منهج الباقر في تفسير القرآن

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

في الحديث عن السيد محمد باقر الصدر، تتذكر اولئك المفكرين الموسوعيين الذي حذقوا المعرفة بشتى ضروبها: فلسفة، فقها، سياسة، وحتى تاريخاً ومنطقاً. نتذكرهم في عصر اتسم بالتخصص والعمق الى درجة بات متعذراً معها على الباحث الاحاطة بمعارف خارج دائرة تخصصه واهتمامه.

نتذكر اولئك المفكرين امام تعدد معارف الشهيد الصدر وغزارة انتاجه في الفلسفة، في الاقتصاد، في المنطق، في الاجتماع، …. ، وحتى في التاريخ خصوصاً اذا ما قيس هذا التراث بقصر العمر التي لم يتح لسيدنا مواصلة هذا النتاج القيم، وبلورة نظريته ومفاهيمه على رغم وضوح افكاره وجلاء طروحاته. هذه المعراف نجدها في مؤلفات[1] قائمة بذاتها، كما نجدها في ثنايا خطبه ورسائله ومحاضراته.

لانطمح في صفحاتنا هذه إلى تناول فكر السيد الصدر بمضامينه وطروحاته، لأنها اضيق من ان تتسع لذلك. على امل ان تكون نظريته موضوع دراسات وأبحاث تفي الرجل حقه، وترتقي بالبحث الى مستوى يعادل اهمية تلك النظرية وابداع ذلك المفكر.

موضوعنا في هذه الصفحات هو منهج الشهيد الصدر في التفسير. نتناول فهمه لتفسير القرآن، رأيه في التفاسير السابقة، وظيفة التفير وهدفه، ومن ثم قابليته للحياة. واذا كانت التجربة هي المعيار في العلوم التجريبية، فان المقارنة هي المعيار في العلوم الانسانية. من هنا قدمنا للحكم على تفسير الشهيد الصدر بمهاد نستعرض فيه ماهية التفير وشؤونه، مقياساً نقارن به ما وصلنا إليه في دراسة منهج الشهيد الصدر وتقييم ذلك المنهج.

واذا كان الشهيد الصدر قد عرف بفلسفته واقتصاده ومنطقه، فان تفسيره لايقل اهمية عن كل ذلك، لا بل قد يكون الأكمل والأرقى من خلال استناد كل نظرياته وطروحاته على ذلك التفسير الذي، كما سنرى، يتجاوز ما عداه من تفاسير: انه تفسير متحرك يواكب الحياة ويسير مع الزمن، ليكسب النظرية القرآنية قيمومة تجابه ما يتحداها من نظريات وأفكار.

ما يطالعنا في استعراض مؤلفات الشيهد الصدر هذه الـ ((نا)) التي الحقها بفلسفتنا، واقتصادنا، ومجتمعانا[2].هذه الـ ((نا)) التي تحدد الهوية والانتماء: الهوية، الاسلام العقيدة والفكر. والانتماء، الحضارة والتراث.

فالباقر يرمي من خلال تلك التسمية إلى الرد على التحدي الذي جوبه به الاسلام، والفهم الخاطئ المتعمد لروح السالام حضارة وتراثا وناموساً للحياة.

فالانسان، كما فهمه الشهيد الصدر، خليفة الله في الأرض: ((إني جاعل في الأرض خليفة)) [3]، والله هو الهدف الأسمى والمثل الأعلى للانسانية جمعاء. وقف الشهيد الصدر امام استخلاف الله للانسان وائتمانه في الأرض، فساءه واقع ذلك الانسان يترنح قلقاً أمام قدسية الخلافة، ويتلوى ضياعاً امام شرف الأمانة. فقام يذكر الانسان بانسانيته املاً بالارتقاء بتلك الانسانية من دنس الواقع الى قدس الخلافة وشرف الأمانة.فكانت دعوته الى الانفتاح على رسالة الاسلام الحقيقية، وادراك وحدوية طريق الخلاص بالانضواء تحت لواء الاسلام نظاماً وسلوكاً وممارسة.

الاسلام، برأي الباقر، حده طريق الخلاص بعدما عانت الانسانية، وما زالت، من الوان القلق والتذبذب بين تيارين ملغوم كلاهما بقنابل الذرة وأساليب الدمار، الاسلام الباب الوحيد الذي لم يبق غيره من ابواب السماء واحة وحيدة في صحراء العصر.

خاب الأمل في كل من الماركسية والرأسمالية، على رغم اخلاص الكثيرين لهاتين الايديولوجيتين اللتني جعلتا انسان العصر غنيا شقيا ومتمدنا وحشا.

العلم كذلك لم يفلح في ان يكون بديلا كما كان يدعي، وانما أطل على البشرية بالقنبلية الذرية الفتاكة. فالعلم بدل ان يستأصل شأفة القلق من خاطر الانسان رسخ ذلك القل، وأخضع الانسان عبداً للقوة ورأس المال.

خاب الأمل في الاشتراكية والرأسمالية، وفضل العلم، ولم يعد غير الاسلام وحده طريقا للخلاص؛ ولكن أي اسلام؟ بالطبع ليس الاسلام التقليدي الجامد. الاسلام كما يفهمه الشهيد الصدر وكما يدعو إلى فهمه فهما متكاملا، فيرى الاسلام بالاسلام، ثقافة تستند إلى تحليل تنقية من كل ما شابه في عهود الجهل والظلام.

هكذا فهم الشهيد الاسلام، فهما كلفه كثيراً حتى حياته، ومن ذلك الفهم انطلق في تفسيره للقرآن، واستند في ذلك التفسير لطرح كافة نظرياته الفلسفية والاقتصادية والمنطقية والاجتماعية، واعتبار ذلك التفسير معياراً لصحة وصدق كل تلك المفاهيم والأفكار.

مدخل إلى التفسير: الحديث عن التفسير يطول ويتشعب، ولا تعنينا تفاصيله الا بقدر ما تشكل مهاداً نبسط عليه تفسير الشهيد الصدر، ومقياسا نقارن به افكراه، تمهيداً لتقييمه والحكم عليه.

تعددت تعريفات التفسير ودار الكلام بينه وبين التأويل، لكن التعريفات على تعددها التقت عند روحية واحدة؛ انه ((علم يبحث عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها واحكامها الافرادية والتركيبية، ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب وتتمات ذلك)) [4].

والحاجة إلى التفسير املتها دواع عدة منها:

ـ خصوصية الخط العربي الذي يقدم هيكله المرسوم مقادير صوتية مختلفة. ففي الآية ((هو الذي يرسل الرياح بشرا)) [5] يصح ان تقرأ نشرا بدل بشر.. كما في الاية ((وما كان استغفار ابراهيم لأبيه الا عن موعدة وعدها إياه)) [6]؛ هنا قد تقرأ أباه بدلاً من إياه. على ان هناك بعض الايات التي تودي فيها هذه الاختلافات البسيطة إلى دلالات متناقضةع كما في الآية: (ياقوم انكم ظلمتم انفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا انفسكم ذلكم خير لكم)) [7] في هذه الآية قد نقرأ ((أقيلوا انفسكم)) بدل ((اقتلوا)) [8].

ـ دعوة القرآن في كثير من آياته إلى الاجتهاد في استنباط المعاني المحتجبة وراء ظاهر الآيات: ((فاعتبروا يا أولي الأبصار)) [9]؛ ((وما يعلم تأويله إلا الله) [10]، ((هل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون)) [11] ((ليتدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب)) [12].. وغيرها كثير مما يدعو للتأمل والكشف والتفكر في ما يكمن وراء ظاهر الآيات.

ـ كما في الآيات، دعت الأحاديث كذلك إلى معرفة ماوراء الآيات: ((مما نزل من القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن، ولكن حرف حد ومطلع)).

ـ اختلاف العلماء في المقدار الذي بينه النبي لأصحابه من القرآن: منهم من ذهب الى أن النبي بين لأصحابه كل معاني القرآن، كابن تيمية[13] مثلاً. حجته في ذلك الآية:

((لتبين للناس مانزل إليهم)) [14] في حين ذهب آخرون إلى أن النبي لم يبين لأصحابه من معاني القرآن الا القليل[15]، فمن اقتصر على المنقول اليه فقد ترك كثيراً مما يحتاج اليه، ومن أجاز لكل أحد الخوض فيه فقد عرضه للتخليط[16].

ـ اما العامل الأكثر اهمية في وجوب التفسير، فهو انضواء شعوب غير عربية تحت لواء الاسلام، تجهل لغة القرآن. هذه الشعوب بحاجة لمعرفة دينها ومبائه. يضاف الى ذلك ان صلة الاسلام بالحياة، ومنزلة القرآن من حيث هو مرجع للمسلمين في مختلف شؤونهم، جعلت تدرج الحياة ينعكس جلياً على القرآنع ويوجه التفسير وجهات متعددة استلزمتها متطلبات الحياة وضرورات التجديد[17].

وأمام تفسير الشهيد الصدر، نضيف إلى هذه الدواعي واحداً ذا وجهين:

ـ اعادة النظر في كل التفاسير السابقة والتي يضعها السيد محمد الباقر تحت.

عنوان التفسير التجزيئي، ادت إلى سلبية ساهمت، من خلال التناقض والتباين، في بروز غير مذهب في الاسلام.

فالتفسير اتاح لكل مفسر تبرير مذهبه واتجاه من خلال اسناد رأيه إلى القرآن، مثل مسائل الجبر والاختيار وما عداها[18].

ـ وجوب ايجاد بديل لهذه التفاسير هو المنهج الموضوعي الذي يقترحه السيد الشيهد الصدر لتلافي سلبية التفاسير السابقة من جهة، والكشف عن قيمومة النظرية القرآنية من جهة ثانية؛ ومواكبة تلك النظرية للحياة في شتى الميادينت من خلال استنطاق الآيات وفهمها فهما علمياً تحليلاً يواكب الحياة في ما يجابهها من نظريات وأفكار تطرح بدائل عنها[19].

تدرج التفسير وأنواعه: زمن النبي لم تكن هناك حاجة للتفسير، حيث كان(ص) يبين لأصحابه كل ما يحتاجون اليه من دلالات الآيات. اتى بعده الصحابة يفسرون بما أثر عنه فسمى تفسيرهم بالمأثور او ما عرف بأسباب النزول. تجدر الاشارة هنا إلى انه حتى عهد متقدم من القرن الثاني للهجرة كان ينظر الى التفسير بعين الارتياب، حتى ان الممثلين الأتقياء للمصالح الدينية وضعوا علامات الانذار والتحذير، فقد رفض عبيدة بن قيس العوفي (ت 72هـ)، من اصحاب عبد الله بن مسعود، ان يذكر شيئاً عن اسباب النزول قائلا: ((عليك باتقاء الله والسداد، فقد ذهب الذين كانوا يعلمون فيم انزل القرآن)) [20].

بعدها اخذ التفسير يستند إلى القصة والأسطورة، واذاً ورد التحذير من التفسير فلأن القرآن لايجوز تفسيره بالرأي، أي بالتفكير الذاتي، ولا بالهوى أي الميل الاختياري.

بعد ذلك تدرج التفسير، حيث ان علوما عقلية ونقلية وجهت التفسير وجهات مختلفة، اضافة إلى ان مقاصد وأغراضا سياسية في الحياة العملية ساهمت في توجيه التفسير، فتركت كباً ومناهج عديدة اثرت في مجرى الحياة والثقافة الاسلامية تأثيراً قوياً وفعالاً. فكانت الوان من التفسير حيث ان كلواحدة من الفرق الاسلامية كانت تتجه لتصحيح عقائدها على النص القرآني وتتخذ هذا النص سندا على موافقة مبائها للاسلام، ومطابقتها لما جاء به الرسول. ونتج من ذلك انواع من التفسير نذكر منها:

ـ التفسير بالماثور: هذا التفسير، سبقت الاشارة اليه، فيه يستند المفسر إلى ما جاء في القرآن أو السنة أو كلام الصحابة. من عيناته تفسير الامام البغوي[21].

ـ التفسير بالرأي: حيث يجتهد المفسر برأيه بعد ان تكون قد اجتمعت اليه شروط عدة، منها معرفة كلام العرب والوقوف على اسباب النزول وغيرها من شرائط التفسير. من عيناته تفسير الرازي(ت 544هـ) [22].

ـ التفسيرالفقهي: برز هذا اللون من التفسير عندما تعقدت العلاقات الانسانية؛ ولما كانت الأحكام الفقهية متصلة بمصالح العباد في حياتهم وآخرتهم،بررت الحاجة إلى هذا اللون من التفسير، اما تعدد الاتجاهات والاجتهادات. من عينات هذا التفسير تفسيرالجاص[23].

ـ التفسير الصوفي: هذا التفسير ينحصر بجمع ما تيسر من آراء الصوفية حول آيات القرآن. من عيناته تفسير السلمي[24].

ـ التفسير الفلسفي: هو تفسير عامودي يغوص إلى عمق الآية، ليستخرج منها ما يوافق فلسفة المفسر وعقلانيته، حيث يستند الى الفكر والمنطق. من عيناته تفسير ابن سينا[25].

وهناك كذلك التفاسير العلمية والاجتماعية و…..و….

قيمة هذه التفاسير: هذه التفاسير، على تعددها وتباين آراء اصحابها، تلتقي عند قاسم مشترك يجمع بينها. إنها احادية الجانب؛ تعبير عن حاجة، وسند لنظرية. وكما انها تبقى خاضعة للمبادئ التي تتحكم في كل تفسير غير مقيد بالتاريخ والظروف[26].

طبيعة التفسير عند الشهيد الصدر والحاجة إليه: كان التفسير في البداية يستهدف فهم مدلول الله، ذلك المفهوم وان بدا واضحاً متيسراً للكثير من الناس، إلا انه لم يبق على وضوحه بسبب تعقد اللفظ من حيث المعنى، ومن ثم ازدياد الفاصل الزمني. وكما سبقت الاشارة، فقد نتج عن ذلك تراكم القدرات والتجارب وتطور الأحداث والأوضاع[27].. ولم يبق التفسير التجزيئي يقتصر على آيات دون غيرها، وانما توسع وتكامل ليشمل القرآن بأكمله، بدءاً من سورة الفاتحة حتى سورة الناس.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: طالما ان النبي اعطى النظرية القرآنية بجملها، فما هي الحاجة إلى استحصال هذه النظريات؟

على ذلك يجيب الشهيد الصدر بأن انسان العهودالاسلامية لم تكن لديه أي حاجة للوقوف على هذه النظريات القرآنية، كان يعيشها، يعرفها معرفة اجمالية ارتكازية من خلال الواقع الاسلامي القائم، ذلك الواقع الذي تنتفي فيه أي حاجة للانسان في معرفة النظريات والمفاهيم.

ولكن الحاجة الى استخلاص تلك النظريات والمواقف تبرز اليوم مع بروز النظريات الحديثة، من خلال التفاعل بين انسان العالم الاسلامي وانسان العالم الغربي بكل ما يملك من رصيد عظيم وثقافة متنوعة في مختلف مجالات المعرفة البشرية[28]. هذا التفاعل الذي وجد فيه المسلم نفسه امام نظريات كثيرة في مختلف مجالات الحياة؛ رأى نفسه ملزماً في تحديد موقف الاسلام من هذه النظريات؛ وكانت وسيلته استنطاق نصوص الاسلام قرآناً وسنة وتراثاً، والتوغل في اعماق هذه النصوص ليصل إلى مواقف الاسلام الحقيقية سلباً وإيجاباً؛ ولكي يكتشف نظريات الاسلام التي تعالج المواضيع عينها، التي عالجتها التجارب البشرية الذكية في شتى مناحي الحياة. التفسير في مفهوم الشهيد الصدر: يميز السيد محمد باقر الصدر بين منهجين في التفسير: التفسير التجزئيي والتفسير التوحيدي الموضوعي، هذان المنهجان على رغم تباينهما، متكاملان.

أ ـ التفسير بالتجزيئي: يقصد السيد محمد باقر الصدر بهذه التسمية تناول جزء من القرآن: يأخذ الاية منفصلة ويعمد الى تفسيرها. قد يحتاج المفسر هنا اللجوء إلى آيات اخرى وقد يقود ذلك الى استخلاص دلالات للقرآن، الا انها تبقى بنظرة تجزيئية: معارف ومدلولات، تناثر وتراكم عددي، من دون أي ارتباط يقودنا إلى تحديد نظرية قرآنية لكل مجال من مجالات الحياة[29]

شيوعه: شاع هذا التفسير وسيطر على الساحة قرونا عديدة. ابز العوامل التي ساهمت في شيوعه النزعة الروائية والحديثية للتفسير. فالتفسير في البداية كان شعبة من الحديث: ماثورا كان او ما عرف باسباب النزول. كان الحديث الاساس الوحيد تقريبا، يضاف اليه بعض المعلومات اللغوية والادبية والتاريخية[30].

قيمة التفسير التجزئي واثره: على رغم شيوع هذا المنهج في التفسير، فان اثره، برأي السيد الصدر، كان سلبيا، من نتيجته التناقض والتابين اللذين كانا سببا في بروز غير مذهب في الاسلام. اتاح المنهج التجزيئي لكل مفسر تبرر مذهبه واتجاه من خلال اسناد رأيه إلى القرآن، مع ما يتبع ذلك من جمع للانصار والاشباع حول المفسر[31] ولعل المسائل الكلامية من جبر واختيار وما عداها هي خير مثال على صحة ما نقول.

ب ـ التفسير التوحيدي الموضوعي: يحرص السيد الصدر على اظهار ما يرمي اليه من مصطلح الموضوعية لئلا يلتبس بين الدلالة التي يعطيه اياها وبين الدلالة الشائعة. فيوضح انه لايقصد الموضوعية بدلالتها مقابل الذاتية، وانما الموضوعي نسبة الى الموضوع. فالتفسير الموضوعي هو محاولة القيام بدراسة المواضيع القرآنية عقائدية كانت، اجتماعية او كونية وما إلى ذلك. كأن تتناول مثلا عقيدة التوحيد في القرآن، فتكون موضوعا يتجه التفسير إلى استنباطه من مدلولات الآيات ومعانيها. كذلك النبوة، الاقتصاد، …، …[32].

غاية التفسير الموضوعي وقيمته: بخلاف التفسير التجزيئي يرمي التفسير الموضوعي إلى تحديد موقف نظري للقرآن، وبالتالي للرسالة الاسلامية من خلال تناوله لواحد من مواضيع الحياة والكون.

نقطة الانطلاق في هذا الاتجاه هي الواقع والحياة: يبدأ المفسر من الواقع وينتهي إلى القرآن بخلاف التفسير التجزيئي الذي يبدأ بالقرآن وينتهي بالقرآن، مقفل، منعزل عن واقع الحياة[33].

التفسير الموضوعي تفسير جدلي يمنح القرآن قدرة على القيمومة، على العطاء الدائم والابداع في مواكبة الحياة، في حين تقصر اللغة عن الاتجاه بخط مواز، طاقة اللغة محدودة بخلاف كلمات الله:

((قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفذ البحر قبل ان تنفذ كلمات ربي)) [34].

المصطلحات التي نقف عليها في الكلام على هذا الاتجاه في التفسير: الحوار، الاستنطاق، الجدلية، مواكبة الحياة. هذه المصطلحات ترد في صلب اية نظرية معاصرة، وهذا ما يضع النظرية القرآنية في مكانها الطبيعي في مجابهة التيارات والافكار السائدة، خصوصاً عندما ينطلق من الواقع والحياة، إلى تزوده بخرات التجربة البشرية.

موضوعية التفسير تكسب افقا اوسع وعطاء ارحب واكثر من خلال انطلاقة من الترجبة البشرية، يزداد غنى بما تقدمه تلك التجربة من مواد. من هنا فانه السبيل الوحيد للحصول على النظريات الاساسية للاسلام تجاه مواضيع الحياة المختلفة.

شروط التفسير في كل من المنهجين: من المتعارف عليه في اوساط المفسرين ان شروط التفسير، لدى توافرها، تعطي المفسر الحق في تفسيره، او الايجوز ان يدعي المعرفة أي انسان المفسر الحقفي تفسيره، او لايوز ان يدعي المعرفة أي انسان. المفسر يجب ان تتوفر فيه شروط عددها التفتازاني في خمسة عشر علما لايكون مفسرا الا من توفرت فيه[35] اللغة، النحو، التعريف، الاشتقاق، المعاني، البديع، القراءات، اصول الدين، الفقه، اسباب النزول، القصص، الناسخ والمنسوخ، الحديث إضافة إلى الموهبة والاستعداد الشخصي.

اما عند الباقر، فكما تفسيره كذل هي شروط تفسيره مختلفة: ان يحمل المفسر كل تراث البشرية الذي عاشه، يحمل افكار عصره، يحمل افكار عصره، يحمل المقولات التي تعلمها في تجربته البشرية، ثم يضعها بين يدي القرآن ليحكم على هذه الحصيلة بما يمكن لهذا المفسر ان يفهمه، ان يستشفه ويستنطقه، ان يتبينه من خلال مجموعة اياته[36].

بين التفسيرين على رغم تمييزه بين الاتجاهين في التفسير، وتباين كل منهما في النتيجة بين سلبية وايجابية، فان الشهيد الصدر لايقول باستقلالهما اليقول باستغناء الواحد عن الاخر: الموضوعي يحتاج في سبيل تكوين نظريته الى تحديد مدولات تجزيئية يتعامل معها ضمن اطار الموضوع الذي يتبناه، في حين ان التفسير التجزئي يقف، من دون شك، على حقائق قرآنية من حقائق الحياة.

يختلف الاتجاهان في الملامح والاهداف ويتكاملان في الحصيلة الفكرية الواحدة.

المفسر في الاتجاه التجزيئي يستمع: النص يتحدث وهو يستمع، دوره هنا سلبي[37]. القرآن هو المعطي، عطاؤه بقدر استيعاب المفسر من خلال سعة افقه وانفتاح ذهنه وصفاء فكره، واحساطته باداب اللغة واساليبها، أي من خلال توافر الشروط المتعارف عليها لكل مفسر.

اما المفسر في الاتجاه الموضوعي ينطلق من واقع الحياة، يركز نظره على واحد من موضعات الحياة في أي ميدان يشاء: يرصد ما وصلت اليه تجارب الانسان وفكره حول ذلك الموضوع من مشاكل وما قدمه الفكر الانساني من حلول، وما طرحه التطبيق التاريخي من اسئلة ونقاط كل ذكل يشكل نقطة انطلاق يصل بعدها إلى الآيات القرآنية لا ليستمع، كما في الاتجاه التجزيئي، وانما ليطرح موضوعا جاهزا مشرباً بعدد كبير من الأفكار والمواقف البشرية، ينظر غليها من خلال القرآن، حيث يدور حورا بين المفسر والنص القرآني[38].

سؤال وجواب، المفسر يسأل والقرآن يجيب في ضوء الحصيلة التي استطاع ان يجمعها من خلال التجارب البشرية، من خلال اعمال الخطأ والصواب التي مارسها المفكرون على الارض.

هنا يصل المفسر إلى استنباط موقف القرآن من الموضوع المطروح وما يمكنه استلهامه في النص من نظرية.

من خلال هذا المنهج في التفسير نصل إلى نتائج ترتبط بتيار التجربة البشرية ويتحرك معها، يواكب صيرورتها. نتائج عبارة عن معالم واتجاهات قرآنية تتجدر من خلالها النظرية الاسلامية بشأن مواضيع الحياة.

واذا كانت السلبية هي خاصة التفسير التجزيئي، فان التفسير الموضوعي هنا، المستند الى الحوار مع الايات واستنطاقها، هو توظيف هادف للنص القرآني في سبيل الكشف عن واحدة من حقائق الحياة الكبرى.

المفسر في الاتجاه التجزيئي يبدأ بالقرآن وينتهي بالقرآن: يستمع يسجل، يخلي ذهنه من اية سوابق.

التفسير الموضوعي يتجاوز التجزيئي خطوة: فاذا كان التجزيئي يكتفي بابراز المدلولات التفصيلية للايات القرآنية، فان الموضوعي يتطلع، اضافة إلى ذلك، إلى ماهو اوسع، فيحاول ادراك اوجه العلاقة بين المدلولات التفصيلية ليصل إلى مركب نظري قرآني يشتمل في اطاره على كل واحد من المدلولات التفصيلية.

بمعنى اخر، يرمي الى التعبير عن موقف القرآن ازاء واحد من موضوعات الحياة، وهذه هي الدلالة التي يرمي إليها السيد من خلال استعمال المصطلح.

اما كلمة توحيدي فيعبر عنها الشهيد الصدر بالتوحيد بين التجربة البشرية والقرآن: لاتخضع هذه لذاك ولاالعكس، وصولا إلى استخراج المفهوم القرآني الذي يحدد موقف الاسلام تجاه هذه التجربة او المقولة الفكرية التي ادخلها في سياق بحثه[39].

كلمة في تفسير الشهيد الصدر: ذاك هو تفسير السيد الصدر ((موضوعي))، واقعي، حياتي، تفسير جدلي. واذا كان التفسير التجزيئي بكل ما يندرج تحته من تفاسير، احادي الجانب، تلبية لحاجة وسندا لنظرية، فان تفسير الباقر هو كذلك. الا ان ما يعطيه قيمة هو انه لم يلغ التفسير التجزيئي ولم يسقط اهميته، وانما اعتبر الباقر نهجه خطوة متقدمة على ذلك التفسير التجزيئي.

وما يزيد في قيمته التصاقه بالحياة. ومن خلال مصطلحاته: تراث البشرية، التجربة الانسانية، افكار الصعر، من خلال تلك المصطلحات يضع السيد الصدر النظرية القرآنية في مكانها الطبيعي في مجابهة التحدي الايديولوجي القائم.

عينات من تفسير الشهيد الصدر: لو اردنا الاستفاضة في عرض عينات من تفسير السيد الصدر لاوردنا مؤلفاته بكاملها من فلسفة واقتصاد ومجتمع ومنطقو .. و.. حيث انها كلها تستند إلى تفسيره. لكن ما نورده هنا هو على سبيل المثال ليس الا.

أ ـ ((وتلك الايام نداولها بين الناس)): ((هذه القضية في الحقيقة ترتبط بسنن التاريخ، المسلمون انتصروا في بدر حينما كانت الشروط الموضعية للنصر بحسب منطق سنن التاريخ تفرض ان ينتصروا، وخسروا المعركة في احد حيننما كانت الشروط الموضوعية في معركة احد تفرض عليهم ان يخسروا المعركة)) (المدرسة القرآنية) ص47 وما بعدها.

ب ـ ((ولكل امة اجل فاذا جاء اجلهم لايستأخرون ساعة ولا يستقدمون)): ((الاجل اضيف إلى الامة، إلى الوجود المجموعي للناس، لا إلى هذا الفرد بالذات او هذا الفرد بالذات، اذن هناك وراء الاجل المحدود المحتوم لكل انسان بوصفه الفردي، هناك اجل اخر وميقات اخر للوجود الاجتماعي لّولاء الافراد، للامة بوصفها مجتمعا ينشئ ما بين افراده العلاقات والصلات القائمة على اساس مجموعة من الافكار والمبادئ المستمرة بمجموعة من القوى والقابليات. هذا المجتمع الذي يعبر عنه القرآن الكريم بالامة، هذا له اجل، له موت، له حياة، له حركة، كما ان الفرد يتحرك فيكون حيا ثم يموت، كذلك الامة تكون حية ثم تموت، وكما ان موت الفرد يخضع لاجل ولقانون ولناموس كذلك الامم ايضا لها اجالها المضبوطة)).

(المدرسة القرآنية) ص 50 وما بعده.

جـ ـ ((ان الله لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم)) ((هذه الآية واضحة جداً في المفهوم الذي اعطيناه، وهو ان المحتوى الداخلي للانسان هو القاعدة والاساس للبناء العلوي. للحركة التاريخية. لأن الآية الكريمة تتحدث عن تغييرين: احدهما تغيير القوم ((ان الله لايغير ما بقوم)) يعني تغيير اوضاع القوم، شؤون القوم، الا بنية العلوية للقوم، ظواهر القوم، هذه لا تتغير حتى يتغير ما بانفسهم. اذن التغيير الاساسي هو تغيير ما بنفس القوم والتغيير النابع المترتب على ذلك هو تغيير حالة لاقوم، النوعية، التاريخية، الاجتماعية..)).

(المدرسة القرآنية)، ص56.

تعريفات في تفسير السيد الصدر

ـ الاتجاه التجزيئي في التفسير: ((المنهج الذي يتاول المفسر ضمن اطاره القرآن الكريم آية فآية، وفقا لتسلسل تدوين الايات في المصحف الشريف)).

ـ حصيلة تفسير تجزيئي: ((مجموعة مدلولات القرآن الكريم ملحوظة بنظرة تجزيئية عدد كبير من المعارف والمدلولات القرآن ولكن في حالة تناثر وتراكم عددي)).

ـ الاتجاه الموضوعي في التفسير: ((يحاول القيام بالدراسة القرآنية لموضوع من موضوعات الحياة العقائدية او الاجتماعية او الكونية فيبين ويبحث ويدرس)).

ـ هدف التفسير الموضوعي: ((تحديد موقف نظري للقرآن الكريم، وبالتالي للرسالة الاسلامية من ذلك الموضوع من موضوعات الحياة او الكون)).

ـ الدراسة الموضوعية: ((تطرح موضوعا من موضوعات الحياة العقائدية او الاجتماعية او الكونية، وتتجه الى درسه وتقييمه من زاوية قرآنية للخروج بنظرية قرآنية بصدده)).

ـ المركب النظري القرآني (النظرية): ((يكون معبرا عن مقوف قرآني تجاه موضوع من موضوعات الحياة العقائدية او الاجتماعية او الكونية)).

ـ الموضوعية: ((تبدأ من الموضوع، من الواقع الخارجي، من الشيء الخارج، وتعود إلى القرآن الكريم. تختار مجموعة من الآيات تشترك في موضوع واحد يقوم بعملية توحيد بين مدلولاتها من اجل ان نستخرج نظرية قرآنية شاملة بالنسبة إلى ذلك الموضوع)).

ـ تفسير موضوعي: ((يبدأ من الموضوع الخارجي وينتهي الى القرآن الكريم.. يختار مجموعة من الآيات تشترك في موضوع واحد)).

ـ تفسير توحيدي: ((يوحد بين التجربة البشرية وبين القرآن الكريم.. ويحد بين مدلولات الآيات ضمن مركب نظري واحد)).

د . حسن عاصي

[1] ـ من هذه المؤلفات فلسفتنا، اقتصادنا، الاسس المنطقية للاستقراء، .. وقد طبعت هذه المؤلفات طبعات عدة ـ دار التعارف للمطبوعات.

[2] ـ هذا المؤلف لم ير النور، يشير اليه المولف في مقدمة كتابه ((اقتصادنا)) دار التعارف للمطبوعات) ط 17 ، ص27.

[3] ـ البقرة: 30.

[4] ـ التوحيدي، ابو حيان: البحر المحيط (القاهر، 1328هـ)، ج 1، ص13.

[5] ـ الاعراف: 57.

[6] ـ التوبة: 114.

[7] ـ البقرة: 54.

[8] ـ قا: جولدتسيهر: مذاهب التفسير الاسلامي، ترجمة عبد الحليم النجار (القاهرة ، 1955)، ص8.

[9] ـ الحشر: 2.

[10] ـ آل عمران: 7.

[11] ـ الزمر: 9.

[12] ـ ص : 29.

[13] ـ ابن تيمية: مقدمة في اصول التفسير (القاهرة 1397هـ)، ص5.

[14] ـ النحل: 44.

[15] ـ السيوطي جلال الدين: الاقتان (القاهرة 1967)، ج1 ، ص3ـ 4.

[16] ـ الراغب الاصفهاني: مقدمة التفسير (القاهرة 1329هـ) ص 422ـ 423.

[17] ـ قا: عاصي، حسن: التفسير القرآني واللغة الصوفية في فلسفة ابن سينا المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر (بيروت، 1984)، ص15ـ

[18] ـ الصدر، محمد باقر: المدرسة القرآنية، دار التعارف للمطبوعات.

[19] ـ نفسه ـ في فصول متفرقة.

[20] ـ ابن سعد: الطبقات، ج6، ص67.

[21] ـ قا: محمود، منيع عبد الحليم: مناهج المفسرين(القاهرة ـ بيروت 1978) ص131.

[22] ـ نفسه، ص145.

[23] ـ نفسه، ص61.

[24] ـ نفسه، ص 73.

[25] ـ التفسير القرآني واللغة الصوفية في فلسفة ابن سينا، ص24 و25 بعدها.

[26] ـ نفسه، 21.

[27] ـ المدرسة القرآنية.

[28] ـ نفسه.

[29] ـ نفسه.

[30] ـ نفسه.

[31] ـ نفسه.

[32] ـ نفسه.

[33] ـ نفسه.

[34] ـ الكهف.

[35] ـ قا: القاموس الاسلامي (القاهرة 1963)، م1، مادة تفسير، 481.

[36] ـ المدرسة القرآنية.

[37] ـ نفسه.

[38] نفسه.

[39] ـ نفسه.