الامام محمد باقر الصدر مفسراً صائب عبد الحميد

[lwptoc]

الامام محمد باقر الصدر مفسراً

صائب عبد الحميد

المألوف أن يدرس الرجل مفسِّراً من خلال تفسيره للقرآن  الكريم ،لكنّ الشهيد الصدر قدس سره لم يفسّر القرآن الكريم، هل يصحّ أن ندرسه مفسّراً؟

قد كشف السيد الصدر مفسّراً من مجموع آثاره في تفسير النصوص القرآنية التي استوعبتها دراساته المتنوعّة ،والتي حملت بكلّ أمان إبداعه في فهم النصّ، وأسلوبه المميّز في  عرض المعاني.. دراسات استوعبت نحو(300)آيه،بين تفسير تام، أو كشف عن جانب منها، أو استشهاد علي تفسير آيه أُخرى، أو تحديد مفهوم قرآني يكشف عن معناها..

وإذا لاحظنا أنَّ كثيراً من مفسري السلف الذين تُنقل تفاسيرهم في كتب التفسير المفصلة، لم ينقل عنه أكثر من هذا العدد من الآيات المفسرة ((

تفسير الطبري أكبر جامع لتفاسير السلف ، راجع في جزئه الأخير تفسير: النبأ، والنازعات ، وعبس ، والتكوير، مجموع آياتها (40*46*42*29)=157آية ، شارك محمد بن كعب القرضي في تفسير ثلاثة آيات ، وعكرمة في عشر آيات بعضها روايةً هم من كبار مفسري السلف بلا خلاف·

وفي تفسير القرطبي الكبير لا يذكر القرضي أكثر من (130)مرة، وابن سيرين(138) مرة لاغير

))، نجد أن هذا وحده كافياً في تبرير هذه الدراسة.

هذا هو الأول من أبواب ثلاثة يمكن من خلالها أن نشرف علي الشهيد الصدر مفسراً..

أما الباب الثاني، فمباحث علوم القرآن: التي تناول أهمّها وأكثرها صلة بمنهج التفسير: كتحديد معنى التفسير وأهدافه، وما المراد بالتأويل؟ وهل ظاهر القرآن حجّة ليعتمده في تفسير القرآن أم ليس بحجّة كما يراه الباطنيون؟ وهل في القرآن ناسخ ومنسوخ؟

في كل هذه المباحث، بعد أن تناولها السيد الشهيد بالدرس المفصل، أعطى رأيه المعتمد عنده الذي سوف يمثل في النهاية منهجه في فهم القرآن الكريم والتعامل مع نصوصه.

والباب الثالث هو المنهج الموضوعي التوحيدي في تفسير القرآن: الذي انتهى من تحديد معالمه، ومارس جملة من التطبيقات الواسعة نسبياً في إطاره ، الذي يمكن الاكتفاء به وحده في دراسة (الصدر مفسّراً) ((كما صنع بعض الباحثين في بحوث مقتضبة ، منهم : الدكتور حسن عاصي/ منهج الباقر في التفسير(مقدمة  لكتاب السنن التاريخية في القرآن للسيد الشهيد)، ومحمد الحسيني / بحث في كتاب(الإمام الصدر دراسة في حياته ومنهجه) الدكتور عبد الجبار شرارة/نحو منهج جديد للتفسير· قضايا اسلامية العدد 415، وخالد توفيق / تجربتان في التفسير الموضوعي(مقال في صحيفة كيهان العربي) السيد سلام زين العابدين/ الإمام الصدر م فقه النص إلى فقه النظرية ، قضايا إسلامية عدد1ـ1415)) من دون  أن يخل ذلك كثيراً في الدراسة.. فتطبيقاته كاشفة عن منهجه: هل اعتمد التفسير بالمأثور لا غير ؟ أم التفسير بالرأي مطلقاً؟ أم جمع بينهما؟هل اعتمد المنهج الباطني و الإشاراتي ، أم كان ظاهرياً صرفاً بكلّ ما يحمله التطبيقية بوضوح ، إضافة إلى نظريات هامّة في فهم النصّ استوعبتها دراساته الرائدة في فقه النظرية.

فنحن إذن أمام مدرسة واسعة في التفسير، متعدّدة الجوانب وهي أهل لأن تدرس في كتاب مفصّل يستوعب جميع مزاياها ودقائقها دراسة معززة بالأمثلة الحية دائماً، والعروض المقارنة المركزة التي تساهم مباشرة في تحديد المدرسة التي ينتمي اليها بين مدارس التفسير، أو تحديد ما يظهر في تفسيره من إبداع وتجديد ، أو متابعة وتقليد، أو تفرد برأي إن وجد ، ونحو ذلك.

هذه الدراسة:

أما هذه الدراسة، فشأنها الكشف عن معالم المنهج، مع شيء من لمسات مقارنة يقتضيها البحث. وتقع في ثلاثة أقسام:

القسم الأول : في الحديث عن ركائز أساسية يجب توفرها واستيفاؤها قبل الشروع في التفسير، وضعناه بعنوان(المفسِّر والمنهج).

القسم الثاني: في معالم المنهج العام، التي حدّدها السيد الشهيد في مباحثه الخاصّة لهذا الغرض.

القسم الثالث: في التعريف بالمنهج الجديد، الذي أحكم السيد الشهيد صياغته، وأسماه بـ(التفسير الموضوعي أو التوحيدي).

القسم الأوّل

المُفَسِّر والمنهج:

دأب المشتغلون في التفسير وعلومه على استعراض طائفة من المؤهلات التي ينبغي أن ينضّم عليها المرءُ، كي يكون مؤهلاً لفهم القرآني وبيان معانيه وأحكامه ، فيؤلَّفُ على الدوام شريطٌ تقليدي، يبدأ بذكر المعرفة المعمقة بلغة العرب وأسرارها وآدابها، ليمتد إلى الحصيلة الوافية في الفقه وأُصوله، ثم الحديث وفنونه، لينتهي في أتم صورة عند المعرفة بلغة المتكلمين ومداخلها ومخارجها.

وحتى في هذا البحث التقليدي أتى السيد الشهيد بكل ما هو جديد ، فالتفسير لا ينتهي عن هذه الجملة من المؤهلات الشخصية، التي قد يتملكها كثيرون من غير أن يستطيعوا التقدم خطوة واحدة  في تفسير ناجح، بل لابد من توفر شروط أساسية (لا يمكن بدونها أن ينجح البحث في القرآن، ويوفق المفسر في مهمته) ((علوم القرآن / للسيد محمد باقر الحكيم:80.)).

أما ذلك الشريط التقليدي، فلا يؤلف إلا القليل والأولي ، ولا يصنع سوى(ربع المفسر) الذي يرجى أن يحالفه النجاح والتوفيق في فهم لغة القرآن وأهدافه، فهناك شروط ثلاثة أخرى لا يقل أحدها أهمية عن ذلك المجموع التقليدي، وهي:

1ـ الذهنية الإسلامية

فالقرآن لا يصح أن يدرس إلا ضمن الإطار الإسلامي للتفكير، فهو كتاب إلهي أُنزل للهداية وبناء الإنسانية ، فالمنهج الاستشراقي ـ مثلاًـ عاجز عن تحقيق نجاح يذكر في التعبير عن لغة القرآن وأهدافه: ذلك لأنه يمثل أساساً بالتسوية بين النص القرآني وبين أي إنتاج بشري آخر، فكل ملاحظته من مؤثرات يخضع لها الإنتاج البشري في شتى حقول المعرفة الإنسانية، يمكن ملاحظته أيضاً على القرآن الكريم…

ـ فحين تظهر في القرآن صورة لبعض الأعراف العربية، يراها المنهج الاستشراقي دليلاً على تأثر القرآن بالبيئة التي وجد فيها!

ـ وحين يجد فيه تشريعا  موافقا  لتشريع بعض الديانات السابقة ، يراه دليلاً على تأثره بها وأخذه منها.

لكن الصحيح أن القرآن الكريم كتاب هداية للإنسانية، وقيادة لمسيرتها نحو التكامل، فليس من الضروري أن يكون ثورة عارمة على كل شيء تعلمته الإنسانية من قبل حتى لو كان مبدأً حقاً وسلوكاً أمثل. وأيضاً فهو امتداد لرسالات السماء، ومن الطبيعي أن تشتمل الرسالة الخاتمة على الكثير مما احتوته الرسالات السماوية السابقة، كما هو طبيعي أن تنسخ قسماً كبيراً من تشريعاتها((انظر (علوم القرآن):80ـ 82)).

 

2ـ الذهنية القرآنية بديلاً عن الذهنية المذهبية

عبر عنها الشهيدـ(الاندماج كلياً في القرآن) وقال: نقصد بها أن يدرس المفسر النص القرآني ، ويستوحي معناه دون تقييد مسبق باتجاه معين غير مستوحى من القرآن نفسه، كما يصنع كثيرٌ من أصحاب المذاهب، الذين يحاولون إخضاع النص القرآني لعقيدتهم المذهبية.. فهم لايدرسون ليكتشفوا اتجاهه، بل يفرضون عليه اتجاههم المذهبي ويحاولون فهمه دائماً ضمن إطارهم العقائدي الخاص((علوم القرآن : 83)).

هذه حقيقة مدت جذورها عميقاً، وغلبت أهلها شاءوا أم أبو، وليست هي في كتب التفسير بأقل منها ظهوراً في كتب العقائد والمناظرات المذهبية ، فتكفيك الآن معرفتك بأصول المذاهب لتصنف جميع مفسري القرآن الكريم إلى مذاهبهم بكل دقة، وبدون تردد، أنت لن تخطىء ذلك ولو مرة واحدة!

من هنا أصبح كل فريق من فرق المسلمين متهماً لدى سائر الفرق الأُخرى بأنه يلوي عنق النص لياً؛ لأجل أن يصرفه إلى المعنى الذي ينصر رؤيته المذهبية! ((انظر (حوار في العمق): 40ـ 44،57ـ93)).

لذا قد لا يجد السالوس نكارةً فيما رمى به مفسري الإمامية من (تشييع) للقرآن الكريم، في كتابه :(أثر الإمامة في الفقه الجعفري وأُصوله)، لكنه بلا شك كان مستغرقاً في غفلة عن أن ناقداً بسيطاً بإمكانه أن يحصي من تفاسير أهل السنة أو المعتزلة أو غيرهم أمثال ماأحصاه هو بحق أوبغير حق!

والسيد الشهيد لايرى في هذه الظاهرة مجرد آفة دخلت كتب التفسير ، بل يرى أن ذلك النهج ليس من التفسير  في شيء «وإنما هو محاولة تبرير للمذهب ، وتوفيق بينه وبين النص القرآني…

«ولهذا كان من أهم الشروط في المفسر أن يكون بدرجة من التحرر الفكري تتيح له الاندماج بالقرآن ، وجعله قاعدةًلتكوبن أي إطار مذهبي، بدلاً من جعل الاتجاه المذهبي المحدد قاعدة لفهم القرآن»((علوم القرآن : 830))!

ولم يكن هذا الانحراف المنهجي حكراً على بعض مفسري المذاهب الإسلامية المعروفة، بل اتخذ منه الماديون أيضاً مطية للنفوذ إلى القرآن الكريم، وتسخيره في تبرير مذاهبهم المادية التي ليس لها ودنى صلة بالإسلام ومبادئه!، فمنذ أن دعا ماركس إلى استعمال الدين من أجل مكافحة الدين نفسه بين الجماهير المؤمنة به، وفسر لينين هذا المبدأ بقوله:«ينبغي مرتكزات إيمان الجماهير وأُسس دينها وفق المفاهيم المادية»((الشهيد المطهري/ الدوافع نحو المادية: 33ـ 34 عن كتاب (ماركسوالماركسية) للينين))، كان نصب أعين الماركسيين ابتكار الأساليب الأكثر فعالية في خدمة هذا الغرض؛ ليجعلوا من المسلمين ماديين في كل محتواهم الداخلي حتى لا يبقى من إسلامهم إلا القشور ، التي سوف تتساقط بدون جهد حين تنقطع الصلة بينها وبين اللباب!

فكان تفسير آيات القرآن الكريم وفق النظرية المادية واحداً من أهم تلك الأساليب:

ـ ففي قوله تعالى:﴿الم×ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين× الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون﴾((البقرة/1-3.))، قالوا: إن المفسرين يعتقدون أن الغيب هو مالا يمكن رؤيته، من قبيل الله، والملائكة… بينما نجد أولاً: أن الله والملائكة ليسوا غيباً، هذا أولاً.

وثانياً: أن قضية الإيمان بالله قد تم ذكرها ومضى خلال التطرق إلى عنوان المتقين. فالمقصود بالغيب: هو نفس المراحل الابتدائية للنضج والرشد والثورة، وزمن حصول التغييرات الكمية… وبالتالي يقوم النظام الجديد، وتنتقل الثورة من مرحلة الغيب إلى مرحلة الشهادة!

إذن وفق هذا التفسير فالإيمان بالغيب قد انتفى في العهد المدني حين انتقلت الثورة إلى مرحلة الشهادة!!

ـ وفي قوله تعالى:﴿…وبالآخرة هم يوقنون﴾((البقرة/ 10.))، يقولون:إن هؤلاء يوقنون بالنظام الأفضل والأسمى حينما تمر الثورة بمرحلة الشهادة ، ويعملون أن اتخاذ هذه المواقف وهذا الأسلوب الثوري سوف يؤدي في النهاية إلى  بلوغ الغاية وتحقيق الهدف، ألا وهو الوصول إلى إقامة النظام الأفضل والأسمى، هذا هو المراد بالآخرة . أما الحياة الدنيا في القرآن فالمراد بها الحياة في ظل النظام الرأسمالي أوالاقطاعي حيث حيث تتفشى الملكية الخاصة!! والثائرون دائماً المؤمنون باليوم الآخر ودائماً هم المستضعفون ، والصراع الذي رسمه القرآن على طول مسيرة الحياة هو صراع طبقي، لاغير، فالقرآن يقسم الناس إلى طبقتين: مستكبرين ، ومستضعفين، ويجعل المستقبل للمستضعفين وحدهم حيث تسود العدالة ويكون الناس سواء، وتختفي ملكية وسائل الانتاج، قال تعالى:﴿ونريد أن نمن على الذين استضعُفوا في الأرض ونجعلهم أنمة ونجعلهم الوارثين﴾((محمد باقر الصدر / الإسلام يقود الحياة : 35ـ سورة القصص /5.))

السيد الشهيد يتصدى لهذه المغالطة: فهنا عملان ثوريان يسيران جنباً إلى جنب، فحين يجعل المستضعفين هم الوارثون، يجعلهم(أئمة)، وهذا يعني أن حلولهم محل المستكبرين يواكب تطهيرهم من الداخل ، والارتفاع بهم إلى مستوى القدوة والنموذج الإنساني الرفيع؛ ولهذا لن تكون عملية الاستبدال الثوري هنا كا ستبدال الرأسمالية بالبر وليتاريا، وإنما هي تصفية نهائية للاستغلال ولكل أنواع الظلم البشري..

وأيضاً فقد حدد القرآن الكريم في نص آخر صفة هؤلاء المستضعفين، الذين ترشحهم الثورة لتسلم مقاليد الخلافة في الأرض، فقال:﴿الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وللّه عاقبة الأمور﴾((الحج/ 41.)).

وهكذا حين يكون التفسير تبريراً للمذهب، فلا يبالي المفسر أن يقتطع النص القرآني من موضوعه،ليخرج بما يلائم مذهبه، وإن كان ذلك من خلال صورة مغلوطة ومشوهة للخطاب القرآني وأهدافه.

3ـ المنهجية في التفسير

المسألة الأهم التي تتحكم في اتجاه التفسير ، بل في صلاحياته في التعبير عن لغة القرآن الكريم وأهدافه ،هي«المنهج» الذي يميز بين تفسيرٍ للقرآن ، وبين كتاب يسخر القرآن لتبرير المذهب.. بين قرآن حي متحرك يقود الفكر والعمل ويوجه الحياة ، وبين قرآن طُلسمي يختفي وراء الحجب .. بين قرآن عربي مبين جاء بلغةٍ لها أُصلولها وآدابها ، وبين قرآن رمزي غائم، ألفاظه وسائل لمقاصد باطنية مكنوزة في اللوح المحفوظ.. بين قرآن يخاطب الإنسان العاقل، كل إنسان عاقل﴿هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان﴾((البقرة/ 185.))، وبين قرآن لا يفهمه إلا الصاعدون في( الإشارات) و(الفيوضات)..بين قرآن تبينه السنة بالقول الصادق والعمل الثابت ، وبين قرآن تترجمه مخيلات الخرافيين والتائهين والساخرين.. بين قرآن يدعو إلى نفسه ويهدي للتي هي أقوم ، وبين قرآن يدعو صراحة إلى هجر القرآن…!!!

هكذا تصنع المناهج من القرآن!!

وحين يغيب المنهج تعم الفوضى!!

فهي(فوضتان): فوضى تحت عنوان المنهج؛ حين يغيب الفهم المعمق ، والحس القرآني المرهف ، والأُفق الأرحب..وفوضى حين يغيب المنهج.. وفي الحالين لا نعدم الإخلاص ، لكنه إخلاص مذبذب ؛ بين بلاغات القرآن واهدافه ، وبين الرؤية والمذهب: أما إذا غاب الإخلاص فليس ثمة تفسير، بل هي كارثة تبرقعت بآيات القرآن!

فمشكلة المنهجية في التفسير مشكلة تغلي وتفور حتى نهاية المشوار، فأين يضع المفسر نفسه من بين تلك المربعات؟ بل أين يضع القرآن؟

هناك في البدء شريط تقليدي تؤلفه حلقات أصلية «فلا بد للمفسر من منهج عام للتفسير، يحدد فيه ـ عن اجتهاد علمي ـ طريقته في التفسير ، ووسائل الإثبات التي يستعملها، ومدى اعتماده على ظهور اللفظ وعلى السنة وعلى أخبار الآجاد، وعلى القرائن العقلية في تفسير النص القرآني ؛ لأن في كل واحد من هذه الأُمور خلافاً علمياً، ووجهات نظر عديدة، فلا يمكن ممارسة التفسير دون درس تلك الخلافات درساً دقيقاً»((علوم القرآن/ 84.)).

بعد ذلك يرى السيد الشهيد أن وجهات النظر المحددة التي سوف يخرج بها المفسر من دراسته العلمية لتلك المباحث، هي التي سوف تؤلف المنهج العام للمفسر، الذي يسير عليه في تفسيره((م.ن)). فلما يعنى السيد الشهيد بعد ذلك بدراسة هذه المباحث والخروج بوجهة نظر محددة ، فإنما يقدم لنا منهجه في التعامل مع النص القرآني وفهمه.

ومع ذلك فمشكلة التفسير ما زالت قائمة ؛ لأنها أضحت هي مشكلة التاريخ ومشكلة العقيدة معاً..

فالتفسير مشكلة تاريخ؛ تاريخ التفسير نفسه، بمناهجه التي عرفهاالمتقدمون.فاتخذها المتأخرون أغلالاً في أعناقهم!

فما هو الجديد عند أصحاب المأثور ؟ بماذا امتازوا عن أبي حاتم الرازي والعياشي؟

وحين تقدم هذا الفريق خطوة إلى الأمام ، فهل استطاع اللاحقون أن يجتازوا الطبري والطبرسي، أم مازال العلمان إلا النموذج المتقدم على من جاء بعدهم بألف عام؟!

وأي جديد عند أصحاب الرأي يتخطى منهج القاضي عبد الجبار والزمخشري؟!

نعم، ربما تجد الجديد عند أصحاب الباطن والإشارات ، فالباطن لاقعر له، والإشارات لا حدلها ، لكنه الجديد الذي لايشبه لغة الأنبياء ، ولا هو من سنخ الخطاب الذي يقصد به العقلاء ، فذاك عالم غريب يختص بأهله، فصوبى لهم إن كان خيراً حازوه وحرمانه ، وطوبى لنا إن كان أمراً لا يعنينا فتركناه!

فكل الذي أعطتنا تلك المناهج: معاني مفردات ، وأسباب نزول ، ثم تقودنا طوعاً أو كرهاً إلى مشكلة العقيدة ، وحتى في تفسير آيات الأحكام ـ الجانب الذي يمس الحياة مساً مباشراًـ تتجلى مشكلة العقيدة.

ومشكلة العقيدة تكمن في أننا«ومنذ وقت طويل تكتفي عقائدنا بالتقليد الذي لا يتفق وعقول المتعلقين بالموضوعية»

«ومن المعلوم أن كل مجتمع يحتوي مشكلة أفكار دارجة تحرك الجماهير ، كما يحتوي مشكلة أفكار علمية تخص المثقفين ، وكما أن هذه تحدد لدى العلماء حلولاً نظرية لبعض المشكلات، فإن تلك تحدد السلوك العملي للجماعات إزاء هذه المشاكل التي تصادفهم في الحياة.. ففي العالم الإسلامي توجد الآن طبقة مثقفة مقتنعة بحركة الأرض، ولكن  هناك جمهوراً كبيراً من الدراويش ، وشعباً من الجهال من كل نوع يصر على اعتقاده بأن الأرض ساكنة تحملها العناية على قرن ثور!وهذه الفكرة الدارجة قد تؤثر في توجيه التاريخ أكثر من الفكرة العلمية؛ لأنها تستند إلى غير موفق ، يرى الأرض على قرن ثور»((مالك بن نبي/الظاهرة القرآنية: 59ـ 60.)).

إن مشكلة المنهج هي المشكلة الحاسمة في(تقرير مصير) أثر القرآن: بين أن يبقى محفوظاً بين الدفتين يعيننا المفسر على معرفة معاني مفرداته، فإذا أعاننا نعرف أن (مدهامتان) تعنى(خضراوان) تميلان إلى السواد من شدة الخضرة ، وإذا تحير المفسر في معنى(الحور) نحار معه!…؛ وبين أن ينتقل القرآن بنصوصه ومقاصده وأفدافه إلى الحياة في كل ميادينها، في بناء المجتمعات وفي إعمار الأرض.

تلك أصبحت تمثل حداً فاصلاً بين القديم والجديد من مناهج التفسير، منذ ظهر رجال الإصلاح في الفكر الديني وأولوا مناهج التفسير ماتستحقه من عناية وهتمام.

ويمكن بحق أن يعد السيد جمال الدين الأفغاني رائد التجديد في مناهج التفسير كما كان رائد في فكره الإصلاحي كله، فرأى بوضوح أن تلك مناهج انصرفت عن الأخذ بروح القرآن والعمل بمعانيه ومضامينه إلى الاشتغال بألفاظه وإعرابه ، فحملت ألفاظاً لفظية ومناقشات فرضية واستنتاجات ليست في مصلحة البشر، ولا هي من وسائل هدايتهم إلى الايمان به، وأضافت إليها من الشروح والتفسير مالا محصل له سوى الإغراب وإرضاء العامة((د. محسن عبد الجبار / الفكر الاسلامي: تقويمه وتجديده: 70ـ 71.)).

وقد حاول أن يعكس رؤيته الجديدة من خلال مايفسره من آيات الكتاب الكريم في جريدته(العروة الوثقى)فركز اهتمامه في سبع عشرة آية فقط استطاع تفسيرها قبل إيقاف صدور الجريدة في عددها الثامن عشر ، ركز اهتمامه على الآيات التي تتصل بأسرار نمو الأُمم وتطورها، أو ضعفها وا نحطاطها وسقوطها((محمد البهي / الفكر الاسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي : 96، تراث الانسانية 5: 44.)). الموضوع الذي تناوله فيما بعد السيد الشهيد محمد باقر الصدر في دراسة مفصلة ومنتظمة خرج منها بصياغة نظرية متماسكة ، أطلق عليها اسم:«السنن التاريخية في القرآن الكريم».

واهم ما تميز به منهج العروة الوثقى ثلاثة أُمور:

أحدها: بيان سنن الله ـ تعالى ـ في الخلق ونظام الاجتماع البشري، وأسباب ترقي الأُمم وتدليها.

وثانيها:بيان أن الإسلام دين سيادة وسلطان، وجمع بين سعادة الدنيا وسعادة الآخرة.

وثالثها: أن المسلمين ليست لهم جنسية إلا دينهم ،فهم أُخوة  لايجوز أن يفرقهم نسب ولالغة ولا حكومة((محمد رشيد رضا / المنار1: 11.)).

وطور محمد عبده هذا المنهج، في سعته وعمقه، وحتى في لغة التعبير عنه، حين جعل منه تفسيراً(مقاصدياً)يعانق مقاصد القرآن العليا ويمضي معها، بدلاً من أن يبقى متعثراً بين حدود الألفاظ والأحكام،فقال:«التفسير الذي نطلبه هو فهم الكتاب من حيث هو دين يرشد الناس إلى مافيه سعادتهم في حياتهم الدنيا وحياتهم الآخرة، فإن هذا هو المقصد الأعلى منه، وما وراء هذا من المباحث تابع له، أو وسيلة لتحصيله»((المصدر:17.)).

فالواجب في التفسير إذن«ذهاب المفسر إلى فهم المراد من القول ، وحكمة التشريع في العقائد والأحكام … فالمقصد الحقيقي هو الاهتداء بالأحكام»((المصدر السابق:25.)).

والجديد الذي أضافة بعد ذلك إلى هذه المنهج تركيزه على«اعتبار القرآن جميعه وحدة واحدة متماسكة ، فهم بعضه متوقف على فهم جميع النصوص التي وردت فيه»((محمد البهي /مصدر سابق:175.العنكبوت :69.الميزان 1: 9.)).

هذا الأُس المنهجي ظهر على أتمه في المنهج القرآني في تفسير القرآن الذي تبناه السيد الطباطبائي معتمداً السياق بالمرتبة الأُولى في تفسير النص وتشخيص مقاصده العلياة فالقرآن الكريم نفسه هو أفضل (أدادة) لتفسير آياته.. فالمنهج الذي رآه بديلاً عن كل المناهج:«أن نفسر القرآن بالقرآن ، ونستوضح معنى الآية من نظيرتها بالتدبر المندوب إليه في نفس القرآن ، ونشخص المصاديق ونتعرفها بالخواص التي تعطيها الآيات ، فحاشا أن يكون القرآن تبياناً لكل شيء، ولا يكون تبياناً لنفسه! وكيف يكون القرآن هدىً وبينةً وفرقاناً ونوراً مبيناً للناس في جميع مايحتاجون ، ولا يكفيهم في احتياجهم إليه نفسه، وهو أشد الاحياج؟!

والله ـ تعالى ـ يقول :﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا..﴾ ((العنكبوت:69.))ـ وأي جهاد أعظم من بذل الجهد في فهم كتابه؟ وأي سبيل أهدى إليه من القرآن نفسه؟!» ((الميزان 1:9.))

لكن من بذل السيد الطباطبائي يرى أن هذا المنهج الذي يبدو حديثاً ، إنما هو أقدم الطرق المأثورة في التفسير التي سلكها معلموه(سلام الله عليهم).. فقد قال النبي صل الله:«إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، فإنه شافع مشفع وماحل مصدق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة ، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل، يدل على خير سبيل، وهو كتاب تفصيل وبيان وتحصيل…».

وقال علي عليه السلام يصف القرآن:«ينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض»((المصدر السابق 1:12،10.)).

أما الرؤية التي أضافها محمد رشيد رضا فقد تبدو أبعد عن منهج اشتاذه محمد عبده، إذ رأى رشيد رضا أن الكون المنظور أعظم تفسيراً للكون المقروء، ومن هنا فلا بد من الاستفادة من العلوم المتنوعة والثقافات الإنسانية المتعددة الحديثة في تفسير القرآن الكريم..«ألا إن للّه كتابين : كتاباً مخلوقاً؛ وهو الكون، وكتاباً مُنزلاًـ مقروءاًـ وهو القرآن، وإنما يرشدنا هذاـ المقروءـ إلى طرق العلم بذاك ـ المخلوق ـ بما أُوتينا من العقل، فمن أطاع فهو من الفائزين، ون أعرض فأُولئك هم الخاسرون».

«أليس أكبر خذلاناً للدين وجناية عليه أن لاينظر المنتسبون إليه في آياته التي يوجههم كتابه إلى النظر فيها، ويرشدهم إلى استخراج العبر منها؟ أليس من أشد المصائب على الله أن يهجر رؤساء دين كهذا الدين العلوم التي تشرح حكم الله وآياته في خلقه ويعدونها مضعفة للدين أو ماحية له، خلافاً لكتاب الله الذي يستدل لهم بها ويعظم شأن النظر فيها؟».

ثم تعود الفاصلة بين الأستاذ وتلميذه لتلتئم حين يرى التلميذ أن هذا النهج هو من صلب تفسير القرآن بالقرآن نفسه، فالقرآن حين يكثر من التنبيه إلى آيات الكون المخلوق يختم دائماً بقوله:﴿إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون﴾ فهو إذن انطلاقه من دعوة القران لتعود بكمال التوحيد في الايمان.

ولقد كان بإمكان رشيد رضا أن يكون أقدر تعبيراً عن منهج(الأفغاني ـ عبده) لولا حماسه الشديد الذي اتخذ أحياناً كثيرة صورة التطرف في النزعة المذهبية ، حتى انقلب الكثير من صفحات(المنار) إلى صفحات في الصراع المذهبي، تماماً على نسق المناهج التي انتقدها كثيراً ممنهج العروة الوثقى( الأفغاني ـ عبده). مما قد يكشف عن فهم قاصر للتعصب المذهبي المنبوذ، فكأنه يرى أن التعصب منبوذ مادام دائراً بين أصحاب المذاهب وهذا بلا شك فهم مختلف عن نهج الأفغاني الذي كان أُنموذجاً في التوازن، ذابت فيه واختفت هذه اللغة بالكامل، ناهيك عن الشقة الواسعة في لغة الخطاب الإسلامي بين الافغاني ورضا. ومع ذلك فما زال الدارسون للمنار يكتفون بالصلة الوثيقة بين رشيد  رضا ومحمد عبده، والنقل الكثير للتلميذ عن أستاذه؛ ليجعلوا من ذلك برهاناً تاماً على أن رشيد رضا كان الامتداد الأمين لمدرسة الأفغاني ـ عبده، لكن المحاكمة الدقيقة تكشف عن اختلاف كثير في التفاصيل ولغة الخطاب، وإن كان هناك اتفاق تام في المبادئ الأساسية لمشروع إصلاح الفكر الديني!

إذن لم يكتمل منهج العروة الوثقى في التفسير، ولم يعبد عن نفسه التعبير الأتم علي يد رشيد رضا، مع ماجاء به من تجديد ، وماحمله من إيجابيات كثيرة لم يستغن عنها أكثر المفسرين المعاصرين ، وربما كان مالك بن نبي أول من لحظ هذه الحقيقة في هذا المنهج وفي غيره، حين قال:«لكن يبدو أن جهود هؤلاء العلماء، رغم أنها لاتغفل الجانب الاجتماعي في علم التفسير، لم تحدد منهجا الكامل، فالتفسير الكبير الذي ألفه الشيخ طنطاوي جوهري إنتاج علمي أشبه بدائرة معارف، ولاينطوي على أقل اهتمام بتحديد منهج، أما تفسير الشيخ رشيد رضا الذي اتبع فيه إمامه الشيخ محمد عبده فلم يضع هو الآخر هذا المنهج، فقد كان همه أن يخلع على المنهج القديم صبغة عقل جديدة، ومع أنه لم يعدل طريقة التفسير القديم تعديلاً جوهرياً ، فإنه قد خلق في الصفوة المسلمة التي تعشق التجديد الأدبي اهتماماً بالنقاش الديني».

أمام هذه الظاهرة تحدث الأمام الشهيد عن المنهج«لابد للمفسر من منهج عام للتفسير».

ويمكن أن يقسم أثره في المنهج إلى شطرين:

الأول: تطوير للمنهج التقليدي.

أما الثاني: فهو منهج جديد يمارس فيه القرآن فيادته لشؤون الحياة مباشرة، ويتجاوز الخط التقليدي في تناول النص وكشف معانيه وبيان مقاصده؛ لأن القرآن الكريم حين تألف من آيات فلا يعني أن يدرس على الدوام مجزءاً وفقاً لتسلسل آياته، بل القرآن حين اكتمل نزوله قد اكتملت اطروحاته و(نظرياته) في العقائد والأحكام ونظام الحياة الممتد، وهذه الاُطروحات والنظريات لايمكن استلهامها من التفسير( التجزيئي) لآيات القرآن ..بل لايمكن أيضاً التعرف على نظرياته وصياغتها النهائية عن طريق الابتداء بالنصوص ثم المضي في تفسيرها ، إنما الأمر يتطلب منهجاً معكوساً«لا يبدأ من النص، بل من واقع الحياة ، يركز المفسر نظرة على موضوع من موضوعات الحياة العقائدية أو الاجتماعية أو الكونية ، ويستوعب ما أثارته تجارب الفكر الأنساني حول ذلك الموضوع من مشاكل، وما قدمه الفكر الإنساني من حلول، وماطرحه التطبيق التاريخي من أسئلة ومن نقاط فراغ، ثم يأخذ النص القرآني ؛ لا ليتخذ من نفسه بالنسبة إلى النص دور المستمع والمسجل فحسب ، بل ليطرح بين يدي النص القرآني حواراً مشرباً بعدد كبير من الأفكار والمواقف البشرية… وهو يستهدف من ذلك أن يكتشف موقف القرآن الكريم من الموضوع المطروح، والنظرية التي بإمكانه أن يستلهمها من النص».

وقد أفردنا القسم الثالث من هذه الدراسة للتعريف بهذا المنهج وخصائصه ـ أما هنا فنعود إلى الشطر الأول:

«تطوير المنهج التقليدي»:

ويمكن أن نلمس هنا اتقافاً مع منهج( العروة الوثقى) خصوصاً وهو يشترط في التفسير«البحث عن أثر القرآن في التاريخ، ودوره العظيم في بناء الإنسانية وهدايتها».

وحيث يحدد السيد الشهيد موقفه من «وسائل الإثبات التي يستعملها» سوف يحدد معالم منهجه في التفسير ، خصوصاً وهو يؤكد أن الهدف من تحديد تلك الوسائل إنما هو«الخروج بوجهات نظر معينة تؤلف المنهج العام للمفسر الذي يسير عليه في تفسيره»((

هذه المباحث كتبها السيد الشهيد لتدرّس في كلية أصول الدين ببغداد ، و أسند تدريسها إلى السيد محمد باقر الحكيم ، الذي أتمّ بقية فصول المادة المجموعة في كتاب (علوم القرآن) للسيد الحكيم ، و قد راجعناه في تحديد ما كتبه الشهيد مباشرةً ، فكان من أول الكتاب و حتى (نهاية التفسير في عصر النبي) و ما وراء ذلك فهو بقلم السيد الحكيم.. و من بين هذه المباحث ما هو من مباحث علوم القرآن البحتة التي قد يكون لها كبير صلة بمنهج التفسير ، و قد تناولها الشهيد أيضاً كمباحث أساسيّة في علوم القرآن ، قبل أن يتناول بحث التفسير ، فلم نتطرّق إليها في هذه الدراسة ، و لكن المناسب ذكرها تعريفاً ، و هي أسماء القرآن – علوم القرآن و تاريخها – جمع القرآن – نزول القرآن المكي و المدني ، راجع علوم القرآن : 1-65.

أما مبحثا : (حجية ظواهر القرآن) و (النسخ في القرآن) فقد تناولهما السيد الشهيد في كتابه / دروس في علم الأصول – الحلقة الثانية.)).

واهم وسائل الإثبات التي عُني الشهيد بدراستها، والتي سوف تحدد معالم منهجه في التفسير نقرؤها في القسم التالي:

القسم الثاني

معالم المنهج العام

 

المبحث الأول: التفسيرـ معناه وحدوده:

التفسير في اللغة: البيان والكشف.. فتفسير الكلام ـ قرآن وغيره ـ معناه الكشف عن مدلول الكلام، وبيان المعنى الذي يشير إليه اللفظ.

وأمام الخلاف الدائر حول ما يمكن أن يسمى تفسيراً وفق هذا التعريف، ومالا يمكن أن يسمى بذلك، يرى الإمام الصدر قصور الرأي السائد عند الأُصوليين، الذي مفاده: أن ذكر المعنى الظاهر المتبادر من اللفظ لايكون تفسيراً، وإنما التفسير إظهار الخفي، لا غير…

فيرى أن الظهور على قمسين:

أـ ظهور بسيط: وهو الظهور الواحد المستقل.

ب ـ ظهور معقد: وهو الظهور المتكون نتيجة لمجموعة الظهورات المتفاعلة.

وفي القسم الثاني نواجه في النص الواحد ظهورين بسيطين أو أكثر، قد يبدو بينها تعارض. وحين نلاحظ الكلام بصورة كاملة مع ملاحظة التفاعل بين هذه الظواهر، نحصل على ظهور واحد ناجم من ذلك التداخل والتفاعل، فالكشف عن هذا الظهور يصدق على ظهور واحد ناجم من ذلك التداخل والتفاعل، فالكشف عن هذا الظهور يصدف عليه اسم التفسير؛ لأنه في الحقيقة كشف عن معنى خفي.

فالصحيح إذن أن مصطلح«التفسير» يصدق على بيان المعنى في موارد الظهور المعقد، دون بعض موارد الظهور البسيط.

وتفسير القرآن: علم يبحث فيه عن القرآن الكريم بوصفه كلاماً للّه تعالى.

وعلى ضوء هذا التعريف يدخل في علم التفسير البحوث التالية:

1ـ البحث عن مدلول كل لفظ أو جملة في القرآن الكريم،

2ـ البحث عن إعجاز القرآن ، والكشف عن مناحي الإعجاز المختلفة فيه؛ لأن الإعجاز من أوصاف القرآ ن باعتباره كلاماً دالاً على المراد.

3ـ البحث عن أسباب النزول.

4ـ البحث عن الناسخ والنسوخ، والخاص والعام، والمقيد والمطلق.

5ـ البحث عن أثر القرآن في التاريخ، ودوره العظيم في بناء الإنسانية وهدايتها..إلى غير ذلك مما يرتبط بالقرآن الكريم بوصفه كلاماً للّه تعالى، ويخرج عن حدود التفسير ما يتعلق بعلم الرسم القرآني وعلم التجويد.

والبحث الأخير في البحوث الخمسة المذكورة يعد بلا شك بحثاً حيوياً بالغ الأهمية، ويكاد يكون غائباً في تفاسير المتقدمين، إلا أن نجد لمسات متفرقة هنا وهناك، لاتشكل بحثاً جاداً ومنظماً في الموضوع.. وربما تكون المقالات السبعة عشر التي كتبها السيد جمال الدين الأفغاني في(العروة الوثقى) من أول وأهم ماكتب في البحث عن أثر القرآن في التاريخ، وفي بناء الإنسان والحضارة ، ثم ظهر ذلك في العديد من التفاسير الحديثة، كتفسير محمد عبده، ومحمد رشيد رضا، والسيد الطباطبائي، وسيد قطب، ومحمد جواد مغنية والطاهر بن عاشور، وغيرهم من المفسرين المعاصرين.. وقد أولاها السيد الإمام الصدراهتماماً بارزاً ، فركز دراسته القرآنية حول موضوع السنن التاريخية ، وخلافة الإنسان في الارض، وأثر القرآن في تجسيد هذه الخلافة. وقد وضع أهم البحوث في كتابين ، اهما:(السنن التاريخية في القرآن الكريم) و(الاسلام يقود الحياة) إضافة إلى بحوث أُخر وتنبيهات والتفاتات هامة كثيرة توزعت في سائر مؤلفاته.

تقسيم هام:

ثمة تقسيم باعتبار الشيء المفسر، يوليه الإمام الشهيد اهتمامه ويركز في إبراز أهميته، وقد لاتجده بمثل هذا الوضوح عند غيره..

فيقسم التفسير إلى قمسين:

الأول: تفسير اللفظ. والثاني تفسير المعنى.

وتفسير اللفظ: هو بيان معنى اللفظ لغةً.

وتفسير المعنى: هو تحديد مصداقه الخارجي الذي ينطبق عليه ذل المعنى.

ففي مثل قوله تعالى:﴿وأنزلنا الحديد..﴾ غاية تفسير اللفظ أن نشرح معنى النزول لغةً؛ لنعرف أنها تستبطن معنى الهبوط من جهة عالية مرتفعة.. لكن تحديد هذا المعنى اللغوي لهذه المفردة لايعطينا الفهم الكامل للاية، فنحن نريد أن نفهم حقيقة هذا الانزال، ونوع تلك الجهة التي(هبط) منها الحديد، هل هي جهة مادية أو معنوية؟ وهذا هو تفسير المعنى، وهو جار في آيات الصفات ونحوها.

وتبرز أهمية هذا التقسيم والمييز بين تفسير اللفظ وتفسير المعنى في بحثين هامين:

الأول معالجة الشبهة التي تظهر كأن هناك تناقضاً ظاهراً بين كون القرآن كتاب هداية ينبغي أن يكون ميسراً مفهوم المعاني، وبين وجود مواضع في القرآن يستعصي فهمها على الذهن البشري.. فبملاحظة التقسيم المتقدم نرى أن معنى اللفظ وتفسيره اللغوي متيسر دائماً ، وإنما قد تستعصي بعض المصاديق الخارجية ، كما في آيات الصفات والآيات متيسر دائماً، وإنما قد تستعصي بعض المصاديق الخارجية، كما في آيات الصفات والآيات التي تتحدث عن يوم القيامة وشؤون الغيب، ومثل هذه المفاهيم لابد للقرآن من أن يستعرضها؛ لا تصالها بهدفه الرئيس في ربط البشرية بعالم الغيب؛ وذلك من خلال تنبيه الإنسان إلى صلته بعالم أكبر من العالم المنظور.

والثاني: تقريب معنى التأويل إلى الأذهان.. فالقسم الثاني من التفسير ، والذي أسماه (تفسير المعنى) ، وأراد المصاديق الخارجية لألفاظ القرآن؛ ذلك هو المراد بالتأويل تماماً، ذلك الموضوع الذي اضطربت فيه الأفهام وتعددت الآراء..وتفصيله في المبحث الآتي.

المبحث الثاني:التأويل

ظهر في معنى التأويل خلاف كثير، واتجاهات ومذاهب متعددة، يصنفها الشهيد تصنيفاً جامعاً إلى اتجاهين رئيسين:

الاتجاه الأول:يذهب إلى القول: بالترادف والتساوي بين التفسير والتأويل، فالتأويل هو التفسير، ولافرق بينهما.. وهذا هو الاتجاه العام لدى قدماء المفسرين ، ولعل منه قول مجاهد:«أن العلما’ يعلمون تأويله» يريد تفسيره .. ومنه قول ابن جرير الطبري في تفسيره في ذيل كل آية:«القول في تأويل قوله تعالى …، واختلف أهل التأويل ف الآية…».

الاتجاه الثاني: يذهب إلى القول: بأن التأويل يخالف التفسير.. وهذا هو الاتجاه العام لدى من تأخر عن أصحاب الرأي الأول من المفسرين. كما ظهر الاختلاف عند أصحاب الاتجاه الثاني في تحديد الفرق بين التأويل والتفسير، فهنا مذاهب أهمها ثلاثة ، هي:

1ـ ان التفسير يخالف التأويل في العموم والخصوص ، فالتأويل.. أما التفسير فهو أعم؛ لأنه بيان مدلول اللفظ مطلقاً، سوا’ كان وفق الظاهر أو خلافه.

2ـ ان التفسير هو القطع بأن مراد الله كذا.. أما التأويل فهو ترجيح أحد المحتملات من دون قطع.

3ـ ان التفسير هو بيان مدلول اللفظ اعتماداً على دليل شرعي.. والتأيل هو بيان اللفظ اعتماداً على دليل عقلي.

ثم يناقش السيد الشهيد هذه الاتجاهات ليحدد موقفه منها، ثم المعنى الذي ينتخبه للتأويل. فيؤكد أن أصحاب الاتجاه الثاني قد أصابوا في قولهم بالفرق بين التأويل والتفسير، ولكن وقع الخطأ عندهم في تحديد معنى التأويل. أما مرجع هذا الخطأ فهو اعتماد المعنى الاصطلاحي معنى وحيداً لكلمة التأويل. وهذا أيضاً وقع فيه أصحاب الاتجاه الأول.

والصحيح: أننا«بإزاء موقف القبيل يجب أن نعرف قبل كل شيء ، هل المعنى الاصطلاحي هذا كان موجوداً في عصر القرآن؟ وهل جاءت كلمة التأويل بهذا المعنى حينئذ؟ ولا يكفي مجرد انسياق المعنى الاصطلاحي مع سياق الآية لنحمل كلمة التأويل عليه».

وهذا مطابق لما ذكره محمد عبده في تفسير هذا الخطإ ، إذ قال:« إنما غلط المفسرون في تفسير التأويل في الآية ؛ لأنهم جعلوه بالمعنى الاصطلاحي، وإن تفسير كلمات القرآن بالمواصفات الاصطلاحية قد كان منشأ غلط يصعب حصره».

ثم يسير المفسران ـ السيد الصدر ومحمد عبده ـ ويوافقهم السيد الطباطبائي، وقلبه محمد جمال الدين القاسمي/ المتوفى سنة 1914م ـ سيراً استقرائياً، يتابع موارد استعمال كلمة( التأويل) في القرآن الكريم؛ ليكتشفوا جميعاً معنىً آخر لا يتفق مع ذلك المعنى الصطلاحي الذي يجعلها بمعنى التفسير، والآخر الذي لا يميزها عنه إلا في الحدود والتفصيلات… .

فقد وردت كلمة التأويل سبع عشرة مرة في خمس عشرة آية في سبع سور، وهي.

1،2ـ آل عمران/7﴿…فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ومايعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به…﴾.

3ـ النساء/59﴿…فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم  تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا﴾.

4،5ـ الأعراف/ 53﴿هل ينظرون إلاّ تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبلُ قد جاءت رُسُل ربّنا بالحقّ…﴾.

6ـ يونس/ 39﴿ بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولمّا يأتيهم تأويله﴾.

7ـ يوسف/6﴿ وكذلك يجتبيك ربّك ويعلّمك من تأويل الأحاديث﴾.

8ـ يوسف/21﴿…وكذلك مكّنّا ليوسف في الأرض ولنعلّمه من تأويل الأحاديث…﴾.

9ـ يوسف/36﴿… نبئنا بتأويله إنّا نراك من المحسنين﴾.

10ـ يوسف/37﴿ قال لا يأتيكما طعام تُرزقانه إلاّ نبّأتكما بتأويله…﴾.

11ـ يوسف/ 44﴿..ومانحن بتأويل الأحلام بعالمين﴾.

12ـ يوسف/ 45ـ46﴿ أنَا أُنبّئكم بتأويله فأسلون*يوسفُ أيّها الصديقُ أًفتِنا…﴾.

13ـ يوسف/100﴿… ياأبتِ هذا تأويل رؤيايِ من قبلُ قد جعلها ربّي حقّاً..﴾.

14ـ يوسف/ 101﴿ربِّ قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث﴾.

15ـ الإسراء/35﴿وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خيرٌ وأحسن تأويلا﴾.

16ـ الكهف/78﴿… سأنبئك بتأويل مالم تستطع عليه صبراً﴾.

17ـ الكهف/82﴿…ذلك تأويل مالم تستطع عليه صبراً﴾.

وفي هذه الموارد كلها لم ترد كلمة التأويل بمعنى التفسير وبيان مدلول اللفظ، ولا يبدو إمكان ورودها بهذا المعنى إلا في الآية فقط؛  لأنه أُضيف فيها إلى الآيات المتشابهة؛ ولهذا ذهب كثير من مفسري الآية إلى القول : بأن تأويل الآية المتشابهة هو تفسيرها وبيان مدلولها.

وملاحظةـ ماعدا الآية الأُولى.

إذن لم يرد لفظ التأويل في القرآن إلا بمعنى الأمر العملي الذي يقع في المآل ، تصديقاً لخبر، أو رؤيا، أو لعمل غامض يُقصد  به شيء في المستقبل، فيجب أن تفسر آية آل عمران بذلك، ولايجوز أن يحمل التأويل فيها على معنى التفسير، ولا على حمل الكلام على خلاف الظاهر.

وإن التأويل ليس من المفاهيم التي هي مداليل للألفاظ، بل هو من الأُمور الخارجية العينية، واتصاف الآيات بكونها ذات تأويل من قبيل الوصف بحال المتعلق، وأما إطلاق التأويل وإرادء المعنى المخالف لظاهر اللفظ، فاستعمال مولد نشأ بعد نزول القرآن، لا دليل أصلاً على كونه هو المراد من قوله تعالى:﴿..ابتغاء تأويله ومايعلم تأويله إلا الله..﴾ الآية، كما لا دليل على أكثر المعاني المذكورة للتأويل، فإن القرآن لم يستعمل لفظ التأويل إلا في المعنى الذي ذكرناه.

وفي كلام القاسمي مزيد تفصيل وتمثيل:«فالتأويل هو ماأول إليه الكلام، أو يؤول إليه، أو يؤول إليه، والكلام إنما يرجع ويعود ويستقر ويؤول إلى حقيقته التي هي عين المقصود به، كما قال بعض السلف في قوله تعالى:﴿لكل نبإ مستقر ومستودع وسوف تعلمون﴾، قال:أي لكل نبإ حقيقة . فإذا كان الكلام خبراً، فإلي الحقيقة يؤول ويرجع ..وإذا كان طلباً فإلى الحقيقة المطلوبة يؤول ويرجع.. وإذا كان الخبر وعداً أو وعيداً ، فإلى الحقيقة المنتظرة يؤول ويرجع، كما روي عنه صل الله انه تلا هذه الآية :﴿قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً﴾ قال: إنها كائنة، ولم يأت تأويلها بعد».

وقد عرف هذا الرأي في معنى التأويل عند ابن تيمية(728هـ)،وفيما نقله عنه محمد رشيد رضا والقاسمي دلالة على استفادتهما مباشرة منه، وفي عباراتهم  مايكاد يكون تصريحاً بهذا..

لكن السؤال: هل كان ابن تيمية هو السابق إلى هذا الرأي، ولم يسبقه إليه أحد؟

الحق أن ابن تيمية لم يكن هو السابق إلى هذا الرأي، كما ذكر الشيخ محمد هادي معرفة، بل هو مسبوق إليه بزمن بعيد.. إذ وجدنا هذا الرأي قد اختاره السيد الشريف الرضي(406هـ) في كتابه النفيس(حقائق التأويل)، إذ قال فيه: إن أبا علي الجبائي (303هـ) يجعل المراد بالتأويل : مصائر الأُموروعواقبها.

ثم يذكر حجة هذا الرأي فيقول: قال تعالى:﴿هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله﴾ أي مصيره وعاقبته؛ لأن أصل التأويل من قولهم: آل يؤول ، إذا رجع.

قال: ومما يؤكد ذلك أن مجاهداً قال في قوله تعالى:﴿ذلك خيرٌ وأحسن تأويلا ﴾ انه سبحانه أراد بالتأويل هاهنا: الجزاء علي الأعمال.

قال الشريف الرضي : فهذا المعني يلامح مانحن في ذكره ؛ لأن الجزاء إنما هو الشيء الذي آلو إليه وحصلوا عليه.

وهذا المعني في التأويل ذكره الماوري  ( 405هـ) أيضاً ، فقال:

في التأويل وجهان : أحدهما : أنه التفسير. والثاني أنه العاقبة المنتظرة

وهذا .. الثاني من أقوال المتقدمين ـ هو المطابق لما انتهت إليه المدرسة الحديثة في معني التأويل . وهو الذي قال به ابن تميمة بعد أكثر من أربعمائة سنه عن الجبائي ، وأكثر من ثلاثمئة سنة عن الشريف الرضي والماوردي.

وللسيد الشهيد بعد ذلك مزيد تفصيل، تفرد في شطره الأول فيما أضافة من تعريف لقريب المعنى المنتخب للتأويل، وشارك الآخرين في شطره الآخر الذي خصصه لبيان الفائدة المترتبة على هذا المعنى المنتخب، فقال:«فعلى هذا يكون معنى التأويل في الآية الكريمة هو ما أطلقنا عليه اسم( تفسير المعنى).. فالتأويل جا’ في القرآن بمعنى مايؤول إليه  الشيء، لابمعنى التفسير، وقد استخدم بهذا المعنى للدلالة على تفسير المعنى، لاتفسير اللفظ، أي: على تجسيد المعنى العام في صورة ذهنية معينة».

ثم ينتقل إلى ذكر الفائدة المترتبة على هذا الاختيار، فيقول:«إن اختصاص الله سبحانه والراسخين في العلم بالعلم بتأويل الآيات المتشابهة، لايعني أن الآيات المتشابهة ليس لها معنى مفهوم، وأن الله وحده الذي يعلم بمدلول اللفظ وتفسيره، بل يعني أن الله وحده الذي يعلم بالواقع الذي تشير إليه تلك المعاني ويستوعب حدوده وكنهه، وأما معنى اللفظ في الآيات المتشابهة فهو مفهوم، بدليل أن القرآن يتحدث عن اتباع مرضى القلوب للآيات المتشابهة ، فلو لم يكن لها معنى مفهوم لما صدق لفظ(الاتباع) هنا، فما دامت الآية  المتشابهة يمكن أن تتبع، فمن الطبيعي أن يكون لها معنى مفهوم. وكيف لايكون لها معنى مفهوم وهي جزء من القرآن الذي اُنزل لهداية الناس وتبيان كل شيء؟!» .

المبحث الثالث: المتشابه

في الفقرة الأخيرة من كلامه في التأويل يحدد السيد الشهيد موقفه من متشابه القرآن، فهو يرى أن الراسخين في العلم يعلمون تفسير الآيات المتشابهة، أي: يعلمون تفسيرها اللفظي، اما تفسير المعنى ـ الذي هو التأويل، وحقيقة مايؤول إليه المعنى ـ فهذا هو الذي يختص به الله تعالى.

إذن فالواو في(والراسخون) من قوله تعالى:﴿وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم﴾ يصح أن تكون عاطفة، كما يصح أن تكون استئنافية.

فعلى الأول: الراسخون في العلم يعلمون تفسيرها، دون الحقيقة التي تؤول إليها.

وعلى الثاني: هم لايعلمون تأويلها أي حقيقتها التي تؤول إليها ، وإنما يعلمون تفسيرها اللفظي. وقدم على قوله دليلين:

الأول: أن الآيات المتشابهة لها مفهوم يفهمه الناس، بدليل أن القرآن يتحدث عن اتباع مرضى القلوب للآية المتشابهة ، فلو لم يكن لها معني مفهوم لما صدق لفظ الاتباع هنا.

والثاني: كيف لايكون لها معنى مفهوم وهي جزء من القرآن الذي أُنزل هدايةً. للناس وتبياناً لكل شيء؟!

ثم ينتقل إلى تفسير الأمر الذي ألجأَ بعض المفسرين إلى القول: بأن علم المتشابه كله مختص بالله تعالىـ وحده، فيقول:«إن عدم التمييز بين تفسير اللفظ وتفسير المعنى هو الذي أدى إلى الاعتقاد بأن التأويل المخصوص علمه بالله هو تفسير اللفظ، وبالتالي أدى إلى القول: بأن قسماً من الآيات ليس لها معنى مفهوم؛ لأن تأويلها مخصوص بالله تعالى وحده».

هذا بينما كان اختيار السيد الشريف الرضي أن واو( والراسخون)عاطفة، وليست استئنافية ، أي أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله، ولكن على تفصيل حيث هناك من المتشابه مالا يعلم إلا الله ، وهذا محصور في علم الساعة ومقدار الصغيرة والكبيرة ومقادير الجزاء ونحوها.

وقد نسبه السيد الشريف الرضي إلى جماعة من مفسري السلف منهم الحسن البصري.

أما ابن تيمية فقد تذبذب في هذا الأمر بين ثلاثة أقوال ينسبها جميعاً إلى السلف، ثم يميل إلى ترجيح المذهب الذي اختاره السيد الشهيد:( فمرةً يرجح الوقف على قوله تعالى: ﴿ومايعلم تأويله إلا الله﴾ والواو بعد مستأنفة ، فعلم تأويله مختص بالله تعالى، ويقول: هذا قول جمهور السلف واالخلف. ومرة يرجح الرأي المقابل فيمنع الوقف هنا، والواو عاطفة، فالراسخون في العلم يعلمون تأويله، ويقول: هذا هو الأشبه برأي السلف ، وإنما اشتهر الأول بسب تبرم المتأخرين من التأويلات المحرفة للجهمية ونحوهم.

وهذا الرأي هو الذي يختاره السيد الطباطبائي في الميزان مع فارق يرجع إلى أُصول منهجية في التفسير ، فعند السيد الطباطبائي أن العلم بتفسير المتشابه يتم بالرجوع إلى المحكمات ، فالمحكمات هن أم الكتاب، وتعني الأُمومة هذه حل التشابه بالشكل الذي يتعين به مدلول الآية المتشابهة على ضوء مدلول الآية المحكمة.

أما ابن تيمية فيرى أن المتشابه في الآيات أمرٌ نسبي، فقد يتشابه عند هذا مالا يتشابه عند غيره، وتلك المتشابهات إذا عُرف معناها صارت غير متاشبهة، بل القول كله محكم.

وقد لاحظنا أن موقفه هذا أملته عليه عقيدته في الصفات التي تدور حول المتشابه من القرآن والسنة. ثم هو مناقض لقوله المتكرر: إن السلف كانوا يكلون العلم بآيات الصفات إلى الله ويقولون: أمروها كما جاءت!. وفي موضع ثالث يذهب إلى أن كلا القولين حق، والتأويل المنفي غير التأويل المثبت ، فيكون الوقف على حسب المراد من التأويل، فإن كان المقصود به الحقيقة الخارجية المطابقة لمدلول اللفظ ، التي استأثر الله بعلمنها،فالوقف على لفظ الجلالة هو الأولى… وإن كان المقصود به التفسير الذي هو بيان اللفظ وتوضيح معناه، فالوقف على الراسخين في العلم هو الأولى.

وهذا هو المواقف لاختيار الشهيد.

حُجّية ظواهر القرآن

من المسائل الهامة في مناهج التفسير مسألة ظواهر القرآن، حيث انشطر إزاءها المسلمون، فتمسك بعض بظواهر القرآن، فيما أعرض عنها آخرون وتمسكوا بالمعاني الباطنية، أو منعوا من اعتماد ظواهر القرآن في فهم آياته ومعانيها وعدوه من التفسير بالرأي المنهي عنه، وأوجبوا الوقوف على ماورد في ذلك من أثر عن المعصومين أو عن الصحابة.

وقد نجد بين كل واحدة من طوائف المسلمين الكبرى من تمسك بالباطن: إما مطلقاً وإما بالتوفيق بينه وبين الظاهر واعتبار كل منهما مراداً.

غير أننا قد لانجد بين الإمامية من وقف عند الظاهر وقوفاً تاماً إلى حد الجمود الحرفي، كما هو شأن الظاهرية من أهل السنة الذين أنكروا حتى المجاز في القرآن بحجة أنه خلاف الظاهر.

في مقابل ذلك وجد البعض في الحديث المروي«للقرآن ظهر وبطن» عالماً فسيحاً تحوم فيه خيالاتهم وأذواقهم ؛ على نحو تختفي فيه مدلولات الكلمة العربية التي نزل بها القرآن ، ويفقد فيه القرآن أي صلة بالحياة العملية وتشريعاتها، ليفقد بذلك عنوانه الأساس في كونه كتاب هداية ومصدر تشريع ومنهاج حياة. وهذه هي السمة الغالبة على تفاسير الصوفية، وماحفظ من تفسير بعض الفرق الباطنية الغالية.

أما المعتمد عند الإمامية، الذي عليه عامة علمائهم من أهل التحقيق والنظر: فهو اعتماد حجيء ظواهر القرآن الكريم. وقد استندوا في مذهبهم هذا على أدلة من محكم الكتاب الكريم ، ومما صح عن أهل البيت عليه السلام، وبالبرهان العقلي أيضاً..

يقول الشيخ المفيد: القرآن نزل بلسان العرب ولغتهم؛ قال الله عز وجل:﴿بلسان عربيّ مُبين﴾.

وقال تعالى:﴿قُرآناً عربياً غير ذي عوج﴾.

وقال تعالى:﴿ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياتهُ ءَأَعجميّ وعربيّ﴾.

فإذا ثبت أن القرآن نزل بلغة العرب، وخوطب به المكلفون في معانيه على اللسان، وجب العمل بما تضمنه على مفهوم كلام العرب، دون غيرهم.

وقال أيضاً:من تأويله القرآن بما يزيله عن حقيقته، وادعى المجاز فيه والاستعارة بغير حجة قاطعة ، فقد أبطل بذلك ، وأقدم على المحظور، و ارتكب الضلال.

واستهل السيد الخوئي باباً أفرده بهذا العنوان(حجيء ظواهر القرآن) بقوله: لاشك في أن النبي صل الله لم يخترع لنفسهطريقة خاصة لإفهام مقاصدة ، وأنه كلم قومه بما ألفوه من طرائق التفهيم والتكلم، وأنه أتى بالقرآن؛ ليفهموا معانيه، وليتدبروا آياته، فيأتمروا بأوامره، ويزد جروا بزواجره. وقد تكرر في الآيات الكريمة مايدل على ذلك ، كقوله تعالى:﴿أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها﴾.

وقوله تعالى:﴿ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون﴾.

وقوله تعالى:﴿هذا بيان للناس وهدىً وموعظةٌ للمتقين﴾.

وقوله تعالى:﴿ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر﴾.

إلى غير ذلك من الآيات الدالة على وجوب العمل بما في القرآن ، ولزوم الأخذ بما يفهم من ظواهره.

ثم ذكر جملة أُخرى من الأدلة العقلية والنقلية على ذلك، وذكر شبهات المخالفين وفندها.

وأما الشيخ محمد جواد مغنية فقد قطع بأن الإمامية يحرمون تفسير كتاب الله تفسيراً باطنياً.

والإمام الصدر واحد من أئمة هذه المدرسة ، يدافع عن هذا المذهب ، ويركز كلامه في دفع شبهة القائلين بعدم جواز التمسك بظواهر القرآن، إلا بما كان نصاً في المعنى أو مفسراً تفسيراً محدداً من قبل النبي صل الله أو المعصومين من آله عليهم السلام فهؤلاء تمسكوا بهذا القدر، ومنعوا من إعمال المفسر عقله وبذله جهده في أي محاولة لفهم آية من آيات القرآن الكريم لم يرد نص في تفسيرها.

وتمسكوا بجملة من الحجج يستعرضها السيد الشهيد مفصلاً ويكشف عن وهنها.

وأهم مااستدلوا به طائفة من الروايات تنهى عن الرجوع إلى ظواهر القرآن الكريم، ففي هذه الروايات دلالة على أن القرآن الكريم مبهم وغامض، وقد استهدف المولى إغماضه، وإبهامه؛ لأجل تأكيد حاجة الناس إلى الإمام؛ ولأجل التأكيد على أن القرآن لا يعرفه إلا من خُوطِبَ به، وأن غير المعصوم لايصل إلى مستوى فهمه!

أجاب الإمام الشهيد هؤلاء بما نصه:

أولاً:أن الروايات التي أفادت هذه المعاني وتمسك بها هؤلاء جميعها ضعيفة السند! بل قد يحصل الاطمئنان بكذبها؛ نتيجةً لضعف رواتها ، وكونهم في الغالب م ذوي الاتجاهات الباطنية المنحرفة ، على مايظهر من تراجم.

مع الالتفات إلى أن اِسقاط ظواهر الكتاب الكريم عن الحجية أمر في غاية الأهمية، فلو كان الأئمة بصدد بيانه لما أمكن اختصاص هؤلاء الضعفاء بالاطلاع على ذلك والإخبار عنه، دون فقهاء أصحاب الأئمة، الذين عليهم المعول، وإليهم تفزع الشيعة في الفتوى والاستنباط بأمر الأئمة وإرجاعهم!

ثانياًـ أن هذه الروايات معارضة للكتاب الكريم الدال على أنه نزل تبياناً لكل شيء وهدىً وبلاغاً، والمخالف للكتاب من أخبار الآحاد لايشمله دليل حجية خبر الواحد.

أما عن شبهة إبهام القرآن الكريم لتأكيد حاجة الناس إلى الإمام، فيقول:

1ـ إن الإبهام المذكور على خلاف الحكمة من نزول القرآن!

2ـ إن ربط الناس بالإمام فرع إقامة الحجة على أصل الدين، المتوقفة على فهم القرآن وإدراك مضامينه.

أما دعوى شموخ المعاني وعلوها: فإن الشموخ والعلو في المعاني ينبغي أن لا يكون على حساب الهدف من بيانها، ولما كان الهدف هداية الإنسان ، فلا بد من أن تبين المعاني على نحو يؤثر في تحقيق هذا الهدف؛ وذلك موقوف على تيسير فهمه.

فالصحيح إذن أن ظواهر الكتاب حجة، كظواهر السنة.

وهؤلاء الذين اسقطوا حجية ظواهر القرآن، وهم بين: باطني، وحشوي، قد تركوا آثاراً سلبية كبيرة على الفكر الإسلامي… فالباطنية ، كما يراها السيد جمال الدين الأفغاني ـ تلميذ حوزة النجف الأشرف، وتلميذ شيخها الكبير الشيخ الأنصاري ـ هي بداية الانحطاط في سلطة المسلمين، وبداية ظهور الانحطاط في الفكر، وكل ذلك كان« من يوم ظهور الآرا’ الباطلة والعقائد الباطنية في صورة الدين ، وسريان هذه السموم القاتلة في نفوس أهل الدين الإسلامي». والحشوية، كما يراها الشهيد الدكتور المطهري: أسوء نموذج للجمود والتحجر، عندما أسقطوا حجية ظواهر القرآن« فقد قالوا: لا اعتبار للقرآن، ولم يقولوا: لاتقرأوا القرآن، بل قالوا: اِقرأوه وقبلوه، ولكن لا تفهموه، وهذه ضربة قوية للعالم الاسلامي».

ومن خلال هذا الفهم ونظائره المذكورة عن أكابر علماء الإمامية؛ نستطيع بكل بساطة أن نلمس مافي دعاوى خصومهم من مجازفات وتقولات باطلة، حين يزعمون أن الإمامية الاثني عشرية «تدعو إلى تجميد العقول، تماماً كما فعل الإرهاب الكنسي في العصور المظلمة ، حيث أغرقوا في الباطن وأوجبوه التسليم إلى كل ماورد فيه؛ بحجة أنه قد وصلهم عن طريق آل البيت».

فهؤلاء حين افتقدوا الموضوعية في نقد الفكر الشيعي ، تلمسوا بعض ماتناثر هنا وهناك من آراء قد تسعفهم في تحقيق مآربهم تلك، وتركوا وراء ظهورهم كل هذا التراث الضخم الذي خلفه علماء الإمامية في هذا الباب، وفي غيره من علوم الشريعة والحياة.

وسؤال واحد لو أثرته بوجه هؤلاء الكتاب لانكشف أمامك كل مايخفونه من أهواء ودوافع غير نزيهة،والسؤال هو: على أي شيء تستندون في شطب مناهج أكابر علماء الإمامية في التفسير، كالمفيد والرضي والمرتضى والطوسي والطبرسي والخوئي والطباطبائي والبلاغي والمطهري ومحمد حسين فضل الله ونظرائهم ممن هم طليعة من تفتخر بهم الإمامية من علمائها؟

وفي مقابل ذلك فأنتم تخرجون التفسير الباطني السني والصوفي الإشاراتي من ساحة المدارس السنية في التفسير؛ لتجعلوها مدارس منفصلة بمذاهب أًخرى مستقلة عن التسنن؟

إن منهجاً كهذا أبعد شيء عن الدراسة الموضوعية.

النسخ في القرآن الكريم

النسخ: هو رفع حكم ثابت ، من قولهم نسخت الرياح الأثر، إذا درسته.

وعرف أيضاً: بأنه قصر حكم على لفظ يختص بأهل زمان خاص.

أو هو: إحلال لحكم مكان حكم.

أو: استغناء عن حكم موقوت بحكم مستديم.

أو: بيان نهاية تعبد بأمرٍ أونهي في حكم خاص بنقله إلى حكم آخر.

والتعريف الجامع للنسخ في الشريعة الذي يختاره السيد الشهيد هو التعريف الذي ذكره السيد الخوئي، وفيه:«أن النسخ رفع أمر ثابت في الشريعة المقدسة بارتفاع أمده وزمانه، سواء كان ذلك الأمر المرتفع من الأحكام التكليفيةـ كالوجوب والحرمةـ أم من الأحكام الوضعية ـكالصحة والبطلان ـ وسواء كان من المناصب الإلهية، أم غيرها من الأُمور التي ترجع إلى الله ـ تعالى ـ بما أنه شارع».

وقد وردت فكرة النسخ في القرآن في ثلاثة مواضع:

أـ قوله تعالى:﴿ ماننسخ من آيةٍ أو نُنْسِها نأتِ بخيرٍ منها أو مثلها…﴾ .

ب ـ قوله تعالى:﴿يمحو الله ما يشاءُ ويُثبت وعنده أُم الكتاب﴾.

ج ـ قوله تعالى:﴿وإذا بدلنا آيةٍ ولله أعلم بما يُنزل قالوا إنما أنتَ مفترٍ بل أكثرهم لا يعلمون﴾.

والشبهة التي اعترضت النسخ لأول مرة شبهة آثارها اليهود عند تبدل بعض الأحكام ، بحجة أن هذا لا يكون إلا من البداء، أو العبث، وكلاهما باطل. 

ويرد السيد الشهيد هذه الشبهة: بأن حالات النسخ الشرعي مردها إلى أن المصلحة المقدرة مثلاً كان لها أمد محدد من أول الأمر، وقد انتهى ،وأن الإرادة التي حصلت بسبب ذلك  التقدير كانت محددة تبعاً للمصلحة. والنسخ معناه انتهاء حدها ووقتها الموقت لها من أول الأمر. فلا يكون هناك بداء؛ لأنه ليس في النسخ من جديدٍ على الله تعالى لِعلمهِ بالحكمة مسبقاً.

وليس هناك عبث أيضاً عبث أيضاً لوجود الحكمة في متعلق الحكم الناسخ وزوالها في متعلق الحكم المنسوخ ، وليس هناك مايشكل عقبة في تعقل هذا النسخ إلا الوهم الذي يأبى تصور ارتباط مصلحة الحكم بزمان معين بحيث تنتهي عنده، والوهم الذي يرى في كتمان هذا الزمان المعيت على الناس جهلاً منه ـ بذلك الزمان؛ لكن هذا قريب إلى الأفهامـ ومثله مثل حال الطبيب حين يعالج مريضاً فيرى أن مرحلة من مراحل المرض يصلح لها دواء معين، فإذا اجتازها المريض يستبدل دواء آخر يصلح لمرحلته الجديدء. فلا يوصف عمله هذا بالعبث والجهل.

ونظير هذا يمكن أن نتصوره في النسخ الشرعي. والنسخ في الشريعة الإسلاميةـ كما يقول الشهيدـ أمر ثابت لا يكاد يشك فيه أحد من علماء المسلمين.

ويتميز مذهب الإمامية في النسخ بإجماعهم على قضية هامة ودقيقة، خالفهم فيها كثير من الحشوية وغيرهم، ألا وهي: أن النسخ إنما هو في الأحكام ، لا في أعيان الآيات خطاً وتلاوةً.

أما ماذهبت إليه بعض الطوائف الإسلامية من وقوع النسخ في أعيان الآيات، فتُنسخ آيات قد أُنزلت قبل، فلا تكتب في المصحف ولا تُتلى، فهذا يرده الإمامية بلا خلاف فيه بينهم.

مفارقات

من المفيد أن نذكر هنا بعض المفارقات التي وقع فيها بعض الدارسين بخصوص موقف الشيعة من النسخ:*مجد الدين الفيروز آبادي يصنف الناس من حيث مواقفهم من أصل فكرة النسخة فيرى أنهم صنفان: مثبتون، ومنكرون

والمنكرون صنفان:

صنف خارج على ملة الإسلام ، وهم اليهود ، فإنهم أجمعوا على أنه لا نسخ في شريعة موسى ، وقالوا: إن النسخ دليل على البداء ، والندامة ، ولايليق بالحكيم ذلك.

وصنف  ثانٍ من أهل الإسلام ،وهم الرافضة ، فإنهم وافقوا اليهود في هذه العقيدة، فقالوا: ليس في القرآن ناسخ ولا منسوخ!! .

والفيروز آبادي هذا قد توفي سنة 817 هـ وكانوا في هذا التاريخ وقبله بكثير يطلقون لفظ الرافظة على الشيعة عامة ، وربما استثنوا منهم الزيدية لاغير.

غير أن الذي لا جدال فيه أن الشيعلآ هم أصحاب القول بالبداآ الذي عابه اليهود على المسلمين قديماً، كما ذكر قصته الفيروز آبادي نفسه في الصفحة نفسها!. ومما لا جدال فيه أيضاً أن الشيعة قد تعرضوا من أجل قولهم بالبداء إلى انتقادات شديدة من قبل كثير من علماء أهل السنة. يقول الشهيد الصدر: المعروف من مذهب الإمامية الاثني عشرية أنهم يقولون بفكرة البداء، وعلى هذا الأساس نجد بعض الباحثين من إخواننا السنة يحملون على إخوانهم الإمامية بشكل عنيف متهمين إياهم بالانحراف والضلال، حتى إن بعضهم يكاد أن يقول: إن الإمامية أشد انحرافاً من اليهود والنصارى حين حاولوا إنكار النسخ؛ لإن أُولئك أنكروا النسخ في محاولة لتنزيه الله ـ سبحانه ـ من النقص، وهؤلاء قالوا بالبداء فأثبتوا الجهل والنقص للّه سبحانه!! .

*وفي رؤية أُخرى يعرضها واحد من أكبر علماء الوهابية المعاصرين في محاضرة له مسجلة على الشريط المسجل(الكاسب) يقول فيها: إن البداء عقيدة يهودية، دخلت إلى الإسلام على يد جعفر بن محمد الصادق!! إن مثل هذا الاضطراب الشديد ليجعل من تلك المقولات مفارقات باعثة للسخرية حقاً!

تطور تفسير القرآن

تناول السيد الشهيد بشيء من التفصيل الأدوار التي مربها التفسير في مراحله الأُولى، وأثر الزمن والحالة الثقافية والسياسية والعقيدية في التفسير ومناهجه. غير أن دراساته هذه لم تستوعب الأدوار المهمة كافة، التي مربها التفسير ، ولم تكن أيضاً على مستوى واحد من البسط والتفصيل في حدود ما تناولته من عوامل مؤثرة في اتجاهات التفسير لدى المسلمين. فقد منح بعض الجوانب حظاً أوفر عرضاً ونقداً ، فيما اكتفى بإعطاء نبذة موجزة أقرب ما تكون إلى الصورة الناجزة مع بعض آخر. والسبب في ذلك كله أنه لم يتوجه لدراسة هذا الموضوع دراسة مستقلة تستوعب جميع جزئياته، أو على الأقل جميع محاوره المهمة، وإنما كانت دراساته مقيدة بحدود المنهج الدراسي الذي كان يقدم له بحوثه في علوم القرآن، وكان بعضها الآخر مقيداً بحدود ما أراده تمهيداً فقط للدخول في منهجه التأسيسي في التفسير التوحيدي الموضوعي.

لقد توسع نسبياً في البدء في إثبات المبررات الموضوعية لتولي النبي الإكرم صل الله تفسير القرآن بنفسه، فإذا كان الصحابة على معرفة باللغة التي نزل بها القرآن الكريم، فإن ذلك يقتضي أن يتوفروا على فهم إجمالي للقرآن الكريم وحسب، فلا يدل فهمهم الإجمالي على أنهم كانوا يفهمون جميع آياته بصورة تلقائية فهما تفصيلياً يستوعب مفرداته وتركيبه، بحيث لا يخفى عليهم شيء ، ولا يختلفون في فهم شيء منه.. فهذا مما لا يدعيه أحد، بل طبيعة الأشياء تدل على بطلانه، كما أكدت ذلك أحاديث ووقائع كثيرة دلت على أن الصحابة كانوا لايستوعبون بعض النصوص القرآنية ، بل كان منهم من لايفهم حتى معاني بعض مفرداته.. كما روي عن عمر في معنى الأب في قوله تعالى :﴿وفاكهةً وأباً﴾، و عن ابن عباس في معنى فاطر ، في قوله تعالى ﴿فاطر السماوات و الأرض﴾ وعن عدي بن حاتم في المراد بالخيط الأبيض والخيط الأسود في قوله تعالى:﴿ حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر﴾.

بل قد تغيب عنهم مصاديق بعض الآيات التي يعرفون معاني ألفاظها بوضوح ، كما في قوله تعالى:﴿ والفجر وليالٍ عشر﴾. فإن أحداً منهم لايخفى عليه معنى كلمة( ليالٍ) أو كلمة(عشر) ، ولكن ماهي هذه الليالي العشر التي عناها الله تعالى؟ فهذا ونحوه قد يخفى عليهم.

تلك جميعاً كانت مبررات موضوعية تدعو الى أن يتولى النبي صل الله بنفسه تفسير القرآن للصحابة، وقد كان ذلك ، فمارس النبي صل الله دور الرائد في التفسير ، فكان صل الله المفسر الأول للقرآن الكريم . يشرح النص القرآني ، ويكشف عن معانيه وأهدافه، ويزيل ماقد يعلق في أهان بعضهم من إشكال أو ابهام وغموض . ولا يختلف المسلمون في ذلك، بل هم مجمعون على أنه صل الله قد مارس التفسير، وفسر من الآيات القرآنية ما لايمكن لأحد من الصحابة أن يعرفه إلا عن طريقه. ولكن الخلاف قد وقع في صدد التفسير الذي مارسه النبيُّ ومساحته.

فهل استوعب آيات القرآن كلها، فلم يغادر آية إلا وفسرها وبين معانيها ومراد الله تعالى فيها؟

أم فسر بعضاً من آياته فقط، ولم يستوعب تفسيره جميعها؟

أم أنه لم يفسر إلا ماسئل عنه من قبل بعض الصحابة؟

فمنهم من رأى أنه صل الله قد فسر جميع القرآن ، كما يظهر من قول ابن تيمية: يجب أن يعلم أن النبي بين لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه.

ومنهم من ذهب إلى أنه لم يفسر إلا سئل عنه.

وتوسط الآخرون فقالوا: الصحيح أن النبي صل الله لم يفسر القرآن كله. ولكنه لم يكتف بما سئل عنه، بل فسر أكثر من ذلك، وقد روي في الصحيح عنه مايشهد لذلك.

والرأي الأخير هو المشهور، الذي عليه سائر أهل التفسير وغيرهم من أهل العلم إلا من شذ.

أما القول الأول؛  فلا يؤيده دليل، بل الدليل قائم على خلافه، فإن أحداً لم يرو عن الرسول تفسير سائر آيات القرآن، ولو كان ذلك معروفاً عندهم لصرح به غير واحد منهم، بل لما كثر الاختلاف بينهم في معاني ألفاظه وآياته.

لأجل ذلك حاول الدكتور محسن عبد الحميد أن يصرف قصد ابن تيمية في قوله«إن النبي بين لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه» إلى المعاني الاصطلاحية التي كان بيان رسول الله صل الله لها ضرورة ، وقال: لابد من أن يصرف قول ابن تيمية إلى ذلك؛ لأنه صل رحمه الله كان من المتبحرين باتفاق المحققين في السنة النبوية الشريفة، فمن غير المعقول أن يقصد أن رسول الله صل الله فسر ألفاظ القرآن لفظة لفظة على ما يقتضيه لسان العرب؛ لأن مثل التفسير لا يوجد في دواوين السنة ولا في كتب التفسير، وهذه القضية استقرائية لا مجال لخلاف الرأي فيها.

لكن الحق أن من تفحص منهج ابن تيمية لا يتكلف فناء صرفه كلامه هذا عن  ظاهرة ، فكثيراً ماجازف ابن تيمية في أمثال هذا من القضايا التي لا مجال لخلاف الرأي فيها. ويشهد لما نقوله متابعة  تلميذه وصاحبه ابن القيم له في هذا وبقوله: إن النبي صل الله بين لأصحابه القرآن لفظه ومعناه، فبلغهم معانيه كما بلغهم ألفاظه، ولايحصل البيان والبلاغ المقصود إلا بذلك، قال تعالى:﴿وماعلى الرسول إلا البلاغ المبين﴾ وهذا يتضمن بلاغ المعنى وأنه في أعلى درجات البيان، فمن قال: إنه لم يبلغ الأُمة معاني كلامه وكلام ربه بلاغاً مبيناً لم يكن قد شهد له بالبلاغ.. إلى أن قال: والجزم بتبليغه معاني القرآن والسنة كالجزم بتبليغه الألفاظ، بل أعظم من ذلك، وأضاف قائلاً: فالصحابة أخذوا عن رسول الله صل الله ألفاظ القرآن ومعانيه، بل كانت عنايتهم بأخذ المعاني أعظم من عنايتهم بالألفاظ، يأخذون المعاني أولاً ثم يأخذون الألفاظ ليضبطوا بها المعاني حتى لا تشذ عنهم! .

هكذا يجازفون في قضية استقرائية لا مجال لخلاف الرأي فيها.

ولو قابلتهم بسؤالين فلا جواب لديهم يرتضيه العلم على أي منهما:

الأول: لماذا غاب هذا التفسير إذن عن دواوين السنة وكتب التفسير؟

والثاني: لماذا هذا الاختلاف الكثير بين ماورد عن الصحابة في التفسير؟ لماذا حصل هذا وذاك وأنتم تضيفون: أن التابعين بإحسان أخذوا ذلك عن الصحابة وتلقوه منهم ولم  يعدلوا عما بلغهم إياه الصحابة؟!

هذا ما قاله ابن القيم في تتمة كلامه المتقدم.

وأما الثاني: فلا يؤيده ماكان على عاتق الرسول الكريم من مسؤولية تجاه الوحي الذي أُمر ببيانه، كما أُمر بتلاوته للناس:﴿وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس مانُزل إليهم ولعلهم يتفكرون﴾. والدليل قائم أيضاً على خلافه، فثمة أحاديث نقلها عنه بعض الصحابه في تفسير بعض آي القرآن من غير أن يسبق بسؤال، هذا إلى أن كثيراً من سنته العملية كانت تفسيراً وتبياناً لأحكام القرآن الكريم.

إذن فالرأي الثالث هو الأصح، كما أنه الأشهر، لكن ورد عند بعض أنصاره مايفيد أن النبي صل الله لم يفسر إلا القليل والقليل جداً من آي القرآن الحكيم، واستدلوا بما أخرجه البزار عن عائشة:«أن رسول الله ماكان يفسر إلا آياً بعدد».

والسيد الشهيد حين أشار إلى الاختلاف الحاصل في حدود تفسير النبي ومساحته، لم يذكر م الآراء إلا هذا الأخير، ثم هو(قدس سره) ينتصر لهذا الرأي بما يتلمسه من أدلة في شأن الصحابة عامة، ثم يعقب برأيه الجديد الذي يملأ به الفراغ الذي تركه هذا الرأي.

يقول: فهناك من يعتقد أن النبي صل الله لم يفسر إلا آيات معدودات من القرآن الكريم، ويستند أصحاب هذا الرأي إلى روايات تنفي أن يكون الرسول قد فسر القرآن كله تفسيراً شاملاً، على رأس هؤلاء: السيوطي.ومن تلك الروايات: ما أخرجه البزار عن عائشة من أن رسول الله ماكان يفسر إلا آياً بعدد.

ثم يقول مباشرة: وهم مايعزز هذا القول هو طبيعة الأشياء؛ لأن ندرة ماصح من التفسير المأثور عن النبي تدل على أنه صل الله لم يكن قد فسر للصحابة على وجه العموم آيات القرآن الكريم جميعاً تفسيراً شاملاً، وإلا لكثرت روايات الصحابة في هذا الشأن، ولما وجدنا الكثرة الكاثرة منهم أو كبار رجالاتهم يتحيرون في معنى آية أو كلمة من القرآن.

وقد لايخلو الكلام إلى هنا من ملاحظات ترد عليه، منها:

1ـ لماذا جعل السيوطي( 911هـ) على رأس أصحاب هذا الرأي، مع أنه رأي قديم، والسيوطي متأخر كثيراً عن ابن عطية مثلاً الذي احتج برواية البزار هذه، وكانت وفاة ابن عطية سنة 338هـ

وقد نقل القرطبي(671هـ) عن ابن عطية رأيه هذا واحتجاجه بهذا الحديث أيضاً.

2ـ أن قلة ماصح من التفسير المأثور عن النبي إذا كانت تفيدـ كما قال الشهيدـ أن النبي لم يفسر جميع آيات القرآن للصحابة عامةً تفسيراً شاملاً، فهذا لايعني أنه صل الله لم يفسر إلا آياً بعدد.

هذ امع أننا حين ننظر إلى كثير من السنة النبوية على أنها تبيان لأحكام القرآن إما قولاً أو عملاً، فسوف نحكم قطعاً بأنه صل الله قد فسر كثيراً من آياته وليس آياً بعدد، ومن هنا ذهب بعض من احتج بحديث عائشة المتقدم إلى أنه مخصوص بمتشابه القرآن، وما جاء فيه من أنباء عن الغيب ونحو ذلك كما ذهب إليه ابن عطية.

3ـأن طبيعة الأشياء، وعدم إحاطة الصحابة بمعاني القرآن تلقائياً، كانت أهم المبررات الموضوعية التي قدمها الشهيد في برهانه على ضرورة ممارسة النبي للتفسير، وكونه أول المفسرين ورائدهم ، فكيف أصبحت هذه العوامل نفسها دليلاً على أنه لم يفسر إلا آياً بعدد؟

إن الملاحظة الثالثة بوجه خاص قد تجد حلها في الرأي الذي سيطيفه الشهيد، ويحاول أن يتوسع نسبياً في بيانه.

التفسير النبوي الشامل.

يرى السيد الصدر أن قلة التفسير المأثور عن النبي صل الله  إنما هو فيما كان من تفسيره على المستوى العام لمجتمع الصحابة، فلم يكن تفسيره هذا يتناول جميع الآيات، بل كان يقتصر على قدر الحاجة الفعلية، ودليله: ندرة ماصح عن الصحابة من المأثور عنه صل الله في التفسير.

غير أنه إلى جانب ذلك كان ثمة مستوى خاص من التفسير تفرضه ضرورة فهم الأُمة للقرآن، وصيانته من التحريف في معانيه ومداليله وأهدافه، فكان صل الله يفسره على مستوى خاص تفسيراً شاملاً  كاملاً بقصد إيجاد من يحمل تراث القرآن،  ويندمج به اندماجاً مطلقاً بالدرجة التي تتيح له أن يكون مرجعاً بعد ذلك في فهم الأُمة للقرآن.

وهذه النظرية تدعمها حقيقتان:

الأولى: النصوص المتوترة الدالة على وضع النبي لمبدإ مخرجعية أهل البيت في مختلف الجوانب الفكرية للرسالة.

وفي إثبات هذه الحقيقة يكتفي بالإشارة إلى حديث الثقلين، وكفى بهذ الحديث دليلاً على مرجعية أهل البيت« إني تاركٌ فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض» وفيه أيضاً دلالة على الأمر موضوع البحص، وهو اختصاصهم في معرفة القرآن الكريم معرفة تامة شاملة ، فهم والقرآن متلازمان لايفترقان.

والثانية: هي وجود تفصيلات خاصة لدى أهل البيت عليهم السلام تلقوها عن النبي صل الله في مجالات التفسير والفقه وغيرهما.

وفي إثبات هذه الحقيقة يستشهد بحديث واحد عن علي عليه السلام، يصنق فيه الرواة إلى أربعة أصناف حتى ينتهي إلى قوله:«وليس كل أصحاب رسول الله كان يسأله عن الشيء فيفهم ، وكان منهم من لا يسأله ولا يستفهم ، حتى كانوا يحبون ان يجيء الاعرابي والطارئ فيسأل رسول الله صل الله حتى يسمعوا، وكنت أدخل على رسول الله صل الله كل يوم دخلةً، وكل ليلة دخلةً، فيخليني فيها أدور معه حيث دار، وقد علم أصحاب رسول الله صل الله أنه لم يصنع ذلك بأحد من الناس غيري، فربما كان في بيتي بأتيني رسول الله صل الله ، وكنت إذا دخلت عليه بعض منازله أخلاني وأقام عني نساءه، فلا يبقى عنده غيري، وإذا أتاني للخلوة معي في منزلي  لم تقم عني فاطمة ولا أحد من بني، وكنت إذا سألته أجابني ، وإذا سكت عنه ابتدأني، فما نزلت على رسول الله صل الله آية من القرآن إلا أقرأنيها وأملاها علي فكتبتها بخطي، وعلمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها وخاصها وعامها، ودعا الله أن يعطيني فهمها وحفظها، فما نسيت من كتاب الله آيةً ولا علماً أملاه علي…» الحديث.

والحديث طويل أخرج أكثره في نهج البلاغة ، وقطعة منه في(الإمتاع والمؤانسة) للتوحيد، ولسبط ابن الجوزي اليه طريقان أقصر مما نقله الشهيد من رواية الكليني.

وللحديث في كثير من فقراته أدلة كثيرة في الصحاح عنه عليه السلام وعن آخرين من الصحابة.

ـ أخرج النسائي بأسانيد صحيحة عن علي عليه السلام أنه قال:«كان لي من رسول الله صل الله من السحر ساعة، آتيه فيها ، وإذا أتيته استأذنت، فإن وجدته يصلي سبح، وإن لم يكن في صلاته أذن لي».

ـ وقال عليه السلام:«كان لي من النبي صل الله مدخلان، مدخل بالليل ومدخل بالنهار، إذا دخلت بالليل تنحنح لي».

ـ وأخرج ابن خزيمة وبن شيبة والنسائي والترمذي والحاكم ـ صححه ووافقه الذهبيـ عن علي عليه السلام، قال:« كنتُ إذا سألت رسول الله صل الله أُعطيت، وإذا سكت ابتدأني».

ـ وقد اشتهر عنه عليه السلام قوله:«سلوني، فوالله لا تسألونني عن شيء إلا أخبرتكم، وسلوني عن كتاب الله،  فوالله مامن آية إلا وأنا أعلم : أبليل نزلت أم بنهار، أم في سهل أم في جبلٍ».

ـ وعن ابن مسعود: أن القرآن أُنزل على سبعة أحرف، مامنها حرف إلا وله ظهر وبطن ، وأن علي بن أبي طالب عنده منه الظاهر والباطن

ـ قال ابن عطية : أما صدر المفسرين والمؤيد فيه فعلي بن أبي طالب عليه السلام، ويتلوه عبد الله بن عباس وهو تجرد للأمر وكمله. وقال ابن عباس: ماأخذتُ من تفسير القرآن فعن علي بن أبي طالب.

ـ وقال ابن عباس: والله لقد أُعطي علي تسعة أعشار العلم، وأيم الله ، لقد شارككم في العشر العاشر.

ـ ومثله عن عبد الله بن مسعود وكثير غير هذا مما هو منتشر ومشتهر.

ومن هنا حقق الشهيد فائدتين هامتين:

الأولى: أنه إذا كانت طبيعة الأشياء وشوهد الوقائع والأحاديث لا تسمح بأن يفسر النبي صل الله لعامة الصحابة جميع ايات القرآن الكريم، فإنه صل الله قد عوض هذا بتفسيره الشامل على المستوى الخاص ، تسمح به طبيعة الأحوال وتشهد له النصوص، فأدى بذلك الأمانة تامة في التبليغ والبيان معاً.

والثانية: أن مصدر التفسير عن أهل البيت إنما ما أُخذ عن الرسول صل الله .

وهنا قد يُثار السؤال ذاته الذي أُثير بوجه التفسير المروي عن الصحابة: لماذا لم يرد تفسير القرآن كاملاً عن علي وأهل البيت بالمأثور عندهم عن الرسول صل الله، فالذي صح عنهم من ذلك وإن كان أكثر مما صح عن الصحابة إلا أنه لم يستوعب جميع آي القرآن ولا أكثر يتها الغالبة إذا ما توقفنا عندما صح إسناده إليهم فقط؟

لكن هذا السؤال قد أغضى عن حقيقة غير خافية على أحد، فافتقد بذلك موضوعيته:

ـ فالآفاق التي كانت مفتوحة على الصحابة نُقل عنهم التفسير، لم تتهيأ لأهل البيت عليهم السلام..

ـ ومارواه أهل البيت عليهم السلام من التفسير لم ينقل كله، ولا معظمه، وحتى ماورد عن علي عليه السلام للأسباب السياسية التي شحن بها التاريخ فحرفت مساره عن أهل البيت قاطبةً. وللسيد الشهيد وقفة تحقيقية في هذا الشأن يتناولها في فقرة لاحقة.

ومانُقل عنهم، حفظاً وتدويناً، لم يبق كله، بل ضاع أو أضيع منه الكثير في إطار تناقضات التاريخ وحيفه الشديد على أهل البيت وحملة علومهم وآثارهم. والتاريخ مشحون بأدلة ذلك على امتداد حياة أئمة أهل البيت عليهم السلام بما لا ينازع فيهم من له قلب.

فلا مناسبة إذن بين الموضوعين ليثار مثل هذا السؤال.

التفسير في عصر الصحابة والتابعين:

الدور الثاني من أدوار التفسير يبتدئ بوفاة الرسول صل الله ويمتد مع عصر الصحابة الذي يتداخل معه عصر التابعين ، خاصة الطبقات الأُولى منهم.

تتحدد طبيعة التفسير في هذا العصر، والسمة الغالبة عليه من خلال ملاحظته للمحاور التي توزع حولها التفسير التي كانت موضع اهتمام الصحابة والتابعين. فتحلاظ ثلاثة محاور رئيسية، وهي:

1ـ المعاني اللغوية لمفردات القرآن الكريم. وقد يتسع هذا الباب عندهم إلى مقارنة اللفظ القرآني بالكلام العربي من أجل تحديد موارد استعماله.

2ـ أسباب النزول والحوادث التي ارتبطت ببعض الآيات القرآنية.

3ـ بعض النصوص الإسرائيلية التي تتعلق بقصص الأنبياء والأُمم الغابرة.

ومن خلال ملاحظة العلاقة بين هذه المحاور الثلاثة يخلص إلى أن الطابع الأساس المميز للتفسير في ذلك العصر هو: تحديد المعنى القرآني من الناحية اللغوية. ويدعم هذا الاستنتاج:

أ: غلبة المحور الأول بشكل ظاهر على التفسير في ذلك العصر.

ب: ماعرف عن كثير من الصحابة من امتناعهم، بل نهيهم، عن تجاوز المعاني اللغوية والدخول فيما يتصف بالطابع العقلي، وعدهم هذا الطابع الأخير من التفسير بالرأي المنهي عنه.

ج ـ يقول  الإمام  الصدر: إنه من الطبيعي أن ينظر إلى القرآن الكريم فيه هذه المرحلة على أساس أنه مشكلة لغوية؛ لأن هذه المرحلة تمثل بداية التطور في المعرفة التفسيرية عند المسلمين، بعد أن كانوا يفهمون القرآن فهماً ساذجاً، وفي مستوى الخبرة العامة المتوفرة لديهم آنذاك.

أهمية هذا التحديد

لتحديد طبيعة التفسير في ذلك العصر فائدة عامة وجليلة تتلخص في إمكان تمحيص المروي عن الصحابة والتابعين في تلك المرحلة في كتب التفسير. فبا عتماد طبيعة التفسير في ذلك العصر يمكن أن نشك في كل محاولة تفسيرية تنسب إلى الصحابة ، ولا تعيش حدود تلك الطبيعة وجوانبها، وتتسم بسماتها وطابعها.

مصادر التفسير في ذلك العصر

لأجل مزيد من التعريف بالتفسير في هذا الدور، وتمهيداً لدراسة لاحقة، نستعرض مصادر التفسير في ذلك العصر ، وهي خمسة مصادر:

1ـ القرآن الكريم نفسه: فقد عُرف تفسير اللفظ أو الآية القرآنية بالرجوع إلى آية اُخرى تفسرها وتكشف عن مرادها، وهو ثابت في المأثور عنهم، كما هو ثابت في المأثور عن الرسول صل الله أيضاً.

2ـ المأثور عن النبي صل الله.

3ـ مفردات اللغة العربية ومورد استعمالها في الكلام العربي الفصيح، والشعر منه بوجه خاص؛ فقد أُثر عن ابن عباس قول: الشعر ديوان العرب، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا معرفة ذلك منه . كما أُثر مشهور في إجاباته على أسئلة نافع بن الأرزق.

4ـ أحاديث بعض الصحابة أنفسهم الذين عاشوا أسباب النزول، وشاركوا في تفسير بعض مفردات القرآن الكريم.

5ـ أهل الكتاب ممن دخل في الإسلام ، فقد رجع إليهم بعض الصحابة والتابعين في تفاصيل قصص الأنبياء والأُمم السابقة، التي جاء القرآن بطرف منها.

اتجاهات مستجدة في التفسير

كان المصدران الأخيران من مصادر التفسير مدخلاً لا تجاهات جديدة ظهرت في التفسير في ذلمك العصر، اتسع بعضها وتطور في العصور اللاحقة.

1ـ فأهل الكتاب كانوا مصدراً لتسرب الإسرائيليات الكثيرة إلى التفسير، حتى مُني التفسير بالمأثور خاصة بكثرة هذه الإسرائيليات المتهافته والهابطة، التي كانت ولا تزال من كبرى الآفات التي اعترضت التفسير عند ا لمسلمين. ويذكر السيد الحكيم لذلك أمثلة متعددة، اِخترنا الأوَل منها فقط لما فيه من دلالة إضافية:

فقد نقل ما أخرجه  الترمذي  من حديث أبي هريرة في قوله تعالى:﴿وإذ أَخَذَ ربُّك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم…﴾ الآية قال أبو هريرة: قال رسول الله صل الله:«لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل منهم وبيصا من نور، ثم عرضهم على آدم ، فقال آدم: أي ربّ، مَن هؤلاء ؟ قال: هؤلاء ذريتك. فرأى رجلاً منهم فأعجبه وبيص مابين عينيه، فقال: أي ربّ، مَن هذا؟ فقال: رجل من آخر الأُمم من ذريتك، يقال له داود. فقال: ربّ كم جعلت عمره؟ فقال: ستين سنة. قال: أي ربّ، زده من عمري أربعين سنةً. فلما قضى آدم أجله جاءه ملك الموت ، فاقل له آدم: أولم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: ألم تعطها ابنك داود؟! فجحد آدم، فجحدت ذريته، ونسي آدم فنسيت ذريته، وخطىء آدم فخطئت ذريته»!

قال: هذا الحديث وان كان يرويه أبو هريرة عن رسول الله صل الله، ولكنا نقطع بعدم صدوره من رسول الله، لو جود صلة الرحم بين هذا الحديث وبين الإسرائيليات في نظرتها إلى الأنبياء واتهامها لهم بعظا ثم الأُمور، كما أنه يصور بني إسرائيل على أساس أنهم آخر الأُمم، وأيضاً فلا يوجد ترابط واضح بين الفقرات الثلاث الأخيرة وبين الواقع القصة، إن لم نقل بتناقضها.

ويمكن أن يضاف الى ماقاله السيد الحكيم هنا أُمور ثلاثة:

الأول: في تعزيز صلة الرحم بين هذا الحديث وبين الإسرائيليات، وذلك من خلال تركيزه على داود عليه السلام وإبرازه من سائر الخلق بما فيهم الرسل  والأنبياء كافة.

الثاني: من الناحية السندية هناك ما يعضد المذهب المعتمد في رد هذا الحديث ونظائره، إذ قد عرف عن أبي هريرة كثرة سماعه من كعب الأخبار ، حتى اختلط الأمر عليه وعلىنقلة حديثه فخلطوا أحاديث كعب الأحبار بأحاديث الرسول. قال شعبة: أبو هريرة كان يدلس ماسمعه عن كعب وما سمعه من رسول الله ولايميز هذا من هذا. وقد روى مسلم وأحمد بن حنبل عن بُسر بن سعيد، قال: اتقوا الله وتحفظوا في الحديث، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيتحدث عن رسول الله، ويحدثنا عن كعب الأحبار ثم يقوم فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله عن كعب، وحديث كعب عن رسول الله.

هذا غير ما اتهم به أبو هريرة في حديثه ، وقد جمع كثيراً منه مَن لايُتهم فيه،كالذهبي في (سير أعلام النبلاء) وابن كثير في(البداية والنهاية). مع كل هذا فسوف نقف في بحثٍ احصائي لاحقٍ على حجم ماروي عن أبي هريرة في التفسير خاصةً في صحيح البخاري وحده، علماً أن كثيره من نظير هذه الرواية الإسرائيلة.

والأهم في الأمر أن:«اعتماد بعض الصحابة على الإسرائيليات في التفسير يمكن أن تعد بداية المشكلة لعصر التابعين ، حيث كان التجاه اتجاهاً رئيسياً في عصرهم قامت عليه بعض المدارس التفسيرية، وتبنته بعض الأ ساليب الثقافية كمصدر مهم م مصادر التموين!. وبعد هذا كله يمكننا أن ندرك بوضوح مقدار ماأصاب الثقافة الاسلامية من ضياع وتشويه.

والأمر الثالث الذي يمكن إضافته هنا: مايظهر من أمثال هذا الحديث خاصة من انتشار مروجي الإشرائيليات في التفسير م أجل تشويه الثقافة الإسلامية مستفيدين م سذاجة بعض الرواة صحابةً كانوا أو من التابعين، إذ إننا نجد أن هذا الحديث بمعناه الذي يرويه الترمذي عن أبي هريرة ، نجده مروياً في بعض التفاسير الشيعية بأسانيدها إلى الإمام الصادق عليه السلام! بل نجده في الكافي أيضاً يرويه من طريقين عن الصادق عليه السلام باختلاف يسير خاصة في آخره، ففي إحدى روايتي الكافي قال عن آدم« إما أن يكون نسيها أو أنكرها». وفي إحدى روايتي البرهان:«وصدق آدم ، لم يذكر ولم يجحد».

وهي رواية علل الشرايع عن الباقرعليه السلام.

2ـ كون الصحابة أنفسهم مصدراً في التفسير ، وإن كان أمراً طبيعياً ملازماً للتفسير في عصرهم وعلى أيديهم، إلا أنه كان بلا شك مصدراً لنوعين من الاتجاهات الخطيرة التي ظهرت في التفسير منذ ذلك العصر، ثم تطورت كثيراً في العصور اللاحقة، وهما:

أـ الاتجاهات السياسية المختلفة التي عاشتها تلك الفترة من حياة المسلمين.

ب ـ الاتجاهات المصلحية ذات الطابع الشخصي أو القبلي.

يقول: لعل من أبرز الشواهد على هذا مايتضح من مقارنة مايذكره علماء القرآن بشأن المفسرين من الصحابة، حيث يذكرون أن علياً من أكثر الصحابة تفسيراً للقرآن، وأن أبا هريرة من أقلهم تفسيراً، نقارن قولهم هذا بما ورد في كتب التفسير الصحيحة، حيث نجد ما يروى عن أبي هريرة أكثر مما يروى عن علي. قارن ماذكرناه بالروايات المذكورة عن علي وأبي هريرة في كتابي التفسير للبخاري والترمذي.

لقد قمت بأحصاء روايات البخاري وحده عن علي عليه السلام وعن أبي هريرة في كتاب التفسير من صحيحه فوجدت مصداقاً جلياً، ورقماً مذهلاً يكفي وحده شاهداً على مدى تأثر مصادر الثقافة الإسلامية الأساسية بالاتجاهات السياسية والمذهبية!

وكانت نتائج الإحطاء كالآتي:

كتاب التفسير من صحيح البخاري

يبتدئ كتاب التفسيرمن صحيح البخاري بالحديث رقم(4204) وينتهي بالحديث رقم(4693).*مجموع أحاديثه= 489 حديثاً* رواياته عن علي عليه السلام= 10 أحاديث فقط. ستة من بينها جاءت في تفسير آية واحدة، رواها من وجوه مختلفة. فيكون مجموع الآيات التي يروي تفسيرها عن علي عليه السلام= خمس آيات لاغير!. ونقل عن علي عليه السلام سوى ذلك معنى مفردة واحدة في سورةالذاريات.* رواياته عن أبي هريرة :57 حديثاً* روىى عنه سوى ذلك معنى مفردة واحدة في سورة الممدثر.

وأدناه ثبت بأرقام رواياته عن كل منهما:

1ـ أرقام رواياته عن علي عليه السلام:

ح/4259،ح/4447،ح/4467،؛/4608،/4661،ح/4662،ح/4663نح/4664،ح/4665،ح/4666.فال.رقام:4661ـ4666 هي طرق متعددة في تفسير (الصلاة الوسطى)بصلاة العصر. أما الرقم(4447) فهو حديث موضوع في التنقيص من منزلة علي عليه السلام، والحديث يرويه يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبي صالح ، عن الزهري: إسناد متهم في أهل البيت عليهم السلام .وهذا الحديث إنما أريد منه هدر قيمة الأحاديث الثابتة في أن النبي صل الله بعد نزول قوله تعالى﴿وأمر اهلك بالصلاة﴾كان لأشهر متوالية يطرق باب علي وفاطمة ويقول:«الصلاة ياأهل البيت﴿إنما يريدُ الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً﴾».

فوضع هؤلاء هذا الحديث: أنه صل الله طرق بابهم يوماً فقال: ألا تصلون؟ فقال له علي عليه السلام: أرواحنا بيد الله إن شاء قبضها وإن شاء أرسلها! فعاد النبي يضرب بيده على فخذه ويقول:﴿وكان الإنسان أكثر شيءٍ جدلاً﴾!!

فتدخل هذه الرواية صحيح البخاري، ولا تدخله الرواية الاُولى!!وربما يكون أغرب من ذلك أن نجد هذه الرواية التي يرويها البخاري تتسرب إلى كتب الشيعة بالإسناد إلى الزهري نفسه، إذ غلبت السذاجة على بعض الرواة فظن أنها منقبة، فعد هذه الآية من الآيات النازلة بحق علي عليه السلام!! 

2ـ أرقام رواياته عن أبي هريرة:

ح/4205،ح/4209،ح/4215،ح/4263،ح/4265،ح/4274،ح/4281،ح/4284،ح/4289،ح/4322،ح/4347،ح/4355،ح/4359،ح/4360،ح/4365،ح/4378،ح/4379،ح/4380،ح/4382،ح/4470،ح/4412،ح/4417،ح/4424،ح/4427،ح/4432،ح/4435،ح/4436،ح/4440،ح/4452،ح/4459،ح/4461،ح/4490،ح/4491،ح/4497،ح/4499،ح/4501،ح/4502،ح/4503،ح/4521،ح/4522،ح/4527،ح/4530،ح/44535،ح/4536،ح/4549،ح/4552،ح/4568،ح/4569،ح/4596،ح/4607،ح/4915،ح/4626،ح/4638،ح/4651،ح/4678،ح/4679،ح/4690،ح/4691.

إن مثل هذه الأرقام لتعطي أوضح وأصدق صورة عن تأثير الاتجاهات السياسية في مصادر ثقافتنا الإسلامية ومدى ما تركته تلك الاتجاهات من أثر في الفكر والعقيدة، ولقد يحثنا هذه القضية الخطيرة في كتابنا(حوار في العمق من أجل التقريب الحقيقي) وقلنا هناك: إن هذه الحقائق وحدها لتكفي في الدعوة إلى التفكير الجاد في محاكمة مصادرنا وثقافتنا.

لقد جاء ابن حزم وغيره ليقولوا : إنه لم يصح عن علي عليه السلام سوى خمسمئة حديث وبضعة أحاديث إنهم نظروا إلى ماأخرجه أصحاب عند أهل السنة وحدهم وعلى هذا المنهج الذي كان البخاري رائده.

رأينا إذن كيفق خلق هذا التأثر بالاتجاهات السياسية صورة ناقصة مشوهة عن علي عليه السلام وبالمقابل صورة زائدة مشوهة عن أبي هريرة!

وإٍذا علمنا أن الحديث هو المصدر الأساس ليس في التفسير فقط، بل في الفقه والعقيدة والتاريخ، أدركناكم سيخلق ذلك المنهج من نقص وتشويه في الفكر والعقيدة!

وليس هذا النقص والتشويه علاج إلا بقبول مرجعية أهل البيت عليهم السلام في الفكر والعقيدة والسياسية، وملاحقة ماتركه ذلك الانحراف القاهر في التاريخ من أثر في جميع هذه النواحي ، فهل إلى هذا من سبيل؟

في دراسات الشيخ محمد أبو زهرة وقف على هذه القضية الخطيرة، وأعطى جوابه على هذا السؤال أيضاً ، فقال:

«إنه يجب علينا أن نقرر هنا أن فقه علي وفتاويه وأقضيته لم ترو في كتب السنة بالقدر الذي يتفق مع مدة خلافته، ولامع المدة التي كان منصرفاً فيها إلي الدرس والإفتاء في مدة الراشدين قبلة، وقد كانت حياته كلها للفقه وعلم الدين، وكان أكثر الصحابة اتصالاً برسول الله صل الله ، فقد رافق الرسول وهو صبي قبل أن يبعث عليه السلام، واستقر معه إلى أن قبض اللهُ ـ تعالى ـ رسوله إليه؛ ولذا كان أن يذكر له في كتب السنة أضعاف ماهو. مذكور فيها.

قال: وإذا كان لنا أن نتعرف السبب الذي من أجله اختفى عن جمهور المسلمين بعض مرويات علي وفقهه ، فإنا نقول: إنه من أن يكون للحكم الأموي أمر في اختفاء كثير من آثار علي في القضاء والإفتاء؛ لأنه ليس من المعقول أن بلغوا علياً فوق المنابر وأن يتركوا العلماء يتحدثون بعلمه وينقلون فتاويه وأقوله للناس، خصوصاً ماكان يتصل منه بأساس الحكم الإسلامي..

إلى أن قال: هل كان اختفاء أكثر آراء علي رضي الله عنه وعدم شهرتها بين جماهير المسلمين سبيلاً لاندثارها وذهابها في لجة التاريخ إلى حيث لايعلم بها أحد؟

إن علياً رضي الله قد استشهد وقد ترك وراءه من ذريته أبراراً أطهاراً كانوا أئمةً في علم الإسلام ، وكانوا ممن يُتدى بهم.. فأودعهم رضي الله ذلك العلم..

لقد قام أولئك الأبناء بالمحافظة على تراث أبيهم الفكري، وهو إمام الهدى، فحفظوه من الضياع، وقد انتقل معهم إلى المدينة لما انتقلوا إليها بعد استشهاده رضي الله، ورووا عنه مارواه عن الرسول كاملاً أو قريباً من الكمال ، ورووا عنه فتاويه كاملةً وفقهه كاملاً أو قريباً من الكمال، واستكنوا بهذا العلم المشرق في كن من البيت الكريم».

القسم الثالث

التفسير الموضوعي ـ التوحيدي

حين تكون الغاية من التفسير هي الكشف عن معاني مفردات القرآن الكريم، والمراد من كل واحدة من آياته، وبيان أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ ، وماتتضمنه الآيات من أحكام وتعاليم وآداب، فلا بد من أن يسير المفسر مع آيات القرآن، آيةً آية، وفق تسلسلها في القرآن الكريم ، وهذا هو المنهج الذي تمضي عليه التفاسير منذ نشأتها حتى اليوم. وهذا المنهج اطلق عليه السيد الشهيد اسم«التفسير التجزيئي». وفي إطار هذا المنهج قد يستعين المفسر أثناء تفسيره للآية، أو المفردة بالآيات الأُخرى التي تشترك معها، كما يستعين بالأحاديث والسياق والظهور وغيرها من أدوات التفسير، لكن هدفه دائماً وفي كل خطوة من خطواته هو فهم مدلول الآية التي يواجهها.. فهو إذن تفسير  تجزيئي بلحاظ وقوفه دائماً عند حدود فهم هذا الجزء أو ذاك من النص القرآني.

أما حين تكون غاية المفسر أبعد من ذلك، وحين يكون هدفه اكتشاف النظرية الإسلامية ـ القرآنية ـ إزاء مفهوم أو مشكلة، فسوف لا يسعفه ذلك المنهج التجزيئي الذي ينتهي عند فهم الاية الواحدة. وهنا تبرز من جديد الحاجة إلى المنهج.

«فلم يكن بإمكان تفسير يقف عند حدود المأثور من الروايات عن الرسول والأئمة والصحابة والتابعين ـ تلك الروايات التي كانت تثيرها استفهامات عقلية على الأغلب من قبل السائلين ـ أن يتقدم خطوة أُخرى ، وأن يحاول تركيب مدلولات القرآن والمقارنة بينها واستخراج النظرية من وراء هذه المدلولات اللفظية».

و ليس التفسير بالمأثور وحده ، بل التفسير وفق المنهج التجزيئي بمدارسه المختلفة كلّها “يساهم في إعاقة الفكر الإسلامي القرآني عن النموّ و التكامل ، و ساعد على اكتسابه حالة تشبه الحالات التكراريّة الجامدة خلال قرون متطاولة ، كما كان الحال في الفترة ما بعد تفاسير أمثال الطبري و الشيخ الطوسي و الرازي ، على الرغم من ألوان التغيّر التي حفلت بها الحياة في مختلف الميادين”.

فالمنهج الجديد إذن، سوف يتجاوز تلك الحدود، ويتخلى عن تلك الصيغة التكرارية.. لكن الأدوات التي كانت أساسية هناك سوف تبقى أساسية هنا؛ فاللغة، والصحيح  من المأثور، وظواهر القرآن، وأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، أدوات ثابتة في فهم النص.

إن المنهج الجديد الذي يؤسس له الإمام الشهيد هو جزء من منهج جديد في دراسة الشريعة ككل ، منهج وضع إطاره النظري ، ومارس بعض تطبيقاته؛ ليكون الباب مفتوحاً أمام الدارسين من أهل الخبرة لمزيد  من التفصيل في النظرية ، ومزيد من التقدم في التطبيق . إنه يدعو إلى تكون فهم عام للشريعة ككل، وتخطي عملية فهم الأحكام مفردة ومتفرقة «فالتشريع الإسلامي يقوم على أساس موحد، ورصيد مشترك من المفاهيم، وينبع  من نظريات الإسلام وعمومياته في شؤون الحياة».وبناءً على هذا، فهو يعد الأحكام«بناءً علوياً يجب تجاوزه إلى ماهو أعمق وأشمل، وتخطيه إلى الأُسس التي يقوم عليها هذا البناء العلوي وينسجم معها، ويعبر عن عمومياتها في كل تفصيلاته وتفريعاته، دون تناقض أو نشاز». ثم يؤكد عمق إيمانه بأصالة هذا الفهم، حيث يراه المبرر الوحيد الذي يدعوه إلى اكتشاف النظرية الإسلامية إزاء أي واحد من جوانب الحياة ومشكلاتها« فلو لا الإيمان بأن أحكام الشريعة تقوم على أُسس موحدة، لما كان هناك مبرر لممارسة عملية اكتشفا للمذهب من وراء الأحكام التفصيلية في الشريعة». فهو المنهج الذي ينتقل من«فقه الأحكام» و«فقه النص»إلى «فقه النظرية».

فلابد من انتقال التفسير إذن من تفسير المفردة والنص إلى كشف النظرية القرآنية؛ لتنتقل عملية التفسير إلى« عملية حوار مع القرآن الكريم واستنطاق له، وليست مجرد استجابة سلبية ـ تقف عند حدود حوار الاستماع إلى النص المفردـ بل استجابة فعالة وتوظيفاً هادفاً للنص القرآني في سبيل الكشف عن حقيقة من حقائق الحياة الكبرى».

ذلك هو المنهج الذي وسمه بـ«المنهج الموضوعي»أو«التوحيدي» في تفسير القرآن الكريم.

عرض المنهج:

إن التعرف على هذا المنهج يكون على أئمة من خلال الوقوف على أعمدته الثلاثة التي استوى عليها، والتي تشكل مجتمعةً صياغته التامة، وهي: صياغته النظرية ، وأدواته، وضوابطه.

1ـ الصياغة النظرية للمنهج

رأينا ترتيب الصياغة النظرية لمنهج التفسير الموضوعي التوحيدي في نقاط؛ وذلك أجمعُ لأطرافها؛ وأحفظُ لصورتها، وأيسر في تحصيلها والإلمام بها، وكثيراً ماتكون هذه النقاط متداخلة ومتكاملة؛ لأنها تؤلف وحدة واحدة، وليست وحدات متعددة، ويظهر بعضها الآخر وكأنه مزية من مزايا هذا المنهج بما يفرده عن غيره، لكنها عائدة في النهاية إلى صياغته النظرية، متممة لها.. ومن هذا وذاك أمكننا إجمال الصياغة النظرية لهذا المنهج كما يلي:

أـ أنه تفسير يقوم على أساس الموضوعات في حقول العقيدة والاجتماع وغيرهما، بدلاً من أن يتناول آيات القرآن الكريم آية فآية.

ب ـ يستهدف التفسير الموضوعي التوحيدي تحديد موقف نظري للقرآن الكريم، وبالتالي للرسالة الإسلامية ، من أي موضوع من موضوعات  البحث في الحياة أو الكون أو الإنسان.

ج ـ فيما يكتفي التفسير التجزيئي بإزاء المدلولات التفصيلية للآيات القرآنية الكريمة، يتطلع التفسير التوحيدي الموضوعي الى ماهو أوسع من ذلك؛ حيث يحاول أن يتوصل إلى مركب نظري قرآني، يحتل في إطاره كل واحد من تلك المدلولات التفصيلية موقعه المناسب، وهذا مانسمية بلغة اليوم بالنظرية.. يصل إلى نظرية قرآنية عن التوحيد، نظرية قرآنية عن النبوة، نظرية قرآنية عن المذهب الاقتصادي، نظرية قرآنية عن سنن التاريخ.. وهكذا.

د ـ في التفسير الموضوعي لا يبدأ المفسر عمله من النص ، بل يبدأ من واقع الحياة ، باختيار واحد من موضوعات العقيدة أو الاجتماع أو الكون، ويستوعب  ما أثارته تجارب الفكر الإنساني حول ذلك الموضوع من مشاكل، وماقدمته من حلول، وماطرحه التطبيق التازيخي من أسئلة ومن نقاط فراغ.. ثم يعود إلى القرآن الكريم ليطرح بين يدي النص موضوعاً جاهزاً مشرباً بعدد كبير من الأفكار والمواقف البشرية، ويبدأ مع القرآن حواراً حول هذا الموضوع، وهو يستهدف من خلال ذلك أن يكتشف موقف القرآن الكريم من الموضوع المطروح، والنظرية التي بإمكانه أن يستلهمها من النص.

هـ في كلام ابن القرآن ـ علي عليه السلام ـ«ذلك القرآن، فاستنطقوه، ولن ينطق، ولكن أخبركم عنه، ألا إن فيه علم ما يأتي، والحديث عن الماضي، ودواء دائكم، ونظم ما بينكم» جاء التعبير بـ(الاستنطاق) أروع تعبير عن عملية التفسير الموضوعي، بوصفها حواراً القرآن الكريم، وطرحاً للمشاكل الموضوعية عليه، بقصد الحصول على الإجابة القرآنية.

وـ هذا المنهج الموضوعي التوحيدي اكتسب تسميته بالموضوعي بالحاظين، وبالتوحيدي بلحاظين أيضاً.

فهو موضوعي: أولاًـ بمعنى أنه يبدأ من الموضوع الخارجي والواقع، ويعود إلى القرآن الكريم.

وثانياًـ لأنه سوف يختار مجموعة من الآيات القرآنية التي تشترك في موضوع واحد؛ للوصول إلى النظرية إزاء هذا الموضوع.

وهو توحيدي: أولاًـ بوصفه يوحد بين التجربة البشرية، وبين القرآن الكريم..

وثانياًـ بوصفه يوحد بين مدلولات الآيات التي تشترك في الموضوع في مركب نظرية واحد، ليخلص بالتالي إلى تحديد إطار نظرية واضحة ترسمها تلك المجموعة القرآنية ككل،بالنسبة  إلى ذلك الموضوع.

زـ إن الفصل بين هذا الاتجاه الموضوعي ـ التوحيدي وبين الاتجاه التجزيئي، ليس حدياً علي مستوى الواقع العملي والممارسة التاريخية لعملية التفسير؛ لأن الاتجاه الموضوعي بحاجة طبعاً إلى تحديد المدلولات التجزيئية في الآيات التي يريد التعامل معها ضمن إطار الموضوع الذي يتبناه. كما أن الباحث وفق الاتجاه التجزيئي قد يعثر أثناء علمية  بحثه على حقيقة قرآنية من حقائق الحياة الأُخرى، فالاتجاه الموضوعي إذن ليس بديلاً عن التجزيئي لكن يظل الاتجاهات مختلفين في ملامحهما وأهدافهما وحصيلتهما الفكرية.

2ـ أدوات المنهج

يشترك المنهجان ـ الموضوعي والتجزيئي ـ بكل الأدوات الأساسية لفهم النص القرآني؛ ذلك لأنها أدوات أساسية لاغنى عنها في فهم النص ، أي نص ، سواء كان قرآناً أو غيره، فعملية فهم النص وتفسيره لايمكن أن تكون بمعزل عن: اللغة، والظهور، وموقع النص بين سائر النصوص المماثلة ـ وفي التفسير يقع هذا في باب المحكم والمتشابه وباب الناسخ والمنسوخ..، وظروف النص النص ودواعيه إن كان ثمة دواع ـ وهي في التفسير تقع في باب أسباب النزول.

لكن الإمام الشهيد أضاف إلى أدوات المنهج الموضوعي نوعين  جديدين من الأدوات ، كانا من المميزات الهامة لهذا المنهج، وهما:

أـ التجربة البشرية:

فأول ماينبغي على المفسر  بعد أن استوعب الأدوات الأساسية المتقدمة، هو أن «يستوعب ما أثارته تجارب الفكر الإنساني حول الموضوع محل البحث من مشاكل، وما قدمه الفكر الإنساني من حلول، وماطرحه التطبيق التاريخي من أسئلة ومن نقاط فراغ؛ ليطرح بعد ذلك بين يدي النص موضوعاً جاهزاً مشرباً بعدد كبير من الأفكار والمواقف البشرية».

«ومن هنا كانت نتائج التفسير الموضوعي نتائج مرتبطة دائماً بتيار التجربة البشرية».

ومن هذه الأداة الجديدة تظهر المزية الحيوية لهذا المنهج، فهو المنهج« القادر على التجدد والإبداع باستمرار، لأن التجربة البشرية تغني هذا التفسير بما تقدمه من مواد تُطرح بين يدي القرآن الكريم؛ لكي يستطيع هذا المفسر أن يستنطق أجوبته عليها».

وحين يؤكد الشهيد على أثر هذه الأداة الحاسم في هذا المنهج بقوله:«وهذا هو الطريق الوحيد للحصول على النظريات الأساسية للإسلام والقرآن تجاه موضوعات الحياة المختلفة»([138]) فانه يعبر في الوقت نفسه عن حقيقة يدركها كل من أدرك شيئاً عن النظرية ، أي نظرية كانت، ويلقي بعبء ثقيل على كاهل أهل التفسير والدراسات القرآنية، الذين لم يتوفروا على الحظ الأوفر من المعرفة بالتجربة البشرية، والنظريات المستجدة التي تؤلف هذه الأدوات اللازمة لهذا النوع من التفسير. والإحاطة بهذه التجربة الواسعة والشاملة فقط؛ لأنها تتصل أيضاً بشكل مباشر بالمنهجية في التفكير وفي الدرس ، والتي سوف تترك آثارها حتى على مدى استيعاب هذه المواضيع وحسن التعبير عنها.

ومن هنا نجد أن ماقد يصدر من دراسات في ضوء التفسير الموضوعي، يعوزها الكثير لكي تستحق أن توصف بأنها تفسير موضوعي، فالغالب عليها أنها تجميع للآيات المشتركة في موضوع واحد، وتفسيرها  بترتيب أو بآخر  لايعطي في النتيجة صورة عن النظرية القرآنية في الموضوع ، ناهيك عن كونه يفتقر بشكل تام أوشبه تام إلى هذه الأداة الحيوية ـ التجربة البشرية ـ التي بدونها لا يحقق الدارس شيئاً على مستوى النظرية.

ب ـ المفاهيم:

هنا يؤسس السيد الإمام الشهيد نظريةً قائمة في فهم الشريعة ككل، وليس فقط يصنع أداة جديدة من أدوات المنهج الموضوعي. وهذه النظرية(نظرية المفاهيم) يصنع خلاصتها في كتابه النفيس( اقتصادنا)كأساس لصياغة المذهب الإسلامي والنظرية الإسلامية تجاه جوانب الحياة والإنسان والكون المتعددة، والتي يعد المذهب الاقتصادي أحدها.

وهذه النظرية كما يصوغها السيد الصدر تقف جنباً إلى جنب مع نظرية  مقاصد الشريعة ، لتكمل إحداهما الأُخرى في الوصول إلى الفهم الحيوي الأتم للأحكام الإسلامية ، ولنصوص الشريعة التي يعد النص القرآني في طليعتها.. وإذا كانت نظرية المقاصد قد اتخذت هيكلها المفصل على يد الشاطبي في القرآن الثامن الهجري، فإن نظرية المفاهيم هذه التي يضع الإمام الشهيد هنا خلاصتها ماتزال بحاجة إلى الدرس المعمق لتعميم تطبيقاتها على كل المساحات التي تغطيها.

يقول السيد الشهيد: يمكننا أن نضع إلى صف الأحكام في عملية اكتشاف النظرية (المفاهيم ) التي تشكل جزءاً مهماً من الثقافة الإسلامية.

والذي عناه بالمفهوم : هو كل تصور إسلامي يفسر واقعاً كونياً أو اجتماعياً أو تشريعياً..

*والعقيدة بأن المجتمع البشري مر بمرحلة فطرة وغريزة، قبل أن يصل إلى المرحلة التي يسود فيها العقل والتأمل، تعبير عن مفهوم إسلامي عن المجتمع.

* والعقيدة بأن الملكية ليست حقاً ذاتياً وإنما هي عملية استخلاف، تعكس التصور الإسلامي الخاص لتشريع معين ـ وهو المكية للمال ـ فالمال في المفهوم الإسلامي كله مال الله، والله يستخلف الأفراد أحياناً للقيام بشأن المال، ويعبر عن هذا الاستخلاف تشريعياً بالملكية.

فالمفاهيم إذن: وجهات نظر، وتصورات إسلامية في تفسير الكون وظواهره،أو المجتمع وعلاقاته، أو أي حكم من الأحكام المشرعة. ومن الواضح أن المفاهيم لا تشتمل على أحكام بصورة مباشرة ولكنها تنفعنا في ماولتنا للتعرف على المذهب الإسلامي  والنظرية الإسلامية موضوع البحث.

بعد هذا التعريف، ينتقل إلى أمثلة من التطبيقات  الهامة لهذه النظرية . فإزاء اكتشاف المذهب الاقتصادي في الإسلام يقدم لنا أنموذجاً تطبيقياً رائعاً  يعكس أثر نظرية المفاهيم في هذه العملية ن فيقول ، وهو في معرض تفصيل هذه النظرية:

ولكي نوضح بشكل عام الدورالذي يمكن أن تؤديه المفاهيم في سبيل تحديد معالم المذهب الاقتصادي في الإسلام ، نأخذ مفهومين دخلا في عملية اكتشاف  المذهب :

أحدهما: مفهوم الإسلام في الملكية ، القائل: بأن الله ـ تعالى ـ استخلف الجماعة على المال والثروة في الطبيعة .. فجعل من تشريع الملكيةالخاصة أُسلوباً يحقق ضمنه الفرد متطلبات الخلافة، استثمار المال وحمايته وإنفاقه في مصلحة الإنسان.. فالملكية إذن عملية يمارسها الفرد لحساب الجماعة ولحسابه ضمن الجماعة .. بما ينسجم مع المفهوم الإسلامي الأصيل عن الملكية.

والثاني: هو رؤية الإسلام للتداول ، بوصفه ظاهرة مهمة من ظواهر الحياة الاقتصادية ، فالإسلام يرى أن التداول بطبيعته الأصلية يشكل شبعبة من الانتاج.. وعليه : فالتاجر  حين يبيع منتجات غيره، يساهم بذلك في الانتاج،؛ لأن الانتاج دائماً هو إنتاج مننفعة، وليس إنتاج مادة؛ لأن المادة لاتُخلق من جديد.. والتاجر بجلبه للسلعة لتكون في متناول أيدي المستهلكين يحقق منفعة جديدة، بل لا منفعة للسلعة بالنسبة إلى المستهلكين إلا بذلك..

وكل اتجاه في التداول يبعده عن واقعه الأصيل هذا، ويجعله عملية طفيلية مقصودة على الإثراء فحسب، ومؤدية إلى تطويل المسافة بين السلعة والمستهلك، فهو اتجاه شاذ يختلف عن الوظيفة الطبيعية للتداول.

وإلى هنا نلمح فائدتين:

الأُولى: استفادته من المفاهيم في صياغة الأحكام، وفي بناء النظرية.

والثانية: مانلمحه من تعانق بين نظرية المفاهيم ونظرية المقاصد ، فالسيد الشهيد في تفصيله للأنموذج الثاني يدخل في صلب الفقه المقاصدي، ليجعل من المفهوم أساساً في تحديد مقاصد الشريعة م الأحكام، وكل تطبيق لهذه الأحكام بشكل يخرجها عن المقاصد التي حددها المفهوم، فهو تطبيق شاذ ومرفوض في الشريعة الإسلامية.

وأُنموذج آخر:

لكنه هذه المرة في ممارسته المباشرة لبعض تطبيقاته في التفسير الموضوعي..فهو أكثر صلة بدراستنا هذه وإن كان الأول لا يبتعد عن صميم هذه الدراسة.

فبعد انتائه من دراسته لعناصر المجتمع في القرآن الكريم، وخروجه بالنظرية القرآنية الكاملة لعناصر المجتمع ، يعقد فقرةً في الختام بعنوان« علاقة النظرية القرآنية بالتشريع الإسلامي» فيقول:

«وهذه النظرية القرآنية في تحليل عناصر المجتمع، وفهم المجتمع فهماً موضوعياً، تشكل أساساً للاتجاه العام في التشريع الإسلامي.. فإن التشريع الإسلامي في اتجاهاته العامة وخطوطه العريضة يتأثر ويتفاعل مع وجهة النظر القرآنية إلى المجتمع وعناصره ، وأدوار هذه العناصر والعلاقات المتبادلة بينها.

فالنظرية قالت: إن هناك استقلالاً نسبياً بين خطين: خط علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان، وخط علاقات الإنسان مع الطبيعة .. هذا المفهوم سوف يشكل القاعدة للعنصر الثابت في الشريعة الإسلامية ، لتلك المنطقة الثابتة من التشريع التي تحتوي على الأحكام العامة المنصوصة ذات الطابع الدائم المستمر.

لاحظ في عبارته الأخيرة كيف يدخل(المفهوم) في تفسير النص.

وفي موضع آخر يبرز دور(المفهوم) في فهم النص، حيث يمثل باضطراب فقيه مجتهد، رأى أن النصوص تربط ملكية الثروات الطبيعية الخام بالعمل ، وتنفي تملكها بأي طريقة أُخرى  سوى العمل، ووجد لهذه النصوص استثناءً واحداً في نص يقرر في بعض المجالات التملك بطريقة أُخرى غير العمل، فسوف تبدو نتائج النصوص لهذا المجتهد قلقة وغير مستقرة.

وهذه النتيجة ترجع إلى أحد أمرين: فإما أن يكون النص الذي بدا شاذاً غير صحيح، وإما أن يكون المجتهد لم يهتد إلى سر الوحدة بين تلك العناصر وتفسيرها النظري المشترك. هذا السر وهذا التفسير الذي سوف يشكل مفهوماً أصيلاً يكون أساساً في تفسير ذلك النص، الذي بدا شاذاً حين عولج بمفرده بعيداً عن هذا المفهوم.

ربما ظهر منا إسهاب في عرض نظرية المفاهيم عند السيد الشهيد،وكونها أداةً في التفسير الموضوعي، وقد اضطررنا إلى هذا؛ لأننا لم نجد هذه النظرية الرائعة والجديدة قد أعطيت حقاً ولو كان يسيراً في الدراسة ، راجين أن تتهيأ لهذا الموضوع فرصة أُخرى.

3ـ ضوابط  المنهج

بدلاً من أن نعني بها الشروط اللازم توفرها في المفسر لسلامة المنهج والتفسير، كما صنعنا في القسم الأول(المفسر والمنهج)، فإن الضوابط هنا جاءت ، وكما عرضها المنظر نفسه رضي الله، بشكل معكوس ، لتحصي العوامل التي قد تكون سبباً حاسماً في حرف هذا المنهج عن اتجاهه الصحيح، والخروج بنتائج مغلوطة لاتعبر عن التصور الإسلامي ، ولا تعطي النظرية القرآنيةالمنشودة من وراء التفسير الموضوعي.

والإمام الشهيد حين يجعل هذه العوامل تحت عنوان مخاطر(الذاتية) يعود ليفصلها بنقاط أربع، هي:

أـ تبرير الواقع:

حيث يندفع الممارس بقصد أو بغير قصد إلى تطويرالنصوص وفهمهما فهماً خاصاً يبرر الواقع الفاسد الذي يعيشه، ويعده ضرورة  لامناص عنها.. نظير ماقام به البعض في تفسير قوله تعالى:﴿ياأيُها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة…﴾ ليقول: إن الإسلام يسمح بالفائدة إذا لم تكن أضعافاً مضاعفة ، وإنما ينهى عنها إذا بلغت مبلغاً فاحشاً!!

يقول الشهيد: والحدود المعقولة للفائدة كما يراها هذا المفسر إنما هي الحدود التي ألقها م واقعه ومجتمعه، ولو أراد هذا المتأول أن يعيش القرآن خالصاً وبعيداً عن ايجاءات الواقع المعاش وإغرائه، لقرأ قوله تعالى:﴿..وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولاتُظلمون﴾. ويفهم أن المسألة ليست مسألة حرب مع نوع خاص من الربا الجاهلي، وإنما هي مسألة مذهب اقتصادي له نظرته الخاصة إلى رأس المال التي تحدد له مبررات تموة،وتشجب كل زيادة له منفصلة عن تلك المبررات مهما كانت ضئيلة.

وهذه النقطة تتحد مع النقطة الثانية من نقاط القسم الأول المتقدمةبعنوان (الذهنية القرآنية بدلاً عن المذهبية). ثم لاحظ كيف مارس نظرية المفاهيم في تدعيم الترابط بين النصوص ..

ب ـ دمج النص ضمن إطار خاص:

ويعني بها: دراسة النص في إطار سفكري غير إسلامي ، وهذه تتحد مع النقطة الأُولى المتقدمة في القسم الأول بعنوان (الذهنية الإسلامية)… لكنه هنا يذكر تفصيلاً  رائعاً للإطارات الفكرية التي تلعب دورها في عملية فهم النص ، نذكر منها أرقاماً فقط، أما ذكرها جميعاً بتفصيلاتها فيطول.

فمنها: الإطار العقائدي، والنظم التي توغها علاقات اجتماعية متجذرة، والفهم التاريخي المنفصل عن القواعد، والإطار اللغوي حيث يظهر في الاندماج مع إطار لغوي حادث لم يعش مع النص منذ ولادته، ومنها أيضاً عملية الاشتراط الاجتماعي لمفهوم معين، وفي كل واحدة من هذه الأُطر يقدم أمثلة حية في تضليل الممارس عن الفهم الصحيح للنص.

ج ـ تجريد الدليل الشرعي من ظروفه وشروطه:

وإن كان الإمام الشهيدقد ركز هنا على نوع خاص من الأدلة الشرعية، وهو (التقرير)ـ أي سكوت الشارع عن عمل معين يقع في عصر التشريع ـ  دون أن يذكر شيئاً عن تجريد النص من ظروفه وشروطه، إلا أن هذه العملية ـ عملية التجريدـ  كما تجري مع التقرير تجري مع النص أيضاً، وربما تكون على أوضح صورها مع تشريعات الضرورة، فحين يتم تجريد أحكام الضرورات عن ظروفها وشروطها ، تبدو وكأنها أحكام عامة فيجري تعميمها على الحالات الاعتيادية ، خطأ.

ويمكن اعتماد نفس المثال الثاني الذي اعتمده الإمام الشهيد في بيان تجريد التقرير من ظروفه:« فإذا قيل لك مثلاً: إن شرب الفقاع في الإسلام جائز، بدليل أن فلاناً حين مرض على عهد النبي صل الله شرب الفقاع ولم ينهه النبي» فإن هذا المثال نفسه يتم لو وجدنا نصاً من النبي يجوز لهذا المريض شرب الفقاع. فتجريد هذا النص من ظروفه ـ وهي المرض الذي توقف علاجه على هذا ـ سيجر إلى تعميم خاطئ لهذا النص. والأمر واضح مع أحكام الضرورة كافة.

د ـ اتخاذ موقف مسبق تجاه النص:

وليس الموقف المسبق هو الموقف المذهبي، الذي يندفع باتجاه تسخير النصوص لتبرير المذهب ، فقط بل قد يكون للاتجاه النفسي للباحث أثره الكبير على عملية فهم النص ، فالباحث الذي يتجه نفسياً إلى اكتشاف الجانب الاجتماعي ومايتصل بالدولة من أحكام ومفاهيم، سوف يخرج بنتائج تختلف كثيراً عن نتائج يقدمها باحث يغلب عليه الاتجاه النفسي إلى مايتصل بسلوك الأفراد، رغم أنهما يرجعان معاً إلى نفس النصوص.

إذن أمام كلا الباحثين سوف تنطمس معالم الجوانب الإسلامية التي لم يتجه إليها كل منهما نفسياً.. بل قد يجر هذا الموقف النفسي أيضاً إلى تضليل  في فهم النص التشريعي؛ وذلك حينما يريد الباحث أن يفرض موقفه الذاتي على النص.

وهكذا يظهر أن كل فهم للنص لاينبع من النص نفسه وظروفه وشروطه، فسوف يؤدي إلى نتائج خطيرة مع مستوى الأحكام ، وعلى مستوى المفاهيم، وعلى مستوى النظريات أيضاً فيمثل أحياناً في(تضليل في فهم النصوص) وأحياناً في(إخفاء بعض معالم الشريعة).

ـ وثمة عنصر هام دمجه الإمام الشهيد  بالعنصر الرابع كواحد من حالاته ، وحقه أن يفرد بدراسة مفصلة قد تكون أليق بمسؤولية  من يتولى شرح النظرية..

فالنص الصادر عن النبي صل الله«يمكن أن يكون تعبيراً عن حكم شرعي عام ثابت في كل زمان ومكان ، كما يمكن أيضاً أن يعبر عن إجراء معين اتخذه النبي بوصفه ولي الأمر المسؤول عن رعاية مصالح المسلمين ـ في حدود ولايته وصلاحياته ـ  فلا يكون حكماً شرعياً عاماً، بل يرتبط بظروفه ومصالحة  التي يقدرها ولي الأمر». وموضوعية التبحث في النص النبوي تفرض على الباحث استيعاب كلا هذين التقديرين، وتعيين أحدهما على ضوء صيغة النص وما يناظره من نصوص.

أما أولئك الذين يفترضون منذ البدء أن يجدوا في كل نص حكماً شرعياً عاماً، فهم ينظرون دائماً إلى النبي صل الله من خلال النصوص بوصفه أداةً لتبليغ الأحكام العامة، ويهملون دوره الايجابي بوصفه ولي أمر، وانطمست أمام أعينهم شخصيته الأُخرى بوصفه حاكماً، وانطمست بالتالي ماتعبر به هذه الشخصية عن نفسها في النصوص المختلفة.

شرعية المنهج

بعد الانتهاء من عرض المنهج بصياغته النظرية، وأدواته، وضوابطه، نقف على قضية تتصل بشرعية المنهج الموضوعي في التفسير الهادف إلى صياغة النظريات الإسلامية تجاه قضايا الكون والحياة والإنسان يتطرق لها السيد الشهيد في نهاية عرضه لمنهجه الموضوعي ، وقبل شروعه في تطبيقاته، والتي تبدو من صياغتها بأنها إشكالية(سلفية) اعتدنا أن نجدها أمام كل دعوة إلى التجديد أو الإصلاح في الفكر الديني، يثيرها أولئك الذين لايعقلون من الدين والحياة إلا التمسك الحرفي بما اشتهر عند السلف، هذا مع كثرة ما يظهر في سلوكهم بل حتى في معتقداتهم من تناقضات وبدع لا يعرفها السلف الصالح، يبررونها بأتفه التبريرات، وربما ينسبونها كذباً وبهتاناً إلى السلف.. والحق أن ما وسمهم به المصلح الديني الكبير الشهيد المطهري، من (جمود وتحجر عقيدي) لهو أليق بهم كثيراً من لقب( السلفية) الذي ينتحلونه!

إن اعتراضهم الذي يثيرونه هنا، هو: ما الضرورة إلى البحث في النظريات القرآنية، في حين ان النبي صل الله لم يعط هذه القضايا على شكل نظريات محددة وبصيغ عامة ، وإنما اقتصر على إعطاء القرآن بهذا الترتيب وبهذا الشكل المتراكم؟

يجيب الشهيد على هذه الإثارة إجابةً في تبسيط وتمثيل يقرب الفكرة إلى الأذهان ، أما خلاصة جوابه، فهي: أن النبي صل الله كان يعطي هذه النظريات ، ولكن م خلال التطبيق ، ومن خلال المناخ القرآني العام الذي كان يبينه في الحياة الإسلامية . وكان كل فرد مسلم في إطار هذا المناخ يفهم هذه النظرية ولو فهماً إجمالياً ارتكازياً؛ لأن المناخ والإطار الروحي والاجتماعي والفكري الذي رسمه النبي صل الله كان قادراً على ان يعطي النظرة السليمة والقدرة السليمة  على تقييم الواقع  والمواقف والأحداث.

أما حيث لا يوجد ذلك المناخ، وذلك الإطار، فتكون الحاجة إلى دراسة نظريات القرآن والإسلام حاجة حقيقية ملحة ، خصوصاً مع بروز النظريات الحديثة حيث وجد المسلم نفسه أمام نظريات كثيرة في مختلف مجالات الحياة ، فكان لابد لكي يحدد موقف الإسلام من هذه النظريات ، وأن يستنطق نصوص الإسلام ـ كما تقدم عن أمير المؤمينن عليه السلام في حديث سابق ـ ويتوغل في أعماق هذه النصوص؛ لكي يصل إلى مواقف الإسلام الحقيقية سلباً وإيجاباً، ولكي  يكتشف نظريات الإسلام، التي تعالج نفس هذه المواضيع، التي عالجتها التجارب البشرية الذكية في مختلف مجالات الحياة.

إلى هنا نرجو أن نكون قد أعطينا الصورة الواضحة لهذا المنهج  الجديد في تفسير القرآن، المنهج الذي«يلتحم فيه القرآن مع الواقع والحياة»،  خصوصاً فيما قمنا به من جمع بين ماكتبه الإمام  الشهيد بخصوص اكتشاف النظرية القرآنية( التفسير الموضوعي) وبين كتبه في إطار اكتشاف النظرية الإسلامية عامة في سياق بحثه في المذهب الاقتصادي، وفيما ظهر في هذه الدراسة من نظريات بالغة الأهمية في(المفاهيم) وفي(إشكاليات النص) تلك النظريات التي اُخال أنها ستبقى كنزاً مدفوناً، حتى يهيئ الله تعالى لها من يبسطها، ويكشف عن أسرارها وأبعادها ومجالات تطبيقاتها، في مجموعة من الدراسات الأكاديمية المتخصصة، حتى تعود مادة مقروءة في الوسط القارئ عامةً، والعلمي خاصةً.

أُنموذج:

أنموذج تطبيقي واحد في التفسير، انتخبناه موجزاً ، تجتمع فيه خصائص المنهج، من: مزاوجة بين المعقول والمنقول ، والتركيز على أثر القرآن في الحياة وموقعه الطبيعي في قيادتها وبنائها، ليفتح أمام النص الأبواب الطبيعية إلى صياغة نظم المجتمع وبنائه الحضاري، مع وضوح في اعتماد المفاهيم في فهم النص، وأسلوب تفسير القرآن بالقرآن، وعلى ضوء المنهج الموضوعي التوحيدي الذي ينطلق فيه من الواقع ليعود إلى القرآن يستثيره ويستنطقه، ليرجع ثانية إلى  الواقع بنظرية قرآنية إزاء الموضوع.

والأنموذج الذي اخترناه هو قطعة فقط من دراسته في صياعة النظرية الإسلامية في الملكية : يقول الإمام الشهيد: التفسير الخلقي للملكية سوف يبرر تلك التصورات عن مشاعرة ونشاطه وفقاً لها. وأساس هذه التصورات هو مفهوم(الخلافة)، فالمال مال الله، وهو المالك الحقيقي ، والناس خلفاؤه في الأرض وأمناؤه عليها وعلى مافيها من أموال وثروات، قال الله تعالى :﴿هو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتاً..﴾.

والله ـ تعالى ـ هو الذي منح الإنسان هذه الخلافة ، ولو شاء لانتزعها منه:﴿…إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم مايشاء …﴾ . وطبيعة الخلافة تفرض على الإنسان أن يتلقى تعليماته بشأن الثروة المستخلف عليها ممن منحه تلك الخلافة ، قال الله تعالى :﴿آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير،كما أن نتائج هذه الخلافة أن يكون الإنسان مسؤولاً بين يدي من استخلفه ، خاضعاً لرقابته في كل تصرفاته وأعماله، قال الله  تعالى :﴿ثم جعلناكم خلائف في الأرض  من بعدهم لننظر كيف تعلمون﴾. والخلافة في الأصل هي للجماعة كلها؛  لأن هذه الخلافة عبرت عن نفسها  عملياً في إعداد الله ـ تعالىـ لثروات الكون ووضعها في خدمة الإنسان . والإنسان هنا هو العام الذي يشمل الأفراد جميعاً، ولذا قال تعالى :﴿ هو الذي خلق لكم مافي الأرض جميعاً﴾، وشكال الملكية ، بما فيها الملكية والحقوق الخاصة ، إنما هي أساليب تتيح للجماعة باتباعها أداء رسالتها في إعمار الكون واستثماره ، قال الله تعالى:﴿ وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعضٍ درجات ليبلوكم فيما آتاكم﴾ فالملكية والحقوق الخاصة التي منحت لبعض دون بعض فاختلفت بذلك درجاتهم في الخلافة، هي ضرب من الامتحان لمواهب الجماعة ومدى قدرتها على حمل الأعباء، وقوة دافعة لها على انجاز مهام الخلافة، والبساق في هذا المضمار. وهكذا تصبح الملكية الخاصة في هذا الضوء أسلوباً من أساليب قيام الجماعة بممهمتها في الخلافة ، وتتخذ طابع الوظيفة الاجتماعية كمظهر من مظاهر الخلافة العامة، لا طابع الحق المطلق والسيطرة الأصلية . وقد جاء عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال:﴿ إنما أعطاكم الله هذه الفضول من الأموال لتوجهوها حيث وجهها الله، ولم يعطكموها لتكنزوها».

ولما كانت الخلافة في الأصل للجماعة ، وكانت الملكية الخاصة أسلوباً لإنجاز الجماعة أهداف هذه الخلافة ورسالتها ، فلا تنقطع صلة الجماعة ، ولاتزول مسؤوليتها عن المال لمجرد تملك الفرد له ، بل يجب على الجماعة  أن تحمي المال من سفه المالك إذ لم يكن رشيداً؛ لأن السفيه لا يستطيع أن يقوم بدور صالح في الخلافة ، ولذا قال تعالى:﴿ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها و اكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفاً﴾، ووجه الخطاب إلى الجماعة؛ لأن الخلافة في الأصل لها، ونهاها عن تسليم أموال السفهاء إليهم ، وأمرها بحماية هذه الأموال ، والإنفاق منها على أصحابها ، ومع أنه يتحدث إلى الجماعة عن أموال السفهاء فقد أضاف الأموال إلى الجماعة نفسها، فقال:﴿ ولاتؤتوا السفهاء أموالكم﴾ وفي هذا إشعاع بأن الخلافة في الأصل للجماعة، وأن الأموال أموالها بالخلافة وإن كانت أموالاً للأفراد بالملكية الخاصة.. وقد عقبت الآية على هذا الإشعاع بالإشارة إلى أهداف الخلافة ورسالتها، فوصفت الأموال قائلة:﴿ أموالكم التي جعل الله لكم قياماً﴾ فالأموال قد جعلها الله للجماعة ، يعني أنه استخلف الجماعة عليها ، لاليبذروها أو يجمدوها ، وإنما  ليقوموا بحقها ويستثمروها ويحافظوا ويحافظوا عليها، فإذا لم يتحقق ذلك من طريق الفرد، فلتقم الجماعة بمسؤوليتها.