الدولة والحكومة:
ربما يكون أهم سؤال تضعه الفلسفة المعاصر ويضعه الفلاسفة والمهتمون نصب أعينهم هو: كيف يمكن للفكر الفلسفي الإنساني أن يخرج من دائرة التنظير إلى دائرة التطبيق، من دائرة الوجود بالقوة إلى دائرة الوجود الفعل؟
وليس من شك بأن أولوية هذا السؤال جاءت تماشياً مع حاجات التنافس الاقتصادي والسياسي الشامل على الصعيد العالمي والإقليمي واستجابة للتطورات التكنولوجية المتسارعة منذ بداية القرن وخصوصاً في المرحلة الراهنة، فضلاً عن هيمنة الفلسفة البراغماتية التي بدورها تطرح على نفسها سؤالاً مماثلاً، ترى إن إجابة عليه ستعين المعيار الرئيسي للحقائق الإنسانية، والسؤال هو: كيف نستفيد عملياُ من الفكر الفلسفي؟ أو ما هي الوظيفة المباشرة التي يمكن للفلسفة أن تلعبها في حياتنا العملية، وراء التوجهات السياسية والمشكلات الخطيرة للمجتمعات البشرية؟
ويتوقع الفلاسفة المعاصرون إن الفكر الإنساني، فيما لو حقق ذلك التوظيف للفلسفة، فإنه سيخرج من أجواء الكسل، وسيطرح على المفكرين والمتخصصين مهمات أكثر تفاعلاً وأقل بطئاً، وسيضطر المتعاملين منهم إلى بذل جهود أكبر أو التقاعد، وسيحصل ذلك خصوصاً في البلدان التي لا يسود فيها أسلوب واضح ومحدد للحياة، أي في البلدان المتعددة الأنماط والثقافات كالوطن العربي وبعض بلدان العالم الثالث حيث ما زالت الأسئلة التي سنذكرها لاحقاً لم تلق سوى إجابات غامضة ومثيرة للخلاف، في حين وجدت في الغرب، إلى هذا الحد أو ذاك، إجابات مقبولة ومتناسبة مع الظروف والثقافة السائدة هناك.
وتدور أهم تلك الأسئلة وإجاباتها التي تجاوزت الكثير من الحواجز والحدود القائمة بين الفكر السياسي والواقع الاجتماعي حول:
أولاً: الحدود والفواصل بين الدولة والحكومة.
وثانياً: الحدود بين فلسفة القانون العقلية من جهة أخري والقانون التطبيقي المباشر باعتباره نتيجة لتصويت هيئات اجتماعية وشعبية من جهة أخرى. وسنحاول هنا الاهتمام بالبند الأول أو بالحدود والفاصل بين الدولة والحكومة.
اللقاء والفراق بين الدولة والحكومة
ـ الفراق من اجل الديمقراطية
توصلت الممارسة الديمقراطية الليبرالية وتوصل الفكر الغربي منذ فترة طويلة نسبياً إلى التفريق بين الدولة باعتبارها الوعاء المرجعي الشرعي الذي يعكس ويحتضن ويقرر شكل الممارسة السياسية في إطارها العام، وبين الحكومة التي تمثل التحقيق المباشر لتلك الممارسة (التعددية، سلطة النخبة أم السلطة الفردية المطلقة… الخ)، وبذلك يكون الغرب الليبرالي قد أدرك أهمية الفضل بين مفهومي الدولة والحكومة نظرياً وعملياً، بصورة تجعل الفكر والممارسة يطاردان بعضهما ويحث إحدهما الأخر، فها رغم عدم تماثلهما لا ينفصلان لا حاضراً ولا في المستقبل المنظور، لكنهما بنفس الوقت يرتبطان جدلياً بحيث يتنابذان ويتجاذبان ويتلاقيان ويفترقان في حركة تدافع جدلية مستمرة دون الحاجة من أجل تحريك المجتمع للأيديولوجيا، ودون الحاجة من أجل إنزال الفلسفة من برجها العالي إلى الواقع الاجتماعي للايديولوجية، المتبناة من قبل هذا الحزب أو ذاك..
إن بحاح الغرب في ذلك كان خطوة تاريخية جبارة لنقل الفلسفة إلى واقع الحياة العملية الإنسانية ونحو التأسيس نظرياً لبناء المؤسسات الديمقراطية التي يتحقق من خلالها التقدم الشامل، في حين ظلت نظرة لبناء المؤسسات الديمقراطية التي يتحقق من خلالها التقدم الشامل، في حين ظلت نظرة البلدان العربية وبلدان العالم الثالث وأوربا الشرقية غامضة وغير ناضجة، ولا تميز جيداً بين شكل الدولة ومضمون الحكومة بل تدمج بينهما أو تلحق إحداهما بالأخرى، وكثيراً ما تذوب تلك المؤسسات بمصالح الحاكم الذي ينفرد وحده داخل المجتمع بإمتلاك حرية شبه مطلقة ليصادر ويمتلك كل شيء بما في ذلك الحكومة بل ويسعى للهيمنة على الدولة والقانون وأحياناً حيازتهما، وغالباً ما يركبه تصور بأن الشعب والأرض وما عليها وما تحتها هما أيضاً من ممتلكاته. وسيكون الأمر أكثر غرابة إذا علمنا أن مصدر النظريات والأيديولوجيات الواردة إلى هذه البلدان المتأخرة هو الواقع الغربي والعقول الغربية التي اختارت شعوبها للحكم الشكل الديمقراطي الليبرالي.
وذلك يفسر انتشار مشاعر الغربة بين أبناء بعض الدول العربية وعالمثالثية إزاء دولهم وحكوماتهم وأحياناً أزاء الوطن ذاته، والمثال الصارخ على ذلك هو العراق، ويمكن ملاحظتهم وهم يفتخرون عند إفلاتهم من القانون بدافع الاستفادة الشخصية الممتزجة بروح العداوة والكراهية للدولة (الأسيرة) للحكومة التي تضغط حريتهم وتعرضهم للخوف والقلق الدائم وتقوي عندهم مبدأ الإحساس بروح الجماعة على حساب التضحية بحرية الفرد أو ربما بكرامته!!
وظاهرة الكراهية هذه تختلف كثيراً عن تهرب الشركات والأشخاص في الغرب من القانون وبصورة خاصة في مجال دفع الضرائب أو ما يماثلها، فدافع الفرد (الغربي) في عدم الالتزام بواجباته الضريبية كاملة هو الفائدة المادية الخاصة وليس للكراهية والاغتراب أثر كبير فيه.
ـ اللقاء من أجل الشمولية
ومن أجل الإمساك بأحد المرتكزات الأساسية للديكتاتورية لا بد من البحث في الأشكال النظرية والتاريخية للفكر الفلسفي الأوربي الذي كان مؤثراً بين أوساط الديكتاتوريات الفاشية والإشتراكية التي قامت في أوربا خلال القرن المنصرم. وحينذاك سنكشف بأن أي بحث فلسفي سياسي جاد ومن أي مكان أو نقطة ينطلق سيضطر إما أن يلتقي أو يفارق الفلسفة السياسية الهيجلية أو الماركسية، ولذلك سنحاول بحدود الممكن إلقاء الضوء على حقيقة ميولهما المؤسسة الشمولية السياسية عند الإجابة على الإشكاليات الثلاثة السالفة الذكر.
الهيجلية
ورغم إننا لا نستطيع التأكيد القاطع بأن هيجل كان قد اختار عامداً الدولة الشمولية الديكتاتورية، لكننا في المقابل لا نتصور بأن فيلسوفاً لم يكن مدركاً إن نظريته في الحق وفهمه وخططه لحركة التاريخ لا تؤديان منطقياً، في حال تبنيهما وتطبيقهما، إلى قيام ديكتاتورية مجللة، إلى هذا الحد أو ذاك، بطابع روحي وصيغة إنسانية صوفية، ولذلك سنضع جانباً أمر ميوله السياسية الخاصة (كالمركزية الأوربية أو الاستعمارية والمركزية السياسية)، ونتعامل موضوعياً مع مفاهيمه ومقولاته التي بدت بوضوح إنها اختارت النظرة العالمية الشاملة انطلاقاً من تفسير كوني غائي ينظر للعالم على إنه كائن حي واحد يدرك سننه وأفعاله الذاتية ويتصرف كنسق مترابط لا يسمح إلا للمنسجمين والمتسقين معه بحياة حرة أو سوية. ولا يخفى ما لتلك الفكرة التي تماثل بين الكون والكائن الحي من تشجيع على تبني الشمولية على شكل رسائل قومية أو شعبية أو اجتماعية مرفوعة إلى درجة المقدس والخالد.
إن ما تقدم يعني تمهيداً لتطبيق بناء نظام كلي شامل ومترابط، ويفسر اندفاع تلاميذ هيجل الماركسيين (خصوصاً الماركسيين اللينيين) والنيشويين إلى بناء أنظمة جديدة (بغض النظر عن النيات الحسنة أو السيئة) مثل دول المنظومة الإشتراكية الستالينية وألمانيا الهتلرية وإيطاليا موسوليني القائل (إذا لم تكن حكومتي من الشعب فإنها من أجل الشعب)، خصوصاً عن أنظمة عربية وعالمثالثية أكثر بؤساً من نظرياتها الأوربيات، ربما بسبب تفاخرها الرجعي بالتخلف ولأنها تباهي بما تقترف من آثام ضد أبناء شعوبها بطريقة لا تختلف كثيراً عن ما تفعله (ديكه المزبلة).
إن دراسة معمقة لفيومينولوجيا الروح وفلسفة الحق عند هيجل تجعل القارئ الذكي يتلمس عدم وجود مكان للفردية البشرية أو الإنسانية في النسق الإجتماعي والسياسي الذي ترسمه تلك الفلسفة، إذ لا يحصل الشخص (الفرد) بداخلها على أية فرصة لارتكاب الخطأ والصواب، فما دامت الدولة أو المجتمع (حسب هيجل) ليس سوى إنعكاس مجسد أو ظلال للفكرة السامية المطلقة، فإن أي شيء سيسقط خارج النسق إذا ما فقد اتساقه مع الكل الكوني أو الاجتماعي المترابط المحاكي لحركة الفكرة والمأخوذ بنظرة شاملة تحاكي أيضاً نظرة كائن حي واحد، ولهذا لا بد للإنسان أن يذوب في النسق الكلي غصباً عن رغبته وإرادته الفردية، أو أن يكون كنابليون الذي نظر إليه هيجل باعتباره الحق على صهوة جواد، وذلك يعني إنه (نابليون) كان ممثلاً للفكرة المطلقة أو تجسيدها أو انعكاسها على الأرض، ويعني أيضاً إنه رغم جيوشه وجبروته لا يملك خياره وليس بقادر على مخالفة خطة أو غاية التاريخ المقدرة أو المرسومة أساساً في كتاب محفوظ في عالم الفكرة المطلقة التي لا تدرك والمتجسدة ظلالها واقعياً على شكل دولة.
الهيجليون والليبراليون
ولا يدرك أنصار هيجل الذين يرون الهيجلية فلسفة ليبرالية وبعيدة عن روح التعسف، بأن دفاعهم لا يحتوي على قضية حقيقية بل يدور حول نظرية فارغة غير قابلة للتنفيذ، فميشل ماتياس وهو أحد تلاميذ هيجل (في كتابه صفحة20) يقول موضحاً فكرة هيجل: (إن الإنسان لا يبلغ حريته إلا كمواطن، أعني من خلال عضويته في الدولة)، أي لا يمكن للفرد أن يوجد خارج الدولة. ويقول هيجل: (كل ما يكون الإنسان إنما يكونه من خلال الدولة، فوجوده لا يكون إلا من خلالها).. ويفسر (مارينان) وهو أحد نقاد هيجل المقولة الهيجلية التالية: (كل ما يمتلكه الوجود البشري من قيمة ـ كل واقع روحي ـ إنما يمتلكه من خلال الدولة) ثم يقول: (ما دامت الدولة (عند هيجل) هي الروح وقد تموضع فإن الفرد لا تكون له موضوعية ولا فردية أصيلة ولا حياة أخلاقية إلا بوصفه عضواً من أعضائها) (مارينان، التصور الهيجلي للدولة صفحة 163 وفلسفة الحق لهيجل فقرة 258 عن ماتياس صفحة 21). ورغم وضوح الشمولية فيما تقدم يظل ماتياس متحمساً في دفاعه الذي يفسر فيه الفردية عند هيجل بقوله: (إن ما يقوله هيجل يعني إن الإنسان الفرد لا يشعر بنفسه فريداً بغير نظير، ولا يكتشف فرديته إلا بعد التعرف على الكل الإجتماعي، لكن تحت شروط معينة).
بين هيجل ومحمد باقر الصدر
وكل تلك المبررات يمكن أن تكون أدلة سليمة على عدم إضرار هيجل بقضية الديمقراطية، لو كان مفهوم أو مضمون الدولة عنده يضعه البشر ويمتلكون حق تغييره بإرادتهم الحرة، وليس إنعكاساً عن فكرة مطلقة هي في حقيقتها لا تقع في مجال قدرة الإنسان على تناولها أو معرفتها أو التعامل معها سلباً أو إيجاباً، فنظرة هيجل للنظام السياسي الإجتماعي هي نظرة مطلق تتماثل بالنسبة للإنسان مع القدر الحاتم فتجعله عاجزاً ولذلك رأى السيد محمد باقر الصدر نقد تلك الفكرة الهيجلية مباشرة، وأيضاً بصورة غير مباشرة من خلال أحد تفرعاتها (الماركسية) ثم حاول تجاوزها بطرح فكرته الجديدة (منطقة الفراغ) في الفكر الاقتصادي الإسلامي، التي لا يمكن تعميمها أيضاً على الفكر السياسي الإسلامي أو الإنساني، يقول محمد باقر الصدر «وبعض المفاهيم الإسلامية يقوم بإنشاء قاعدة يرتكز على أساسها ملئ الفراغ الذي أعطى لولي الأمر حق ملئه. فالمفهوم الإسلامي عن التداول مثلاً الذي عرضناه سابقاً، يصح أن يكون أساساً لاستعمال الدولة صلاحيتها في مجالات تنظيم التداول، فتمنع ـ في حدود الصلاحيات ـ كل محاولة من شأنها الابتعاد بالتداول عن الإنتاج، وجعله عملية لإطالة الطريق بين المستهلك والسلعة المنتجة، بدلاً على أن يكون عملية إعداد للسلعة وإيصال لها إلى يد المستهلك» (اقتصادنا، ص 377).
وبهذا يستطيع الإنسان عند غياب الوحي أن يجتهد في إدارة شؤونه واختياراته السياسية والاجتماعية بما يتناسب مع التطورات الإنسانية والطبيعية الجارية مجرى الحياة، ولكن دون المس بالثوابت الإسلامية التي هي عامة وقليلة نسبياً ولا يتدخل في تفاصيل الحياة بما في ذلك اختيار شكل النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الوصف الهيغلي المتقدم (حول فردية الفرد التي لا تكتشف إلا بعد التعرف على الكل الاجتماعي) ربما لا يكون خاطئاً، بل إن الخطأ يكمن في تبني ذلك كسياسية أو على الأخص كأيديولوجيا سياسية يؤسس على قاعدتها حزباً سياسياً مؤدلجاً بنظرة عالمية شمولية ثابتة، أو أنها لا تتغير بفعل الإنسان الفرد أو المجتمع الإنساني لا يلعب بها سوى دور العامل المساعد.
تلك الفكرة التي جرى تعميمها لأول مرة بعد الرحيل المبكر لمحمد باقر الصدر في كتاب (أصول الضعف) للدكتور علي كريم سعيد (دار البراق) لتشمل الحياة السياسية ولتكون هناك منطقة فراغ ليست اقتصادية فقط بل ولكل أشكال السعي في كل مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وليستطيع الإنسان الفرد من خلالها أن يعبر عن نفسه بحرية ودون قيود نظام كوني شمولي معين. وبذلك يكون السيد الصدر، بعد التعميم المذكور، أول مفكر إسلامي يؤنسن فكرة الدولة التي كانت (قبل ذلك التعميم) عند الإسلاميين كما عند الهيجليين والماركسيين وامتداداتهم الفلسفية والسياسية النيتشوية واللينية غائية وذلك نسق كلي يصادر حرية الفرد، كما يكون السيد محمد باقر الصدر قد أدخل تعديلاً على نظرية (أهل الحل والعقد) الإسلامية مؤسساً لفكرة إن الشعب بكامله يستطيع الاختيار بواسطة الانتخابات ما دامت الخيارات السياسية تقع ضمن حقه في السعي، أي ضمن (منطقة الفراغ) عند غياب الوحي وعند تحقيق النضج الكافي للتخلص من وصاية الآخر البشري على عقولهم، مع شرط المحافظة على ثوابت الأديان أو الأمم.
ويذكر إن عدداً هاماً من المدارس الفكرية الشمولية التي نظرت إلى فكرة الدولة على إنها روحية وغائية، هي في حقيقتها نظريات ومدارس وضعية بشرية بما فيها المدرسة الهيجلية والنظرية الماركسية التي تنظر لمسيرة الدولة في نشأتها وتحليقها وتغيراتها واضمحلالها كما تنظر إلى مخطط فوقي مرسوم أو موضوع سلفاً.
الليبراليون: التدافع الجدلي بين الدولة والحكومة
ينظر الليبراليون للدولة ومؤسساتها وقواعدها المعتمدة على دستور وأعراف ومعايير (ضوابط) ثابتة إلى حد كبير على إنها تشكل (وعاء) تدخل إلى الحكومة من خارجه بعد أن تكون قد أعلنت في برنامجها التزامها بثوابت ومعايير الدولة التي صوت عليها الناس قبل مجيء الحكومة، وستستمر تلك الثوابت رغم تبدل الحكومات بأخرى بين دورة انتخابية وأخرى.
فالدولة (الوعاء) هي الثابت والحكومة هي المتغير، وتقوم بينهما خلال ارتباطهما المؤقت علاقة جدلية شاملة، علاقة وحدة وتضاد، ليطغى بعد تراكم الخبرة مبدأ التغيير النوعي، ذلك التغيير الذي تذهب الحكومة القائمة ضحية له فتتبدل بأخرى أكثر حيوية وتطوراً، وحسب الليبرالية ليس من الضروري أن يجري كل ذلك بصورة عنيفة أو حسب خطة سابقة مرسومة من قبل مخطط غامض، أو حسب رسالة أو مسيرة ذات طبيعة وإرادة كونية لا يتجاوز دور الإنسان فيها أكثر من العامل المساعد.
وبالنسبة للحالة التي نحن بصددها فإن عناصر التدافع الجدلي والحكومة هي: الانتخابات والتنافس والحوار البرلماني والنزعات والخيارات الحزبية والشعبية الحرة فصلاً عن الثوابت الوطنية والدينية والتغيرات التي تطرأ على الأبنية العلمية والتكنولوجية وغيرها من دوافع التقدم الإنسان الأخرى، وهي جميعاً تتجاذب مع كل حكومة جديدة تدخل وعاء الدولة الأكثر منها ثابتاً، وتدفع إلى التغير والتطور أو إلى المحافظة على ما كان تبعاً للفكر والأيديولوجيا التي تتبناها هذه الحكومة أو تلك. وبذلك تكون الحكومة بعناصرها المختلفة بالنسبة للدولة عنصر تنفيذ وتحرك غير معطى مسبقاً.
وكما لا توافق الليبرالية على دولة تقوم على إرادة تأتي من قوة خارجة عن إرادة الناس، دولة مضمونها معطى سابقاً أي معطى قبل ممارسة العملية الانتخابية البرلمانية (الديمقراطية) فهي تسعى من أجل دولة تأخذ مضمونها وإرادتها(كما وردت عند روسو) من مجموع(الإرادات) فهي (أي الدولة) ليست سوى وعاء يحتوي على ثوابت عامة ويستمد مضمونه الاجتماعي والسياسي من المجتمع ذاته، من مستوى فهم الناس وإرادتهم بغض النظر عن نضجه أو عدمه، ويتبدل ذلك المضمون كلما طرأت تغيرات على نظرة أفراد المجتمع، ولا يصح عندهم(الليبراليون) نتيجة لذلك تجاوز إرادة الناس تحت أي عنوان، سواء كان أيديولوجياً أو غاية تاريخية(سماوية)، وإن أي تجاوز على فهم الناس سيعني استعمارهم أو على الأقل التعامل معهم من خارج تجربتهم، وذلك التجاوز فيما لو حصل سيشكل الخطوة الأولى نحو الشمولية والديكتاتورية السياسية وفرض الرأي الذي يدعي معرفة المستقبل ومعرفة خطة التاريخ الضرورية!!
الحكومة إذن تدخل هيكل الدولة(الوعاء) من خارجه بعد أن تكون قد تسلمت السلطة وفازت ببرنامج يتوافق مع شروط وثوابت الدولة المتعاقد عليها اجتماعياً، وبالطبع ستخرج (أي الحكومة) من وعاء الدولة حالما تعجز عن إنجاز برنامجها المعلن الذي يصبح بعد تصويت الناس له يمثل إرادة الأكثرية في المجتمع. ولا تضع الليبرالية شروطاً على الدولة غير كونها تأتي نتيجة لعقد اجتماعي يضع أفكاره وقواعده الناس أنفسهم بحسب مستوي تطور العلاقات القائمة بينهم وبحسب وعيهم الحضاري والاجتماعي.
ويقد الليبراليون إن دولتهم الديمقراطية لا يمكن لها، في أي حال من الأحوال، أن تبلغ الكمال ما دامت البشرية لم تستكمل بعد معرفتها لكل قوانين وسنن وأسرار الكون، وهذا النقص في المعرفة سيبقى مستمراً لفترة طويلة وربما نسبياً إلى ما لا نهاية، وفي هذا وليس غيره يمكن سر اختيار الليبراليين للدولة ذات الأسس التجربية، الدولة التي يعاد انتخاب حكومتها بعد كل بضع سنوات، كي يتكرر في كل مرة النشاط والتنافس الدافع للتطور والتقدم، والذي يزيد تنوع ألوان الحياة ويعطي سبباً معقولاً لعدم الملل من العيش فيها، ومقاومة اليأس، أي مقاومة مالا يعجبنا فيها.
مصدر الدولة بين الهيجلية والماركسية
يرى الليبراليون إن مصدر الدولة هو القانون الذي تقرره أو توافق عليه الأغلبية البرلمانية أو بواسطة الاستفتاء، ولا يهم هنا صحة القانون موضوعياً بل المهم هو موافقة الأغلبية عليه استناد إلى العقد السياسي الاجتماعي وفردياً، حيث يستطيع الفرد تحقيق ذاته ضميراً وإرادياً دون تدخل مزاج الديكتاتورية أو النخبة المهيمنة.
وحينذاك يصبح من الممكن تأجيل موضوع تحقيق الحرية في شكلها النهائي التام، وتركه للمستقبل وتطوراته وإلى تطور مضمون الاختبار الإنسانية.
وبعكس النظرة الليبرالية يرى هيجل إن الدولة هي الفكرة المطلقة وقد تجسدت أو تكشفت ظلالها على الأرض، وبذلك تصبح(الدولة) مصادرة أو مفهوماً تقرر مضمونه الاجتماعية المتموقعة بعيداً عن الأرض)..
أما مصدر الدولة عند هيجل فهو أيضاً القانون، لكنه القانون المعطى من تجربة عقلية معطاة بدورها من معرفة منطقية سليمة الشكل ليست في حقيقتها سوى حاصل إنتاج عقل فردي أو عدد من الأفراد يعيشون على الأرض، ورغم ذلك فهي، حسب هيجل، تعكس نسبياً المطلق الذي تنعكس عنه الدولة.
ويتماثل كارل ماركس معه عندما يرى انها( الوعي الاجتماعي ) في أية قضية إلا في حالة أخذ رأي الناس بحرية تامة، وذلك يعني إسقاط (الطريقة) التي اقترحها نظرياً كل من كارل ماركس ولينين وكثرين غيرهم، باضطهاد ثقافة الآخر المعارض لما أطلقوا عليه (الدور التاريخي للطبقة العاملة) إذ ستسقط الجماهير في دائرة خصوم الطبقة العاملة إذا ما انتخبت برنامجاً منافساً لبرنامج حزب الطبقة العاملة سواء كان يمثلها فعلاً أم لا، لأن الدور التاريخي يعني الحتمي والضروري والمقدس ويعني رفض نتائج الانتخابات المعارضة لإرادة التاريخ. ولكننا ربما نستطيع أن نتلمس أو نحصل على (الوعي الاجتماعي) باستبدال ديكتاتورية الحزب الماركسية بالممارسة الليبرالية البرلمانية الواقعية الحرة، لتبقى وتفوز الفكرة الأكثر صلاحية، لأن البرلمان وحده يمكن أن يعطينا الرأي الاجتماعي (للأكثرية) أو (الوعي الاجتماعي)، في حين لن يكون ممكناً بالطريقة التي رسمها هيجل ونيتشة وهتلر وماركس ولينين وستالين وغيرهم أي كسر الدولة والمجيء بدولة أخرى تتماثل أفعالها وخططها مع الإرادة الكلية للكون أو التاريخ، لأنه يعني سحب حق الاختيار من الناس المصلحة الخطة التاريخية المرسومة قبلاً، ذلك يقضي حتماً على وجود رأي عام حقيقي. ويعني القضاء على دولة المجتمع المدني الديمقراطية التي تقابل دولة الفكرة الكلية الديكتاتورية التي لم تستطع الوصول إلى نتيجتها المنطقية وغايتها الموعودة بل انهارت قبل تحقيق حلمها رغم قوة الهيمنة التي ميزت نماذجها كالدولة السوفيتية والنازية والدولة كانت قد تبنت نظريات هي أقرب للادعاء النظري من الفكرة العلمية المختبرة، والمؤسف أنه إدعاء نظري خطير يدفع معتنقيه إلى عصبية يصعب عليهم الفكاك منها، إذ يرتفع فيها الإنتاج الفكري النظري الإنساني إلى مستوى الديني المقدس، وأحياناً يجري عقاب معارضيه بالموت.
التجربة المتعينة تدحض التخمين الجدلي!
ويتحدث هيجل في حقيقة الأمر عن فكرة الدولة وليس عن دولة معينة بذاتها، لكني لا أشك لحظة واحدة بأنه كان قد كتب فكرته وفي ذهنه وأمام موخيلته تشخص الدولة البرويسية الألمانية، خصوصاً وكان قد عبر أكثر من مرة عن ميوله القومية وسعى لتشجيع امراء ألمان على غزو الشرق واستعماره، ولذلك وضع على الورق أوصاف وخصال تميزت بها بروسيا مثل الضبط والميل الشديد لتوحيد الأمة الألمانية بالقوة.. ورغم النواقص فقد اعتقد إن الدولة الألمانية أو الأوربية الغربية في طريقها إلى التحول إلى (الدولة الفكرة)، وستسارع في تحولها ذلك بمقدار ما تقترب به من (الفكرة السامية) أو صورة وماهية الحق والصواب الذي معياره الفكرة المطلقة البعيدة تماماً عن إدراك الإنسان لها، وجل ما يستطيع إدراكه منها هو فهمه أو إدراكه الخاص لها هو وعيه الخاص للطبيعة والمجتمع والإنسان التي ليست سوى انعكاس وظلال لها على الأرض.
وكان هذا المبدأ، كما أشرنا سابقاً، يصلح كأساس لبناء مجتمع ودولة ديمقراطية معقولة مثلما تفعله الفلسفة البراغماتية حالياً في الغرب، إذ يمكن جعل ظلال الفكرة (المجتمع) يسعى بصورة منتظمة للتكامل الموجود في الفكرة المطلقة، وحينذاك سيكون ممكناً الإقرار بالنقص المعرفي البشري وترك مهمة تقليصه إلى الخيارات البرلمانية والاستفتائية وبواسطة تحرير عمل وسائل الاتصال بين الناس وغيرها..
لكن هيجل الذي يوافق على وجود فكرة النقص المعرفي لا يرى إمكانية ردمها إلا بعد تحقيق غاية الدولة، عبر الإرادة الكلية التي هي ليست في كل الأحوال تجريبية، وإذا علمنا إن كل شيء غير تجريبي لا يقبل المحاولة والخطأ لأنه مجرد قالب عقلي جاهز لن يقبله أو لن يتفق المجتمع والإنسان على قبوله إلا إذا فرض عليه بالقوة وهذا بدوره يستدعي تنظيم الدولة ومؤسساتها القمعية بصورة تستطيع معها القيام بمهمة الفرص المذكورة وهو ما مهد له ماركس ونفذه لينين كعارف ممتاز للماركسية وجعله ستالين وطاقم عظيم من المثقفين الروس والعالمثالثيين أمراً واقعاً بعد أن غيروا مقولة (الفكرة المطلقة) إلى (رسالة تاريخ)، وفي تقديري إن اختلاف الهيجلية عن الماركسية هنا ليس سوى خلاف مقولة.
هيجل بين الدولة المطلقة والمجتمع المدني
وتميز الهيجلية بين المجتمع المدني والدولة على أساس إن المجتمع المدني لو ترك الحالة لأقام دولة العقد الاجتماعي التي أساسها المشاركة الخارجية ومستوى الفهم السائد في المجتمع، في حين ان الدولة التي يريدها هي أيضاً دولة العقد الاجتماعي ولكن بعد استيلاء النخبة أو القائد (المعارف) على السلطة وتثقيف وترقية المجتمع بموافقته أو عدمها حتى يصبح جاهزاً لكي يوافق على ما تسميه الهيجلية بعقد اجتماعي أساسه العقل وليس الاختيار الشعبي الحر، وهذه من وجهة النظر الهيجلية هي الطريق إلى بناء الدولة السليمة، وهذه في النهاية ليست دولة المجتمع المدني إلا إذا مثل المجتمع المدني فيها مرحلة من مراحل الدولة العقلية وعنصر من عناصرها اللاحقة، فينطبق عليه المثل القائل(عش فقيراً حتى يأتيك الربيع)..
وفي الواقع فإن هيجل في نظريته لنشاط الفرد داخل المؤسسة الأكبر (الدولة) يقع في تناقض مع فكرة الجدل الرئيسية (الوحدة والتناقض) عندما يرى إن نشاط الفرد المدني سيذهب أحياناً خلال محاولته لإشباع رغباته الذاتية وإرضاء مصالحة الجزئية باتجاه مضاد للإرادة الكلية المطلقة، في حين كان الأمر يتطلب تفهم تلك الغاية الكلية والسيد بمسارها، لذا لا يمكن للأفراد بلوغ غاياتهم إلا إذا حددوا معرفتهم وإرادتهم وعملهم وفقاً لطريقة كلية، وجعلوا من أنفسهم حلقات في سلسة العلاقات الاجتماعية (هيجل، فلسفة الحق، فقرة 187، عن ماتياس 26). وهذا لن يتم دون تدخل الدولة لضبط نشاط الأفراد، التي ستضطر في سبيلها لتحقيق ذلك إلى الحد من الحرية بصورة تتناسب مع مستوى خروج الأفراد من النسق المفروض.
وهذا الأمر لا يؤدي إلى التطور الكلي كما قرره هو بل إلى ضعف المجتمع وانتقاله من حيوية الحياة إلى سكون المقابر، وإلى كتلة صماء منسجمة يصعب على الإرادة الفردية الحرة التحرك بداخلها، بل يتطلب الأمر ذوبانها في كيان الدولة المتماسك على شكل كائن حي تتناغم حركة جميع أجزائه (السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وكل إرادة أفراد المجتمع وغيرها) مع كليته كانعكاس لوحدة وكلية الفكرة التي تتموضع على الأرض على شكل خطة عامة يجب أن تنخرط في سياقها كل عناصر الدولة والمجتمع، وحينذاك سيكون ممكناً تحقيق دولة الإرادة الروحية التي تقدم الخير للجميع(راجع جاك ماريتان (الفلسفة الخلقية) صفحة 163)، يروي هيجل استناد لما تقدم بأن الشعب، حتى يمتلك الحرية الكاملة أي حتى يقيم دولته العقلية التي يتحد فيها الفرد غاية وإرادة، يجب أن يصل إلى ذلك مستوى عال من المعرفة العقلية حتى يصل المجتمع إلى مستوى الحاجة إلى الحرية.
وهذه الفكرة الهجيلية الأخيرة تعتبر واحدة من الأفكار المشجعة للشمولية السياسية، وهي تذكرنا ببار دجيس أحد مفكري الدولة الأميركية في بداية القرن العشرين الذي يقول: ( إن القسم الأعظم من الأرض تسكنه شعوب لم تستطع أن تقيم دولاً متمدنة وليس بمقدورها عملياً أن تقوم بمثل هذه المهمة، فقد قدر عليها أن تظل همجية أو شبه همجية، وإزاء هذا الوضع لا يقتصر واجبنا سياسياً على الاستجابة إلى توسلات الأمم المتخلفة، التي تلتمس المعونة والإرشاد، بل يتعدى ذلك إلى أرغام هذه الأمم على الخضوع والامتثال) (علي كريم سعيد، أصول الضعف، صفحة 152).
من الفلسفة إلى السياسة
وكما قلنا فقد كانت الماركسية قد فكرت بنفس الطريقة الهيجلية بعد نقلها إلى واقع الحياة العلمية، إذا اعتبرت أن أعظم شيء قامت به هو اكتشافها لوجهة سير التاريخ وفق خطة حتمية (لا يصنعها البشر بل يزيدون في تعجيلها)، وبذلك يتفق كلاهما على أن الإنجاز التاريخي الأهم لدولة الحديثة هو اكتشاف الإرادة العامة (لدى الماركسية الدور التاريخي للطبقة العاملة) كأساس للدولة العقلية. وكلاهما يريان، ولو بألفاظ مختلفة أهمية، حتمية اتحاد غايات الدولة والحكومة والأفراد، وأهمية اتحاد إرادتي الدولة والحكومة.
وإذا كانت تلك النظرة تمثل جوهر الفكرة الشمولية، فهي لا تعني إن هيجل أو غيره من المفكرين أو الفلاسفة يتحملون وحدهم مسؤولية قيام ديكتاتوريات العصر الحديث الشاملة سواء كانت اشتراكية أم رأسمالية فاشية ونازية بل ويتحمل السياسيون الذنب الأكبر بسبب توظيفهم لتلك الفكرة بما يخدم مصالح سياسة معينة، وهذا ما قصدناه من هذه الدراسة القصيرة واعتبرناه واحداً من الأدلة على ان القناعة العقلية (غير التجريبية) بقدرة الناس على المعرفة الكلية النهائية أو الانطلاق منها تشكل الأسس المعرفي للشمولية السياسية المفروضة.
سيكون هذا الموضوع فكرة أولى تخطيطة لجزء من فصل في كتاب أسعى من أجل الإعداد له مستقبلاً، ويدور موضوعه حول (الأصول الفلسفية للاستبداد) الذي سيتركز اهتمامه حول المفاهيم النظرية الفلسفية في توجيه السلوك الإنساني السياسي والاجتماعي، عندما يكون حاملاً لتلك المفاهيم المشجعة للميول الاستبدادية منذ أقدم العصور حتى الوضع الراهن، مثل مفهوم (الغائية ) و(الترابط السببي الكوني الشامل)
والحتمية التاريخية، ومبدأ (ضرورة وحدة الرأي)…الخ.
د. علي كريم سعيد