الملكية بين الإسلام والاشتراكية والرأسمالية عند الشهيد محمد باقر الصدر(رضوان الله علیه)

الأستاذ الدكتور محمد الحاجي

الحمد لله رب العالمين القائل في كتابه العزيز: <إِنَّمٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً>[1].

والصلاة والسلام على رسول الله(ص) القائل: (أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي)[2].

وبعد:

عاش العالم فترة زمنية تحت ظلال الرأسمالية مبهوراً بالشعارات التي نادت بها، وأهمها شعار الحرية، لكن التطبيق العملي لها أظهر مساوئ كثيرة.

وجاءت الاشتراكية كردّة فعل على الرأسمالية، فطرحت شعارات برّاقة أهمها العدالة الاجتماعية.

وبالفعل انبهر العالم أمام هذه الطروحات ۔ حتى غالبية المفكرين الإسلاميين ۔ وانقسم الناس أمام ذلك إلى فئات ثلاث:

1­. رافضين لكل هذه الطروحات، متقوقعين على ما يحملونه من علوم فقه وما إلى هنالك!

2­. منبهرين مسلوبين منادين بأخذ كل ما يأتي من تلكم الأماكن، حتى أن البعض حاول تبرير الاشتراكية باسم الإسلام؛ لذلك ظهرت كتب تحمل أسماء: اشتراكية محمد!! اشتراكية الإسلام!! وما إلى هنالك.

3­. والقلة القليلة هي التي حملت على كاهلها تبيان حقائق الإسلام ومزاياه، وأهمها صلاحه لكل وقت ومكان، وهؤلاء لم يرفضوا الأفكار المستوردة جملةً وتفصيلاً، ولم تنسحق شخصياتهم أمامها، إنما عادوا إلى الإسلام وتراثه الفقهي العظيم، فاستنبطوا منه ما يناسب الوقائع الحديثة والمستجدات، فقدّموا تصوراً شاملاً للأمور، واكتشفوا نظاماً إسلامياً متألقاً، فكانوا ۔ بحق ۔ الإسلاميين الحركيين الرساليين، وكان من روّاد هؤلاء القلة الشهيد السعيد محمد باقر الصدر(ره) وهو على حسب تعبير محمد خاتمي:

مجتهد مجاهد، وفقيه مقتدر، وشخصية نابغة في الفلسفة وعلم الكلام والمعارف الإسلامية، ومن أبرز الدلائل على جهوده الفكرية والاجتماعية، محاولاته تقديم الإسلام بأسلوب علمي ومنطقي، وهو عندي المدرسة المثلي مقابل المذاهب الفكرية الحديثة المعروفة[3].

وكان من أهم مؤلفاته كتاب (اقتصادنا) حيث اشتهر بين الناس، خاصة أنه جاء نتاج الأحوال السائدة في أوائل الستينات، حيث كانت الشيوعية تنمو في العراق وإيران وسورية وغيرها، وكان الناس ۔ خاصة الشباب ۔ قد اقتنعوا بالحلول التي تطرحها الشيوعية مما دعا العلماء إلى تبيين الأمور، فالشهيد الصدر(ره) لم يتجمد أمام التراث الفقهي، ولم يحرّم مطالعة ما يطرح في الغرب والشرق، إنما تعامل على أسس المنطق مع ما كتب في كتب التراث، ليقدّم للعالم كتابه العظيم (اقتصادنا)، حيث استطاع اكتشاف المذهب الاقتصادى الإسلامي بطريقة علمية، وتحدّى الفكر الرأسمالي والأشتراكي وحدد الاختلاف الجوهري بين الإسلام والرأسمالية والاشتراكية في طبيعة الملكية:

فالمجتمع الرأسمالي يؤمن بالشكل الخاص الفردي للملكية ولا يعترف العامة إلا حين تفرضها الضرورة الاجتماعية، والمجتمع الاشتراكي على العكس تماماً من ذلك، فإن الملكية الاشتراكية فيه هي المبدأ العالم، وليست الملكية الخاصة لبعض الثروات في نظره إلا شذوذاً واستثناءً.. وقد يعترف بها أحياناً بحكم ضرورة اجتماعية قاهرة، بينما المجتمع الإسلامي يقرّر الأشكال المختلفة للملكية في وقت واحد، فيضع بذلك مبدأ الملكية المزدوجة ۔ الملكية ذات الأشكال المتنوعة ۔ بدلاً من مبدأ الشكل الواحد للملكية، الذي أخذت به الرأسمالية والاشتراكية[4].

وأكد الشهيد الصدر(ره) على أمر مهم، هو أن النظام الاقتصادي الإسلامي بنظرته إلى الملكية المزدوجة لا يعني أنه تأثر بالنظامين الاشتراكي والرأسمالي أبداً، فهو سابق لهما في المسار الزمني، وهو مستمد من دين الفطرة التي توافق الإنسان في كل زمان ومكان:

ولهذا كان من الخطأ أن يسمّى المجتمع الإسلامي مجتمعاً رأسمالياً وإن سمح بالملكية الخاصة لعدة من رؤوس الأموال ووسائل الإنتاج؛ لأن الملكية الخاصة عنده ليست هي القاعدة العامة.

كما أن من الخطأ أن نطلق على المجتمع الإسلامي اسم المجتمع الاشتراكي وإن أخذ بمبدأ الملكية العامة وملكية الدولة في بعض الثروات ورؤوس الأموال؛ لأن الشكل الاشتراكي للملكية ليس هو القاعدة العامة في رأيه.

وكذلك من الخطأ أيضاً أن يعتبر مزاجاً مركباً من هذا وذلك؛ لأن تنوّع الأشكال الرئيسية للملكية في المجتمع الإسلامي، لا يعني أن الإسلام مزج بين المذهبين: الرأسمالي والاشتراكي، وأخذ من كل منهما جانباً، وإنما يعتبر ذلك التنوع في أشكال الملكية عن تصميم مذهبي أصيل قائم على أسس وقواعد فكرية معينة، وموضوع ضمن إطار خاص من القيم والمفاهيم، تناقض الأسس والقواعد والقيم والمفاهيم التي قامت عليها الرأسمالية الحرة والاشتراكية الماركسية[5].

إذن كيف تحدّث الشهيد الصدر(ره) عن قضية الملكية، وكيف قارن بين نظرة الأنظمة الثلاثة: الرأسمالية والاشتراكية والإسلام إلى الملكية؟ وما هي نتائج دراساته هذه إذا قورنت بما حدث من تطورات على ما كتبه، وذلك بعد مرور أكثر من خمسين عاماً؟!

1­. تمهيد وتعريفات

حب التملك ظاهرة واضحة في عالم الحيوان وذلك عن طريق الاندفاع الفطري، دون تعلّم أو اكتساب من أية جهة كانت.

أما الإنسان، فإنه يجد في التملك لذة، وإذا حُرم منها أحس بالألم والظلم؛ لذلك فالميل إلى التملك دافع ونزعة فطرية فيه ملازمة له أبداً، وليس ناتجاً عن ظروف محيطة به، دليل ذلك قول الله تعالى: <وَتُحِبُّونَ المَالَ حُبّاً جَمّاً>[6].

وقد أكد القرآن الكريم على العلاقة الوطيدة بين غريزتي التملك والبقاء، فقال تعالى: <المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا>[7].

وأكد ذلك رسول الله(ص) بقوله: (لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب)[8].

وبالتالي فكنز المال ورغبة حيازته دافع قوي عند الإنسان، حيث جُبل على الحرص والبخل وخوف الفقر والفاقة، قال الله تعالى: <قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنسَانُ قَتُوراً>[9].

إذن ماذا تعني الملكية؟

لغةً هي احتواء الشيء والقدرة على الاستبداد به[10].

أما في الاصطلاح الشرعي فلها تعريفات كثيرة، لكن أجمعها ما عرّفه العلامة الجرجاني: (اتصال شرعي بين الإنسان وبين شيء يكون مطلقاً لتصرّفه فيه وحاجزاً عن تصرف غيره فيه)[11].

ومثله تعريف الإمام القرّافي: (تمكّن الإنسان شرعاً بنفسه أو بنيابة عنه عن الانتفاع بالعين ومن أخذ العوض أو تمكنه من الانتفاع خاصة)[12].

أما القرآن الكريم ففيه حديث مستفيض عن مسألة الملكية، يمكن ظبطه في ثلاث محاور:

1­. الملك مطلق لله: <قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ>[13].

2­. الإنسان مستخلف من الله على الملك: <وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ>[14]. فليست في الحقيقة أموالكم وإن بدت في الظاهر كذلك، إنما أنتم وكلاء ونواب عليها.

3­. في بعض الحالات ينسب الله الملك للإنسان: <لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ>[15]. وليس في ذلك أي تناقض؛ ذلك لأن الله تعالى هو المالك الحقيقي لكل شيء، لكنه لم يخلق ذلك لنفسه، بل خلقه للإنسان تفضّلاً منه وتكرّماً: <هُوَ الَّذي خَلَقَ لَكُم مَا في الأَرضِ جَميعاً>[16].

وبالتالي فلكل فرد في نظر الإسلام دور بارز في إعمار الأرض؛ لأنه مكلّف بتحقيق خلافة الله في الأرض، ومن هنا تبرز عناصر الملكية في الميزان الشرعي، وهي:

أ ۔ حق الله تعالى: في أنه المالك الأصلي <وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ>[17].

ب ۔ حق الفرد: فللأفراد سلطان على هذا الكون من خلال ما يمكنهم استخدامه <وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ>[18].

ج ۔ حق الجماعة: يتمثل في أن للجماعة حقاً في مال الأفراد: <وَفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ>[19].

أما في الديانات السابقة فالحديث عن الملكية ۔ حسب ما في أيدينا من ثبوتيات ۔ حديث عام ليس فيه تفصيلات كثيرة، من ذلك مثلاً:

الديانة اليهودية: فمن خلال معطيات القرآن الكريم والتوراة الموجودة الآن نلاحظ أن الملكية كانت موجودة على اختلاف أنواعها: ملكية فردية وأسرية وجماعية، مصداق ذلك قوله تعالى: <وَإِذِ اسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا في الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ>[20].

وقوله تعالى: <وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ في الحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ>[21].

وتشير الوصايا العشر إلى مسألة حماية الملكية، من ذلك:

وإذا ضبط اللصّ متلبساً بجريمة السرقة، فإن دمه يذهب هدراً إذا قتل أو مات ضرباً، ويجب على اللص أن يعوّض ما سرقه أربعة أو خمسة أضعاف ما سرقه[22].

ثم تتالى الزمن وأخلّ بنو إسرائيل بالوصايا وما إلى هنالك، فجاءت الديانة النصرانية لتعالج الانحرافات لدى اليهود، وخاصةً في الأمور التي تتعلق بالمال، حيث عُرف عنهم الاستغراق في جمع المال من حل أو حرام، لكن النصرانية ركّزت على الترغيب والترهيب والوصايا فقط، من ذلك مثلاً:

قال له يسوع: إن أردت [أن] تكون كاملاً، فاذهب وبِع أملاكك وأعط الفقراء، فيكون لك كنز في السماء وتعال واتبعني، فلما سمع الشاب الكلمة مضى حزيناً؛ لأنه كان ذا أموال كثيرة[23].

2­. الملكية في النظام الرأسمالي

استمدت الرأسمالية أصولها من القانون الروماني الذي يعتبر الملكية الفردية حقاً مقدساً؛ لذلك كان المحور الرئيسي للرأسمالية هو الحرية: حرية التملك وحرية الإنتاج وحرية العمل وحرية التعاقد وحرية الاستهلاك.. . لذلك أصبحت الملكية الفردية روح النظام الرأسمالي، وبرّر المتحمسون للرأسمالية اعتمادها على الملكية الفردية بعدة مبررات أهمها:

1­. أن الإنسان يسعى إلى إثبات وجوده وكيانه وأمنه ورفاهيته، ولن يتحقق ذلك إلا عن طريق الملكية الفردية.

2­. الملكية الفردية تجعل صاحبها يرتبط بقوة بمجتمعه الذي يمتلك فيه؛ لذلك تنشأ رابطة قوية بين الفرد المالك ملكية خاصة والمجتمع الذي يعيش فيه.

3­. أن الملكية تحقق للفرد كثيراً من جوانب الحرية الأخرى، مثل اختيار عمله.

4­. الملكية الفردية تجعل الفرد يندفع بأقصى طاقاته للاستفاده من خيرات المجتمع وتسخيرها لمصلحته التي ستعود بالنفع على بقية أفراد المجتمع في أشكال متعددة لزيادة الإنتاج مثلاً.

5­. أن الملكية الفردية تزيد في تقوية آصرة القرابة في العائلة الواحدة؛ لأن رب العائلة يحس بأن ما ينتجه وما يدّخره سيكون لذريته بالميراث.

لكن ماذا يقول لسان حال المجتمعات الرأسمالية في العالم؟!

بما أن الإنسان له الحريته المطلقة في التملك وما إلى هنالك، وبما أن الدولة لا تتدخل في أمور الإنسان، لذلك فقد استغل بعض الأثرياء استخراج الخامات الطبيعية من البيئة، مما درّ عليهم أرباحاً كبيرة جداً، بينما اتجه آخرون إلى تجارة الرقيق متناسين إنسانية الإنسان، لاهثين وراء الربح كيفما كان الحال والمآل!!

ومارس آخرون الاحتكار والمضاربة والتلاعب بالمواصفات والأسعار، مما كوّن طبقة تملك الثرواث الكبيرة، هذا ما أدّى إلى زيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء!

كل هذا أفرز في المجتمع الرأسمالي مظاهر مرضية عصيبة كظهور وسائل الكسب غير المشروع كالقمار ونحوه، وإنتاج سلع ضارة بالمجتمع، والاتجاه نحو مزيد من إنتاج السلع الترفيهية والكمالية حتى لو كان على حساب إنتاج الضروريات، فتدنّت الأخلاق وانحرفت، والطامة الكبرى أن استطاع الأثرياء السيطرة على وسائل الإعلام واستخدامها لصالحهم، مما كوّن كارثة حقيقية ما زالت المجتمعات تعاني منها، وما ظهور المصطلحات الحديثة كالعولمة والكوكبة وأحادية القطب و.. عنّا ببعيد!![24]

فما هو رأي الشهيد الصدر(ره) في ذلك؟

لقد قرأ ما طرحه الرأسماليون من مبادئ ونظريات وشعارات وما إلى هنالك، ثم قام بعملية مسح في المجتمعات الرأسمالية القائمة واستنتج أن للرأسمالية مساوئ كبيرة بحيث لا يمكن تطبيقها كلها، إنما يمكن تطبيق بعضها فقط:

فالمجتمع الرأسمالي يؤمن بالشكل الخاصل الفردي للملكية أى بالملكية الخاصة كقاعدة عامة، فهو يسمح للأفراد بالملكية الخاصة لمختلف أنواع الثروة في البلاد تبعاً لنشاطاتهم وظروفهم، ولا يعترف بالملكية العامة إلا حين تفرض الضرورة الاجتماعية، وتبرهن التجربة على وجوب تأميم هذا المرفق أو ذاك، فتكون هذه الضرورة حالة استثنائية، يضطر المجتمع الرأسمالي ۔ على أساسها ۔ إلى الخروج عن مبدأ الملكية الخاصة واستنثناء مرفق أو ثروة معينة من مجالها[25].

وكان الشهيد الصدر(ره) محقاً في ذلك، فلقد ظهرت دعوات إصلاحية تدعو إلى توزيع الثروة بشكل عادل والحد من الأرباح الفاحشة والحد من الحرية في التملك وتأميم بعض المشروعات الهامة.

3­. الملكية في النظام الاشتراكي

يمكن استخدام شعار (من بعدي الطوفان) ليدلّ بوضوح على النظام البرجوازي الرأسمالي، وكذلك يمكن استخدام شعار (كلنا للفرد، والفرد للكل) ليدلّ على النظام الاشتراكي، فكلا النظامين يقفان على طرفي نقيض!!

فالفيلسوف (أفلاطون) نادى بما يسمّى الاشتراكية الخيالية حتى إذا ما جاء (كارل ماركس) نادى بما يدعى الاشتراكية العلمية، وهذه الأخيرة تعني: النظام الاشتراكي الذي يتميز بتملك الدولة ۔ أي الملكية الجماعية أو العامة للأموال ۔ وخاصة الأموال الإنتاجية كالآلات والأراضي، وهذا عكس رؤية الرأسمالية. وهكذا طُبّقت الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي ۔ سابقاً ۔ وظهرت فكرة (الكولخوزات) وأعلن (لينين) عن الهدف من الاشتراكية بقوله:

إن ثورة البروليتاريا الاجتماعية تستبدل الملكية الاجتماعية بالخاصة، وتتبنى التنظيم المخطط للإنتاج الاجتماعي من أجل تأمين الرفاه الكامل والتطور الحر الشامل لجميع أعضاء المجتمع[26].

ووضع الدستور السوفياتي تعريفاً للاشتراكية:

هي نظام تمتلك فيه الدولة ملكية وسائل الإنتاج في الصناعات الأساسية من معامل وآلات وبنوك وعقارات وأراضي وغير ذلك، وهي ۔ أي الدولة ۔ التي تضع برامج الإنتاج وفق معدلات وأسس ترتبط بالاستهلاك لا بالكسب، وقد يسمح في هذا النظام للأفراد بالتملك الخاص في حدود ضيقة جداً، لا تتعدى الاستهلاك الشخصي أو بعض الصناعات الصغيرة أو الأعمال الفردية، كما هو الحال اليوم في الاتحاد السوفياتي[27].

وبالفعل ظهرت في الاتحاد السوفياتي غداة انتصار الثورة الحمراء سلطة عليا أُطلق عليها (هيئة مرسوم الأرض) والتي اعتبرت أن جميع أراضي الجمهورية وجميع أملاك ملاكي الأراضي الكبار مع ماشيتهم هي ملك عام.

وبالتالي اتخذت الملكية شكلين:

1­. ملكية الدولة ۔ ملكية الشعب بأسره ۔ والتي تشمل الأرض وما تحت الأرض والمياه والغابات والمصانع والمناجم وما إلى هنالك. وهذه الأشياء ملك الشعب، لا يمكن بيعها أو رهنها أو التنازل عنها، وهي مقدسة محميّة بالقانون والنار، وكل من يعتدي عليها يعتبر عدواً للشعب السوفياتي بأسره!!

2­. والملكية التعاونية ۔ الكولخوزية ۔ تعني ملكية استثمارات الفلاحين الجماعية ۔ الكولخوزات ۔ والمنظمات التعاونية، بحيث تقدّم الدولة لها الأرض وأدوات الإنتاج بصفة مجانية.

ولا تنفي الملكية الاشتراكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج ملكية المواطنين الخاصة لسلع الاستهلاك، إنما (من كل حسب طاقته ولكل حسب عمله) مع مراعاة أن لا يكون ذلك على حساب المصالح الاجتماعية.

إذن ما هو رأي الشهيد الصدر(ره) في ذلك؟

اعتبر الشهيد أن ما طرحته الاشتراكية من أمور تتعلق بالملكية جاء مخالفاً للفطرة الإنسانية، وبالتالي فما هي إلا شعارات تحميها القوة والحديد، وسيثبت التاريخ فشل ذلك كله، أما إذا وصل المجتمع إلى ما بعد الاشتراكية وهي مرحلة الشيوعية، فعندها أُطبق على الشعب والأفراد من كل جانب ولم يعد بإمكانهم تملك أيّ شيء:

إن الشيوعية تعني أن تضع الدولة يدها على كل السلع سواء كانت سلعاً إنتاجية أو استهلاكية، وتوزّعها حسب الحاجة باعتبار المبدأ القائل: من كل فرد حسب كفاءته ولكل فرد حسب حاجته[28].

وليست الاشتراكية إلا ردة فعل لما أفرزته الرأسمالية من أمراض مستعصية؛ لذلك لا تصلح ولا تدوم:

.. فإن الملكية الاشتراكية هي المبدأ العام الذي يطبّق على كل أنواع الثروة في البلاد، وليست الملكية الخاصة لبعض الثروات في نظره شذوذاً أو استثناءً، قد يعترف به أحياناً بحكم ضرورة اجتماعية قاهرة[29].

أجل، لقد كان الشهيد الصدر(ره) محقاً في ذلك، فما هي إلا طرفة عين واستفاقتها حتى قُلبت الطاولة على دعاة الاشتراكية، لا عن طريق أعدائهم من الرأسماليين أو الإسلاميين، إنما على يد المنظّرين للاشتراكية في بلادهم، وصدق الله تعالى بقوله: <هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ>[30].

وهذه هي نتيجة ظلم عباد الله، وهذه هي نتيجة الابتعاد عن منهج الله ورسوله وآل بيته؛ ولذلك لو أردنا استعراض الظلم الذي أصاب البلاد والعباد لرأينا العجب العجاب، ويكفي أن نستدل على ذلك بأن الضحايا في عهد (ستالين) وفي الاتحاد السوفياتي ۔ سابقاً ۔ بلغ عددهم 27 مليون إنسان!

إنها سياسة الحديد والنار وسحق كل ما له علاقة بالعلم والأفكار، فهل نجح ذلك كله؟!

أبداً، فبعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانهزام الاشتراكية في كل أنحاء العالم تبيّن أن الشعوب كانت تعاني الأمرين، فعلى الرغم من الفقر والحرمان كان لابد من أن تجنّد كل الفعاليات الاقتصادية والسياسية والفكرية وما إلى هنالك، لصالح الفرد الأوحد والحزب الأوحد، وإلا فهو عدو التقدم والاشتراكية والإنسان!!

وصدق الله تعالى: <قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَىٰ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى المُتَكَبِّرِينَ>[31].

4­. الملكية في النظام الإسلامي

ادّعت الاشتراكية والماركسية أن لديها علم اقتصاد مستقل، بينما الرأسمالية والإسلام التقيا في قضية أن الاقتصاد ليس علماً إنما هو نظام اقتصادي، وهذا ما ركّز عليه الشهيد الصدر(ره) بقوله:

فالاقتصاد الإسلامي من هذه الناحية ۔ من ناحية التفريق بين العلم والنظام ۔ يشبه الاقتصاد الرأسمالي المذهبي في كونه عملية تغيير الواقع لا عملية تفسير له، فالوظيفة المذهبية تجاه الاقتصاد الإسلامي هي الكشف عن الصورة الكاملة للحياة الاقتصادية وفقاً للتشريع الإسلامي ودرس الأفكار والمفاهيم العامة التي تشعّ من وراء تلك الصورة[32].

لذلك يؤكد الشهيد الصدر(ره) في كثير من جوانب كتابه القيم (اقتصادنا) على عدم جدوى البحث في الإسلام عن علم الاقتصاد؛ لأنه غير موجود، وبالتالى فالاقتصاد الإسلامي مبني على الاكتشاف لا على التكوين، لكن على من تقع مهمة هذا الاكتشاف؟

إن المسألة لابد لها من استنفار جميع القوى للوصول إلى اكتشاف النظرية الإسلامية في الاقتصاد، وإن لم يقم المسلمون بذلك الأمر، فهم جميعاً ۔ وخاصة أصحاب الاختصاص ۔ آثمون.

قال الشهيد الصدر(ره):

إن ما يفي عادة بالغرض هو أن تستخلص نصوص القرآن الكريم والسنة لنجمع العدد الكافي من الأحكام والمفاهيم التي نصل بها في نهاية الشوط إلى النظريات المذهبية العامة.. ولكن النصوص لا تبرز ۔ في الغالب ۔ مضمونها التشريعي أو المفهومي ۔ الحكم أو المفهوم ۔ إبرازاً صريحاً محدداً[33].

ولعل سبب اتفاق الرأسمالية مع الإسلام في نفي وجود علم للاقتصاد وكذلك وجود الحريات هو الذي جعل البعض يدّعي أن الاقتصاد الإسلامي رأسمالي، وقد نبّه الشهيد الصدر(ره) إلى ذلك بقوله:

.. وأولئك الذين اعتقدوا بأن الاقتصاد الإسلامي رأسمالي يؤمن بالحريات الرأسمالية، قد يكون لهم بعض العذر إذا كانوا قد استلهموا إحساسهم من خلال دراسة إنسان عصر التطبيق والقدر الذي كان يشعر به من الحرية، ولكن هذا إحساس خادع؛ لأن إلهام التطبيق لا يكفي بدلاً عن معطيات النصوص التشريعية والفقهية نفسها، التي تكشف عن مضمون لا رأسمالي[34].

ولو عدنا إلى الحديث عن الملكية لرأينا الفوارق الكبيرة في نظرة الأنظمة الرأسمالية والاشتراكية والإسلام إليها:

فالملكية في النظام الرأسمالي فردية مطلقة دون قيد أو حد، وعلى الدولة أن تقوم بحماية هذه الملكية، وبالتالي يحق للفرد الربح حتى لو كان فاحشاً.

والملكية في النظام الاشتراكي جماعية ۔ عامة ۔ وبالتالي لا يحق للفرد استثمار المال ولا الربح أبداً.

أما الإسلام فيختلف تماماً عن النظامين: الاشتراكي والرأسمالي، والسبب أنه نظام رباني، بينما هما نظامان وضعيان، هو جاء لنفع البشر وإصلاحهم وهما جاءا تجسيداً لأهواء البشر ورغباتهم.

وكعادة التشريع الإسلامي في غالبية أموره، فقد وقف موقفاً وسطاً في النظرة إلى قضية التملك، فسمح بها وسمح أيضاً بالاتجار، لكنه تدخّل في مسألة الأرباح، فحرّم الربح الربوي، وبذلك حد من الحرية الاقتصادية، فخالف النظام الرأسمالي وأباح بعض الأرباح التجارية، فخالف مفهوم الماركسية للقيمة والقيمة الفائضة في تفسير الأرباح، ورضي الله عن الشهيد الصدر إذ قال:

أما المذهب الإسلامي فهو يقرر الأشكال المختلفة للملكية في وقت واحد، فيضع بذلك مبدأ الملكية المزدوجة ۔ الملكية ذات الأشكال المتنوعة ۔ بدلاً عن مبدأ الشكل الواحد للملكية الذي أخذت به الرأسمالية والاشتراكية، فهو يؤمن بالملكية الخاصة والملكية العامة وملكية الدولة، ويخصص لكل واحد من هذه الأشكال الثلاثة للملكية حقلاً خاصاً تعمل فيه، ولا يعتبر شيئاً منها شذوذاً أو استثناءً، أو علاجاً مؤقتاً اقتضته الظروف[35].

إذن أنواع الملكية في النظام الاقتصادي الإسلامي هي:

1­. الملكية الخاصة _ الفردية _ في الشريعة الإسلامية

في القرآن الكريم أدلة واضحة على هذه المسألة، من ذلك قول الله تعالى: <وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ>[36].

كذلك قرر الإسلام تقرير ملكية الأموال المنقولة والأشياء الاستهلاكية والعقارات للأفراد، قال تعالى: <وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً>[37]. وقال تعالى: <يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ>[38].

وقال رسول الله(ص): (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)[39]. وقال في خطبة حجة الوداع: (.. فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا)[40].

واتخذت الشريعة الإسلامية عدة أمور لحماية الملكية الخاصة، كتوثيق الدين، كما في قوله تعالى: <يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ ..>[41].

ومثله النهي عن التعدي على أموال الغير، لذلك وضعت الحدود والعقوبات الرادعة كقطع يد السارق: <وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ>[42].

وعقوبة قاطع الطريق: <إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ في الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهمْ خِزْيٌ في الدُّنْيَا وَلَهمْ في الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ>[43].

وتأتي الملكية الخاصة عن عدة طرق، أهمها: الميراث والتعويض والتولد من المملوك والوصية والهبة وإحياء الموات والصيد والتقاط المال بعد تعريفه والعمل وما إلى هنالك.

وهناك بعض الأسباب غير الشرعية للتملك، والتي يرفضها الإسلام ويحاربها، أهمها: الربا والاحتكار والغرر والسرقة والاتجار بالخمر والبيوع الفاسدة.. .

2­. الملكية العامة _ الجماعية _ في الشريعة الإسلامية

وهي التي تتملكها الأمة أو الناس جماعياً، والدليل على شرعيتها قوله تعالى: <وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ>[44]. وقوله سبحانه: <مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ>[45].

وقول النبي(ص): (الناس شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنار ۔ وزاد في رواية ۔ والملح)[46].

ومن صور الملكية العامة: الحمى والوقف والشواطئ والمساجد ونحو ذلك.

وتعتبر الشريعة الإسلامية هذا النوع من الملكية تابعة للملكية الله تعالى، والحق فيها مقرر للجماعة كلها، كقوله تعالى: <هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا في الْأَرْضِ جَمِيعاً>[47].

وهي من صنع الله لا من صنع أحد، كالنهر الطبيعي هو ملك الجميع ونفعه ضروري لجميع أهل البيئة وحسب الحاجة إلى الانتفاع به، وبالتالي فلا تعارض الملكية الخاصة أبداً.

أما حمايتها: فاعتبرت الشريعة الإسلامية الاستيلاء على الأموال العامة نوعاً من أنواع السرقة، كما قال تعالى: <وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ>[48]، فهي مستقلة عن ملكية الدولة الخاصة، ولا يحق للحاكم أن يوسّع أو يضيّق من نطاقها، إنما حسب المصلحة العامة، كما قال الخليفة الثاني عمر: (والله لولا ما أحمل عليه في سبيل الله ما حميت من الأرض شِبراً في شبر)[49] أي: لو أن أرض الحمى لخيل الجهاد أو لرعي الإبل يكفيها شبر فلا يجوز للحاكم أن يجعلها شبرين!!

3­. ملكية الدولة _ بيت المال _ في الشريعة الإسلامية

وهي الملكية التي يكون صاحب الاختصاص فيها بيت مال المسلمين، بحيث يتصرف فيها بهدف تحقيق المصلحة العامة للجماعة الإسلامية، ويعبّر الشهيد الصدر(ره) عن ملكية الدولة بأنها ملكية النبي أو الإمام باعتبار ذلك منصباً إلهياً، ولا ضير في ذلك، وكما قال العلماء: لا مشاحة في الاصطلاح.

ومن صور هذا النوع من الملكية كل أرض كان لها ساكن في آباد الدهر ثم انقرض فتصير حكماً إلى الإمام، ومثلها الأرض الموات التي لم يحيها أحد ولم يملكها مسلم ولا ذمّي، ومثلها خمس الغنائم والمعادن والركاز، ومثلها الجزية ونحو ذلك.

***

أما الشهيد الصدر(ره) فقد تحدّث عن قضية الملكية بطريقة أخرى، حيث قسّمها إلى قسمين:

1­. التفسير الخلقي للملكية.               2­­. التفسير المذهبي للملكية.

1­. التفسير الخلقي للملكية في الإسلام

يقصد بها استعراض التصورات المعنوية التي أعطاها الإسلام عن الملكية ودورها وأهدافها وما إلى هنالك.

فالشهيد الصدر(ره) يؤكد على أن الإسلام يعتبر الإنسان مستخلفاً على الملكية الخاصة، أي أميناً على الثروة ووكيلاً عليها من قبل الله تعالى الذي يملك الكون وجميع ما يضمّ من ثروات، وبالتالي فهذا الاستخلاف يوجه المسلم في مجال السلوك ويعدّل من انعكاساته النفسية تجاه الملكية ويهذّب مشاعر الأغنياء حيال الثروة؛ لذلك قال تعالى: <هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ في الْأَرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً>[50] ومادام المالك الحقيقي هو الله فهو وحده يستطيع أن يأخذ هذه الخلافة ويعطيها لآخر: <إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ>[51].

لذلك لابد للمستخلف من أين يسمع أوامر المالك: <وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ>[52]، ولابد للمالك من أن يحاسبه على ذلك: <ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ في الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ>[53].

وهكذا تؤكد الشريعة الإسلامية على أن الخلافة لا تكون لفرد بعينه، إنما هي للجماعة كلها، وما استخلاف فلان أو علّان إلا من باب الامتحان: <وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ في مَا آتَاكُمْ>[54].

لذلك فعلى الجماعة أن تحمي هذه الملكية في حال عبث بها أحد الأفراد: <وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً>[55].

وبالتالي فعندما خاطب الله الجماعة أكد على أن الخلافة في الأصل لها، فأمرها أن تحمي أموالها ولا تنفق إلا على أصحابها، ثم أكد على أن المال للجماعة.

لذلك فالملكية الخاصة لا تعطي الفرد امتيازات معنوية؛ لأنه مستخلف فقط، بينما المالك الحقيقي هو الله، وهذا ما أكده الشهيد الصدر(ره) بقوله:

وبهذا أعاد الإسلام الملكية إلى وضعها الطبيعي وحقلها الأصلي بوصفها لوناً من ألوان الخلافة، وصمّمها ضمن الإطار الإسلامي العام، بشكل لا يسمح لها بأن تعكس وجودها على غير ميدانها الخاص أو تخلق مقاييس مادية للاحترام والتقدير؛ لأنها خلافة وليست حقاً ذاتياً[56].

وبهذا التقليص من وجود الملكية الخاصة وضغطها في مجالها الأصيل على أساس مفهوم الخلافة تحولت الملكية في الإسلام إلى أداة لا غاية، فالمسلم الذي اندمج كيانه الروحي والنفسي مع الإسلام ينظر إلى الملكية باعتبارها وسيلة لتحقيق الهدف من الخلافة العامة وإشباع حاجات الإنسانية المتنوعة، وليست غاية بذاتها تطلب بوصفها تجميعاً وتكديساً شرهاً لا يرتوي ولا يشبع، وقد جاء في تصوير هذه النظرة الطريقية إلى الملكية ۔ النظرة إليها بما هي أداة ۔ عن رسول الله(ص) أنه قال: (ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، ولبست فأبليت، وتصدّقت فأبقيت[57].

ويؤكد الشهيد الصدر(ره) على أن الملكية إن تنازل عنها الإنسان لقاء عمل الخير امتدّت آفاقها في الآخرة، فنال الفوز ورضى الله سبحانه: <يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً>[58]، <وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ>[59].

بينما إن بخل في الدنيا خسر في الآخر وندم: <الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ‌>[60].

2­. التفسير المذهبي للملكية

لقد استطاع الشهيد الصدر(ره) أن ينقل قضية الملكية من البرج العاجي إلى بساط المناقشة وأرض الواقع، أي نقلها من الكلام النظري إلى الواقع العملي، فطبّق أنواع الملكية حسب النظام الإسلامي على مسألة الأرض، فكانت هذه التقسيمات:

أ_ الأرض التي أصبحت إسلامية بالفتح، أي التي فُتحت عنوة

قسّم الشهيد الصدر(ره) هذا النوع إلى ثلاثة أنواع، هي:

1­. الأرض العامرة بشرياً وقت الفتح: قال الإمام مالك:

القول بأن الأرض المفتوحة تكون وقفاً على المسلمين منذ فتحها، بدون حاجة إلى إنشاء صيغة الوقف عليها من ولي الأمر، ولا يجوز تقسيمها بين الغانمين[61].

إذن يطبّق عليها النوع الأول من الملكية وهي الملكية العامة، بحيث تؤجّر فقط ولا توزّع، ويطلَق عليها اسم أراضي الخراج (قد سئل الإمام جعفر الصادق(ع) عن سواد العراق، فقال: هو لجميع المسلمين، لمن هو اليوم ولمن يدخل في الإسلام بعد اليوم، ولمن لم يخلق بعد)[62].

ولم تكن مسألة الخراج على سواد العراق بدعة من الخليفة الثاني عمر، إنما كانت قضية ثابتة مارسها رسول الله(ص) في حياته، ففي صحيح البخاري: (أعطى النبي خيبراً ليهود أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها) لأنها أرض فُتحت عن طريق الجهاد، فأصبحت ملكيتها لجميع الأمة، والإمام وحده يتولّى رعايتها بوصفه ولي الأمر ويوزع خراجها على الأمة كلها.

2­. الأرض الميتة حال الفتح ۔ الغير عامرة بشرياً ولا طبيعياً ۔: تدخل تحت بند ملكية الدولة، أي ليست خاضعة للملكية العامة للأمة وليست خاضعة للملكية الفردية، بل هي تابعة للإمام، وفي المصطلح الفقهي (الأنفال) كما في قوله تعالى: <يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ للَّهِ وَ الرَّسُولِ>[63].

يقول الشهيد الصدر(ره):

وتملّك الرسول للأنفال يعبّر عن تملك المنصب الإلهي في الدولة لها؛ ولهذا تستمر ملكية الدولة للأنفال وتمتد بامتداد الإمامة من بعده، كما أورد الحرّ العاملي في الوسائل عن علي(ع) أنه قال: إن للقائم بأمور المسلمين الأنفال التي كانت لرسول الله، فما كان لله ولرسوله فهو للإمام[64].

وقد ورد عن الإمام جعفر الصادق(ع) بصدد تحديد ملكية الدولة ۔ الإمام ۔: أن الموات كلها هي له.

ومما يشير إلى ملكية الدولة للأراضي الموات ما ورد على النبي(ص): (ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه).

واستدل أبو حنيفة بهذا الحديث على أن الموات لا يجوز إحياؤها والاختصاص بها دون إذن الإمام[65].

لكن ما هو الفرق بين الملكيتين؟

يسبر الشهيد الصدر(ره) أغوار المسألة ليعبّر عن الفرق الدقيق بينهما، فيقول: (يعتبر المالك في الأرض العامرة حال الفتح هو الأمة، بينما المالك في الأرض الميتة حال الفتح هو المنصب الذي يباشر حكم تلك الأمة من قبل الله)[66] وأهم الفروق في رأيه:

أولاً: الملكية العامة يجب على ولي الأمر استثمارها للمساهمة في إشباع حاجات مجموع الأمة، وتحقيق مصالحها العامة التي ترتبط بها ككل، نحو إنشاء المستشفيات وتوفير وتهيئة مستلزمات التعليم، وبالتالي لا يجوز استخدام الملكية العامة لمصلحة جزء معين من الأمة، أما أملاك الدولة فيمكن استثمارها لمصلحة معينة مشروعة كإيجاد رؤوس أموال منها لمن هو بحاجة إلى ذلك من أفراد المجتمع الإسلامي.

ثانياً: أن الملكية العامة لا تسمح بظهور حق خاص للفرد ۔ ولو مارس عليها عملية الإحياء ۔ بينما في أملاك الدولة يحق له اكتساب حق خاص على أساس العمل، فمن أحيا أرضاً ميتة للدولة بإذن من الإمام اكتسب حقاً وهو أن يصبح أولى من الآخرين بها مع بقاء رقبتها ملكاً للدولة.

ثالثاً: في الملكية العامة لا يجوز لولي الأمر نقل الملكية إلى الأفراد ببيع أو هبة، بينما في ملكية الدولة يحق له ذلك حسب المصلحة العامة.

إذن: (وهذا الفارق بين الملكيتين يقرب هذين المصطلحين الفقهيين نحو مصطلحي الأموال الخاصة للدولة والأموال العامة لها في لغة القانون الحديث)[67].

3­. الأرض العامرة طبيعياً حال الفتح كالغابات وأمثالها فهي ملك للدولة وليست ملكاً عاماً، ومن الأدلة على ذلك ما روي عن الأئمة(ع): (كل أرض لا رب لها هي للإمام).

ب_ الأرض المسلمة بالدعوة

كأرض المدينة المنورة وأندونيسيا، بحيث استجاب أهلها للدعوة دون معركة أبداً، وتنقسم هذه إلى أرض عامرة قد أحياها أهلها وأسلموا عليها طوعاً وأرض عامرة طبيعياً كالغابات وأرض دخلت في الإسلام طوعاً وهي ميتة.

ويقرر الشهيد الصدر(ره) أن التقسيمات هنا تشبه التقسيمات السابقة ۔ في الأرض التي أصبحت إسلامية بالفتح ۔:

فالعامرة بشرياً: هي التي أسلم عليها أهلها طوعاً فهي لهم، أي ملكيتها ملكية خاصة ولا خراج عليها. والميتة: تصبح من ملكية الدولة (أنفال). والعامرة طبيعياً: تصبح من ملكية الدولة[68].

ج_ أرض الصلح

يقول الشهيد الصدر(ره):

وهي الأرض التي هجم عليها المسلمون لفتحها، فلم يسلم أهلها ولا قاوموا الدعوة بشكل مسلّح، وإنما ظلّوا على دينهم ورضوا أن يعيشوا في كنف الدولة الإسلامية مسالمين، فالأرض تصبح أرض صلح في العرف الفقهي، ويجب تطبيق ما تم عليه الصلح بشأنها، فإذا كان عقد الصلح ينصّ على أن الأرض لأهلها، فهي على هذا الأساس تعتبر ملكاً لهم، وليس لمجموع الأمة حق فيها، وإذ تم الصلح على تملك الأمة للأرض ملكية عامة وجب التقيد بذلك، وخضعت الأرض لمبدأ الملكية العامة، وفرض عليها الخراج[69].

د_ أراضي أخرى للدولة

كالأراضي التي سلّمها أهلها للدولة الإسلامية دون هجوم من المسلمين، فحكم هذه الأراضي حكم الأنفال التي تختص بها الدولة: <وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ..>[70].

وقد نصّ الماوردي على أن هذا الأرضي التي يتم انجلاء الكفار عنها خوفاً تصير بالاستيلاء عليها وقفاً، وهذا يعني دخولها في نطاق الملكية العامة[71].

لكن هل هذا يناقض [قول] الإمام علي(ع): (والأرض كلها لنا، فمن أحيا أرضاً من المسلمين فليعمرها وليؤدّ خراجها إلى الإمام)؟

يجيب الشهيد الصدر(ره) بقوله:

فالمبدأ في الأرض هو ملكية الدولة، وإلى جانب هذا المبدأ يوجد حق الإحياء وهو الحق الذي يجعل المحيي أو من انتقلت إليه الأرض من المحيي أولى بالأرض من غيره، وهذا الحق يكسبه الفرد إذا مارس الإحياء في حالة عدم منع الإمام منه سواء كان مسلماً أو كافراً ويكون حقاً خاصاً، غير أنه إذا كان كافراً واحتلّ المسلمون أرضه عنوة في حرب جهاد تحوّل هذا الحق الخاص إلى حق عام، وأصبح قائماً بالأمة الإسلامية ككل[72].

هـ _ ويلحق بمسألة الأرض

1­. المواد الأولية (معادن) ونحو ذلك، وتنقسم إلى ظاهرة وباطنه.

المعادن الظاهرة: كالملح والنفط، فهي المواد التي لا تحتاج إلى مزيد عمل وتطوير لكي تبدو على حقيقتها ويتجلى جوهرها المعدني، وهذا الصنف يقول فيه الشهيد الصدر(ره):

وهذه المعادن خاضعة لمبدأ الملكية العامة، لكن لا للمسلمين فقط، بل للناس سواء أي ملك عام للمسلمين ولمن يعيش في كنفهم[73].

المعادن الباطنة: كل معدن لا ينجز بشكله الكامل إلا بالعمل كالذهب ونحو ذلك، وهذه تنقسم إلى: معادن باطنة قريبة من سطح الأرض يسري عليها حكم المعادن الظاهرة، ومعادن باطنة مستترة وهي التي تختفي في أعمال الأرض وتتطلب تفتيشاً وحفراً ومجهوداً عليها لتطويرها وما إلى هنالك، وهناك آراء فقهية مختلفة في هذه المسألة، لكن الأرجح (أن المناجم من المشتركات العامة، فهي تخضع لمبدأ الملكية العامة ولا يسمع للفرد بتملك عروقها وينابيعها المتوغلة في الأرض)[74]، (مع ملاحظة أنه لا يحق للفرد ملكية المنجم مثلاً حتى لو اكتشف هذا المنجم في أرض يملكها؛ إذ لا يوجد في الشريعة نص على أن ملكية الأرض تمتد إلى كل ما فيها من ثروات)[75].

2­. الإقطاع: حسب تعبير الفقهاء، هو منح الإمام لشخص من الأشخاص حق العمل في مصدر من مصادر الثروة الطبيعية، فإذا رأى الإمام أن يعطي فرداً ۔ أو مجموعة أفراد ۔ فرصة استثمار منجم ذهبي مثلاً مدة معينة لقاء أجرة معينة فلا بأس في ذلك، وهذا من باب الاستثمار وتقسيم العمل، وليس أسلوباً للتملك، فإذا لم يقم الفرد بالاستثمار فعلى الإمام أن يعيد ذلك إلى شخص آخر، قال الشافعي:

ومن أقطع أرضاً أو تحجّرها فلم يعمرها، رأيت للسطان أن يقول له: إن أحييتها وإلا خلّينا بينها وبين من يحييها، فإن تأجّله رأيت أن يفعل[76].

3­. المياه الطبيعية: وتنقسم إلى قسمين:

أ ۔ ما أعدّه الله للإنسان على سطح الأرض كالأنهار، فحكمه أنه خاضع للملكية العامة.

ب ۔ ما جعله الله مكنوزاً في باطن الأرض. فإذا حفر بئراً أصبح ملك، فإذا زاد الماء عن حاجته، فهو ملك للجميع، أي لا يجوز بيعه للآخرين. قال الشهيد(ره):

ولذا كان يجب عليه إذا أشبع حاجته من الماء بذل الزائد للآخرين ولا يجوز له أن يطالبهم بمال عوضاً عن شربهم وسقي حيواناتهم؛ لأن المادة لا تزال من المشتركات العامة، وإنما حصل للمكتشف بعمله حق الأولوية بها، فإذا أشبع حاجته كان للآخرين الانتفاع بها[77].

5­. الخاتمة

أجل، لقد اتجه الشهيد الصدر(ره) إلى نقض الرأسمالية والاشتراكية، لا عن طريق الصياح والشتائم أو التكفير والزندقة، إنما عن طريق دراسة القواعد والأصول التي بُنيت عليها تلك الأنظمة، ثم قارن ذلك كله بالنظام الاقتصادي الإسلامي، فتوصّل إلى قرار حتمي وهو فشل النظامين اللذين وضعهما البشر، وأن الحل والخلاص يكمن في العودة إلى النظام الرباني وهو الإسلام، لكن ما هو الدليل على ذلك؟!

وليس هناك أدلّ على صحة الموقف الإسلامي من الملكية، القائم على أساس مبدأ الملكية المزدوجة، من واقع التجربتين: الرأسمالية والاشتراكية، فإن كلتا التجربتين اضطرتا إلى الاعتراف بالشكل الآخر للملكية، الذي يتعارض مع القاعدة العامة فيهما؛ لأن الواقع برهن على خطأ الفكرة القائلة بالشكل الواحد للملكية، فقد بدأ المجتمع الرأسمالي منذ أمد طويل يأخذ بفكرة التأميم وينزع عن بعض المرافق إطار الملكية الخاصة، وليست حركة التأميم هذه إلا اعترافاً ضمنياً من المجتمعات الرأسمالية بعدم جدارة المبدأ الرأسمالي في الملكية، ومحاولة لمعالجة ما نجم عن ذلك المبدأ من مضاعفات وتناقضات.

كما أن المجتمع الاشتراكي من الناحية الأخرى وجد نفسه ۔ بالرغم من حداثته ۔ مضطراً أيضاً إلى الاعتراف بالملكية الخاصة، قانونياً حيناً وبشكل غير قانوني أحياناً أخرى، فالمادة السابعة في الدستور السوفياتي نصّت على أن لكل عائلة من عوائل المزرعة التعاونية ۔ بالإضافة إلى دخلها الأساسي الذي يأتيها من اقتصاد المزرعة التعاونية المشترك ۔ قطعة من الأرض خاصة بها وملحقة بمحلّ السكن، ولها في الأرض اقتصاد إضافي ومنزل للسكن وماشية منتجة وطيور وأدوات زراعية بسيطة كملكية خاصة[78].

أجل، إذا أردنا أن نثأر لهذا العبقري الخالد فعلينا أن ندرس أفكاره التي امتدت آفاقها بعد استشهاده؛ وذلك لسبب واحد، هو أنه كان يحمل همّ الإسلام كله.

وعلينا أن نتحمل جزءً من المسؤولية التي ألقاها على عاتقنا بعد استشهاده، وإلا فنحن ندّعي الإسلام فقط، فليست القضية بالأحلام والأماني، إنما القضية لابد لها من التضحيات والقرابين.

أجل، سقط جسد الشهيد الصدر(ره) منذ عشرين عاماً، لكن خطه ومنهجه انبعث من جديد ليتلقفه الدعاة إلى الله وخاصة الشباب وليحمله الجميع إلى الأحفاد والأبناء.

إنه عملاق من عمالقة آل البيت(ع) والذين رفعوا لواء الشهادة في سبيل الحق من جعفر الطيار إلى حمزة أسد الله، ومن شهيد المحراب ووليد الكعبة علي(ع) إلى سيد الشهداء الحسين(ع)، وهكذا وحتى يرث الله الأرض ومن عليها.

فسلام عليك يا أبا جعفر، يا أيها الشهيد السعيد، وطبت حياً وميتاً.

والشكر الجزيل للقائمين على هذا المؤتمر الكريم، مردداً في الختام قول ذلكم المحب:

يا رب عبد قد أتى بفعاله    وبذلّه قد مدّ كفّ سؤاله
وأتى حبيبك طامعاً بنواله   عبد توسّل بالنبي وآله

فبحقهم يا رب لا تخزيه

 

وصلى الله على حبيبنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى جميع الموحدين إلى يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

[1]. الأحزاب: 33.

[2]. سنن الترمذي، الحديث 3789؛ الجامع الصغير للسيوطي، الحديث 224.

[3]. الدين والدولة، ص 120، الطبعة الأولى، سنة 1998م، الدار العالمية للكتب والنشر، القاهرة.

[4]. اقتصادنا، ص 257.

[5]. م.ن، ص 297.

[6]. الفجر: 20.

[7]. الكهف: 46.

[8]. صحيح مسلم، ج 2، ص 725؛ سنن الترمذي، ج 4، ص 750.

[9]. الإسراء: 100.

[10]. القاموس المحيط، الفيروزآبادي، ج 2، ص 1263، وللتوسع يراجع: مفردات القرآن، الإصفهاني، ص 775.

[11]. التعريفات، ص 101 ۔ 102.

[12]. الفروق، الفرق 180.

[13]. آل عمران: 26.

[14]. الحديد: 7.

[15]. النساء: 29.

[16]. البقرة: 29.

[17]. النور: 33.

[18]. الحديد: 7.

[19]. الذاريات: 19.

[20]. البقرة: 60.

[21]. الأنبياء: 78 ۔ 79.

[22]. سفر الخروج، الإصحاح، ص 22، الرقم 2.

[23]. إنجيل متّى، الإصحاح، ص 19، الرقم 2.

[24]. للتوسع يراجع كتاب: العولمة أم عالمية الشريعة الإسلامية، د.محمد الحاجي، ص 17 ۔ 54.

[25]. اقتصادنا، ص 296.

[26]. المجموعة السياسية، ج 6، ص 232.

[27]. الدستور السوفياتي، المواد 7، 9 و10.

[28]. اقتصادنا، ص 38.

[29]. م.ن، ص 296 ۔ 397.

[30]. الحشر: 2.

[31]. النحل: 26 ۔ 29.

[32]. اقتصادنا، ص 291.

[33]. م.ن، ص 359.

[34]. م.ن، ص 282.

[35]. م.ن، ص 297.

[36]. البقرة: 279.

[37]. الأحزاب: 27.

[38]. النور: 27.

[39]. صحيح مسلم، ج 4، ص 1986.

[40]. صحيح مسلم، ج3، ص 1305، فتح الباري، شرح صحيح البخاري، ج 1، ص 157.

[41]. البقرة: 282.

[42]. المائدة: 38.

[43]. المائدة: 33.

[44]. الأنفال: 41.

[45]. الحشر: 7.

[46]. سنن ابن ماجة، ج 2، ص 826؛ مسند أحمد، ج 5، ص 364.

[47]. البقرة: 29.

[48]. آل عمران: 161.

[49]. الأموال، أبو عبيد القاسم بن سلام، ص 299.

[50]. فاطر: 39.

[51]. الأنعام: 133.

[52]. الحديد: 7.

[53]. يونس: 14.

[54]. الأنعام: 165.

[55]. النساء: 5.

[56]. اقتصادنا، ص 567.

[57]. م.ن، ص 269.

[58]. آل عمران: 30.

[59]. البقرة: 110.

[60]. البقرة: 268.

[61]. الأحكام السلطانية، الماوردي، ص 132.

[62]. الاستبصار، الشيخ الطوسي، ج 3، ص 109.

[63].الأنفال: 1.

[64]. وسائل الشيعة، ج 6، ص 370.

[65]. اقتصادنا، ص 457 ۔ 458، وللتوسع يراجع: الأم للشافعي، ج 4، ص 50، والمحلى لابن حزم، ج 8، ص 234.

[66]. م.ن، ص 460.

[67]. م.ن، ص 461.

[68]. للتوسع في ذلك راجع: م.ن، ص 470.

[69]. اقتصادنا، ص 474.

[70]. الحشر: 6.

[71]. اقتصادنا، ص 474.

[72]. م.ن، ص 493.

[73]. م.ن، ص 498.

[74]. م.ن، ص 506.

[75]. م.ن، 508.

[76]. الأم، ج 8، ص 131، وللتوسع يراجع: اقتصادنا، ص 520.

[77]. اقتصادنا، ص 521.

[78]. م.ن، ص 298 ۔ 299.