تظل (السنن التاريخية) واحدة من الأبحاث الاجتماعية التي طرحها علم الاجتماع الأرضي بنمطية: الموروث والمعاصر، تحت عنوان (القوانين الاجتماعية). وبالرغم من أن علماء الاجتماع ينشطرون إلى فريقين، أحدهما: لا يقر بإمكانية التفكير بوجود قوانين اجتماعية: نظراً لعدم خضوع الظاهرة الاجتماعية للتجريب المعملي من حيث تشابك العمليات أو الأفعال الإنسانية وصعوبة ارتكانها إلى اليقين العلمي . إلا أن الفريق الآخر لا يصطنع فارقاً بين التجريبيين: الطبيعي والاجتماعي ما دام تاريخ البشرية يحفل بظواهر اجتماعية متنوعة في مجال السياسة والاقتصاد والأخلاق..الخ . بحيث يمكن رصد الخطوط المشتركة بينها واستخلاص القانون الاجتماعي منها.
والحق أن صوغ (قوانين اجتماعية) – ولو في نطاقات خاصة – أثر لا يمكن تجاهله، إلا أن (القصور المعرفي) للإنسان يحتجزه عن الوصول إلى صياغة تتسم بالإحكام أو الثبات العلمي لمطلق الظواهر الاجتماعية. والأهم من ذلك أن عزلة الباحث الاجتماعي عن مبادئ السماء تقف دون أدنى شك حاجزاً عن الصياغة الثابتة لهذا القانون أو ذاك: خاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن السماء (تتدخل) في تكييف كثير من الظواهر الاجتماعية فيما لا يفقهها الباحث الأرضي لضيقه الحالي وهذا ما يجعله أي الباحث الأرضي في تفسيره لطائفة كبيرة من الظواهر الاجتماعية بدءاً من تفسيره نشأة المجتمع البشري، مروراً بأدواره التأريخية بما تواكبها من تراثات حضارية وثقافية ، وانتهاءً بالعمليات أو المواقف الاجتماعية بعامة، حيث نجد تفاوت النظر في تياراته الموروثة والمعاصرة أمراً يجعل الملاحظ مشكاً بالقيمة العلمية لهذه التفسيرات المتفاوتة. ولعل الظاهرة الاجتماعية «الدين» – وهي تشكل في قاموس علم الاجتماع المحافظ واحدةً من قائمة ما يصطلح عليه اسم «النظم أو المؤسسات الاجتماعية» – تظل في مقدم الظواهر التي خبط فيها الباحث الأرضي في تفسيره لطبيعتها ونشأتها، وهذا ما يجعلها مرشحة لمفارقة أضخم في حقل البحوث الأرضية بالقياس إلى الظواهر الاجتماعية الأخرى، ما دمنا نخبر تمامً بأن المنعزل عن السماء حينما يتناول ظاهرة مرتبطة بها عندئذ لا يسعه أن يهبها طابعاً موضوعياً، خلا إشاراته إلى فاعلية هذه الظاهرة فحسب. وهذا على العكس تماماً من شخصية الباحث المنتسب إليها، فيما يتوسل بأدوات فاعلة في تفسيره للظاهرة المذكورة.
من هنا، حينما يتقدم مفكر إسلامي (كالسيد الشهيد محمد باقر الصدر) تفسير هذا الظاهرة، عندها: نتوقع أهمية مثل هذه التفسير من حيث ارتكانه إلى اليقين العلمي.
طبيعياً، يتحدث الشهيد الصدر عن (دين التوحيد) بعامة (والإسلام بخاصة)، وليس الدين بدلالته الأرضية، أو لنقل: ليس الدين ببحثه الأرضي الذي يتناول الواقعي والمرحلي والأسطوري والمنحرف والعلماني… الخ.
لقد انطلق الشهيد الصدر في بحثه الاجتماعي عن الظاهرة المشار إليها من تفسيره الموضوعي للقرآن الكريم، وانتخب (السنن التأريخية) (موضوعاً) لهذا الجانب، والتقط من هذه (السنن): ظاهرة (الدين) ليدلل من خلالها على ان الدين (سنة تأريخية) أو بتعبير آخر له هو أن الدين (قانون داخل في صميم تركيب الإنسان وفطرة الإنسان).
والسؤال: ما هي الأدوات التي توكأ عليها في تفسيره لهذا القانون أو السنة؟ هذا، ما يقتادنا إلى التواصل مع خطوات بحثه، حيث يمكن تلخيصها على هذا النحو:
بدأ الشهيد الصدر بحثه بالإشارة إلى أن القرآن الكريم هو أول مصدر تحدث عن (السنن التأريخية)، بالقياس إلى البحوث الأرضية التي أهتدت إلى فكرة القوانين الاجتماعية متأخراً، مع ملاحظة إخفاقها في تقييم الإجابة الصائبة حيث ربطت ذلك بحدث الصدفة أو القدر ونحوهما، بعد ذلك، أومأ الشهيد الصدر إلى أن هذه القوانين – من خلال الطرح القرآني الكريم – تتمثل إما في إعطاء فكرة كلية عن سنن التأريخ، أو مصاديق لها، أو حث على الإفادة منها في تعديل السلوك. وفي هذا السياق يعرض الشهيد الصدر جملة من الآيات الكريمة التي تتحدث بلغة (السنن التأريخية) من نحو ﴿ولكل أمة أجل…﴾[1] ﴿إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾[2] ﴿أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم …﴾[3] الخ.
بعد ذلك، يخلص الشهيد الصدر إلى أن هناك ثلاث حقائق ركز عليها القرآن الكريم في تناوله للسنن التأريخية هي:
1– الاطراد: بمعنى أن السنة التأريخية ذات طابع موضوعي وليس عشوائيةً.
2– ربانية: بمعنى أنها قرار من السماء وفق متطلبات الحكمة.
3– بشرية: بمعنى أنها مترتبة على فعل بشري.
فقوله تعالى ﴿إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾[4] مثلاً، يجسد سنة تأريخية تنطوي على حقائق ثلاث هي: أنها تترتب على فعل بشري هو السلوك الايجابي، وعلى تدخل من السماء هو: تحسين أوضاعهم بناءً على تغييرهم لسلوكهم نحو الإيجاب، وأن هذا الترتب والتحسين يجسد قانوناً مطرداً لا تخلفاً فيه.
إلى هنا يكون الشهيد الصدر قد طرح بنحو عام فكرة (السنة التأريخية). واتجه بعد ذلك ليحدد السمات المجسدة لطبيعة (السنة التأريخية)، حيث حددها بسمات ثلاث هي:
1– أن ترتبط بسبب.
2– أن ترتبط بهدف.
3– أن تكون ذات أرضية اجتماعية .
ولعل أهم ما في هذه السمات هي السمة الثالثة، بصفتها هي المحدد لدلالة الظاهرة الاجتماعية) وفرزها عن الظاهرة (الفردية). والمعروف، أن علماء الاجتماع الأرضيين يتفاوتون في تحديد ما هو (اجتماعي) مقابل ما هو (فردي): هل هي (العلاقات) أم (الظواهر) أم (الوظائف)، وهل تتناول الشائع والعام والمتسم بالأهمية؟ أم تتجاوزه إلى النادر والعادي والخاص، مع ملاحظة أن الاتجاه الأحداث لعلم الاجتماع يتجاوز هذه التساؤلات ليركز على دلالة (الأفعال المشتركة) بما تتواكب معها من تفاعلات متنوعة لا تحديد لحجمها أو نمطها… إلخ.
أما (الصدر) فقد حدد دلالة (الظاهرة الاجتماعية) من خلال المائز بين الفعل الذي لا يتجاوز نطاق (الفرد) كالأكل والشرب والنوم، والفعل الذي يتجاوزه ليترك أثره على (الآخر) أو حسب تعبيره هو الفعل الذي (يتخذ من المجتمع أرضية له) كالعسكري والسياسي والمفكر حينما يمارسون أعمالاً تسحب أثرها على الآخرين، بما تستتليه من علاقات وتفاعلات متنوعة.
والملاحظ، أن الشهيد الصدر يحرص – انطلاقاً من تفسير الموضوعي للقرآن الكريم – على أن يتوكأ على النص القرآني في تحديده وتحليله وتفسيره للظاهرة الاجتماعية، حيث استشهد بمجموعة من النصوص التي تستخدم الدلالة الاجتماعية مثل (الأمة) ﴿ولكل أمة أجل…﴾ ﴿وترى كل أمة جاثية…﴾[5] تمييزاً لها عن الدلالة الفردية مثل ﴿وكل إنسان ألزمناه طائره…﴾[6] ﴿كلهم آتيه يوم القيامة فردا﴾[7]… خلال ذلك، نجد ان الشهيد الصدر يخطف عابراً إلى مناقشة بعض الاتجاهات الاجتماعية في تحديدها لما هو (اجتماعي) وتمييزه عما هو (فردي)، كالاتجاه الذاهب إلى إكساب المجتمع سمة (عضوية) من حيث مشابهته للإنسان في جهازه العضوي ووظائفه، أو كما عبر الشهيد الصدر عنه أنه التصور الذاهب إلى: ( أن المجتمع كائن عملاق له وجود وحدوي عضوي متميز عن سائر الأفراد، وكل فرد ليس إلا بمثابة الخلية في هذا العملاق الكبير).حيث أوضح الشهيد الصدر أن هذا التصور فرضية اسطورية لا واقع لها، بقدر ما ينبغي النظر إلى المجتمع بصفته مجموعة من الأفراد تكسب سمته الاجتماعية إذا تعدى أثرها إلى الآخرين.
والجدير بالذكر أن الاتجاهات الاجتماعية تتفاوت في وجهات نظرها حيال (المجتمع)، حيث يكسبه البعض سمات عضوية كالاتجاه الذي عرض له الشهيد الصدر، ويكسبه البعض الآخر سمات (آلية) من حيث مشابهته للآلة في اجهزتها ووظائفها، ويكسبه آخرون سمة (قيمية) بحيث يصبح جهازاً (معنوياً) له معاييره.. الخ، أو النظر إليه بصفته (بناءً عاماً) يتألف من الجماعات والتنظيمات والنظم والمعايير … الخ، … إلا أن الاتجاه الأحدث منها، يستهدف من الإشارة إلى (عضوية المجتمع) ليس (آليته) التي تصهر الفرد بل تركيبته العامة التي تنتظم جزئياته، سواء أكان ذلك على مستوى النظم أو التنظيمات أو الأفراد بحيث تحتفظ هذه الجزئيات باستقلالها من جانب وترتبط – في الآن ذاته – بالمركب العام لها من جانب آخر.
وأياً كان الأمر، فإن المهم هو أن تحديد الشهيد الصدر للعنصر الاجتماعي من خلال وجهة نظره المتقدمة، حسمت الموقف لتنتهي منه إلى تحديد (السنة التأريخية) وفق المعيار المشار إليه.
طبيعاً، أن الشهيد الصدر لم يفصل هذا الجانب الاجتماعي عن بُعدين آخرين نحسب أن لهما أهميتهما في تحديده للسنة التأريخية، التي ينطلقا منها ليتحدث عن (الظاهرة الدينية) أو (التوحيد) وصلتها بواحدة من السنن التأريخية، حيث انصب بحثه على الظاهرة المذكورة، واستهدفها أساساً من وراء بحثه عن سنن التاريخ. البعدان هما:
1– ارتباطها بسبب.
2– ارتباطها بهدف.
حيث أومأ الشهيد الصدر إلى أن الظواهر الطبيعية مثلاً قد ترتبط بسبب: كالغليان المرتبط بدرجة حرارية معينة، ولكنها لا تحمل هدفاً إلا في حالة تحولها إلى فعل بشري، بينما السنة التأريخية تحمل هدافاً هو الطموح إلى المستقبل من خلال الوجود الذهني للإنسان. وسنرى أن هذا البعد (الهدف) هو البعد الفاعل الذي يركز عليه الشهيد الصدر في استخلاصه الذاهب إلى أن (الدين) سنة تأريخية… بيد أن الشهيد الصدر قبل أن يدلف إلى هذا الجانب، يمهد له بالحديث عن أشكال ثلاثة للسنة التاريخية هي:
1– شكل القضية الشرطية.
2– شكل القضية الفعلية.
3– شكل القضية الاتجاهية.
ويقصد بالأولى: القضية التي يتحقق جزاؤها متى ما يتحقق شرطها مثل ﴿إن الله لا يغير ما بقوم﴾ وهذا هو الجزاء ﴿حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾ وهذا هو الشرط. ويقصد بالثانية: القضية غير المرتبطة. ويقصد بالثالثة (وهذا هو المستهدف من بحثه أساساً): ما عبر عنه بقوله : (السنة التأريخية المصاغة على صورة اتجاه طبيعي من حركة التاريخ لا على صورة قانون صارم حدي)، ويعني بها: السنة التكوينية التي تقرن بالمرونة بحيث يمكن أن يتحداها الإنسان (ولكن المتحدي يتحطم على يد سنن التأريخ نفسها)، بمعنى أنه من الممكن أن يتحدى (على الشوط القصير). ولتوضيح ذلك قدم الشهيد الصدر مثالاً هو: العلاقة بين الجنسين، موضحاً أن إحدى الشرائع التأريخية (قوم لوط) أمكنهم أن يتحدوا هذه العلاقة وقتياً، إلا أنهم تحطموا نتيجة ذلك: بصفة أن استمرارية التناسل البشري تتوقف على الممارسة بين الجنسين، وإلا أفضى ذلك إلى فناء المجتمعات.
المهم، أن الشهيد الصدر ينطلق من هذا الشكل، ليتحدث عن الظاهرة الدينية قائلاً: (إن أهم مصداق يعرضه القرآن الكريم لهذا الشكل من السنن. هو الدين )، مستشهداً بالنص القائل ﴿فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾([8])، موضحاً أن الدين هو نزوع فطري مركب في الإنسان، لا ظاهرة اجتماعية مكتسبة، وأنه لا يمكن تبديله لأنه (خلق الله تعالى)، ولكن يمكن تحدي ذلك على الشوط القصير. بيد أنه في نهاية المطاف لا بد من نزول العقاب على المتحدي. كل ما في الأمر أن التحديد الزماني للعقاب يخضع لحساب الله – تعالى – وليس لزمننا الاعتيادي ﴿وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون﴾[9].
من هنا – كما سبقت الإشارة – يبدأ الشهيد الصدر يتناول هذه السنة التأريخية، محيلاً ذلك إلى بحث اجتماعي تحت عنوان (عناصر المجتمع في القرآن الكريم) مبيناً أنه من خلال التحليل لعناصر المجتمع سيتضح معنى أن (الدين سنة من سنن التأريخ).
من تلخيصنا المتقدم لوجهة نظر (الصدر) حيال (السنة التأريخية) من حيث خصائصها وطبيعتها وأشكالها، نتبين بأنها تشكل مجرد (تمهيد) للبحث عن واحدة من السنن التأريخية (الظاهرة الدينية ) من حيث كونها شكالاً مرناً، يجسد – في أحد وجهيه – سنة تكتسب طابع (الحتم)، ويجسد – في وجهه الآخر – طابع (التغير) من خلال إمكانية تحدي ذلك – ولو وقتياً… ولعل أهم ما في هذا التمهيد هو تفسيره الاجتماعي للظاهرة من جانب، بصفه أنها تتخذ من (الآخر) أرضية لها ومن ثم تسحب أثرها على السلوك الاجتماعي بعامة، مضافاً إلى ما طرحه في التمهيد من ارتباط السنة التأريخية بـ هدف مستقبلي من خلال الوجود الذهني للإنسان، من جانب آخر. وسنرى أن البحث الاجتماعي للصدر عبر تفسيره للظاهرة الدينية، سوف ينطلق من خلال الجانب الأخير – أي الوجود الذهني من حيث محتوياته المعرفية – ويخلع عليه التفسير النهائي للظاهرة المذكورة.
إذن: لنتابع بحثه من خلال التلخيص أولاً.
لاحظنا أن الشهيد الصدر قد انتخب عنوان (عناصر المجتمع في القرآن الكريم) لينطلق منه إلى تفسير (الظاهرة الدينية – التوحيد).
يقف الشهيد الصدر عند الآية الكريمة ﴿إني جاعل في الأرض خليفة…﴾[10] موضحاً ان هناك عناصر ثلاثة تنتظم الآية القرآنية الكريمة هي:
1– الإنسان.
2– الأرض أو الطبيعة.
3– العلاقة التي تربط الإنسان بالطبيعة من جانب، وبأخيه الإنسان من جانب آخر.
والعنصر الثالث له صيغتان من العلاقة:
صيغة ثلاثية (وهي: الطبيعة، والإنسان، والآخر).
وصيغة رباعية: إضافة (الله تعالى) إلى ذلك…
الصيغة الثلاثية تحيا بمعزل عن الله تعالى، والصيغة الرباعية مع الله تعالى. ويترتب على التعامل مع الصيغة الرباعية، أن تكون علاقة الإنسان مع الطبيعة ومع الآخر (علاقة أمين على أمانة استؤمن عليها) حيث (لا سيد ولا مالك ولا إله للكون والحياة إلا الله تعالى، وأن دور الإنسان في ممارسة حياته هو دور الاستخلاف والائتمان. وليست علاقة سيادة أو ألوهية أو مالكية)، وهذه على عكس الصياغة الثلاثية التي تحيا بمنأى عن الله – تعالى – حيث استتبعت سيادة الإنسان على أخيه، وسيادة الملكية على الأرض وثرواتها. إن الشهيد الصدر يطرح هنا أهم ظاهرة اجتماعية هي (توزان المجتمعات وعدمها) حيث ربط بينها وبين العلاقة الرباعية والثلاثية من خلال التفسير القرآني للظاهرة، ومن الواضح، أن علم الاجتماعي الأرضي: موروثه ومعاصره، طالما طرح هذا التساؤل (ما الذي يجعل المجتمعات متوازنة)؟ طرح هذا التساؤل وهو يحيا إما (المشكلات الاجتماعية) التي يواجهها المحافظون من علماء الاجتماع متمثلة في شتى أنماط الانحراف الاجتماعي، إما الانحراف البنائي العام للمجتمعات كما يتصورها الاتجاه (النقدي) في علم الاجتماع: مع ملاحظة أنهم جميعاً يتناولون (المشكلة الاجتماعية) تشخيصاً، لكن دون أن يقترن ذلك بطرح (البدائل).
طبيعاً، لا يعنينا صنف من علماء الاجتماع الذين يملأون المؤسسات المجسدة لمراكز (القوة)، بقدر ما يعنينا المتحررون منها، مما يعني أن المشكلة الاجتماعية – منذ أن وجد علم الاجتماع من جانب، والمجتمعات غير المتوازنة من جانب آخر – تظل ملتصقة بمشاكلها، ولا حل أو بدائل لها.
إن ( الصدر ) قد حسم الموقف من خلال تفسيره الرابط بين العلاقة الرباعية والثلاثية، بين التواصل مع السماء والعزلة عنها، محدداً ذلك من خلال التركيز على عنصري ( الطبيعة) و (الإنسان) وعلاقة كل منهما مع الآخر، واستتباع التعامل الرباعي مع (الإنسان) بصفته (مؤتمناً) أو (موظفاً) يتعامل مع أخيه الإنسان على نحو المشاركة وليس السيادة عليه. والتعامل مع (الطبيعة) بصفتها عائدة إلى (السماء) وليس (السيادة) عليها وعلى ثرواتها. على العكس من العلاقة الثلاثية واستتباعها سيادة الإنسان على أخيه الإنسان، وسيادته على الأرض وثرواتها، بما تستجره هذه السيادة (على الإنسان والأرض) من (المشكلات الاجتماعية) المشار إليها.
والسؤال هو: ما هي الخطوط التي طرحها الشهيد الصدر ليستدل بها على (سننية) الدين من جانب، وعلى فاعلية (العلاقة الرباعية) من جانب آخر، بصفة أن الجانب الأول يتناول مفروضية السنة المذكورة، والجانب الآخر يتناول (فاعليتها) بحيث نستتبع حسم المشكلة الاجتماعية التي يحياها الإنسان منذ أن وجدت المجتمعات؟
إن تحليله لعناصر المجتمع في القرآن الكريم يتكفل بتوضيح ذلك، حيث لاحظناه يستشهد بالآية الكريمة ﴿إني جاعل في الأرض خليفة …﴾[11] ليستخلص منها عنصرين رئيسين هما: الإنسان والأرض، وعنصراً ثالثاً هو العلاقة بينهما، وعنصراً رابعآً: علاقة ذلك مع الله تعالى.
هنا نجد أن الشهيد الصدر يستحضر آيتين قرآنيتين كريمتين هما ﴿فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها… ذلك الدين القيم﴾([12]) حيث دلل بها على فطرية (التوحيد ) وآية ﴿إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض … وحملها الإنسان، إنه كان ظلوماً جهولاً﴾[13] حيث دلل بها على تقبل الإنسان تكوينياً للمارسة الخلافة، كما دلل بها على كونها (سنة تأريخية من النمط الثالث ) الذي يقبل التحدي ولو بالشوط القصير من خلال عبارة ﴿ إنه كان ظلوماً جهولاً ﴾ بصفة أن البشرية لم تلتزم بمبادئ الخلافة.
ثم ربط – في نهاية المطاف – بين هذه الآيات الثلاث، من خلال تعقيبه على آية ﴿فأقم وجهك … ذلك الدين القيم﴾ قائلاً: (هذه القيمومة في الدين هي التعبير المجمل في تلك الآية عن العلاقة الاجتماعية الرباعية التي طرحت في الآيتين، في آية ﴿إني جاعل في الأرض خليفة﴾ وآية ﴿إنا عرضنا …﴾ إذن، فالدين سنة الحياة والتأريخ، والدين هو الدين القيم، والدين القيم هو العلاقة الاجتماعية الرباعية الأطراف ). بعد ذلك، يتجه إلى تفصيل الحديث عن هذه الظاهرة أي الدين بصفته المتقدمة سنة تأريخية وانعكاسها على المسار التأريخي، بادئاً ذلك بالتركيز على عنصرين: الإنسان والطبيعة.
بالنسبة إلى العنصر الأول، يعود الشهيد الصدر إلى تمهيده الذي ذكر فيه أن حركة التأريخ تتميز بكونها (هادفة) تتجه إلى المستقبل، وأن الوجود الذهني للإنسان هو (المحرك) لذلك، وهو يتضمن فاعلين هما: « الأفكار » التي يحملها حيال الهدف، و« الارادة » التي تحفزه على ذلك، وهما يصوغان المحتوى الداخلي للإنسان، وأن المحور لهذا المحتوى هو البحث عن (المثال الأعلى)، بصفة أن كل إنسان يتحرك من خلال (نموذج) أو (مثال) يتطلع إلى تحقيقه بغض النظر عن صلاحية ذلك أو فساده. أي أن (المثل الأعلى) هو وجهة نظر الإنسان إلى الحياة ، والكون في شتى مستوياته . وبهذا يكون (المثل الأعلى) قاعدة بالنسبة إلى حركة التأريخ، تشكل وفقه…
هنا يستعير الشهيد الصدر مصطلحي (الجهاد الأكبر والأصغر) ليشير إلى أن أولهما وهو تغيير المحتوى الداخلي – المثل الأعلى – يسحب أثره على الآخر وهو حركة التأريخ أو المتجمع بنحو عام، وأن الإسلام لا يفصل بينهما، مستشهداً بالسنة التأريخية القائلة ﴿.. إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾، حيث يخلص من ذلك إلى أن نمط (المثل) هو الذي يحدد حركة التأريخ حيث صلاحه وفساده وانعكاسهما على صياغة هذا المجتمع أو ذاك … من هنا يبدأ الشهيد الصدر بتفسيره الاجتماعي المفصل للظاهرة الدينية، بحيث تتبلور نظريته حيال ذلك، من خلال عرضه للمثل الأعلى وانعكاساته على المجتمعات قديماً وحديثاً يمكن القول: إن جوهر النظرية الاجتماعية للباحث تتبلور من خلال تفسيره وتحليله للظواهر المشار إليها: مع ملاحظة أن الشهيد الصدر يتوكأ من جانب على النص القرآني الكريم، وعلى تذوقه الشخصي للنص من جانب آخر، وخبرته الاجتماعية من جانب ثالث.
يبدأ الشهيد الصدر بتقسيمه للمثل الأعلى إلى ثلاثة أنماط:
1– (مثل) يستمد مادته من الواقع الذي يحياه الإنسان.
2– (مثل) يستمد مادته من الطموح نحو المستقبل.
3– (مثل) يستمد مادته من مبادئ الله تعالى.
ونقف مع الشهيد الصدر عند النمط الأول من المثل: وهو المثل الذي يستمد مادته من الواقع، مشيراً إلى أن هذا الواقع محدود ومقيد، وأن استمداد المثل منه يكتسب صفة الجمود والتكرارية، ولذلك لا يمكن تجاوزه بل يصبح حالة تكرارية، ويتحول إلى مطلق لا عطاء فيه.
ويقرر الشهيد الصدر أن سبب ذلك هو:
1– الألفة والعادة والخمول والضياع، وهي عوامل نفسية متى انتشرت تجمد الواقع، وأصبح مثلاً أعلى. ولذلك وقفت أمثلة هذه المجتمعات أمام دعوة الأنبياء (عليهم السلام) متمسكة بدين آبائهم. وهو هذا الواقع المتجمد.
2– التسلط الفرعوني، وهو عامل اجتماعي يحتجز المجتمعات عن تجاوز واقعهم، حيث إن الفراعنة – وهم الحكام الطغاة – لا يسمحون لمجتمعاتهم بالتحرك نحو مثل آخر ما دام يحشد ويشكل زعزعة لكيانهم.
هنا، قبل أن نتابع نظرات الشهيد الصدر في هذا المجال، يجدر بنا أن نشير – من الزاوية المنهجية – إلى أن هذا النمط من المثل الذي يستمد مادته من الواقع، ينبغي أن يتأخر الحديث عنه لأنه ترتب على النمط الآخر (وهو المثل الذي يستمد مادته من الطموح إلى المستقبل)، وهو ما انتبه الشهيد الصدر عليه أيضاً، إلا أنه لم يفسر ذلك، بيد أن الأهم هو: البحث أولاً عن الأسباب الكامنة وراء كل من طابعي: الألفة والفرعنة، أي: جذور الألفة والفرعنة، فما دام الباحث يتحدث عن نشأة المثل وأسبابه ونتائجه، فحينئذ نتوقع البحث عن ذلك:
أولاً: بخاصة أن الباحث في صدد الربط بين المثل الديني أو الأعلى والمثل المنخفض أو الدنيوي، أي بين المثل الذي يتوكأ على العلاقة الرباعية والمتوكئ على العلاقة الثلاثية، حيث يترتب على العلاقة الأخيرة نشوء المثل المنخفض: نظراً لمحدودية الذهن البشري وعجزه عن الوصول إلى المثل الديني. وهذا ما انتبه الشهيد الصدر عليه فيما تحدث عن الخط الآخر من المثل من حيث ذهابه إلى أن المثل الذي يستمد مادته من الطموح إلى المستقبل، سوف يفقد فاعليته بدوره نظراً لمحدودية الذهن البشري، وبذلك يتحول إلى مثل تكراري أي: المثل في نمطه الأول.
بيد أنه المهم – كما قلنا – هو عملية الربط بين سببي المثل المستمد من الواقع (وهما: الالفة والفرعنة)، وهذا ما لم يتوفر الشهيد الصدر عليه، وسنعود إلى ملاحظة هذا الجانب بعد أن نتابع تفسيره للنتائج المترتبة على النمط الأول من المثل، حيث استخلص الشهيد الصدر من ذلك بأن الأمة التي تستمد مثلها من الواقع المنخفض تتحول إلى مجرد (شبح) لا فاعلية له؛ لأن المثل فيها يفقد قدرته على العطاء، تفقد الأمانة ولاءها له بالتدريج. وفي هذا الصدد يقول الشهيد الصدر (ومعنى أنها تفقد ولاءها لهذا المثل، يعني أن القاعدة الجماهيرية الواسعة في هذه الأمة سوف تتمزق وحدتها؛ لأن وحدة هذه القاعدة إنما هي بالمثل الواحد، فإذا ضاع المثل ضاعت هذه القاعدة. هذه الأمة بعد أن تفقد ولاءها لهذا المثل تصاب بالتشتت، بالتمزق، بالتبعثر، تكون كما وصف القرآن الكريم ﴿بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون﴾[14] بأسهم بينهم شديد باعتبار أن التناقضات تبدأ في داخل هذه الأمة التي لا يجمعها مثل واحد… في حالة من هذا القبيل لا تبقى أمة وإنما يبقى شبح أمة فقط. وفي ظل هذا الشبح سوف ينصرف كل فرد من هذه الأمة، ينصرف إلى همومه الصغيرة … لأنه لا يوجد مثل أعلى تلتف حوله الطاقات) إن هذا النص ينطوي على تحليل فائق للنتائج المتواكبة مع نمطية (المثل) الذي تحياه المجتمعات: تشتتها، وتحولها إلى شبح، وتجعلها تنصرف إلى الهموم الفردية. هذه النتائج مترتبة – كما ألمح الشهيد الصدر – على عدم (وحدة المثل). بيد أن القارئ يتوقع من الشهيد الصدر أن يلقي مزيداً من الإنارة على هذا الجانب: كأن يوضح بأن السبب عائد إلى (نمط) المثل وليس (وحدته) فحسب، فقد (يتوحد) المثل المنخفض من خلال الإعلام المضلل بحيث يستتبع انصراف الناس إلى همومهم الفردية كما قال الشهيد الصدر، وهذا ما ألمح إليه علماء الاجتماع التقدي في العقود الأخيرة حينما ربطوا بين مراكز القوى والإعلام المضلل في الساحة الأوروپية الحديثة. إلا أن إلقاء الإنارة الإسلامية على هذا الجانب يظلل هو المفسر الوحيد لانخفاض المثل وليس (وحدته) المفقودة فحسب، لأن المجتمع الأرضي قد (يتوحد) في مثله المنخفض كما هو ملاحظ أوروبياً، ومع ذلك يصاب بالتشتت وحينئذٍ فإن التشتت يعود إلى (انخفاض) المثل أي عدم صلاحيته وليس (وحدته) كما هو واضح.
المهم، أن الشهيد الصدر يتجه بعد ذلك إلى تحليل اجتماعي للنتائج المترتبة على الأمة المتحولة إلى شبح، مشيراً إلى أن هناك ثلاثة اجراءات أو بدائل تترتب على ذلك، مع ملاحظة أن الشهيد الصدر يحدثنا عن شريحة اجتماعية محددة هي: المجتمع الشرقي أو العالم الثالث أو المجتمع الإسلامي والعربي، وهذه البدائل هي:
1– أن تتداعى الأمة أمام الغزو الخارجي.
2– أن تستورد مثلاً جديدآً هو الحضارة الأوروپية.
3– أن تتولد في أعماقها فكرة إعادة المثل الأعلى الديني، وهذا ما حدث في بداية عصر الاستعمار، حيث ظهر رواد الفكر الإسلامي مقابل حضارة الغرب.
وإذا كان الشهيد الصدر يتحدث هنا عن المجتمع الشرقي – بعد أن حدثنا إجمالاً عن المجتمعات الموزونة من حيث تعاملها مع المثل المستجد من الواقع المنخفض – فإن الباحث سيتجه إلى المجتمع الأوروپي ليحلل بدوره طبيعة التحولات التأريخية التي واكبت المجتمع المشار إليه، لكن من خلال إشاراته إلى النمط الآخر من المثل، وهو المثل الذي يستمد مادته من الطموح المستقبلي، متجسداً في المجتمع الأوروبي الحديث، حيث أوضح بأن المجتمع الأوروبي كان منكمشاً في قوة الكنيسة والإقطاع والجمود الفكري (وهي تجسيد للمثل الأول المنتزع من الواقع)، إلا أنه نفض عنه هذا المثل، واتجه إلى صياغة مثل جديد قد استمده من طموح نحو المستقبل، وأعلن ظاهرة (الحرية) بأوسع دلالاتها … هنا، نجد أن الشهيد الصدر قد برع حقاً في تفسيره للظاهرة المذكورة، أي نجح الأوروبي في تبنيه لمثل جديد منتزع من الطموح نحو المستقبل، حيث ألمح الشهيد الصدر – وهذا هو ملاحظ براعته – إلى أن الطموح المذكور يظل (محدوداً) نظراً لمحدودية الذهن البشري، بصفة: أن الذهن البشري المحدود لا يمكن أن يستوعب المطلق، وإنما هو دائماً يستوعب نفحة من المطلق، شيئاً من المطلق، يأخذ بيده قبضة من هذا المطلق تنير له (الطريق).
واضح، أن الشهيد الصدر يستهدف الإشارة هنا إلى أن الذهن البشري المنعزل عن الله – تعالى – لا يمكن أن يرسم مبادئ السلوك الاجتماعي في نمطه الايجابي المطلق: نظراً لمحدوديته.
وكذا نتمنى لو أن الشهيد الصدر سلط الإضاءة على هذه الملاحظة، ونعني بها : النجاح النسبي في استيعاب الإنسان لنفحة أو لشيء أو لخطوة من المطلق، حيث يتساءل القارئ مثلا ً: ما هو السر الكامن في قدرة الكائن المنعزل عن السماء أن يستوعب جزءاً من المطلق؟ الإجابة هنا تكمن بطبيعة الحال في (فطرية التوحيد) التي طرحها الشهيد الصدر (سنة تأريخية)، بيد أن (فطرية التوحيد) تظل مرتبطة بالخط الايدلوجي العام للإنسان، أي : الموقف الفلسفي من الكون ومبدعه، وهذا ما فطرت البشرية عليه.
أما بالنسبة لاستيعاب مبادئ السلوك العام، أي : استيعاب ما هو إيجابي وبعده عما هو سلبي، أو استيعاب دلالة الخير والشر، فأمر تتكفل بإنارته آية قرآنية أخرى هي ﴿فألهمها فجورها وتقواها﴾[15]، أي فطرية معرفة الخير والشر، فكما أن البشرية قد ألهمت (التوحيد) كذلك قد الهمت (الخير والشر)، ومن ثم فإن أي سلوك ايجابي أو أن أي طموح نحو المستقبل قد اكتسب سمته الإيجابية بحيث استوعب – كما يقول الشهيد الصدر – نفحة أو شيئاً أو قبضة من المطلق، إنما يعود إلى (فطرية) أو الهامية الخير والشر. بيد أنه من الموسف، أن الشهيد الصدر لم يتعرض إلى ذلك. وأيا كان، فإن الشهيد الصدر ما دام قد التزم في تفسيره للسنن التأريخية بقراءة النص القرآني الكريم، حينئذ فان استكمال تحليله للظاهرة المذكورة، كان سيأخذ مداه الفاعل لو أنه اتكأ على الهامة (الخير والشر) من تحديده لطبيعة النمط الثاني من (المثل)، أي المثل الذي يستمد مادته من الطموح المستقبلي من حيث محدودية أو مطلقية المثل المذكور.
بغض النظر عما تقدم، يتعين علينا متابعة الشهيد الصدر في تحليله الاجتماعي للظاهرة الأوروبية، حيث ألمح إلى أن المثل المحدود الذي أحتضنه الكائن الأوروپي قد اقترن بخطر هو أنه قد حوله – أي المثل المحدود – إلى مثل مطلق، وهذا ما لا ينسجم مع واقع التركيبة الذهنية المحدودة. وحينئذ سيتحول هذا المثل بدوره – بعد أن يستنفد إمكاناته المرحلية – إلى مثل تكراري يحتجزه من متابعة الطريق. ويترتب على هذا المثل الذي حول إلى مطلق منخفض، أن يقترن بتعميم مخطئ: أحدهما أفقي، والآخر زمني.
أما الأفقي فيتمثل في كون (الحرية) التي انطلق الأوروپي منها تظل مجرد إطار بلا مضمون، ولذلك ترتب على السلوك المذكور ما نلحظه من وسائل الدمار الذي واكب حضارة المغرب: وأما الزمني، فتمثل في كون الخطوات التي قطعها التاريخ – في بعض سماته ومراحله (مثل نشأة المجتمعات ونموها) – قد اقترنت بنجاح نسبي في تطور البشرية وتوحيدها، إلا أنها تظل كسابقتها جزءً أو خطوة من الطريق.
هنا، يتقدم الشهيد الصدر بتحليل آخر للمجتمعات التي تحيا أمثلة هذا النمط: حيث يصنفها إلى أربعة مراحل تمر بها، هي:
1 – مرحلة فاعلية المثل الجديد، إلا أن مكاسبه آنية بقدر محدودية الفاعل. وفي هذه المرحلة – يقول الشهيد الصدر – تكون قيادة الأمة موجهة، والأمة مشاركة.
2 – مرحلة تجميد المثل، حيث يستنفد طاقته ويتحول إلى تمثال لا روح فيه. وتتحول قيادة الأمة من (موجهين) إلى سادة وكبراء والجمهور إلى قطيع، وهنا نجد أن الشهيد الصدر يستشهد بآية ﴿وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبرائنا فأضلونا السبيلا﴾[16].
3 – مرحلة الطبيقة، حيث تتحول السلطة إلى فئة تتوارث موقعها عائلياً أو طبقياً، فتصبح (هي الطبقة المترفة المنعمة الخالية من الأغراض الكبيرة، المشغولة بهمومها الصغيرة). وهنا نجد أن الشهيد الصدر يستشهد بآية ﴿ … إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون﴾[17].
4 – مرحلة سيطرة المجرمين، حيث يسيطر (أناس لا يرعون عهداً ولا ذمة) وهي ما استشهد عليها الشهيد الصدر بآية ﴿وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم.﴾[18].
ومما تجدر الإشارة إليه، أن التفسيرات المتنوعة التي يقدمها علماء الاجتماع لعلاقة السلطة بالمواطنين من جانب، ونشوء الدول أو الأمم ومراحلها من جانب آخر، ومصائرها من جانب ثالث، تظل متراوحة بين التفسير الاقتصادي والعسكري والديني في بعض المراحل التأريخية – ومطلق الأبعاد الاجتماعية الأخرى … هذه التفسيرات بغض النظر عن مدى صواب أو خطأ بعضها، إلا أنها جميعاً تعزل الظاهرة عن (تدخلات السماء) في تكييفها مما يفقدها اليقين العلمي أو لنقل يفقدها: التفسير المتكامل لها بقدر ما تدعمها تفسيرات أحادية تفتقر إلى التماس العنصر (التغييبي) لها. لذلك فإن الشهيد الصدر حينما يقدم لنا تحليلاً موشحاً بالبعد العبادي ( مبادئ السماء ): عندئذ يكتسب تحليله نكهة جديدة بالقياس إلى النظريات الاجتماعية الأرضية. بيد أن ما ينبغي لفت النظر إليه أن الشهيد الصدر هنا يستخدم – دون أدنى شك – خبرته (الشخصية) من جانب، مضافاً إلى خبرته (الشرعية)، مستخلصاً منها إطاراً عبادياً في الحصيلة العامة لتحليله. مع ذلك، فإن بعض الملاحظات من الممكن أن تثار في هذا السياق، منها: تمييزه بين المرحلة الثانية والثالثة والرابعة من خلال استشهاده بآيات ﴿أطعنا سادتنا وكبراءنا … ﴾ و ﴿قال مترفوها …﴾ و ﴿جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها …﴾، فالملاحظ، أن العلاقة بين القائد والمقود من خلال النصوص القرآنية ذاتها تنسحب على مطلق العلاقة بغض النظر عن مرحلة ونمط الحاكم والمحكوم، فسواء كان الحكام كبراء أو قرينين أو مجرمين، وسواء أكان المسيطرين يمثلون سلطة سياسة أو عشائرية أو حتى (جماعة محلية) بل حتى في نطاق (السيد) و (العبد) في تمثيلهما لأصغر وحدة اجتماعية تتألف من شخصين : عندئذ فان مصطلح (التابع) و (والمتبوع) بالنحو الذي تفرضه النصوص القرآنية الكريمة، يظل هو المعبر عن العلاقة التي يبرزها النص القرآني من حيث براءة التابع من المتبوع واتهامه بالتضليل دون أن يتحدد ذلك في المرحلة الثانية من (المثل) أي تجميده، بل يمكن القول: إنه حتى في مرحلة جديدة أو طموحية المثل من الممكن أن تنسحب عليه مثل هذه العلاقة ما دام المثل الجديد لا يجسد إلا خطوة من الطريق (محدودية الذهن البشري). لكن: بغض النظر عما تقدم، فإن التقسيم المرحلي الذي عرضه الشهيد الصدر يظل تفسيراً جديداً لا مناص من تسجيله بالنسبة إلى (كشوفات) الباحث الإسلامي.
الشهيد الصدر، يتجه بعد ذلك (وقد عرض سابقاً نمطين من المثل الأرضي) إلى النمط الثالث من المثل، حيث استهدفه أساساً في بحثه عن السنن التأريخية بعامة والسنة التأريخية (الدين) بخاصة، وهذا المثل هو (مبادئ الله تعالى)، فيما بدأ الشهيد الصدر بإلقاء الإنارة على هذا الجانب بعد أن أوضح طبيعة المفارقات التي طبعت المجتمعات الأرضية حينما تبنت المثلين المنعزلين عن السماء (التكراري) و (المحدود).
إذن : لنتابع التحليل الجديد للشهيد الصدر.
التحليل الجديد والنهائي للشهيد الصدر يتمثل في ذهابه إلى المثل المرتبط بالله – تعالى، يظل مثلاً مطلقاً لا محدودية فيه، إنه ليس من نتاج الذهن الإنساني – كما هو طابع المثلين السابقين – بل هو المطلق، هو مبادئ الله تعالى فيما رسمها للبشرية … ومن البدء يستشهد الباحث بآية ﴿يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه ﴾[19]. موضحاً أن هذه الآية الكريمة تضع الله هدفاً أعلى، وأنها لا تخص طائفة دون أخرى من الناس بل تخاطب الإنسانية جميعاً، بمعنى أنها – أي الإنسانية جميعاً – إنما تكدح نحو الله – تعالى – من خلال المسيرة الاستمرارية التي تتصاعد نحو الكمال. ويؤكد الشهيد الصدر أن هذه الآية الكريمة لا تعني – في مخاطبتها الإنسان – تحريكه نحو الله تعالى بقدر ما تعبر عن واقع ثابت موضوعي هو : أن كل تقدم في سير الإنسان إنما هو يشير نحو الله – تعالى – حتى من تمسك بمثله المنخفض … ويؤكد الشهيد الصدر أيضاً أن الآية الكريمة ﴿والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه … ﴾[20] تحوم على الدلالة المشار إليها، كل ما في الأمر أن من يصل إلى سرابه لا يجد شيئاً بل يجده – تعالى – فيحاسبه… هنا، يتعين علينا الوقوف قبل أن نتابع تحليل الشهيد الصدر وتفسيره، عبر تفسيره للآيتين الكريمتين واستخلاصه الدلالة المذكورة، حيث يمكن مناقشة ذلك. طالما لحظنا أن الشهيد الصدر يشير إلى أن كل جماعة حتى لو تمسكت بمثلها المنخفض (واستطاعت أن تحقق لها سيراً ضمن خطوة على هذا الطريق الطويل) فإن تقدمها (بقدر فاعليته وبقدر زخمه هو اقتراب نحو الله تعالى) مع فارق (بين تقدم مسؤول وتقدم غير مسؤول) … وهذا صائب إذا أخذنا بنظر الاعتبار (لإلهامية الخير والشر) لمطللق الإنسان حيث يمكنه (حتى وهو منفصل عن الله تعالى) أن ينتخب طرائق الخير في نطاقها النسبي المرتبط بمجددية الذهن البشري، بيد أن المناقشة هي في دلالة الآيتين المتقدمتين على ذلك، فالملاحظ أن الشهيد الصدر قد استخدم عبارة (أكبر الظن) في تفسيره لدلالة الآية الأولى بالنسبة إلى مفردتي (الكدح) و (ملاقيه)، وهذا يعني أنه لم ينسف هذا الرأي من خلال اليقين العلمي بقدر ما أخضعه لمجرد الظن. إنه فسر عبارة (الكدح) بممارسة السلوك الإيجابي الذي قد يهتدي إليه الأرضيون في بعض خطوات مسيرهم، وفسر (الملاقاة) بأنها المحطة التي يفضي إليها السلوك المذكور، أي ملاقاته مع مبادئ الله تعالى.
والحق، أن هذه الآية إذا انسقنا مع ظاهرها من جانب ومقارنتها مع الآيات الأخرى من جانب آخر، واخضعناها للتفسير المأثور من جانب ثالث، نجد أن المقصود من (الملاقاة) هو: اليوم الآخر، هو الحساب، أي أنه تعالى سيتولى محاسبة الإنسان في سلوكه في اليوم المعد لذلك، ولا علاقة لها بالالتقاء مع مبادئ الله تعالى.
ولعل الظاهرة تزداد وضوحاً إذا انسقنا مع الآية الكريمة ﴿ … كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفآه حسابه﴾، فالشهيد الصدر قدم استخدام (مضمونها) بالقول: من وصل إلى سرابه فتوقف واكتشف إنه سراب، ماذا يجد؟ ماذا وجد في الآية؟ وجد الله – تعالى – فوفاه الله حسابه، لأن المطلق موجود على طول الطريق وبقدر زخم الطريق، وبقدر التقدم في الطريق يجد الإنسان مثله الأعلى، يلقى الله سبحانه وتعالى اينما توقف بحجم سيره، بحجم تقدمه.
فالملاحظ أن الشهيد الصدر يشير إلى أن من اكتشف السراب يجد مثله الأعلى (الله تعالى) أينما توقف بحجم تقدمه، مما يعني أنه فسر قوله تعالى ﴿فوفاه حسابه﴾ ليس حساباً في اليوم الآخر بل وجد مبادئ الله تعالى المجسدة للسنة التاريخية.
مع أن دلالة الآية الكريمة بقرينة (الحساب) لا تحتمل تأويل الباحث بنحوه المذكور.
والحق، أن الشهيد الصدر – وهو يحرص على اكتشاف السنة التأريخية من خلال النص القرآني الكريم – كان في غنى عن الاستشهاد بالآيتين الكريمتين المذكورتين بقدر ما كان عليه أن يتوكأ على آية (إلهامية الخير والشر) في التدليل على أن البشرية بحكم منظوريتها على معرفة الخير والشر، يمكنها أن تلتقي مبادئ الله – تعالى – في بعض خطواتها، لكن بما أنها تحيا منعزلة عن السماء، حينئذ فلا يمكن أن تكتشف إلا جزءاً من الطريق : ما دامت محكومة بمحدودية الذهن.
على أية حال، يعنينا أن نتابع تحليل الشهيد الصدر وتفسيره لهذا الجانب، حيث خلص منه إلى أن الفارق بين المثل الأرضي ومثل السماء هو محدودية الأول ولا محدودية الآخر، لذلك فإن التقدم نحو مبادئ السماء وهي (المثل الأعلى) يفتح مجال الإبداع والتطور التكاملي للإنسان مادام الطريق لا نهائياً. ويترتب على ذلك أن: (الإنسانية حينما توفق بين وعيها البشري والواقع الكوني الذي يفترض هذا المثل الأعلى حقيقة قائمة كما افترضته الآية … سوف يحدث تغيير كمي وكيفي على هذه المسيرة). أما التغيير الكمي فيتمثل في مجال الإبداع مفتوحاً على الإنسان، … وأما التغيير الكيفي فيتمثل في حل التناقض الإنساني (لأن الإنسان من خلال إيمانه بهذا المثل الأعلى ووعيه على طريقة بحدوده الكونية الواقعية، من هذا الوعي ينشأ بصورة موضوعية شعور معمق لديه بالمسؤولية تجاه المثل الأعلى).
ويلاحظ، أن الشهيد الصدر عبر إشارته إلى التغيير الكيفي قد ركز على مصطلح (حل التناقض الإنساني) مفسراً ذلك التناقض بأن الإنسان مركب من التراب ونفحة من روح الله تعالى، الأولى تجره إلى الشهوات، والأخرى تجره إلى الأعلى، إلى صفات الله تعالى، وأن التناقض بين هذين التيارين يحل من خلال الإحساس بالمسؤولية بالنحو الذي أوضحته الفقرات سابقاً.
والحقّ، أن طرفي التصارع بين التراب والروح، لا يشكل الصيغة النهائية لتركيبية الإنسان، ما دام التراب نفسه من الممكن أن يكتسب سمة الإيجاب عندما تهذبه (الروح) بمبادئها المرسومة، لذلك، فإن المقولة المأثورة عن الإمام عليu في ذهابه إلى أن الإنسان مركب من(العقل) و(الشهوة)، أو المقولة المأثورة عن المعصومين عليهم السلام أنه مركب من (العقل) و(الجهل) تظل مستكملة لمقولة أنه مركب من المادة والروح، فما دامت الحاجات البشرية تتوزع بين ما هو عضوي ومادي كالطعام والجنس والطبيعة وبين ما هو معنوي كالحاجة النفسية والعقلية، حينئذ فإن طرفي الصراع لا يتمثل بين ما هو مادي ومعنوي بل بين ما هو (مشروع) كحلية الطعام والزواج وبين ما هو غير مشروع منهما، أي الصراع بين المبادئ التي رسمتها السماء، لإشباع الحاجات : ماديها ومعنويّها وبين الإنسلاخ عنها أي الإشباع المطلق…
وأياً كان الأثر، لا نزال نتابع تفسير الباحث وتحليله بالنسبة إلى حلّ التناقض الإنساني تمثلاً في الإلتزام بمبادئ الله أو (دين التوحيد) بصفته السنة التاريخية التي دلّل الباحث عليها في فقرات سابقة، وانتهى إليها الآن ليدلل بها على (دين التوحيد) الذي يحلّ التناقض الإنساني، ويحدث التغيير الكمي والكيفي في المسيرة البشرية، هنا يتقدم الباحث إلى طرح ما يضطلع عليه في اللغة العبادية بـ (أصول الدين) وهي: التوحيد، العدل، المعاد، النبوة، الإمامة، حيث يحللها في ضوء التفسير الاجتماعي لمعطياتها، مستخلصاً من ذلك أن الإنشداد إلى مبادئ الله ـ تعالىـ أو المثل الأعلى الذي تتبناه المسيرة البشرية بما يستتبعه من التغيير الكمي والكيفي، يتوقف نجاحه على معرفة الأصول المشار إليها، وهي :
1ـ التوحيد : بمعنى أن تكون للإنسان رؤية واضحة حيال المثل الأعلى متمثلة في عقيدة التوحيد، بما تنطوي عليه من إيمان بالله ـ تعالىـ حيث توحّد بين كلّ الطموحات البشرية، بصفة أن المثل الأعلى (الله) يجّسد القدرة والعدل والرحمة مطلقاً… الخ.
2ـ المعاد : بمعنى الإيمان بوجود اليوم الآخر وما يترتب عليه من الثواب والعقاب، وهو ما يجّسد طاقة روحية تحفز البشرية على ممارسة نشاطها العبادي.
3ـ النبوة : بمعنى أن المثل الأعلى بما أنه منفصل عن الإنسان، حينئذ لا بدّ من وجود صلة تربط بينه وبين المثل(الله) لإيصال مبادئ السماء إلى الآخرين، وليكون بشيراً ونذيراً.
4ـ الإمامة: بمعنى أن ثمة مراحل تأريخية تتطلب امتداداً آخر للنبوة متمثلة في الإمامة.
ويقول الباحث أن مرحلة الاختلاف بين البشر لن يكفي فيها دور البشير والنذير، بل لا بدّ من قيادة تتبنى معركة جديدة حيال المثل المنخفضة وهذا ما يضطلع به دور الإمامة، ويقرّر الشهيد الصدر أن دورها يندمج مع دور النبوة في بعض المراحل، ولكنه يمتد بعدها، قائلاً(بأنها بدأت في أكبر الظن مع نوح عليه الصلاة والسلام.
5ـ العدل: هنا يقرّر الشهيد الصدر بأن العدل في واقعه صفة من صفات الله تعالى، إلاّ أنه أفرز نظراً لارتباطه بالبعد الاجتماعي، يقول الباحث معللاً:(لأن العدل هو الصفة التي تعطي للمسيرة الاجتماعية وتغني المسيرة الاجتماعية والتي تكون المسيرة الاجتماعية بحاجة إليها أكثر من أية صفة أخرى. وإلاّ، العدل من الحقيقة هو داخل في إطار التوحيد العام).
مما لا يشك فيه، أن الشهيد الصدر هنا يكسب هذه الأصول العقائدية بعداً اجتماعياً جديداً من حيث ربطها بحركة التأريخ، مضافاً إلى بُعدها الفردي، وهو تفسير له أهميته وريادته في هذا الميدان، بيد أن طرحه لمظاهر (العدل) تظل موضع مناقشة طالما نخبر جميعاً بأن العدل صفة أفرزت عن الصفات الأخرى نظراً لارتباطها باليوم الآخر، وليس لارتباطها بالبعد الاجتماعي، أي من حيث العدالة التي تترتب عليها الإثابة والعقاب،: بصفة أن اليوم الآخر هو المحدّد للمصير النهائي للبشرية، وحينئذ لا بدّ من إفراز (العدل) لأضخم ظاهرة تهمّ الإنسان وهو مصيره الأبدي، أما انعاكسها على المجتمع الدنيوي فأمر يصعب الركون إليه نظراً لما نخبره من أن تحقيق التوازن الاجتماعي لا ينحصر في ظاهرة (العدالة) في التوزيع مثلاً أو العدالة في إعطاء كلّ ذي حق حقّه، بل يتجاوزه إلى سمات أخرى، كالرحمة والإحساس والإيثار والمساعدة والأمانة والصدق والإخلاص فما لم يتوفر عنصر الإخلاص أو الصدق أو الأمانة… الخ، لا يمكن أن يتحقق توازن المجتمعات، ويظل(العدل) واحداً من العناصر المشار إليها، ومن ثم لا مانع من الذهاب إلى أمر يكتسب أهمية أشد من العناصر الأخرى: لكن دون أن يشتاحنا مثل هذا التصور لأهمية العدالة بأن نسحبها على ظاهرة دنيوية دون أن نملك دليلاً شرعياً أو اجتماعياً على ذلك.
وحينما يكون خارجاً عن ذلك، يظل الشهيد الصدر في تفسيره الاجتماعي للأصول المذكورةـ كما قلناـ يسجل ريادة فكرية في البحث الاجتماعي:مع تحفظاتنا أيضاً حيال تفسيره لمراحل الاختلاف واندماج الدورين: النبوة والإمامة، وتحديد ذلك مع مجتمع نوحu، حيث يمكن مناقشة ذلك من خلال رجوعنا إلى الوثائق التاريخية، قرآناً وسنة وتاريخاً عاماً، لا نجد ضرورة طرحها في هذه الفقرات.
أخيراً: ينهي الشهيد الصدر معالجته لدور الإنسان والطبيعة والعلاقة بينهما عبر تحليله لعناصر المجتمع، حيث كانت الفقرات السابقة تتناول دوري الإنسان والطبيعة، أما الآن فيحدثنا العنصر الثالث وهو (العلاقة) بينهما، أي علاقة الإنسان مع الطبيعة، وعلاقته مع أخيه من حيث التأثير المتبادل بين هذه العلاقات.
بالنسبة إلى علاقة الإنسان مع الطبيعة يقرّرـ الشهيد الصدر في ضوء خبرته الاجتماعية بأن ثمة سنة تاريخية ثابتة هي (التأثير المتبادل بين الخبرة والممارسة)، وأن المشكلة التي تواجهها البشرية في علاقاتها مع الطبيعة تتمثل في التناقض بين حاجات البشر وبين تأبّي الطبيعة عن الاستجابة لاشباعها، حيث أن القانون المذكور يحلّ التناقض بينهما من خلال التأثير المتبادل بين الخبرة والممارسة، فبقدر ما تكتسب البشرية خبرة بالطبيعة: تسيطر عليها(وحيث إن كلّ خبرة في تتولد في هذا الحقل عادة من الممارسة، وكلّ ممارسة تولد بدورها خبرة ، لهذا كان قانون التأثير المتبادل بين الخبرة والممارسة قانوناً موضوعياً يكفل حلّ هذا التناقض). هنا، التمس الشهيد الصدر دليلاً قرآنياً كريماً للحل المذكور فمثلاً في آية ﴿وآتاكم من كلّ ما سألتموه…﴾[21].بصفتها تمثل (الطلب التكويني الذي يحقق باستمرار التطبيقات التأريخية لقانون التأثير المتبادل بين الخبرة والممارسة).
وأما علاقة الإنسان مع أخيه، فتواجه بدورها مشكلة هي التناقض الاجتماعي بينهما، حيث يقرّر الشهيد الصدر بأن التناقض يتمثل ما بين القوي والضعيف، وهو تناقض ينبع من التناقض داخل الإنسان: بين حفنة التراب والروح، فما لم تنتصر الروح فلا حل للمشكلة ، ويقرر الشهيد الصدر بأن الإسلام هو الرسالة الوحيدة التي تكفلت بالحلّ حيث طالبت بتصفية التناقض الداخلي ليسحب أثره على التناقض الاجتماعي هنا، يقطع الشهيد الصدر رحلة طويلة في مناقشة بعض الاتجاهات الأرضية، خاصة الاتجاه الماركسي في ذهابه إلى أن المشكلة هي التناقض الطبقي بين مالكي وسائل والإنتاج وبين عدم مالكيها، ويردّ ذلك من خلال الواقع التأريخي للدول الرأسمالية واحتوائها العمّال إلى جانبهم، واشتراكهما جميعاً في نهاية المطاف في استغلال شعوب العالم الثالث، منتهياً من ذلك إلى أن التناقض هو داخل الإنسان وليس بمعناه الماركسي.
بعد ذلك، يتجه الشهيد الصدر إلى توضيح التأثير المتبادل بين علاقات الإنسان مع الطبيعة وأخيه من خلال التوكؤ على النص القرآني الكريم، مبيّنياً كلاً من التأثيرين: الطردي والعكسي في العلاقة بينهما، فبالنسبة إلى أثر علاقة الإنسان مع الطبيعة وانسحابها على الآخر، يقرر الباحث بأنه كلما ازدادت سيطرة الإنسان على الطبيعة، زاد استغلاله لأخيه الإنسان﴿ … إن الإنسان ليطغى﴾[22]… وأما بالنسبة إلى الخطّ الآخر من العلاقة ، فإنه بقدر ما تتحكم العدالة بين الإنسان وأخيه: تنسحب على علاقته مع الطبيعة، فتزدهر الطبيعة حنيئذ (وألَّو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً) (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل… لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم..﴾([23]).
إلى هنا يكون الشهيد الصدر قد أنهى حديثه عن عناصر المجتمع في القرآن الكريم من خلال تحليله وتفسيره للعناصر التالية: الطبيعة، الإنسان، العلاقة بينهما، منتهياً من ذلك إلى المقارنة بين التصور القرآني والأرضي، أو بين مجتمع العدل ومجتمع الظلم، فالأول يحقّق (الازدهار في علاقات الإنسان مع الطبيعة) والآخر ( يؤدي إلى انحسار تلك العلاقات)، وهو أمر ـ يقرّر الشهيد الصدرـ لا يشكل ظاهرة تنتسب إلى الغيب فحسب، بل تشكل سنة تأريخية أيضاً، لماذا؟( لأن مجتمع الظلم… مجتمع ممزق، مشتت، الفرعونية على مرّ التاريخ حينما تتحكم في علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان تستهدف تمزيق طاقات المجتمع، بينما (المثل الأعلى يوحّد الجامعة البشرية ويلغي كلّ الفوارق …. يصهر البشرية كلّها في وحدة متكافئة، لا يوجد ما يميز بعضها عن بعض، لا من دم ولا من جنس ولا من قومية ولا من حدود جغرافية أو طبقية)، وفي ضوء هذه الفارقية بينهما، يقدم الشهيد الصدر تحليلاً تأريخياً لمجتمع الظلم يعتمد من خلاله على ظاهرة (تجزئة) المجتمع، مقسماً إيّاه ستة أقسام، نعرضها خاطفاً: مع مناقشة بعض التصورات حيالها.
1ـ الجماعة الأولى: ظالمة ومستضعفة في آن واحد، وهم (أعوان الظلمة) حيث يدعمون السلطة فتنسحب عليهم سمة (الظلم) ويخضعون لفرعون فتنسحب عليهم سمة الاستضعاف. وقد استشهد الشهيد الصدر بالآية الكريمة:
( … ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنّا مؤمنين)[24].
2ـ الجماعة الثانية: هم المتزلفون الذين لا يمارسون الظلم مباشرة، ولكنهم يزينون لفرعون عملَه. والشهيد الصدر قد استشهد بآية ( وقال الملأ من قوم فوعونَ أتذرُ موسى وقومه…)[25].
3ـ الجماعة الثالثة: هم الهمج الرعاع الذين يتحركون دون وعي. وقد استشهد الشهيد الصدر بنص قرآني كريم، وبنص الإمام عليu في تحديده لهذه الجماعة، أما النصّ القرآني فهو ( … إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل). وأما نصّ الإمام عليu فهو (الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع ينعقون مع كل ناعق) .
4ـ الجماعة الرابعة: هم الساكتون عن الحقّ، فهم لم يظلموا، ولكنهم يستنكرون الظلم في قرارة نفوسهم. وقد استشهد الشهيد الصدر بآية ( إنّ الذين توفاهم الملائكةُ ظالمي أنفسِهم…)[26]…
5ـ الجماعة الخامسة: هم المترهبون أو المعتزلون عن هموم الآخرين، وقد استشهد الشهيد الصدر بآية (… ورهبانيةً ابتدعوها )[27]…
6ـ الجماعة السادسة: هم المستضعفون. وقد استشهد الشهيد الصدر بآية ( ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض…)[28].
مما لا شكّ فيه، أن الشهيد الصدر في تقسيمه المتقدم قد اضطلع بتحليل فائق للطوائف الاجتماعية التي اصطنعها الفراعنة. وقدم تفسيراً متميزاً عن التفسيرات التي يقدمها علماء الاجتماع من حيث توكؤه على البعد الإسلامي في فرز هذه الطائفة عن تلك. كما برع في تشخيص السمات السلبية المترتبة على سلوك هذه الطائفة أو تلك… وكما لا شك فيه أيضاً، أنّ توكأه على السنة الشريفة (كلام الإمامu قد أسعفه من بلورة هذا التقسيم لبعض الطوائف. وكنّا نتمنى لو أن الشهيد الصدر توكأ على السنة الشريفة، مضافاً إلى النصّ القرآني الكريم ـ ليبلور مفهومات أو تفصيلات متنوعة في فصول دراسته جميعاً، ولعلّ اقتصاره على النصّ القرآني الكريم وحده، حمله على أن يلتمس نصوصاً من الممكن مناقشة دلالتها التي أضطلع بآياتها ، … من ذلك مثلاً اصطناعه الفارق بين آية (… يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين )[29] حيث سحبها على الطائفة الأولى ، وبين آية ( … إنا أطعنا سادتنا وكبرءنا فأضلونا السبيلا)[30] وسحبها على الطائفة الثالثة، مع أن التدقيق فيهما لا يسمح بالاصطناع المذكور، حيث إن السادة والكبراء لا يختلفون عن المستكبرين من حيث الدلالة الاجتماعية لسلوك هؤلاء. وقد سبق أن أشرنا في ثمرات متقدمة إلى هذا الجانب، ونذكّر به الآن: حرصاً على استخلاص الحقائق الأكثر لصوقاً بظواهر النصّ وما أُثر من التفسير حيالها. ولعلّ الحاجة الأشد إلحاحاً إلى التوكؤ على نصوص السنة الشريفة( بصفتها متصلة للنصّ القرآني الكريم، ومكملة لأطراف الظاهرة المبحوث عنها، تتضح بالنسبة إلى الطائفة الخامسة التي استشهد ـ في التدليل عليهاـ بعبارة (ورهبانية ابتدعوها) حيث تتحدث الآية الكريمة عن شريحة اجتماعية خاصة، مع أن الشهيد الصدر يتحدث عن سنة تأريخية تنسحب على مطلق عصور الظلم، وحينئذ فإن الاستشهاد بنصوص المعصومين عليهم السلام حيث ألمحوا إلى اؤلئك الذين عزلوا أنفسهم عن الساحة الاجتماعية، وهو ما ينسحب على مطلق العصور كما أشرنا.
المهم. في نهاية المطاف، أن الشهيد الصدر الذي نحن في صدد الحديث عن تفكيره الاجتماعي في ضوء التصور الإسلامي يظل رائداً لا يختلف اثنان في ذلك، ليس في نطاق البحث الاجتماعي أو الفلسفي أو الاقتصادي أو التاريخي الذي تجاوز به تخوم المؤسسة التي ينتسب إليها فحسب، بل في المعرفة الحوزوية بدورها، حيث عدّ رائداً ضخماً في حقل البحوث الفقهية والأصولية والمنطقية.
وبكلمة قد تكون ضبابية : أن المفكر السيد الشهيد محمّد باقر الصدر يظلّ شخصية تتصاعد في ذكائها ومعطياتها المعرفية إلى درجة (النبوغ) بل (العبقرية) التي لا يسمح بها الزمن إلاّ نادراً، والأهم من ذلك، توظيف جميع قدراته المعرفية في بلورة مبادئ السماء بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.
عبد الإله المسلم
[1] – الأعراف / 34 .
[2]_ يوسف / 109 .
[4]_ الرعد / 11 .
[5] – الجاثية / 28 .
[6] – الأسراء / 13 .
[7] – مريم / 95 .
[8] –الروم / 30 .
[9] – الحج / 47 .
[10] – البقرة / 30 .
[11] – البقرة / 30 .
[12] – الروم / 30 .
[13] –الأحزاب / 72 .
[14] – الحشر / 14 .
[15] –الشمس / 8 .
[16] – الأحزاب / 76 .
[17] –الزخرف / 43 .
[18] –الأنعام / 123 .
[19] –الانشقاق / 6 .
[20] –النور / 39 .
[21] ـ إبراهيم / 34.
[22] ـ العلق / 6.
[23] ـ المائدة / 66.
[24] ـ سبأ / 31.
[25] ـ الأعراف / 127.
[26] ـ النساء / 97.
[27] ـ الحديد / 27.
[28] ـ القصص / 5.
[29] ـ سبأ / 31.
[30] _ الأحزاب / 67 .