المشكلة الاجتماعية والتطور الاقتصادي؛ قراءة معاصرة في فكر الشهيد الصدر

د. كمال فردريك فيلد[1]

يتناول البحث المشكلة الاجتماعية التي طرحها الشهيد الصدر في أكثر من مصدر ودورها في إعاقة التنمية الاقتصادية، ويسلّط الضوء على أن مشكلة الرقيّ الاجتماعي والتطور الاقتصادي لا ترجع بشكل رئيسي إلى قلة الموارد والإمكانيات، أو إلى نمط الإنتاج والتوزيع في المجتمع، بل إلى المحتوى الداخلي للإنسان من حيث علاقته بأخيه الإنسان. ويستنتج البحث بأن المشكلة الاقتصادية والرفاهية الاجتماعية لا تجد حلها إلا بإعادة بناء المحتوى الداخلي للإنسان من خلال تسوية الخلاف بين المصلحة الخاصة والعامة.

المقدمة

تعاني دول العالم من مشاكل كثيرة ومتنوعة، يمكن تصنيفها إلى:

  1. قلة الموارد الاقتصادية وضعف كفاءة استخدامها.
  2. وجود تفاوت طبقي وتوزيع سيّئ للعائد الاقتصادي، وظهور حالات متطرفة من فقر مدقع إلى غنى فاحش.
  3. تجاوز على القوانين والأعراف الاجتماعية السائدة، وشيوع الجريمة بأشكالها المختلفة.
  4. غياب العدالة السياسية وظهور ديكتاتورية الأغلبية تارة وديكتاتورية الأقلية تارة أخرى.

أولاً: مشكلة قلة الموارد الاقتصادية

وتختلف وجهات النظر في أصل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، ومن ثم تختلف الحلول المقترحة، فهناك وجهات نظر تُرجع التخلف الاقتصادي إلى قلة الموارد الاقتصادية، أو تخلّف المهارات البشرية، أو إلى عدم التوافق بين قوى وعلاقات الإنتاج. أما وجهة نظر الإسلام في أصل المشكلة، فلخّصها الشهيد الصدر بغياب القيم العليا والفكر الإنساني، ومن ثم ظهور مشكلة التناقض بين المصلحتين الخاصة والعامة.

فالأفراد لهم مصالح فردية، أنانية واستحواذية وتحايلية تتقاطع مع المصلحة العامة للمجتمع، ويترتب على هذا التقاطع وعدم التوافق العديد من المشكلات الاجتماعية وبسبب رغبة شعوب العالم في تنمية أوطانها واحتلالها مركزاً مرموقاً في المنظومة الدولية، سعت بعض الدول إلى تبنّي التجربة الاشتراكية، وبعضها الآخر إلى تبني تجربة الاقتصاد الحر.

ورغم الجهود المبذولة في هذا المضمار لا زالت الكثير من هذه الدول تعاني من تخلف في واقعها الاجتماعي والاقتصادي، فقد اتسعت في بعض البلدان الفجوة الاقتصادية بين الدول النامية ودول العالم الصناعي، وأدّت مساعي التنمية الاقتصادية إلى سوء توزيع الدخل الاقتصادي، فخلقت طبقة مترفة غنية وأخرى محرومة فقيرة، كما هو الحال في البرازيل، مصر والهند.

ويتّفق المنهج الإسلامي في التنمية الاقتصادية والاجتماعية مع النظريات الأخرى في ضرورة تحقيق الأهداف التالية:

أ۔ رفع مستوى إشباع حاجات الإنسان من السلع والخدمات وضرورة رفع كفاءة استخدام الموارد المتاحة.

ب ۔ تحقيق العدالة في توزيع الموارد والعوائد وتحقيق الضمان الاجتماعي.

إلا أن ما يميز الإسلام عن النظريات الأخرى هو اهتمامه بهدف ثالث يعتبره الهدف الأساسي والبناء التحتي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهذا الهدف يتلخص في السعي لتنمية شخصية الفرد ومن ثم الارتقاء بالمجتمع إلى مستوى إنساني تنسجم فيه المصلحة الفردية مع المصلحة العامة، ويكون السعي لإحداهما سعياً للأخرى. ومع أن النظم الاجتماعية تتفق على الهدفين الأولين إلا أنها تتفاوت في قدرتها على تحقيق تلك الأهداف المعلنة.

في هذا المقال سوف نسلّط الضوء على أهم المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، متوخّين في ذلك إبراز دور الدين في صياغة المحتوى الداخلي للإنسان بشكل تتوافق فيه مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة.

تحت هذا العنوان سوف نحاول الإجابة عن التساؤلات التالية: هل إن وفرة المصادر الطبيعية من معادن وزراعة ومصادر طاقة هي العامل الرئيسي في رفع مستوى الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية؟

كيف يمكن زيادة كفاءة استخدام الموارد المادية والبشرية؟

هل إن المحتوى الفكري والعقائدي للإنسان هو العامل الضروري في الرقيّ الاقتصادي والاجتماعي؟

تختلف الدول في مقدار امتلاكها للموارد الاقتصادية كمصادر الطاقة والمعادن والأرض الزراعية.. .

وأمام هذا التفاوت تجد الدول نفسها في مأزق وحَرَج أمام ضخامة وتنوّع حاجات الإنسان، مما دفع بعض الاقتصاديين إلى الاعتقاد بأن المشكلة الاقتصادية ترجع إلى أن حاجات الإنسان ورغباته غير متناهية بالنسبة للموارد المتاحة.

لقد اقتضت الحكمة الإلهية أن تخلق الموارد ۔ من معادن وغيرها ۔ بقدر محدّد ومتوازن وموزّع على بقاع العالم المختلفة بشكل يكفي لسد حاجة الإنسان الأساسية وضمان استمرار الحياة. فبعض بقاع العالم يمتلك ثروات نفطية هائلة، وبعضها الآخر يمتلك مصارد مائية وأراضي زراعية، أو أماكن سياحية.. . هذا التنوع في توزيع الموارد والمصادر الاقتصادية أعطى تلك الدول فرصة التخصص في ممارسة النشاط الاقتصادي أو التجاري.

والتخصص بطبيعة الحال يؤدي إلى ارتفاع كبير في كفاءة الإنتاج (انخفاض كلفة الإنتاج وارتفاع جودة الإنتاج). وساعد التخصص على دخول تلك الدول السوق التجارية الدولية وحصولها على العوائد الضرورية، ومن ثم زيادة الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية.

إن التفاوت والاختلاف في توزيع الموارد الاقتصادية على بقاع العالم ليس تفاوتاً اعتباطياً، فقد استطاع الإنسان أن يكتشف أن هذا الاختلاف والتنوع هو اختلاف تكاملي يساعد على تخصص كل دولة من دول العالم بجانب من الجوانب، ومن ثم يساعد على التبادل التجاري وتحقيق الرفاهية الاجتماعية، فهناك دول متخصصة بالإنتاج الزراعي، وأخرى متخصصة بمصادر إنتاج الطاقة من نفط وفحم.

ومن الجدير بالذكر أن هناك دولاً مثل اليابان وسنغافورة لا تمتلك المصادر الطبيعية الضرورية للإنتاج والتخصص، ومع ذلك نجد هذه الدول من أبرز الدول في الميدان الصناعي، لقد استطاعت كلتا الدولتين من بلوغ هذا الرقيّ الاقتصادي من خلال الاستثمار في الجانب البشري برفع مستوى كفاءة الإنسان التقنية، في مقابل هذا نجد دولاً تمتلك الموارد الاقتصادية، إلا أنها غير مستغلة استغلالاً كفوءً، وغالباً ما توصف هذه الدول بأنها متخلفة اقتصادياً.

من هنا ندرك بأن التقدم الاقتصادي لا يتوقف على توفر الموارد الطبيعية، بل يتوقف على قدرة الدولة على الاستخدام الأكفأ لمواردها البشرية. إن مشكلة محدودية الموارد والثروات الاقتصادية من جهة وتعدد وتنوع حاجات الإنسان غير المتناهية من جهة أخرى يتطلب من الناحية المنطقية ترتيب أولويات سد حاجات الإنسان (وإلا فليس هناك ضمان من عدم استخدام الموارد المحدودة في المشاريع الأقل منفعة).

وعادة تتم هذه العملية بدراسة الجدوى الاقتصادية التي تحدّد الفائدة والكلفة لكل مشروع، وبموجب ذلك يتم توزيع الموارد نحو المشاريع الأكثر أهمية ۔ فائدة ۔ للمجتمع، وضمن المشاريع المختارة يتم تحديد العمليات الإنتاجية بمستوى معين؛ خوفاً من أن تتجاوز العملية الإنتاجية الحد الأمثل، ذلك لأن الإنتاجية لأي عامل من عوامل الإنتاج تتناقص بعد بلوغ الحد الأمثل، وفقاً لقانون تناقص الغلة، أي تجاوز الحد الأمثل للإنتاج يؤدي إلى تبذير بالموارد الاقتصادية المستخدمة؛ لهذا ينبغي توجية الموارد عند بلوغ الحد الأمثل نحو المشاريع الأخرى ذات الأولوية وذات العطاء الأكبر.

لقد حدّد علم الاقتصاد بأن الحد الأمثل للإنتاج هو الحد الذي تتساوى فيه الكلفة الحدية للإنتاج ۔ كلفة الوحدة الأخيرة ۔ مع القيمة الحدية للإنتاج: قيمة الوحدة الأخيرة.

إن مفهومي الكلفة والقيمة يجب أن يتضمنان البعد الاجتماعي، بمعنى الفائدة والخسارة التي تصيب المجتمع بأسره نتيجة القيام بالنشاط الاقتصادي.

فالمنتج الذي ينتج مواد كيمياوية ينبغي أن تتضمن كلفة إنتاجه الكلفة الخاصة ۔المتمثلة بمقدار المواد الأولية والعمل الداخل في الإنتاج۔ والكلفة الاجتماعية ۔ المتمثلة بالتلوث، إذا ما وجد ۔ لكن بسبب طغيان المصلحة الخاصة وغياب الشعور بالمسؤولية تجاه المجتمع، تجد المنتج يهمل حساب الكلفة الاجتماعية. هذا الإهمال يؤدي بالمنتج إلى تجاوز الحد الأمثل لحجم العمليات الإنتاجية، ويؤدي هذا التجاوز إلى التقليل من الفائدة الكلية للمجتمع ۔ حيث يجري استخدام الموارد النادرة في مجالات تكون عوائدها الاقتصادية الحدية أقل من كلفتها الحدية ۔.

وهناك صور عديدة على كيفية انتهاك الإنسان للمصلحة الاجتماعية، منها ظاهرة الاحتكار التي بموجبها يقوم المحتكر بتقييد عرض السلع والخدمات، ورفع أسعارها كي يتمكن من جني أرباح أكثر.

وهناك لون آخر من الممارسات المضرة بالحياة الاقتصادية، والتي تعدّ من أكبر المشكلات التي تعاني منها الدول، وتتجسد بعدم إخلاص العامل في عمله من خلال التحايل وعدم تطبيقه شروط عقد العمل كاملة، وينجم عن هذه الحالة هدر لوقت العمل وموارده الاقتصادية.

من هذه الأمثلة يتضح بأن محور المشكلة الاقتصادية والاجتماعية هو الإنسان نفسه، فتخلّف الإنسان التقني من جهة وعدم شعوره بالمسؤولية من جهة أخرى هما من أبرز العقبات التي تواجه التنمية الاقتصادية.

وتختلف النظم الاجتماعية في كيفية معالجة مشكلة التنمية، فالنظام الرأسمالي يدعو إلى الملكية الخاصة لعوامل الإنتاج والحرية في مجال الاستهلاك والإنتاج. أما النظام الاشتراكي فيدعو إلى الملكية العامة، واعتماد التخطيط المركزي كوسيلة لتخصيص وتوزيع الموارد الاقتصادية.

وبرهنت التجربة على الثمن الباهظ الذي دفعته الشعوب التي تبنّت تلك النظم، فنظام الاقتصاد الحر رغم إيجابيته في خلق روح المنافسة التي هي العامل المهم في تحسين نوعية وخفض كلفة الإنتاج، إلا أنه نمّى النزعة الذاتية عند الإنسان والتي أدّت إلى انتهاكات عديدة ۔ من صورها الاستعمار، الاحتكار، التلوث.. ۔ إلى جانب ذلك شهد النظام اختناقات أدّت إلى تدخل الدولة في بعض النشاطات الاقتصادية بسبب عجز القطاع الخاص عن القيام بالمشاريع، التي تكون قيمتها الخاصة أقل من كلفتها الخاصة، ولكن قيمتها الكلية أكبر من كلفتها الكلية، كما هو الحال في إنتاج خدمات الدفاع والتعليم والصحة..، وبدخول الدولة في النشاط الاقتصادي ظهرت مشكلة أخرى تتمثل بغياب المنافسة وضعف كفاءة الإنتاج؛ بسبب غياب الواعز الذاتي للأفراد، مما دعا المجتمعات الرأسمالية في الآونة الأخيرة العودة إلى نظام القطّاع الخاص.

أما الاشتراكية فترى أن مشكلة التنمية الاقتصادية تجد حلولها بحلول المؤسسات العامة محل المؤسسات الخاصة، فينتفي في ظل هذا النظام استغلال الإنسان، ويصبح بالإمكان توزيع الدخل والناتج الاقتصادي بصورة تضمن العدالة الاجتماعية، لكن النظم الاشتراكية واجهتها مشكلات وصعوبات على مستوى النظرية والتطبيق، ومن هذه الصعوبات تضخّم الجهاز الإداري وتعقّده، وغياب المنافسة وغياب الحوافز والشعور بالمسؤولية.. . وأدّت هذه الصعوبات إلى هدر في الطاقات المادية والبشرية وارتفاع في الأسعار وانخفاض في النوعية.

والسؤال الذي يطرح نفسه، ما هي شروط النمو الاقتصادي والارتقاء الاجتماعي؟ وهل يستطيع المنهج الإسلامي أن يقدّم حلاً لهذه المشكلة؟

لقد عالج الإسلام مسألة ملكية الموارد باستخدام مفهوم الوكالة أو الاستخلاف، فالفرد في المجتمع الإسلامي ينظر إلى ما بحوزته من عوامل إنتاج على أنها وكالة مكلّف باستخدامها وفق تعاليم وضوابط الشريعة.

بهذا المفهوم يتجاوز الإسلام التسلط والغرور المادي ۔ الذي تعاني منه الرأسمالية ۔ فالمسلم يؤمن بأن الخلافة هي لطف إلهي يمنّ به الله على عبده مكافأة لسعيه في المجال الاقتصادي والاجتماعي، وأن حيازة الأفراد على وسائل الإنتاج في المجتمع الإسلامي هي مسؤولية اجتماعية وليست مجرد مسألة خاصة بالفرد وحده. وعليه يصعب على الفرد أن يمارس أدواراً مخلّة بالمصلحة العامة كما في حالة الاحتكار، أو في حالة استغلال الإنسان لأخيه الإنسان. بهذا ينعم المجتمع الإسلامي بفوائد الملكية الخاصة ويتحاشى مساوءها، ويحقّق مزايا الملكية العامة ويتجنب آثارها السلبية. من هذا يتبين مقدار أهمية التربية الإسلامية في الرقيّ الاجتماعي والاقتصادي، ومن دونها لا يستطيع النظام الاجتماعي والاقتصادي الإسلامي أن يقدّم للبشرية عطاءً مميزاً.

وبسبب إخفاق التجربتين: الرأسمالية والاشتراكية، ظهرت للسطح فكرة تبنّي الملكية المزدوجة ۔ أو المختلطة ۔ حيث تطبّق الملكية الخاصة في مجال والملكية العامة في مجال آخر، إلا أن هذه الحلول من وجهة نظر إسلامية حلول سطحية وترقيعية، متناسية الدور الرائد للإنسان في إدارة عجلة التنمية الاقتصادية.

إن تدخّل الدول في مجال إنتاج الخدمات الصحية والتعليمية، وتوفيرها للمواطنين لا يعني حل المشكلة والقضاء على الحالات السلبية، ما دام الإنسان باقياً كما هو بدون تغيير في محتواه الفكري. فعلى سبيل المثال: فالمستهلك ۔ المريض ۔ الذي لا يدفع كلفة الاستشارة الطبية بسبب التأمين الصحي الذي توفّره الدولة، لا يجد ما يمنعه من إساءة استخدام مجانية الاستشارة، بالإكثار من استخدام الاستشارة أكثر مما هو ضروري، أو أكثر مما لو كان ملزَماً بدفع كلفة الاستشارة. هذا من جانب ومن جانب آخر لا يجد الطبيب ۔ في ظل التأمين الصحي ۔ ما يمنعه من استغلال المستهلك، لعدم علمه بالعلوم الطبية، بتشجيع المستهلك بتكرار استشارته الصحية. وأدركت بعض الدول هذه المشكلة وحاولت إصلاحها ۔ كما هو الحال في بريطانيا ۔ بإعطاء الطبيب العائلي منحة محدّدة سنوية، تتحدد بشكل رئيسي بعدد الأشخاص المسجّلين في عيادته، وبحسب الحالة الاجتماعية والاقتصادية السائدة بالمنطقة، إلا أنه لوحظ أن الطبيب مقابل هذه السياسة يعمد إلى انتقاء الأشخاص الذين يتمتعون بصحة جيدة، واستبعاد الأشخاص الذين هم بحاجة إلى رعاية صحية مستمرة، بهذا يبدو جليّاً أنه كلما ابتكرت سياسة جديدة لمعالجة مشكلة اجتماعية اقتصادية، كلما ابتكر الإنسان سياسة ۔ مناورة ۔ جديدة أخرى ذات تأثير معاكس.

وعليه فتغيير السياسات الاقتصادية والاجتماعية لا يكفي لحل مشكلة التخلف، فلابد أن يشمل التغيير تغيير الإنسان، من حيث نظرته إلى الحياة والكون وأخيه الإنسان.

إن التقدم العملي وتوفر الموارد الاقتصادية لا يضمن النمو والارتقاء الاجتماعي، وما أدلّ على ذلك من تجربة الاتحاد السوفياتي التي انتهت بالفشل والانهيار. كما أن تجربة الولايات المتحدة الأميركية بدأت هي الأخرى بالتصدع يوماً بعد يوم. والباحث في أسباب هذا التصدع والانهيار سيجد أن العامل الرئيسي يتمحور في دور الإنسان ونظرته إلى أخيه الإنسان.

وعليه يجب أن تستمر الدول والمجتمعات في بذل جهودها من أجل تطوير فكر وروح الإنسان؛ كي تتسامى نظرته لما حوله، فلا يقتصر هدفه على تحقيق المنافع المادية وحدها، بل لتشمل إلى جانب ذلك التضحية والإيثار.

ثانياً: مشكلة عدالة توزع الثروات الاقتصادية

تواجه دول العالم بدرجات مختلفة مشكلة سوء توزيع الدخل الاقتصادي، وينجم عن هذا التوزيع أن تتباين فئات المجتمع في مستوى معيشتها، فهناك فئات تعاني من فقر مدقع وأخرى تتمتع بغنى فاحش.

إن الرفاهية الاجتماعية لأي مجتمع تعتمد إلى حد كبير على تحقيق التوزيع العادل والمتوازن للدخل الاقتصادي، (فالقيمة الحدية للنقد لدى أصحاب الدخول العالية تكون أقل من القيمة الحدية للنقد لدى أصحاب الدخول المنخفضة، وبالتالي فإن إعادة توزيع الدخل لصالح الفقراء ترفع من الرفاهية الكلية للمجتمع).

من الناحية النظرية، هناك أسلوبان لتوزيع الدخل:

أ۔ التوزيع على أساس التساوي بالكرامة الإنسانية.

ب ۔ التوزيع على أساس المساهمة بالعملية الإنتاجية.

ففي الحالة الأولى يوزع الدخل الاقتصادي على أساس أن لأفراد المجتمع جميعاً حقوقاً متساوية في العيش والكرامة الإنسانية. إن هذا التوزيع من جهة نظرية يمثّل درجة عالية من السمو، إلا أنه من الناحية العملية يؤدي إلى المساواة بين المجتهد والمهمل، وبين المنتج والمستهلك. فلا يجد الفرد في هذا التوزيع مكافأة لنشاطه ولا حوافز لإبداعاته، وبذلك تموت المبادرة ويقتل الحماس بالعمل وتشيع روح الاتكالية. وعليه لا يمكن الاعتماد على هذا اللون من التوزيع كتوزيع عادل ومنصف.

أما الأسلوب الثاني للتوزيع فيعتمد على مقدار مساهمة الفرد بالعملية الإنتاجية، ففي ظل هذا التوزيع يشعر الأفراد بالطمأنينة والارتياح بسبب قيام المجتمع بمكافأتهم حسب الدور والجهد المبذول من قبلهم في بناء الاقتصاد الوطني، فيزداد الحماس وتكثر المبادرة، ولكن سرعان ما يصطدم هذا اللون مع مشكلة وجود حالة غنى فاحش وفقر مدقع؛ لأن أفراد المجتمع لا يتمتعون بدرجة متساوية من الذكاء والقدرة على العمل، أو في الفرص المتاحة لتحقيق الرخاء. فهناك اعتبارات ذاتية وأخرى خارجية تساهم في رخاء الفرد وشقائه.

ولا يخفى على أحد أهمية التباين والاختلاف بالقابليات والميول في تحقيق التكامل والانسجام بالأعمال، فالحياة لا تستقيم بوجود لون واحد من القابليات والميول الذاتية. من كل ما تقدم نرى أن هناك ضرورة لتوزيع الدخل الوطني على الأسس التالية:

أ ۔ على أساس التساوي بالكرامة الإنسانية؛ وذلك لضمان مستوى معيشي، يشكّل الحد الأدنى لكل أفراد المجتمع.

ب ۔ على أساس إنتاجية الفرد ونشاطه في المجال الاجتماعي والاقتصادي؛ وذلك لضمان مكافأة الأفراد وفقاً لمبادراتهم وإبداعاتهم الخلّاقة.

إن ضمان الحد الأدنى من مستوى المعيشة لجميع أفراد المجتمع لا يمكن تحقيقه دون قيام الأغنياء والدولة في دعم (صندوق التكافل والتوازن الاجتماعي). ففي المجتمعات المعاصرة تكون الضرائب الأداة الرئيسية لتحقيق هذا الهدف، لكن الضرائب تسبّب آثاراً سلبية في إعاقة النشاط الاقتصادي؛ فبسبب شيوع الفكر المادي في المجتمع يرى الأفراد بأن الضرائب هي اقتطاع واستحواذ على دخولهم. فكثيراً ما تسبّب توقفاً في عمليات الإنتاج والخروج من النشاط الاقتصادي. من جهة أخرى تقود عملية فرض الضرائب في المجتمعات إلى التحايل والتهرب منها وبطرق مختلفة. مقابل ذلك تقوم الدولة بتأسيس نظام رقابي صارم ومكلف، يدقّق في مدخولات الأفراد بهدف تقليل فرص التهرب من دفع الضرائب.

إن الحل لمشكلة دفع الضريبة لا يمكن أن يتم إلا بتحويل مفهوم الضريبة من اقتطاع وانتقاص من دخول وأرباح الأفراد إلى مفهوم آخر يتضمن معاني الادّخار والاستثمار. وهذا ما سعت إليه الشريعة الإسلامية حيث ربطت مفهوم الضريبة بالجانب الروحي والعقائدي. فعمد الإسلام أولاً: إلى ترسيخ فكرة بأن ما في الأرض هو لمنفعة الناس جميعاً، قال تعالى: <أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مٰا في السَّمٰاوٰاتِ وَمٰا في الْأَرْضِ..>.[2] وقال: <اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمٰاوٰاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرٰاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ في الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهٰارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دٰائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهٰارَ وَآتٰاكُمْ مِنْ كُلِّ مٰا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاٰ تُحْصُوهٰا إِنَّ الْإِنْسٰانَ لَظَلُومٌ كَفّٰارٌ>.[3] وأن المالك الوحيد هو رب العالمين، وأن حيازة الأفراد للأموال النقدية والعينية هي مجرد استخلاف، قال تعالى: <وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاٰئِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجٰاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ في مٰا آتٰاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقٰابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ>،[4] وأن الاستخلاف هو من حق الكل. وعليه فإن أصحاب المال عليهم مسؤولية التعويض عن استخدام هذا الحق العام.

وثانياً: تطوير مفهوم المنفعة من مفهوم قائم على أساس الكسب أو العوائد المادية البحتة إلى مفهوم يتضمن معاني التضحية والإيثار. وعليه تصبح دالة المنفعة ۔ بالمفهوم الاقتصادي۔ تعتمد على كمية المواد والخدمات التي يستهلكها الفرد، وعلى مقدار التضحية التي يقدّمها الإنسان لأخيه الإنسان.

وبهذه الآلية تصبح الضرائب حق الله في أموال الأغنياء، وأن الالتزام بدفعها يؤدي إلى رفع منزلة الفرد عند ربه.

ثالثاً: مشكلة النزعة الفردية الاستحواذية

ينفرد الإسلام في درجة اهتمامه بهذا الهدف والخصوصية التي يوليها له، ويعتبرها العامل الأساسي والبناء التحتي للكيان الاجتماعي والاقتصادي، فالإسلام يهدف إلى صياغة فكر وعاطفة وسلوك الإنسان وفق آلية تجعل نظرة الفرد إلى الحياة على أنها مرحلة انتقالية يستثمر فيها طاقته وإمكانياته المادية والروحية في تقوى الله.

في هذا السياق يكون هدف الفرد في المجتمع العمل ۔ حتى لو تطلّب ذلك العمل التضحية والإيثار ۔ رغبة في زيادة رصيده من العمل الصالح وأملاً في الأجر الموعود.

فسياسة الفرد المسلم في الحياة الدنيا تتمثل أولاً في تسخير ما عنده من خيرات ومكتسبات في خدمة تحقيق أهداف المجتمع الإسلامي، وثانياً الاهتمام بشؤونه الخاصة <وَاِبْتَغِ فِيمٰا آتٰاكَ اللَّهُ الدّٰارَ الْآخِرَةَ وَلاٰ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيٰا..>.[5]

ومن هذا المنطلق تهتم المنظمات السياسية الإسلامية بالجانب التغييري للفرد قبل الشروع بتغيير النظام السياسي. إن النظام السياسي في الإسلام يمثّل البنية الفوقية في التنظيم الاجتماعي، وإن هذه البنية لا تستطيع أن تنجز مهامّها أو تأتي بثمارها ما لم تكن مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بجذورها ۔ البناء التحتي ۔. فالبنية التحتية من جانب هي المغذّي والمموّل، وهي السند وصمّام الأمان لضمان تحقيق النجاحات الاقتصادية والاجتماعية.

إن الفشل الذي منيت به النظم والحضارات متأتٍّ من فشل تلك النظم من عدم الاهتمام ۔ أو القدرة على الاهتمام ۔ في معالجة المحتوى الفكري والإنساني. لقد أثبتت التجربة بأن التقدم العلمي والتشريع الديمقراطي لا يكفيان وحدهما لتحقيق الرفاهية والسعادة الاجتماعية، إلا إذا تم تغيير الفرد تغييراً جذرياً، تصبح بموجبه المصلحة العامة عين مصلحته الخاصة. فالمشكلات الإنسانية على اختلافها مرتبطة بمشكلة عدم التوافق بين النزعة الفردية وبين المصلحة العامة.

إن النجاح في تحقيق الأهداف الاجتماعية يتوقف على وجود بنية اجتماعية سليمة متمثلة في الطلائع المؤمنة التي تعي أحكام الإسلام ۔ لا على أنها طقوس ينبغي تأديتها ۔ وآمنت بأن أبرز مصاديق الإيمان هي الممارسات المسؤولة في الشؤون الحياتية.

إن وعي أحكام الإسلام يمكّن الأفراد من التحرك بمرونة في معالجة المشاكل المختلفة بشكل يضمن عدم تجاوز الحدود الإلهية من جهة، وعدم الإحجاف بمصالح الأفراد من جهة أخرى.

إن فقدان الشعور بالمسؤولية وعدم الإخلاص في ممارسة النشاطات المختلفة هما من أكبر المشاكل التي تواجه النظم الاجتماعية السائدة. فالنمو الاقتصادي ۔على سبيل المثال۔ لا يتحدد بمجرد زيادة الاستثمارات، أو بمقدار تدخّل الدولة في تنظيم المرافق الاقتصادية، بل في قدرة النظام الاجتماعي في تحريك وتحفيز الإنسان على العمل الجاد المخلص.

ولهذا فالتنمية الاقتصادية تعتمد إلى حد كبير على الجهاز الإداري الذي يستطيع شحذ الهمم والشعور بالمسؤولية _ الرقابة الذاتية_، (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته).

إن النجاح الحقيقي لأي نظام مرهون بقدرة النظام على تطوير مفهوم المصلحتين: الخاصة والعامة وتوحيد أهدافهما، بحيث يكون السعي لإحداهما سعياً لتحقيق الأخرى.

إن المشكلات الاجتماعية كمشكلة الاستخدام غير الكفوء للموارد أو غياب العدالة الاجتماعية والاقتصادية.. تجد حلولها من خلال التوفيق بين المصالح الخاصة والعامة. وحرصاً على إبراز أهمية التوفيق بين المصلحتين، يجدر بنا أن نستعرض بعض الأمثلة:

المثال الأول: في كثير من الأحيان تواجه الدول أو المؤسسات الاقتصادية مشكلة اختيار نوع التكنولوجيا.

فعلى سبيل المثال هناك تكنولوجيا تعتمد استخدام المكننة بشكل مكثف، وأخرى تعتمد الاستخدام المكثف للقوى العاملة. لا شك أن الدول التي تتميز بكثافة سكّانية عالية وموارد نقدية منخفضة، يكون من الأنسب لها استخدام التكنولوجيا التي تعتمد الاستخدام المكثف للقوى العاملة، غير أن البعض ممن يساهمون في صناعة القرار يندفعون بتأثير قوى ومصالح ذاتية إلى تبنّي التكنولوجيا التي لا تحقّق المصلحة الاجتماعية، فالمهندس المتدرب على استخدام نوع محدد من الأساليب الإنتاجية الحديثة، والتي تعتمد على استخدام المكننة بشكل مكثف، ينطلق من مصلحة ذاتية بترغيب المؤسسة ۔ التي يعمل بها ۔ إلى اقتفاء الأسلوب التكنولوجي الذي يتناسب مع مؤهلاته. فيعمد إلى إبراز الجوانب الإيجابية لهذه التكنولوجيا وإخفاء الجوانب الأخرى، مستهدفاً إبراز مؤهلاته التي تأهّل بها، ومن ثم إبراز شخصيته القيادية في العمل.

المثال الثاني: في كثير من النشاطات الإنتاجية يصاحب الإنتاج الاقتصادي إفرازات مضرة بالمجتمع ۔ كالتلوث الصناعي مثلاً ۔ غير أن المنتج في كثير من الأحيان لا يأخذ بنظر الاعتبار تلك الإفرازات، وخاصة إذا لم تكن ملموسة اجتماعياً. فيعمد إلى تحديد مستوى الإنتاج الصناعي بأعلى مما يجب إنتاجه، وذلك بإهمال الكلفة الاجتماعية ۔كلفة إزالة التلوث۔ وحسابه كلفة الإنتاج المباشر ۔المعدّات، والمواد والعمل۔ فقط، حيث إن الإنتاج الاقتصادي الأمثل يتقرر بتعادل أو مساواة العوائد الحدية ۔ مقدار الزيادة في العوائد من إنتاج الوحدة الأخيرة ۔ مع الكلفة الحدية: مقدار الزيادة بالكلفة نتيجة زيادة الإنتاج بوحدة واحدة.

إن تجاهل المنتج للكلفة الاجتماعية دليل على تنصّله من المسؤولية والمصلحة العامة، بسبب غلبة الأنانية والمصلحة الخاصة.

الأمثلة أعلاه هي صورة من الانتهاكات العديدة التي يمارسها الفرد للمجتمع. ولا شك أن السبب والعامل المشترك لجميع المشاكل الاجتماعية يعود إلى طغيان المصلحة الخاصة للفرد على المصلحة العامة.

إن معالجة المشكلة تستدعي أن يربّى الفرد ضمن قيم تجعله يقيّم الربح والفائدة لا على أساس المردود المادي المباشر فحسب، بل ۔ إلى جانب ذلك ۔ على مقدار العائد المادي والمعنوي الذي يقدمه الفرد إلى بقية أفراد المجتمع.

بعبارة أخرى إن العلاج لمثل هذه الانتهاكات يقتضي جعل الخدمة الاجتماعية عاملاً من عوامل المصلحة والمنفعة الذاتية للفرد.

نحن إذا ما استعرضنا النظم الاجتماعية المختلفة لا نجد فيها ما يساعد على حل المشكلة الاجتماعية، بل على العكس، تعمل تلك النظم على تنمية النزعة الفردية والمادية، ففي هذه النظم يكون الجهد الإنساني جهداً مفقوداً إذا لم يدرّ على الفرد ربحاً مادياً مباشراً، وتكون المهمة الاجتماعية مهمة غير نافعة إذا لم تنمّ المركز الاجتماعي للفرد. وعليه نستنتج أن المشكلة الاجتماعية لا تجد حلها إلا بنظام إلهي كالإسلام الذي يعمد إلى تسوية الخلاف بين المصلحة الخاصة والعامة.

المصادر:

  1. اقتصادنا، محمدباقر الصدر، الطبعة السادسة عشر، دار التعارف، بيروت، لبنان.
  2. فلسفتنا، محمدباقر الصدر، الطبعة الرابعة عشر، دار التعارف، بيروت، لبنان.

[1]. مدرس أقدم بجامعة غرب إنكلترا، 6 August, 1999.

[2]. لقمان: 20.

[3]. إبراهيم: 32 ۔ 34.

[4]. الأنعام: 165.

[5]. القصص: 77.