرورة إعادة تظهير كتاب «الأسس»، وكسر الطوق الذي يحلو للبعض أن يقيّدوا به هذا الكتاب، ذلك أنّ تعميم الثقافة التي بشّر بها هذا الكتاب أصبح واجباً فكريّاً أكيداً»[28].
من هنا ولدت محاولته الثانية، متمثّلة في كتاب «منطق الاستقراء» الذي جعله بمثابة البوّابة، وبتعبير آخر «المدخل المنهجي» الذي ينبغي أن يلج من خلاله الدارسون لكتاب «الأسس»، فيتوفّروا آنئذٍ على التعرّف على المقدّمات التمهيديّة، التي توصلهم إلى استيعاب الأبحاث والمسائل التحليليّة الدقيقة المعمّقة التي اشتمل عليها كتاب «الأسس»، وحينئذٍ لا يقعون في الاشتباهات التي تعرّض لها بعض من حاول نقد أطروحة الكتاب قبل الاستيعاب الصحيح لأطروحته.
وعلى هذا الأساس تأكّد البُعد المدرسيُّ في كتاب «منطق الاستقراء»، كما أوضح ذلك مؤلّفه بقوله:
«أؤكّد أنّ محاولتي في هذه الدراسة محاولةٌ تعليميّةٌ في روحها العامّة، ومن هنا حاولت عرض الكثير من قضايا البحث بشكل مبسّط جدّاً، خصوصاً قضايا الرياضة البحتة، وعليه سيغفر لي المختصّون في هذا الحقل الخروجَ عن مألوف طريقتهم، لأنّ مخاطبي ـ في الأعمّ الأغلب ـ يحتاج إلى إيضاحات ترجع في بعض الأحيان إلى المبادىء الأوّليّة في الحساب»[29].
ولأجل تحقيق هذا الهدف، عمل على إلقاء الفصول الرئيسيّة في كتابه هذا على بعض النابهين من طلاب الدراسات الإسلاميّة، بعد الفراغ من كتابتها، كما أشار إلى أنّه حاول كراراً أن يعيد النظر في مضامين ما طرحه[30].
وبذلك يمكن القول إنّ أطروحة «الأسس»، أصبحت في متناول الدارسين، بعد صدور هذا المدخل الشارح «منطق الاستقراء»، الذي نأمل أن يوفّق الله مؤلّفه الكريم لإصدار القسم الثاني منه.
بيد أنّ ما يلوح في الأفق ـ وأرجو أن لا أكون متشائماً ـ أنّ «منطق الاستقراء» قد يتعرّض للتجاهل والإهمال، كما تعرّض من قبل كتاب «الأسس المنطقيّة للاستقراء»، حيث مضى على صدوره حوالي سنتين[31]، ومع ذلك لم نقرأ أو نسمع خبراً أو قراءةً أو تعريفاً بهذا الكتاب، مع ما عُرف عن السيّد المؤلّف من قابليّته المتميّزة في شرح نظريّات أستاذه السيّد الشهيد الصدر!، ودفاعه التاريخي عنها منذ عشرين عاماً، حين تولّى الردّ على النقد والتشويه الذي كتبه «مهدي النجار» في مجّلة «الثقافة الجديدة»[32] التي كانت تصدر في بغداد في بداية السبعينات، ومن ثم نازل «ماجد رحيم» في ما نشره من «ملاحظات حول كتاب فلسفتنا»، في مجلّة «الغد» الصادرة في لندن عام 1983م، وأخيراً دراسته النقديّة الواسعة لما أورده الدكتور «سروش» على كتاب أستاذه «الأسس المنطقيّة للاستقراء»، والتي نشرها عام 1409هـ تحت عنوان: «الأسس المنطقيّة للاستقراء في ضوء دراسة الدكتور سروش»[33].
عبد الجبار الرفاعي
[1] مقدّمة في علم الاستغراب : 535.
[2] «التزريق» يعني «الحقن». (م)
[4] المدرسة القرآنية : 168 ـ 169.
[6] استغرق تأليف «الأسس المنطقيّة للاستقراء» حوالي سبع سنوات. (م)
[7] يروي السيّد كمال الحيدري أنّ علامات الحزن كانت مرتسمةً على السيّد الشهيد! في يوم من الأيام، فسأله عن سبب ذلك بعد درس «الأصول»، فأجابه بأنّه يشعر بأنّ كتاب «الأسس» سيضيع في وسط «الحوزة». وفي حادثة أخرى قال له: إنّي ألّفت كتاب «الأسس» حتى يتمّ تداوله في الحوزة بحثاً وتدريساً.. (م)
[8] الأسس المنطقية للاستقراء من وجهة نظر الشهيد آية الله محمّد باقر الصدر، الدكتور عبد الكريم سروش: .
[9] الأسس المنطقية للاستقراء من وجهة نظر الشهيد آية الله محمّد باقر الصدر: .
[10] الأسس المنطقية للاستقراء : 508. (م)
[13] يكتب السيّد الشهيد! في رسالة خطيّة :«الإلحاح علينا في كتابة الجزء الثاني من الفتاوى الواضحة شديدٌ. وعلى الرغم من إيماني بأهميّة ذلك إسلاميّاً من زاوية المرجعيّة إلا أنّي قدّمت عليه فعلاً التشاغل بالبحث المشار إليه سابقاً والذي كنت أشير إليه باسم «البحث في أصول الدين»، لأنّي أشعر أنّ ما تجمّع لديّ من المطالب في ذلك الحقل إذا لم أوفّق إلى تسجيله فعلاً فقد لا يسجّل بعد ذلك إطلاقاً، ولا أدري مدى التوفيق، نسأله سبحانه وتعالى التأييد والتسديد».(م)
[14] راجع بهذا الصدد أبحاث السيد الشهيد الصدر! التي دوّنها تلميذاه: السيّد كاظم الحائري، «مباحث الأصول»، القسم الثاني. والسيّد محمود الهاشمي، «بحوث في علم الأصول»، مباحث الحجج والأصول العمليّة.
[15] كان أمل السيّد الشهيد! في أن ينهض الدكتور محمود فهمي زيدان بترجمة كتاب «الأسس» إلى الإنجليزيّة، والدكتور عباس البستاني بترجمته إلى الفرنسيّة. (م)
[16] الدراسات الفلسفيّة 1: ، ماذا جاء حول فلسفتنا، السيّد عمّار أبو رغيف.
[17] منطق الاستقراء، السيّد عمار أبو رغيف : 7.
[18] الأسس المنطقية للاستقراء : 7 ـ 8 .
[20] الأسس المنطقيّة للاستقراء : 133. (م)
[21] الأسس المنطقية للاستقراء : 134. (م)
[22] الأسس المنطقية للاستقراء : 134 ـ 135 . (م)
[23] الأسس المنطقية للاستقراء : 135. (م)
[24] الأسس المنطقية للاستقراء : 139. (م)
[25] الأسس المنطقية للاستقراء : 139. (م)
[26] ترجم كتاب «الأسس المنطقيّة للاستقراء» إلى اللغة الإنجليزيّة من قبل الدكتور محمود فهمي زيدان، وطبع عام «1978»م، وقد وقعت الترجمة في «200» صفحة فقط. نعم، من المقطوع به أنّ الترجمة المذكورة لا تعبّر عن أفكار «الأسس» في مستواها العميق.(م)
[27] تجد نقد الدكتور «سروش» وردّ السيّد «أبو رغيف» في هذا المجلّد.(م)
[31] صدر كتاب «منطق الاستقراء» عام 1410 هـ عن «مجمع الفكر الإسلامي».
[32] الصحيح مجلة «الثقافة» التي كان يرأس تحريرها الدكتور صلاح الخالص، لا «الثقافة الجديدة». انظر ملاحظات النجّار وردّ السيّد أبو رغيف عليها في الجزء الأوّل من «الدراسات الفلسفيّة». على أن نذكّر بأنّ النصّ الأساس للردّ يرجع إلى الشهيد الصدر! الذي طلب من السيّد أبو رغيف إعادة صياغته. (م)
[33] انظر ملاحظات الأستاذ «ماجد رحيم» وردّ السيّد أبو رغيف عليها في الجزء الأوّل من «الدراسات الفلسفيّة»، وملاحظات الدكتور «سروش» وردّ السيّد أبو رغيف عليها في هذا الجزء من «الدراسات الفلسفيّة». (م)