يشكل آية الله محمد باقر الصدر، نموذجاً متزناً في الفكر الاقتصادي الإسلامي. فهو يسجل أفكاره وانتقاداته واستنتاجاته في صيغة مفاهيم ومقولات، ويعرضها في إطار نظري واحد. وبالرغم مما قد يراه من نواقص، فان آية الله الصدر ملم بالمفاهيم الاقتصادية بصورة من الصور.
ويعتبر بنظر مقلديه أفضل ممثل للفكر الاقتصادي الإسلامي. والواقع أنه الأكثر إطلاعاً والأوسع نظرة من بين أقرانه.
وتوخياً للوضوح، نقسم أفكاره الاقتصادية إلى ثلاثة حقول هي:
أولاً – تحديده لماهية الاستغلال ومنشئه.
ثانياً – العلاجات التي يقترح لإزالة هذا الاستغلال.
ثالثاً – النتائج العملية لهذه العلاجات.
بوسعنا إضافة حقل رابع يتعلق بمصادر معرفته الاقتصادية وانتقاداته لماركس الذي يأخذ منه أمثلة وأفكاراً من جهة، وينسب له مقولات وقوانين لا وجود لها عنده. بيد أن هذه الأمور سترد في الحواشي أكثر مما في سياق النص[1].
يقول آية الله الصدر إن ماركس يريد “تحرير وسيلة الإنتاج من علاقات التوزيع” ويقول في موضع آخر إن ماركس يريد تحرير ” القوى المنتجة من ووسائل الإنتاج من علاقات التوزيع “، بينما لا يوجد نص كهذا في طول مؤلفات ماركس وعرضها. فهو يتحدث عن تحطيم علاقات الإنتاج (لا التوزيع) التي تقيد القوى المنتجة ( التي تتألف من وسائل الإنتاج + قوة العمل ). ( راجع ص 8 و 9 من كتاب التركيب العقائدي للدولة الإسلامية – الغريب أن لا يجري أية إشارة لمصدر المقتطفات الماركسية).
وفي كتاب “خطوط تفصيلية في الاقتصاد الإسلامي” يتحدث آية الله الصدر عن الإنتاج المادي وما يقتضيه من علاقات بين الإنسان والطبيعة وبين الإنسان والإنسان، وهذه الفكرة مأخوذة، حتى بأمثلتها، من رأس المال حيث يجدها القارئ في الأسطر الأولى من المجلد الأول، الجزء الثالث. ص 52 وما بعدها من الطبعة العربية. دار ابن خلدون.
ويشرح آية الله الصدر، مثلاً، العلاقات الاجتماعية بين الناس خلال عملية الإنتاج بقوله إنها تجسد ” عملية التوزيع “. ورغم غموض المصطلح فانه يوضحه قائلاً إن التوزيع له أشكال مختلفة هي الاسترقاق، النظام الإقطاعي، الرأسمالية، الاشتراكية، الاقتصاد الإسلامي (راجع خطوط تفصيلية ص- 13) إن التشكيلات الاقتصادية – الاجتماعية التي كان ماركس أول من يحددها ويصوغها، مستعارة هنا بالكامل تقريباً ولم يتغير فيها سوى الاسم، فقد صارت ” أشكال توزيع “. وأضيف لها ” اقتصاد إسلامي “، ومسخت إلى أنواع مصطفة زمانياً ومكانياً بجانب بعضها، وبوسع المرء أن يختار ما يريد، وكأن التشكيلات التي برزت إلى الوجود بقانون قاهر، واندثرت بقانون قاهر، ويمكن أن تعود حتى بعد موتها !
ويقول أيضاً في كتاب ” خطوط تفصيلية ص 13 ” إن ماركس ” اعتبر علاقات التوزيع بناء علوياً حتمياً لعلاقات الإنتاج “. هل سمع أحد من قبل أن ماركس يرى علاقات الإنتاج قاعدة وعلاقات التوزيع بنية فوقية ؟ إن علاقات الإنتاج تتضمن (1)علاقات الملكية (2) أشكال التداول (3) شكل التوزيع.هذه العناصر الثلاث تؤلف علاقات الإنتاج وعلاقات الإنتاج زائد القوى المنتجة تؤلف بمجموعها البنية التحتية الاقتصادية للمجتمع. ولا يقول لنا الفقه من أين استمد هذا التعريف وغيره من عشرات التحديدات والمفاهيم غير المستندة إلى مصدر.
أولاً : ماهية الاستغلال ومنشؤه أو ((منابع الشر)):
بدءاً يتضح لنا أن هدف الاقتصاد الإسلامي ((هو استئصال كل علاقات الاستغلال، تحرير الإنسان من استغلال أخيه الإنسان))[2] ثم يضيف إلى ذلك ((تحرير الثروة والكون من أي مالك)) معتبراً الإسلام ثورة اجتماعية على الظلم وكل ألوان الاستغلال(51)[3]. إن إزالة الاستغلال، حسب التأكيدات الواردة. ستكون ثورية، أي أنها ستكون تصفيه نهائية، مرة واحدة وإلى الأبد، فهي لن تكون ((كما استبدل الإقطاعي بالرأسمالي أو بالرأسمالي بالبروليتاريا)) فهذا برأيه ((مجرد تغيير لمواقع الاستغلال))[4] ، وهو يشجب كل مستغل – بما في ذلك البروليتاريا – يسعى إلى انتزاع القيمة من يد مستغليه لكي يقوم بـ ((الاستئثار بها))[5].وعلى هذا فإن البروليتاريا ” طبقة استغلالية ” فقد حرمت الرأسماليين المالكين من أملاكهم، واستأثرت بها لنفسها، فأي جشع وأي عقوق. أما الحل يعطيه الاقتصاد الإسلامي لهذا الجشع العمالي، فهو أن يقوم العمال باستيجار أدوات عمل الرأسمالي بدفع أجر له على ذلك، بدل أن يعملوا له ويدفع لهم أجوراً ! أما كيف يتمكن العمال من التحول إلى أرباب عمل فذلك يتم بتغيير الأسماء. لربما كان يصوغ هذه العلاقة وعينه على الحرف اليدوية، أو المشاريع الصغيرة إلا أنه يريد أن يعممها على كل ميادين الإنتاج الرأسمالي بما في ذلك الصناعات الألية المتطورة التي تتطلب رساميل ضخمة.
ما هو منشأ الاستغلال في عرف هذا الفقه الاقتصادي الإسلامي، بعد أن فرغ من شجبه ووعد باستئصاله.
المنبع الأول حسب قراءتنا للمرجع، هو((سوء التوزيع، وعدم توفير هذه النعم (الثروات الطبيعية) لأفراد الجماعة على السواء))[6] إن سوء التوزيع يحتل مكانة مركزية في نظرية السيد الصدر وهو يضمنه معنيين. المعنى الأول والأبرز هو سوء توزيع منتوجات العمل أو الثروة. وينسب له معنى ثانياً هو سوء توزيع مصادر الثروة الطبيعية التي هي الأرض، بالمعنى الاقتصادي الشامل، أي كونها وسيلة عمل شاملة وموضوع عمل شامل، بما يحتوي عليه من ثروات معدنية وآبار نفط (مناجم)، وأرض صالحة للزراعة وأراض عذراء قابلة للاستصلاح، ومراع طبيعية، وغابات، ومصادر مياه، وثروات حيوانية.. الخ. إن سوء التوزيع في هذه الثروات يعني، في نهاية المطاف، التفاوت في ملكية مصادر الثروة هذه.
وينبغي ألا ننسى قط المعنى الثنائي لاصطلاح: التوزيع، كونه توزيع منتوجات العمل من جهة، وكونه توزيع ملكية مصادر الثروة، لأن الأفكار قيد المناقشة، تضع حلولاً معينة لسوء التوزيع الأول عبر الزكاة، وتضع حلولاً أخرى مغايرة لسوء التوزيع الثاني بـ تحديد أسس الملكية.
المنبع الثاني، بعد سوء التوزيع، يأتي من الملكية الخاصة[7]، التي يصفها بأنها استخلاف من الجماعة للفرد، وإذا أساء هذا استخدامها ((حق للمثل الشرعي للجماعة أن ينتزع من الفرد ملكيته الخاصة))[8] بيد أن سوء استخدام الملكية الخاصة، لا الملكية نفسها، هو المنبع الثاني للاستغلال.
المنبع الثالث للاستغلال هو استخدام النقد (المال) بغير أوجه استخدامه الحقيقي كأداة للتبادل، حيث يجري استخدامه لتنمية المال بالمال، وهذا كسب بدون عمل، وهو بالتالي استغلال[9]. أن تشخيص هذا المنبع للاستغلال يجري، على النسق نفسه، بأنه سوء استخدام للنقد (ما أكثر المساوئ !) لكنه يضيف له سمة أخرى هي الكسب بدون عمل، أي سرقة عمل الغير ورغم أهمية هذا المبدأ فإنه لا يعممه على كل النشاطات الاقتصادية.
المنبع الرابع هو قطف ثمار العمل المأجور، بالطريقة الرأسمالية، أي بدفع الأجور ووسائل العمل إلى الأجراء[10].
المنبع الخامس هو احتكار المواد وأحداث ندرة مصطنعة والحصول على مكاسب غير مشروعة. ويمكن القول وفق المنطق نفسه، أنه سوء في التعامل التجاري، أي التلاعب بعرض السلع، وغش المقاييس، لرفع الأسعار أو لجني ربح غير نظيف.
إن السيد الصدر لا يسلسل أفكاره على النسق الذي عرضناه، فشجب كل شكل من أشكال الاستغلال، الواردة هنا، أو غيرها يرد عنده موزعاً في أماكن شتى.
على أية حال يمكن لنا النظر إلى منابع الاستغلال الخمسة هذه من زاوية أجرى فرغم أنها تبدو سوء توزيع، أو سوء استخدام، ومشاكل من مساوئ، فإن غلاف السوء ما أن ينجلي، حتى يتضح أن المساوئ تنبع وتصب في الملكية الخاصة، ولا شيء غيرها. فسوء توزيع مصادر الثروة هو، بكلمات بسيطة وعادية، امتلاك البعض للأرض وللمناجم والمراعي.. الخ، وحرمان البعض الآخر من امتلاكها بوصفها وسيلة إنتاج أساسية (لإنتاج المعادن، الغلة الزراعية.. الخ). إن المسألة تدور حول علاقات الملكية، رغم أن الفقه يخفيها بعناية بالغة تحت رداء سوء التوزيع. أما عند الحديث عن سوء توزيع الثروة بوصفها منتوجات العمل تذهب إلى الطرق (آ) بغزارة، ولا يصيب الطرف (ب) منها سوى القليل. إن اصطلاح التوزيع يخفي، هنا أيضاً، تحت طياته الملكية الخاصة، امتلاك البعض لثروات هذه المصادر، وهذه نتيجة لاحقة للعلة الأولى، أي لما أسماه سوء توزيع مصادر الطبيعة.
أما المنبع الثاني فإنه يتعلق أساساً بالملكية الخاصة، حسب اعتراف الفقه بنفسه، وهذا يتوافق مع ما نريد.
المنبع الثالث سوء استخدام النقد كأداة للربا لا للتداول[11] يتعلق هو الآخر بامتلاك البعض للثروة بصيغة ثروة نقدية (مقرض النقد بالربا، أصحاب المصارف) وعدم امتلاك البعض لها (المقترضين، دافعي الربا والفائدة المصرفية).
إن سوء استخدام النقود، حسب تعبيره، أي استخدامه “لتنمية المال بالمال” أو للكسب بدون عمل، في واقع الأمر عن امتلاك البعض له، وعدم امتلاك البعض الآخر له. إن الأمر يرجع إلى الملكية الخاصة (هذا لا يعني أننا نغفل حقيقة أن وجود النقد، لوحده، غير كاف لنشوء العلاقة الرأسمالية – شراء قوة العمل – ).
المنبع الرابع ن قطف ثمار العمل المأجور، غير ممكن هو الآخر، غير ممكن هو الآخر بدون ظهور رأسماليين يمتلكون وسائل العمل ووسائل العيش (بشكل أجور )، وظهور أناس معدومي الملكية الخاصة شئنا أم أبينا.
المنبع الخامس، احتكار المواد. كيف يحتكر المرء مواد معينة قبل أن يمتلكها، وكيف يسعه إمتلاكها بدون توفر ملكية خاصة من نوع آخر: ثروة نقدية تتيح له شراء هذه المواد ( الأمر يتعلق بالتاجر ) بهذه الكمية الكبيرة. نحن أمام مشكلة نابعة من الملكية الخاصة.
أنها امتلاك البعض للسلع بسبب إمتلاكه وسيلة شرائها (أو حتى وسيلة إنتاجها فالأمر سيان) وعدم إمتلاك البعض لهذه السلع، أو عدم إمتلاكه وسيلة احتكارها بالشراء (أو بالإنتاج). إن منابع الشر، من الأول إلى الأخير، هي ثمار علاقات الملكية. ولكن الفقه يخفي أغلبها تحت ستار ((التوزيع السيء)). ولسوف نرى أي سوء نية يختفي وراء سوء التوزيع[12] على أية حال، دعونا نرى كيف يحل الفقه مشكلات سوء توزيع الثروة ومصادرها، وسوء استخدام النقد واحتكار السلع، وكيف يخلصنا من هذه الشرور. هذا ما سنراه في العلاجات المقترحة.
ثانياً: العلاجات
يعدنا السيد بـ ((تحرير الثورة.. من أي مالك)) وسنرى كيف يتم ذلك. كما يعدنا بالحماس نفسه بالقضاء على الإمكانية الرأسمالية في قطف ثمار العمل المأجور. ويقسم أيضاً بأنه سيتم استئصال ((الكسب بدون عمل، والقضاء على ((تنمية ملكية المال بالمال وحده))، واجتثاث ((الاحتكار)) بغير رجعة. كل ذلك من أجل الوصول إلى محق الاستغلال بصورة نهائية[13] نحن إزاء أربعة وعود هي:
تحرير الثروة من أي مالك. ربما يقصد على الملكية الخاصة أو على شرورها.
إلغاء قطف ثمار العمل المأجور (ويخص بنظره نشاط الرأسمالي الصناعي والزراعي) أو إلغاء الكسب بدون عمل.
إلغاء تنمية المال بالمال (وتخص بنظرة رأس المال المصرفي والربوي).
القضاء على الاحتكار (ويخص رأس المال التجاري).
تحرير الثروة من أي مالك: يبدأ الفقه، قبل عملية التحرير، بوصف مصادر الثروة الطبيعية فيقسمها إلى منقولة وغير منقولة. ثم يباشر توزيع ملكية مصادر الثروة هذه (التي تشتمل على المناجم وآبار النفط، والأراضي الزراعية والمراعي والغابات). إن الملكية، كما يؤكد الفقه، هي ((لله تعالى))، انطلاقاً من كون الثروات الطبيعية، موجودة، موضوعياً، بصورة مستقلة عن الإنسان. ما دور الإنسان؟ إنه ((خليفة)). أي أنه مكلف بإدارة شؤون هذه الثروات والانتفاع بها. أنه مدير مفوض، ولكن ليس من سلطة دنيوية. والاستخلاف (من الخلافة) نوعان: استخلافه للجماعة (ملكية عامة) واستخلاف من الجماعة للفرد (ملكية خاصة). أين تبدأ حدود ملكية الفرد وأين تنتهي، إن كان سيسمح لها بالوجود؟ كيف ستتحرر الثروة (الطبيعية فقط) من أي مالك؟ انظروا: يسمح الإسلام بالملكية الخاصة لرقبة المال في مصادر الثروة الطبيعية غير المنقولة، شرط أن يعمل على إحيائها[14]. هذا أول تحرير للثروة من أي مالك، عبر السماح بالملكية الخاصة. – يسمح الإسلام بالملكية الخاصة للثروات الطبيعية المنقولة، والحيازة تكفي كسند للملكية الخاصة هذا ثاني تحرير للثروة من أي مالك[15].- بعض الثروات الطبيعية هي مباحثات عامة، منعاً لاحتكارها أي أن لجميع الأفراد حق استخدامها، فبوسع أي كان أن يستل ما يريد من المراعي الطبيعية وأخشاب الغابة ومياه الأنهار.. الخ. إن هذه الإباحة، العامة في المظهر، هي إباحة للملكية الخاصة في الجوهر. فالقدرة على إمتلاك نصيب من ثروات هذه المباحات، يتوقف على عوامل عدة، منها امتلاك المرء أدوات متطورة، أو ثروة معينة، أو مركزاً معيناً، جغرافياً أو اجتماعياً، تسمح له بالاستحواذ على ثروات المباحات. يكفي أن نحيل القارئ إلى هيمنة أثرياء الريف على مياه الأنهار، وهي من المباحات العامة، بسيطرتهم على الأراضي المتاخمة للأنهار، بحيث لا تمر سواقي الري إلا من تحت أرجلهم، أو بامتلاكهم المضخات.. الخ. إن المباحات العامة، التي يجيزها الفقه الإسلامي، تتحول في الحياة العملية، إلى مباحات خاصة، إلى ملكية خاصة لهذا الجزء من الثروات الطبيعية. هذا ثالث تحرير للثروة.
إن تحرير الثروات الطبيعية، المنقولة وغير المنقولة، الضرورية لأفراد معينين، أم الضرورية للجميع، إنما يتم هنا بتمليكها للأفراد. وهذه الملكية تقوم تحت أسماء شتى، هي الأحياء، الحيازة، حق الأولوية.. الخ. إن هذه الملكيات الخاصة التي ((حررت)) بها الثروة من ((أي مالك))، عبر إسنادها إلى ملاك محددين، إنما تقتصر، كما هو واضح، على مصادر الثروات الطبيعية، وعلى الثروات الكامنة فيها بصورتها الخام. والفقه يهبها باعتبارها ملكاً سماوياً! إنها ملك سماوي بالاسم، وملك لأفراد خاصين بالفعل!
لماذا يتصرف الفقه بالثروات الطبيعية على هذا النحو؟ لأنها ليست نتاج عمل بشري. لأنها ملك لله. ولما كان الفقه ممثل العدالة الإلهية، وخلافة الله على الأرض، فإنه يمتلك الحق في التصرف بها كما لو كانت ملكه الخاص.
بيد أن الطبيعة كفت منذ أمد بعيد عن تقديم منتوجات جاهزة للبشر. وتخطى البشر، بدورهم، مرحلة الفطام. ولم يعد ثمة من يقتات على الثمار الجاهزة، ويستر عورته بورقة توت. لقد دخل العمل مسرح الطبيعة منذ لحظة تاريخية موغلة في القدم.
وغدت الثروات ثمرة عنصرين: العمل والطبيعة. أو كما يقول ماركس، نقلاً عن وليم بيتي، فإن ((العمل أبوها والأرض أمها)). إن الطبيعة لا تصنع الطائرات، ولا حقائب السمسونايت لا تنتج آجر قباب الجوامع، ولا المسكوكات الذهبية. ولو نبش المرء، لا الأرض وحدها بل باطن الكواكب، لما عثر على زر قميص جاهز، فهذه الثروات بحاجة إلى شيء أكثر من الطبيعة: العمل البشري. ولما كان العمل البشري يمضي منذ أجيال سحيقة، فإنه راكم ويراكم الآن ثروات لا حد لها، ثروات تقع بيد طبقات اجتماعية محددة، وتتخذ أشكالاً اقتصادية وحقوقية متعددة: ملكية شخصية، ملكية خاصة صغيرة، ملكية رأسمالية، ملكية دولة، ملكية إقطاعية.. الخ، ثروة نقدية، عقارية، مصانع.. الخ. وبصرف النظر عن الشكل الحقوقي أو الاجتماعي لملكية هذه الثروة، فإن فقه السيد الصدر لا يتناول ملكية الثروات التي صنعها البشر، والتي هي ثمرة عمل متراكم سابق، وعمل يتراكم حالياً. فتلك مسألة خارج الصدد. أنه لا يمس الملكية الخاصة (أو الثروات الخاصة) التي نشأت عن العمل البشري (تمييزاً عن الثروات الكامنة في الطبيعة). وهو يقصد بذلك الرأسمال بكل صوره في النشاط الاقتصادي: الرأسمال المنتج بصورة وسائل إنتاج كالآلات والمصانع والمزارع… الخ، والرأسمال بصورة نقد، الرأسمال المصرفي والربوي، والرأسمال بصورة سلع ونقد كالرأسمال التجاري، والرأسمال بصورة عقارات.. إن هذه ((الأنواع)) من الملكية الخاصة معترف بها سلفاً، قائمة سلفاً. فهي لا تخص السماء. وهو يعتبرها معطى نهائياً، بصرف النظر عن منشأ هذه الملكية، سواء كانت ثمرة عمل مالكيها، أم ثمرة عمل الغير، ويصرف النظر عن سبل انتزاع ثمار عمل الغير. وعلى هذا فإن الملكية الخاصة الرأسمالية، بصورها المتعددة، تستقبل أخوة جدداً، أشكالاً جديدة من الملكية الخاصة، سوى أن لها أسماء جديدة. وبدل تحرير الثروة من أي مالك، أعطي المالك سبلاً جديدة للاستيلاء على الثروة كملكية خاصة.
استئصال الكسب بدون عمل:
إن تعبير ((الكسب بدون عمل)) يتردد كثيراً في فقه آية الله الصدر. وهذا التعبير، المستعار من ماركس مع بعض التحوير (نعني: العمل المجاني، أو العمل غير مدفوع الأجر) يشمل كل رأسمال منتجاً كان أم طفيلياً، صناعياً كان الرأسمال أم تجارياً أم مصرفياً أم ربوياً! وهو يشمل أيضاً العلاقات الإقطاعية والعبودية، على حد سواء. ولما كان السيد الصدر يستخدمه عند التطرق إلى الطريقة الرأسمالية في الاستغلال فتنبغي مجاراة هذه الحدود المرسومة سلفاً.
إن الرأسمال يقوم على نهب فائض القيمة، على العمل غير مدفوع الأجر الذي تقدمه الطبقة العاملة، إلى جانب نهب جزء من عمل صغار المنتجين، حيثما يكون هناك إنتاج سلعي صغير، ويقدر ما وبقدر ما يكون صغار المنتجين عرضه للاستغلال، عبر الفروض الربوية والمصرفية، وعبر المزاحمة التي تؤدي إلى افلاسات جماعية.
بيد أن فقه الصدر يحصر اصطلاح ((الكسب بدون عمل)) على العلاقة بين الرأسمال الصناعي (أو المنتج) وبين العمال الأجراء، أما نشاطات رأس المال التجاري وكسبه فيحيلها إلى مجال الاحتكار، بينما يحيل نشاطات رأس المال المالي (ويقصد به المصرفي والربوي) إلى مجال.. ((تنمية المال بالمال)) تارة، وإلى مجال ((الكسب بدون عمل)) تارة أخرى. وبرأيه، مال لم يكن ثمة رأسمالي يدفع الأجور ويقدم وسائل العمل من جهة، وعمالاً يتلقون الأجور، فليس ثمة علاقة رأسمالية. وعلى هذا فكل نشاط رأسمالي لا يتضمن استئجار قوى عمل ليس رأسمالياً!
إن السيد الصدر لا يدرك أن الرأسمال التجاري، شأن الربوي والمصرفي، هو تنمية أيضاً للمال بالمال، وان الرأسمال الصناعي هو الآخر تنمية للمال بالمال، سوى أن عليه أن يمر بوسيط: عملية الإنتاج، هذا المفرخ الرئيس للقيم الجديدة التي يتم الاستيلاء عليها. وأن جميع هذه النشاطات التجارية والصناعية.. الخ، تحقق للرأسمالي ((كسباً بدون عمل)). وإنها جميعاً تنمية للمال بالمال. وإن تنمية المال بالمال، والكسب بدون عمل، والربح بالطريقة الرأسمالية، هي ثلاثة أسماء لكائن واحد. [16]
على أية حال، فإن ما يقترحه السيد الصدر من علاجات، إنما تناقض نفسها بنفسها وتتضارب بلا انقطاع.
فمن جهة يحرم استثمار الثروة الطبيعية بالطريقة الرأسمالية، أيد بدفع الأجور وتزويد الأجراء (العمال) بوسائل العمل (يقصر ذلك على الصناعة الاستخراجية باعتبار أن بيئتها الاقتصادية هي الطبيعة مباشرة). ثم يعود فيعطي للرأسمالي الحق في تلقي حصة يسميها أجرة لقاء ما يتلف من وسائل عمله (الاندثار)، بحيث يصبح الرأسمالي مالك وسائل العمل مؤجراً. والعمال المعدومي الملكية أرباب عمل مستأجرين!
إذ يسمح الفقه المذكور للرأسمالي نفسه (إذا عمل في الإنتاج الثانوي)[17] أن يتلقى أجراً على استعمال العمال لأدوات عمله، دون تحديد لماهية الأجرة.
إن قلب العلاقة الحقوقية بين الرأسمالي والعمل، بالاسم فقط، لا يمكن له أن يلغي ((الكسب بدون عمل))، ما دامت ملكية وسائل الإنتاج باقية بيد الرأسمال. إن الفقه يجعل الرأسمالي أجيراً، والعمال أرباب عمل يدفعون للأول أجراً. ولكنه لا يحقق ذلك بانتزاع وسائل العمل والعيش من الطرف الأول، فذلك آخر ما يفكر به، بل بدعوة الطرف الثاني إلى ((استئجار)) وسائل العيش والعمل، دون أن يجشم نفسه عناء التفكير، ولو للحظة، كي يتساءل: ما الذي جعل وسائل العمل والعيش تتركز عند الطرف الأول، بينما الطرف الثاني محروم منها تماماً. وإذا كان بوسع الطرف الثاني دفع الأجر للرأسمال، أي إذا كان لدى الطرف الثاني وسيلة شراء، فلماذا، لا يعمد إلى شراء وسائل عمل تخصه، ويستغني عن الرأسمالي ووسائل العمل التي بحوزته؟
إن الفقه الاقتصادي لا يثقل نفسه بهذه الأسئلة وغيرها، ويقيم علاقة ((محاصصة)) بين الرأسمالي والعمال. وسواء سمي المردود الذي يتلقاه الرأسمالي ربحاً أم حصة أم أجراً أم أجرة، فإنه يظل كسباً بدون عمل. إن آلاته تعمل بالنيابة عنه. ولكن الفقه يجيب: إن وسائل العمل أو الآلات والمعدات، والمواد الأولية… الخ، هي عمل متراكم، من قال إنها ليست كذلك! إن كون هذه الوسائل هي ثمرة عمل بشري سابق، ثمرة عمل الماضي المتشيئ، بتعبير ماركس، أمر لا علاقة له البتة بكون هذه الوسائل هي ملك لطبقة اجتماعية محددة، دون غيرها، ولا علاقة له البتة بكون هذه الوسائل هي ثمرة العمل الشخصي لمالكها، أم ثمرة نهب عمل الغير، أي لا علاقة له بالسبب الذي يجعل، ((العمل المتراكم)) يتركز عند الرأسماليين وحدهم، ويعطيهم الحق في اقتطاع القسط الأعظم من العمل.. الحي!- وعلى أية حال فإن مقولة ((العمل المتراكم)) التي يأخذها الفقه من الاقتصاد السياسي جاهزة، تتحول على يديه إلى ترياق لتنشيط العلاقة الرأسمالية والحفاظ عليها سليمة، معافاة، بل وفي أوفر صحة. فتحت ستار ((العمل المتراكم)) الذي يعمل بالنيابة عن الرأسمالي، ينشأ لهذا الأخير ((حق)) في ((مكسب)) في أجرة، دون تحديد لمقدار هذه ((الأجرة)). إن الأجرة هي الاسم السري الذي يعطيه الاقتصاد الإسلامي لفائض القيمة الرأسمالي. وبالطبع فإن العلاقة الرأسمالية، لا يهمها بشيء أن يتغير الاسم، بل ستكون سعيدة في أن تجدد رداءها، ودفتر نفوسها!
وهذا ما يعترف به الفقه المذكور نفسه، حين يتناول عمل الرأسمال في مجال الإنتاج الزراعي، إذ يمحضه الحق ((على مذهب عدد من الفقهاء))[18] ، في إبرام عقد مزارعة يقدم بموجبه الأرض والبذار على أن يشارك في المحصول. أي أن له الحق في كسب بدون عمل، شأن حقوق توأميه السابقين، فكلاهما يقدم أدوات عمل، وكلاهما له الحق في ربح هو مكسب بدون عمل، سوى إن له كنية جديدة.
ج- تنمية المال بالمال:
لنترك الرأسمال بهيئة وسائل عمل، ونأتي إلى الرأسمال في إهاب ثروة نقدية إن الفقه يؤكد لنا أنه يبتغي استئصال ((تنمية المال بالمال)). وبعد أن يلقي بوجه الربا ما يستحق من قذف يؤكد أن ((رأس المال النقدي.. ليس من حقه أن يساهم في أي ربح.. ولا يبرر له حقاً في الربح بدون عمل، بل إن الربح.. كله للعامل))[19]. وبالرغم من غموض مفهوم الربح، وغموض مساهمة الرأسمال النقدي، فإن بوسعنا الافتراض، إن هذا الرأسمال يستعيد نفس القيم التي زجها في المشروع بدون زيادة. ما أن نصل إلى هذه النتيجة حتى يعود الفقه بنا، القهقرى، إلى دار الاستثناء، فيقول في نفس الموضع أن لرأس المال النقدي ((طريقة وحيدة)) يحق له فيها المشاركة في الربح. ما هي؟ ((حين يتحمل صاحبه المخاطرة به، ويتحمل وحده، دون العامل، كل التبعات، السلبية العملية))[20] وها نحن نرى أن القاعدة الأخلاقية تنص على عدم جواز المشاركة في الربح وإن هذا المبدأ العزيز ثابت، شأن كل المبادئ الأخرى. ولكن دوماً ثمة استثناء. ولرأس المال النقدي حصته في الربح، له إمكانية تنمية المال بالمال التي رفضها الفقه ابتداءه. لنمض أكثر.
يعدنا الفقه بعد ذلك بتحويل النظام المصرفي ((من وسيلة للتنمية الرأسمالية للمال)) إلى ((وسيلة لإثراء الأمة)) عبر تشجيع الادخار (في المصارف طبعاً) و((استثمار ما يدخر في مشاريع إنتاجية مفيدة))[21].
الأموال مدخرة في المصارف الآن. أين تذهب! تعطى قروضاً. إن الربا محرم وليس بوسع المرء (المدخر) أن يجني ربحا من أمواله بصفتها نقداً، لأن تنمية المال بالمال محظورة. ولكن مهلاً. إن بوسع الثروة النقدية، الرأسمال النقدي المدخر في المصارف، أن يخلع لباسه كنقد، وأن يبادل لقاء وسائل عمل أو سلع، انسجاماً مع دوره الطبيعي ((كأداة للتبادل)). وما أن يدخل الحفلة التنكرية بهيئة وسائل عمل ((في مشاريع إنتاجية مفيدة)) حتى يؤوب حاملاً معه الربح، بشكل سلع، تبادل مجدداً لقاء نقد أكثر مم زج أولاً في المشروع. يحدث ذلك كله وصاحب المدخرات المصرفية إلى صاحبها مثلما كانت عليه، دون أن تزيد قيمة، فإن عملية الادخار تكون قد آبت بربح مقداره صفر. وهو ما ينبغي أن يكون عليه الحال إذا التزمنا بحظر تنمية المال بالمال! أما إذا عادت المدخرات حاملة الربح معها، فإن هذا الربح جاء بلا عمل! بلا عمل من جهة المدخر. وبعمل من جهة المنتج في ((المشروع الإسلامي المفيد))! إنه ربا مموه. إنه تنمية للمال بالمال سوى أنه تم بتحويل النقد إلى وسائل إنتاج وهذه بدورها إلى سلع، والسلع بدورها إلى مال (أو نقد) أكثر. إن رأس المال، بصرف النظر عن طبيعة نشاطه، هو قيمة تنمي نفسها بنفسها، ولا فرق إن كان بصورة سلع تتحول إلى نقد، أو نقد يتحول إلى سلع، أو نقد يتحول إلى نقد اكثر بصورة مباشرة.
إن الفقه الإسلامي يسند للنقد دور ((واسطة تبادل)) كما لو كان النقد ساعي بريد لا أكثر، نافياً عن النقد حقيقته الأساسية، حقيقته كونه سلعة، هي ثمرة عمل بشري وهي تجسيد لهذا العمل وحقيقة كون السلعة النقدية يمكن أن تتحول، إلى سائر السلع الأخرى. فالانشطار القائم في عالم السلع، إلى سلعة نقدية شاملة من جهة، وسائر السلع الأخرى، من جهة ثانية، إن هذا الانشطار (الذي كان ماركس أول من يفسره ويعرضه بوضوح ساطع)[22]. يخدم عند هذا الفقه في إباحة النشاطات المالية الطفيلية (وبالأخص الربا) عبر تحويل النقد إلى سلع[23]. في خاتمة العهود بالقضاء على الكسب بدون عمل، نجد أن الكسب بدون عمل ممكن، إذا كان رأس المال متجسداً في إهاب وسائل عمل، وإن تنمية المال بالمال ممكنة إذا خلع المال شكله النقدي وتلبس شكل سلع ووسائل عمل.
د- القضاء على الاحتكار:
لم يبق أخيراً سوى الرأسمال التجاري، الذي يبعد عنه الفقه تهمة الكسب بلا عمل، وتهمة تنمية المال بالمال (وهما كما أسلفنا شيء واحد من حيث الجوهر). وهو يفرد للرأسمال التجاري مقاماً سامياً، ومنحه حرية أكيدة، ويسبغ عليه كل المديح، ويعطي الحق في الربح ((النظيف)) دون أن يستثنيه من التقريع. فالربح النظيف (كالربح الحلال عند الشيرازي) يمكن أن تعلق به أدران الاحتكار والندرة المصطنعة. إنه يصف دور التاجر في الحياة الاقتصادية، ومبررات أو منابع الربح التجاري، عبر الاستشهاد بأقوال تاريخية قديمة تعود إلى صدر الإسلام فهم، أي التجار ((مواد المنافع وجلا بها من المباعد))[24] ويستنتج بناء على ذلك أن التاجر منتج كالصانع لكن صفات التاجر الحميدة لا تخفي مساوئه الكثيرة: ((إن في كثير منهم ضيقاً فاحشاً، وشحاً قبيحاً، واحتكار للمنافع وتحكي في البياعات، وذلك باب مضرة للعامة))[25].
إن هذا المديح لدور التجارة، من جهة، والذم لمساوئ التجار من جهة ثانية، والتي يستشهد بها فقه آية الله الصدر من الإمام علي، ترجع إلى ذلك العهد. إن رأس المال التجاري، آنذاك، كان يلعب دوراً هاماً في دفع الإنتاج ودورة التبادل قدماً. غير أن دوره في عصر غياب العمل المأجور والصناعة الآلية الضخمة، هو غير دوره في عصر حضورهما. وكان على فقعه السيد الصدر أن يبرهن أولاً أن شيئاً لم يتغير منذ ذلك الحين، كي يكون بوسعه تقييم الصورة بشكل صحيح.
إن فقه السيد الصدر يعترف بأن ((المبادلة نفسها لم تكن تحقق كسباً جديداً للفرد)) إن ((المبادلة.. ليست أداة لكسب الطيبات، بل لتبادلها فقط، وهذا يعني أنها لا تخلق للفرد ثروة))[26]. وما التجارة إلا مبادلة. إنها مبادلة للنقد بسلعة، ومبادلة السلعة بنقد مجدداً. والمبادلة قائمة (في صورتها النقية) على أساس تبادل المتساويات، في عصرنا وفي العصور الغابرة. وعلى هذا، فالربح التجاري مستحيل. إذن من أين كان يأتي الربح التجاري آنذاك؟ إن الإنتاج في المجتمعات الغابرة هو بوجه عام، إنتاج طبيعي موجه لتلبية الحاجات المباشرة للمنتجين. إن الأشياء المصنوعة في الغالب، هي منتوجات لا سلعاً. ولا يتم تبادل شيء غير الفائض، وهو محدود بسبب ضعف القوى المنتجة. إن منشأ ربح رأس المال التجاري، ينبع من التباين في تكاليف إنتاج السلع بين مختلف دوائر الإنتاج، التي يقوم التاجر بدور الوسيط فيما بينها، وهو دور كانت تضطلع به مدن بأكملها (ظهور المدن التجارية الصرف – مكة، المدن الفينيقية – عصر ذلك، واندثارها كمراكز تجارية في عصرنا هذا أمر له دلالته).
إن التاجر، عصر ذاك، يشتري السلعة من المنتج في الدائرة (آ) بقيمتها، ويبيعها إلى المستهلك في الدائرة (ب)، بقيمتها في هذه الدائرة، إن الدائرة (آ) تتمتع بقدرة إنتاجية عالية في صنع الأقمشة وإنتاج التوابل والذهب.. الخ. إن متراً من القماش يكلفها يوم عمل مثلاً. والتاجر الوسيط يدفع معادل هذه القيمة. غير أن هذا المتر نفسه من القماش قد يتطلب إنتاجه في الدائرة (ب) 3 أيام عمل. إن الشاري في الدائرة (ب) يدفع للوسيط التجاري معادل هذه القيمة. والفارق بين الاثنين، وهو قيمة يومي عمل، يذهب إلى كيس التجار. وعندما تتقلص الفروق، نسبياً، بين إنتاجية مختلف الدوائر يزداد الميل إلى الغش. أما الاحتكار فيشكل رافعة لاعتصار ربح إضافي، يمكن أن نسميه سرقة.
إن الحديث عن الربح ((النظيف)) يمكن أن يصح على الرأسمال التجاري في التشكيلات ما قبل الرأسمالية، بحدود خلوة من غش المكيال، وخلوه من الاحتكار.
إلا أن فقه السيد الصدر ينقله، عبر التاريخ، إلى عصرنا الحاضر، تاركاً وراءه شروط اجتماعية – اقتصادية لم يعد لها وجود، ويقول ((إن الربح النظيف هو الربح الذي يحصل عن طريق القيمة التبادلية الواقعية للبضاعة.. مع استبعاد الندرة المصطنعة التي يخلقها التجار.. المحتكرون عن طريق التحكم في العرض والطلب))[27].
لقد اعترف قبل قليل، إن التبادل يجري بين متساويات، ولا مجال فيه لنشوء ربح. وها هو يناقض استعارته من ماركس فيشير إلى أ الربح ممكن ((عن طريق القيمة التبادلية الواقعية)). إنه يخلط، دون انقطاع، بين منبع ربح الرأسمال التجاري في عصور غابرة، ما قبل رأسمالية، من خلال التبادل، واستحالة نشوء هذا الربح، في ظل الرأسمالية، من خلال التبادل[28]. إن ربح الرأسمال التجاري، في ظل الرأسمالية، ينشأ عن تقاسمه جزءاً من فائض القيمة الذي يستله رأس المال الصناعي، ويسهر على إنتاجه. إن منبعه هو الكسب بدون عمل، إن استخدامنا لغة السيد الصدر، والعمل غير مدفوع الأجر، إن استخدامنا لغة ماركس. وهذا الربح يتحقق في ((القيمة التبادلية الواقعية للبضاعة)).
إن مفهوم القيمة التبادلية ((الواقعية))، يفترض، بداهة أن ثمة قيمة تبادلية ((غير واقعية))، تنشأ، حسب السيد الصدر، من التحكم بالعرض والطلب. وليس لهذا القول نصيب من الدقة أو الصحة. فما يتأثر بالعرض والطلب، ليس قيمة السلعة، بل سعرها، هذا السعر الذي قد يكون مطابقاً للقيمة، أو دونها، أو أعلى منها.
إن مفهوم ((القيمة التبادلية الواقعية))، يضم (بل يكشف) دفاعاً مستميتاً عن حرية التاجر الرأسمالي في الربح، وهذا المفهوم يموه ببراعة كون نشاطه هو تنمية للمال بالمال، وأنه كسب بدون عمل، شأن باقي أشكال الرأسمال. مع ذلك، فإن الحلول التي يطرحها الفقه للقضاء على الاحتكار وإلغاء الندرة المصطنعة بهدف إعادة ((القيمة التبادلية الواقعية)) الموهومة ((للبضاعة)) إلى سابق عهدها، إن هذه الحلول تتسم بالطوباوية، ول ترتكز على إدراك اقتصادي صحيح.
يقول السيد الصدر مثلاً ((إن الإنتاج في الاقتصاد الإسلامي لا يتحرك وفقاً لمؤشرات الطلب في السوق.. بل هو يتحرك.. لتوفير المواد الحيوية اللازمة لكل فرد مهما كانت ظروف السوق)) وينتقد ((المجتمع الرأسمالي.. الذي يتحرك. وفقاً للطلب والقدرة الشرائية للطالبين))[29].
هذا نموذج من الحلول المطروحة. أن النص يحفل بالتناقضات، ويشي بعدم المعرفة، لا بالطلب ولا بالعرض. فلو كان الإنتاج الرأسمالي، مثلاً يتحرك وفقاً للطلب، كما يقول الفقه، لما شهد فيض إنتاج قط، ولما اضطر الرأسماليون، في أزمات معروفة، إلى حرق وإتلاف كميات هائلة من شتى المنتوجات، لتقليص كميتها، أي لخفض العرض بصورة اضطرارية كي يصبح موازياً أو مقارباً للطلب. وتؤكد هذه الحقيقة، وقائع الركود والكساد اللذين يتناوبان على الاقتصاد الرأسمالي، كالوباء.. إن القدرة الإنتاجية التي تقرر العرض، والمقدرة الشرائية، التي تقرر الطلب، أمران مختلفان تماماً، إذ ((بينما تنمو الطاقة الإنتاجية بمتوالية هندسية، تتسع الأسواق، في أحسن الحالات، بمتوالية حسابية))[30].
أما كيف يتحرك الإنتاج الإسلامي لتوفير المواد لكل فرد، دون أي اعتبار للطلب، ودون أي اعتبار للمقدرة الشرائية، وكيف يمكن إنتاج حاجة ما، لا طلب عليها، وكيف يمكن إنتاج حاجة لا ندري إن كان لدى طالبها قدرة على شرائها أم لا، فتلك مسائل تظل في طي الغيب، لغزاً معمى. وما أكثر الألغاز!
ثالثاً: النتائج
لقد عرضنا منابع الشر (أولا) العلاجات (ثانياً) فماذا كانت الحصيلة؟ لقد قضي على الملكية الخاصة بإشادة أنواع جديدة منها، وقضي على الكسب بدون عمل بإطلاق اسم جديد عليه، وقضي على تنمية المال بالمال، بإلباس المال ثوباً جديداً يسمح له بالنفاذ إلى كنوز الربح، وانتهى الاحتكار، دون المساس بصانع الاحتكار وأدوات جنية الربح المقدس. فهل تقود هذه الأفكار والحلول إلى المساواة ووأد الاستغلال، وبسط العدالة، التي أعلنت شعاراً لا تنازل عنه؟ لقد رأينا أن العلاقات الرأسمالية الاستغلالية تظل مائلة وتظل علاقات المحاصصة شبه الإقطاعية قائمة وبدلاً من اجتثاث الاستغلال، أجتث أسماؤه القديمة، وأزيحت القيود المعوقة له، وأعطي ضمانات إسلامية.
إن المساواة التي كانت، في البدء، نقطة انطلاق فقه السيد الصدر، ما تزال بعد كل هذه التدابير في موضعها، ولم تقترب قيد أنملة من العدل الموعود. ولهذا يعترف الفقه الاقتصادي الإسلامي بأنه لابد من التوزيع، وإعادة التوزيع. وما تمسكه بجباية الزكاة، إلا أحد الاعترافات القاطعة بوجود التفاوت الفاحش في الثروة، واستمرار التفاوت بالتجدد. إن هذه التفاوتات غير غائبة عن بال الفقه الاقتصادي وهو يقظ إزاءها. وهو يعرف أن التوزيع يختل. ليختل! فبوجه الاختلال نراه يعلن: ((يشجب الإسلام علاقات التوزيع القائمة على أساس الاستغلال والظلم، مهما كان مستوى الإنتاج وشكله))[31] ولكن كيف يزال التوزيع الظالم وكيف يؤسس التوزيع العادل؟
إن التباين في توزيع الثروة، عند الفقه الاقتصادي الإسلامي، حقيقة قائمة وباقية، يعترف بها، وجوداً وبقاء، كما أسلفنا، ولا يرى فيها سوى تناقض بين مبادئ العدل المطلقة السامية وبين الواقع المر، الذي يقول بوجود توزيع جائر، رغم التدابير والاحترازات. وليس من حل أمامه غير إعادة التوزيع، بين فترة وأخرى. لقد رأينا أن ((سوء التوزيع)) فكرة عزيزة على قلب الفقه الاقتصادي الإسلامي، وهي توأم ضروري لفكرته عن العدالة المطلقة. إنهما متلازمان، متكافلان، لا وجود لأحدهما دون الآخر. ويشرح الفقه هذا التلازم من الباب الخلفي. فهو يقرع ماركس لأنه يضع لها الفقه هدفاً يتعذر بلوغه[32] الهدف هو الصفات المطلقة، ومنها بالذات، العدالة المطلقة. وهكذا تظل البشرية تركض وتركض دون أن تصل غايتها، لأن الإنسان محدود والصفات مطلقة. ها نحن قد بلغنا مفتاح الأحجية: إن اختلال التوزيع ظلم في الواقع. إنه يتناقض مع العدالة المطلقة كفكرة. ولحل التناقض لا طريق سوى إعادة التوزيع. يأخذ الفقه بعضاً من الثروة المكدسة هنا، ليضعها في كفة العوز، هناك. إنه وسيط للإحسان. بعد فترة يعود الميزان إلى الاختلال، لأن الثروة تتولد وتتراكم دون انقطاع بصورة غير متوازنة. ليختل الميزان! فالعدالة المطلقة كفكرة، باقية يقظة في ذهن الفقه. وما أن يقع اختلال ويتراكم وينمو، حتى تهب لتعيد التوزيع من جديد. ويستقر التوازن. لكنه توازن قلق. إن بقاء العدالة المطلقة كفكرة، بحاجة إلى تجدد اختلال التوزيع دون انقطاع. لأنه إذا انتفى الاختلال, واستقر التوزيع عادلا مرة وإلى الأبد، فلن يعود للعدالة المطلقة من وجود أو مبرر للوجود كفكرة. ولكن لا، فالعدل المطلق لا يمكن أن يظل عاطلاً عن العمل، ولابد من تجدد الاختلال، كواقع، على نحو مطلق. إن العدالة كواقع، ستكون مؤقتة، عارضة، عابرة، تختل وتنتهك باستمرار، لصالح بقاء العدالة المطلقة كفكرة!
لقد بلغنا خاتمة الفصل الاقتصادي، وبوسعنا قول شيء ما، عام، عن جميع هذه الاجتهادات الاقتصادية الواردة في هذا الفصل.
إن الأفكار الاقتصادية الإسلامية المذكورة آنفا، وحلولها الوسط تعبر عن اعتراف متباين بالتفاوتات الطبقية، وتذرف دموع الرأفة الأخلاقية على ذلك وهذا يمكن أن يصدر حتى عن جمعيات البر والإحسان، وعن أصحاب ملايين رؤومين، يريعهم التفاوت الطبقي. ويمكن أن يصدر عن مصلحين اجتماعيين، بصرف النظر عن الدين هذا من جهة. من جهة أخرى، يقدم الفقه الإسلامي المبحوث حلولاً رأسمالية صرفة، أو حلولاً طوباوية برجوازية صغيرة، لا تقود إلى إزالة الاستغلال الرأسمالي، بل إلى تكريسه. ولهذه المواقف أساس طبقي، ومصالح اقتصادية لطبقة وفئة اجتماعية معينة. إن أغلب عناصر هذا الفكر الاقتصادي يشكل دفاعاً صريحاً، بل صارخاً، عن الرأسمالية. وبعضها الآخر وهو الأساس يشكل، دفاعا عن العلاقات الإقطاعية والعبودية أيضاً. وهناك عناصر ثالثة، ضئيلة، تنطوي، فكرياً، على نزعات عداء للرأسمالية. ولكنه عداء من مواقع أخلاقية، عداء يسعى للتخفيف من مساوئها، بالزجر الأخلاقي تارة، وبالابتهالات تارة ثانية، وبالحلول الطوباوية، تارة ثالثة. إن معاينة وجهات النظر الاقتصادي المذكورة، تبيح لنا القول أنه لا يوجد فكر اقتصادي محدد ومنظومة نظرية تمكن تسميتها ((اقتصادا إسلاميا)). فهذه التسمية رداء فضفاض ينطوي على أفكار شتى، تتصادم وتتوافق، إلى حد أن تعبير ((الاقتصاد الإسلامي)) أو ((فقه الاقتصاد الإسلامي)) يمكن أن يعني أي شيء سيال أن التباين ناشئ عن الاجتهاد. لا أحد ينكر ذلك. لكن هذا يعني أن هناك ((اقتصاديات إسلامية)) بقدر ما هنالك من اجتهادات، في الماضي أو في الحاضر، أو في المستقبل. ولما كانت كلها إسلامية، فإن تعبير ((الاقتصاد الإسلامي)) من حيث محتواه قد ينطوي على الشيء ونقيضه، كلا أو جزءاً، ويمكن أن يمتلئ بما لا حصر له من المحتويات.
من أين يستمد هذا الفقه الاقتصادي مصادره الفكرية. إنه ينبع من العناصر الأربعة الرئيسية التالية: أولاً – إنه ينبع من المواقع الطبقية لواضعي هذا الفكر. وهذا تفسير تعدد الاجتهادات، وتعدد المواقف من العلاقات الرأسمالية، في نطاق تحديدها جزئياً أو إطلاق حريتها كلياً أو درء بعض مساوئها. إن الدفاع عن الملكية الصغيرة، الذي نرى آثارا له، وإن كانت هزيلة، يعبر عن مصالح الفئات البرجوازية الصغيرة في الريف والمدينة. وإن الكثير من المراتب الدينية، على المستوى الوسيط ينحدر من أوساط فلاحية. بل أن قسما كبيراً من صغار رجال الدين، يعيش على هبات الفلاحين العينية أو النقدية، لقاء ما يقدمه هؤلاء من خدمات في قضايا الزواج والطلاق، والإرث، والاستشارات الدينية، وإقامة الاحتفالات الدينية في مناسبات معينة كعشرة عاشوراء بيد أن هذه المراتب الدينية المتوسطة، لا تحتل مرتبة الفقهاء. بل هي تابعة لهذا المرجع الديني الكبير أو ذاك. أن ضغط النزاعات الاجتماعية في الريف أو المدينة، يترك أثره أيضاً على المراجع الكبيرة التي تحاول، أحياناً، التوفيق، بين مختلف المصالح المتعارضة، رغم أن خيارها الطبقي، ليس جمهرة الكادحين في الريف أو المدينة، بل برجوازية الريف، والبرجوازية التجارية. إن محاولات التوفيق، بين الملكية الصغيرة والملكية الرأسمالية الكبيرة، تجري في الميدان الأخلاقي. وهي محسومة لصالح الثانية لا الأولى. ولقد رأينا بعض المراتب الدينية في إيران، الأقرب للفلاحين، وهي تنزلق، تحت ضغط الصراعات الاجتماعية، لنقع تحت نفوذ البازار (البرجوازية التجارية) وتخون جمهرة الفلاحين الظامئين إلى الأرض، بإعادة الأراضي المصادرة إلى الأغوات. وهناك مراجع لا تأبه لضغط الصراعات الاجتماعية الدائرة، وتعلن انحيازها السافر، ليس فقط لبرجوازية المدينة والريف، بل أساساً لكبار الملاك الإقطاعيين، وللبرجوازية التجارية. وهذا هو التيار الأساسي. وإذا تركنا محاولات التوفيق جانباً، رغم أنها ذات طابع محدود زمنياً، وذات أثر ضئيل، فإن الآلية التي تحكم موقف المراتب الكبيرة تكمن في الخمس والزكاة والنذور، التي تتدفق عليها من كبار ورفاه عدد من المراجع الدينية. وهذه القنوات المفتوحة باستمرار، تؤلف قاعدة الدفاع الصريح المباشر، وحيد الجانب، عن حرية التجارة وعن ملكية الأرض (أو حرية الرأسمال بوجه عام).
إن هذا النمط من الفقه، وهو الغالب والسائد، يصدر عن رجال دين يرتبطون بهذه القوى الطبقية، المحددة، وينتقلون إلى مواقعها. ويجد المرء في قم وطهران والنجف وكربلاء، مراجع دينية معروفة – تحتل مواقع اقتصادية مرموقة. ويجد أن هؤلاء هم أنفسهم، ملاك عقاريون، ومالكو ثروة نقدية، ولبعضهم أسهم في مؤسسات إنتاجية أو تجارية مربحة.
إن بعض المواقف المترددة، الطوباوية، المناهضة للملكية الخاصة الرأسمالية، تكشف عن اقتراب حذر من مصالح الفئات الكادحة، ولكنها مشوبة بخوف من تجاوز يعض الثوابت المقدسة، بيد أن هذه المواقف نفسها ضعيفة، خافتة، تنزع إلى الخفوت أكثر فأكثر، بمقدار ما تزداد سطوة اليمين الدين في إيران، وهي سطوة تتعمق كل يوم.
أن مظاهر العداء للماركسية، كفكر اقتصادي، ترتكز في حجج الفقه، على انتقادات عامة مأخوذة عن الفكر الاقتصادي البرجوازي وترسانته النظرية حول حرية المبادرة وجهود الرأسمالي، وزهده… الخ.
كما أن مظاهر نقد الرأسمالية ترتكز في بعض حججها على الاقتصاد الماركسي، وجانب من ترسانته النظري من دون الإشارة للمصدر! كما ترتكز على بعض التشريعات الإسلامية كتحريم صناعة الخمور، وبيع لحم الخنزير، وحظر الربا.. الخ. والخلاصة، إن الفقه الاقتصادي، المذكور، سيغدو المعزوفة المفضلة للبرجوازية، ما أن تشم، بغريزتها الطبقية، أدنى رائحة خطر. ثانياً – إن بعض هذه الأفكار مستمد في شكله النظري (حتى وإن كان يتعارض ظاهريا مع المصالح الاجتماعية لواضعيه) من بعض المدارس الإصلاحية، والبرجوازية، والراديكالية وغيرها. إن هذه المدارس التي تشكل جزء من الأدب الاقتصادي، أو جزء من العلوم الاقتصادية المنتشرة، تشكل تحديا فكريا للفقه الإسلامي، الذي يسعى إلى نقدها من جهة، وإلى استعارة المفاهيم العلمية منها لإسباغ الطابع العلمي على أحكامه وحججه، من جهة أخرى. ورغم أنه يتبنى أحياناً، مفاهيم معروفة بإنتمائها لمدرسة معينة، فإنه (أي الفقه) يصر على إنها (إسلامية) في مجرى تشبثه بـ ((الحل الوسط)) الذي يدعى تمثيله. وبالطبع فإن هناك وراء ذلك مسعى للتكيف مع الواقع الجديد (نتناول هذا الجانب في الفصل الأخير) ثالثاً – إن قسماً من هذه الأفكار الاقتصادية ينبع من مصادر التشريع الأساسية الواردة في القرآن والسنة والحديث، حسب تعبير الفقهاء أنفسهم، رغم أنها صدرت قبل أكثر من 1400عام، والتي تقضي بتحريم الربا، ومنع الغش في التجارة، ولا تمس الملكية الخاصة، ولا العلاقات العبودية. إن هذه التشريعات ذات طابع تاريخي. فنمط الإنتاج الذي نبتت على أرضه اندثر وانتهى. وكانت من الوجهة التاريخي، ذات طابع ثوري في إطار عصرها. لقد كان توطيد الملكية الخاصة، وعدم إلغاء العلاقات العبودية، على يد التشريعات الإسلامية الأولى في الجزيرة، إجراء تقدمياً في عصره. فقد كان ذلك هو الشكل التاريخي الوحيد للتطور إلى مرحلة أرقى في مجتمع الجزيرة، وهو مجتمع طبقي ينتمي إلى تشكيله ما قبل رأسمالية. أما في عصرنا الراهن، فإن الملكية الخاصة بشكلها الرأسمالي، باتت قيدا على هذا التطور. والأسباب التاريخية التي استدعتها إلى الوجود، هي نفس الأسباب التي تقضي بإلغائها من الوجود. وعلى أية حال فإن نمط الإنتاج الرأسمالي لم يكن قائما في عصر ظهور الإسلام، وهو أمر ينتمي لعصرنا.
إن البقاء في أسر هذه الضوابط والتمسك بحرفتها، يقود إلى تبرير الاستغلال وإدامته، في يومنا هذا. رابعا – المصدر الأخير لهذا الفكر هو الاجتهادات الفقهية الصادرة، في عهود مختلفة، أيام الدولة الأموية والعباسية والفترات التي أعقبتها. إن هذه الاجتهادات وليدة عصر العلاقات العبودية – الإقطاعية، أو الإقطاعية الصرف. وتنطوي هذه الاجتهادات على شجب ثوري للثروة والاستغلال، كما تتضمن دعوة لإزالة الظلم. غير أنها تنتمي لعصر آخر. فالاستغلال يرتكز إلى علاقات اجتماعية من نوع آخر، ويتجلى في مظاهر جديدة تماماً وما يصح على التشريعات في صدر الإسلام من قول، يصح على الاجتهادات أنفة الذكر بالقدر نفسه.
ولدينا هذا النص الرائع جعفر الصادق ((المال أربعة آلاف. واثنا عشر ألف درهم كنز. ولم يجتمع عشرون ألفاً من حلال. وصاحب الثلاثين ألفاً هالك. وليس من شيعتنا من يملك مائة ألف درهم)) (تحف العقول).
إن عمل المنتج الفرد يثمر 4 آلاف ومن يكنز، بخلا وتقتيرا، يتدبر أمر الوصول إلى 12 ألف درهم. بعد ذلك تبدأ السرقة، أيا كان شكلها، إن تطبيق هذا النص على زماننا، يعني القضاء على الملكية الرأسمالية بكل صورها، إذا ما صودر كل ما يزيد عن 4 آلاف درهم، وصودر معها وسيلة تحقيق ما يفوق الكنز. بل أن تطبيقه قد يقضي حتى على جزء من الملكية الشخصية الناجمة عن الكسب بالعمل، لذلك ينبه الفقهاء، عند قراءة هذا النص إلى اختلاف القوة الشرائية للدرهم بين عصرنا وذاك العصر، فلماذا لا ينبه أحد إلى اختلاف القوة الشرائية للدرهم بين عصرنا وذاك العصر، فلماذا لا ينبه أحد إلى اختلاف الظروف التي جعلت القوة الشرائية تتبدل، فليست هذه القوة بالشيء الوحيد الذي مسته أصابع الزمن.
إن الفقه الاقتصادي، المبحوث هنا، يقف على طرفي نقيض مع البرامج الاقتصادية للحركة الديمقراطية، ولحركة الطبقة العاملة، سواء من ناحية كونها حلولاً نهائية تزيل الاستغلال، أو بوصفها إجراءات انتقالية مرحلية.
تركزت مناقشة الأعمال الاقتصادية للسيد الصدر على ملخصاته الاقتصادية الأخيرة التي وضعها في 10 ربيع الثاني 1399هـ في سلسلة كراريس بعنوان: ((الإسلام يقود الحياة: (2) صورة عن اقتصاد المجتمع الإسلامي، و(3) خطوط تفصيلية في اقتصاد المجتمع الإسلامي)).
وغني عن البيان أن هذين الكراسين أحدث عهدا من كتاب ((اقتصادنا)) الذي صدر قبل قرابة عقدين مون صدور هذين.
ويحتوي الكراسان، في الجوهر، على عرض مباشر للأفكار الواردة في ((اقتصادنا)) ولكن ليس بنفس السعة بالطبع.
فكتاب ((اقتصادنا)) مجلد ضخم يبلغ، في طبعته السادسة عشرة لعام 1982م، 783 صفحة. وقد تكرست أول 292 صفحة منه لنقد الماركسية والرأسمالية، من منطلق المساواة بين الاثنين في الجوهر، وإلغائهما معا عبر طريق ((ثالث)) يعترف بالملكية الخاصة في جانب، ويعترف بالملكية العامة في جانب. بعد ذلك يدرس الكتاب ما يسميه ((اقتصادنا في معالمه الرئيسية))، أي ماهية الاقتصاد الإسلامي وحلوله التي تقتصر على مشكلات التوزيع، وهذا التوزيع ينقسم بصورة أوضح مما في الكراسين المذكورين أعلاه، إلى توزيع ((المصدر الأصيل للإنتاج)) (ص436) وتوزيع ما بعد الإنتاج، أي المنتوجات (ص 530 – 554).
إن الكتاب ينطوي، في جانبه الأول (نقد الماركسية والرأسمالية) على تفصيلات مسهبة تتطلب نقداً تفصيلياً بالمثل، أما الجانب الثاني منه، فلا يختلف عما أوردناه، هنا، من خطوط عامة.
وبوسعنا القول إن الملاحظات النقدية المدرجة في الفصل الاقتصادي بخصوص اطروحات السيد الصدر تنطبق على الموضوعات الأساسية الواردة في كتاب ((اقتصادنا)). وإن نقد هذا الأخير مباشرة لن يغير شيئاً سوى حجم مادة النقد لا موضوعه، أي جانبه الكمي لا النوعي.
فالح عبد الجبار
[1] الأمثلة على ذلك كثيرة يصعب حصرها ,.مع هذا نورد بعض النماذج.
[2]التركيب العقائدي للدولة الإسلامية.
[3] صورة عن الاقتصاد الإسلامي – ص10
[4]نفسه ص 12.
[5] نفسه ص 14
[6] نفسه ص 17.
[7] نفسه ص 18.
[8] نفسه ص 19
[9] نفسه ص34.
[10] نفسه ص31 – 32.
[11] بالمناسبة، النقد عند السيد الصدر، كما عند الجميع تقريباً، هو أما ورق إعتباطي سجلت عليه الدولة قيمة تداولية إلزامية، أو هو المعدن الثمين الذي اختير للتداول لمجرد أنه معدن ثمين بطبيعته أنه لا يدرك منشأ النقد. ويستغرب، ببراءة كاملة، استخدامه لغير أغراض التداول. أنه لا يدرك أن النقد سلعة شأن سائر السلع الأخرى، وإن قيمة النقد (السلعة النقدية = الذهب) تتحدد بزمن العمل الاجتماعي الضروري لإنتاجها، وإن النقد الورقي رمز يعبر عن النقد الحقيقي، وإن النقد ليس فقط وسيطاً للتداول، بل له وظائف أخرى، أبرزها كونه التجسيد الشامل للقيمة… إلخ
[12] ((إن توزيع أشياء الاستهلاك، في كل عصر وطور، ليس سوى نتيجة لتوزيع شروط الإنتاج نفسها. ولكن توزيع هذه الأخيرة يعبر عن طابع أسلوب الإنتاج ذاته. فإن أسلوب الإنتاج الرأسمالي، لاً، يرتكز على كون شروط الإنتاج المادية بشكل ملكية رأسمال، وملكية الأرض، تقع في أيدي غير الشغيلة، بينما سواد الناس لا يملكون سوى الشرط الشخصي (الذاتي) للإنتاج – أي قوة العمل. وإذا كانت عناصر الإنتاج موزعة على هذا النحو، فإن التوزيع الحالي لأشياء الاستهلاك ينبع منه تلقائياً فإذا غدت شروط الإنتاج المادية الملكية العامة للعمال أنفسهم، تغير توزيع أشياء الاستهلاك، عما هو عليه الآن. إن الاشتراكية المبتذلة… قد اقتبست من الاقتصاديين البرجوازيين عادة اعتبار التوزيع وبحثه بوصفه أمراً مستقلاً عن أسلوب لإنتاج، وعادة تصوير الاشتراكية، بالتالي، كأنها تدور في الأساس حول قضايا التوزيع)). ماركس – نقد برنامج غوته – المختارات بالعربية، ج 2، ص 226. دار التقدم.
[13] هذه الوعود مبثوثة في كراريس مختلفة، ومكرر في مواضيع عدة. وتمكن إحالة القارئ إلى الصفحات 10 – 15 من كتاب صورة عن اقتصاد المجتمع الإسلامي.
[14] يتبنى السيد الصدر رأيين متناقضين بهذا الصدد. قبل إيضاح تباينهما نود الإشارة إلى أنه يعتبر بئر النفط أو منجم الذهب أو الأرض الزراعية.. الخ، هي رقبة المال، أما المال نفسه فهو النفط المستخرج، أو الذهب المستخلص من المنجم، أو الغلة الزراعية. ويقول في كتابه (صورة عن اقتصاد المجتمع الإسلامي – ص30) إن الإسلام ((يسمح بالملكية الخاصة لرقبة المال – أي لمصدر الثروة نفسه – بل إن رقبة المال تظل ملكاً للدولة)). حيث يمكن فقط الانتفاع بالنفط أو الذهب المستخرج عبر الأحياء، وتصبح هذه الثروات ملكاً للمحيي)) (خطوط تفصيلية في اقتصاد المجتمع الإسلامي الثاني الذهب فقط ملك لمن يحيي المنجم، بينما المنجم نفسه يظل ملكاً للدولة. وهذا الشكل الأخير هو نصف ملكية خاصة، أو استئجار من الدولة. أو ملكية خاصة مؤقتة تعيش في أحضان ملكية الدولة وظلالها المورقة.
[15] خطوط تفصيلية.. ص40
[16] ((إن الصيغة: نقد – سلعة – نقد (أي الشراء لأجل البيع) تنطبق ظاهرياً على التجار الرأسماليين وحدهم، لكن رأسمال أرباب الصناعة، هو الآخر نقد يبادل لقاء سلعة، وهذه بدورها تبادل لقاء نقد أكثر. وفي مثل هذه الحالة يدخل، بلا ريب، عدد من العمليات بين لحظة الشراء والبيع (عملية الإنتاج).. إلا أنها لا تغير من طبيعته شيئاً ونرى العملية نفسها.. في أكثر صيغها إيجازا في رأس المال الربوي. ووتضاءل صيغة العملية إلى ن – ن (مبادلة نقد بنقد أكثر))) (انجلز – موجز رأس المال – ص44 – 45 الطبعة العربية، الإضافة بين الأقواس مستلة من مواضع أخرى من الكتاب). كما أشرنا في هامش سابق أنه لا يمكن استبعاد سرقة الرأسماليين لبعضهم كوسيلة جزئية، لإثراء قسم من الطبقة الرأسمالية على حساب قسم آخر منها. ولكن هذه السرقات تعيد توزيع مقدار القيم بين مختلف أفراد الطبقة الرأسمالية، ولا تزيد مقدار القيمة التي بحوزة كل الطبقة الرأسمالية، ولا بد أن يكون هناك إنتاج مستمر لقيم جديدة كي يكون بوسع الطبقة الرأسمالية أن تزيد ثروتها عبر الاستيلاء على هذه القيم الجديدة.
[17] يقسم السيد الصدر الإنتاج إلى قسمين: إنتاج أولي، ويشمل الصناعات الاستخراجية والزراعية، وإنتاج ثانوي يشمل كل الصناعات التي تعالج مواد أولية مرت بمرشح العمل البشري. الإنتاج الأولي يأخذ منتوجاته من الطبيعة، التي هي ملك لله. والإنتاج الثانوي يتعامل مع مواد باتت نتاج عمل البشر وملكاً لهم! إنه يحظر العلاقة الرأسمالية في ميدان أملاك الله، ويبيحها في ميدان أملاك البشر!
[18] ص53 – خطوط تفصيلية في اقتصاد المجتمع الإسلامي. ويقول بصدد ذلك أن ((رأس المال الذي يعطي أجور العمل والأدوات المادية.. لا يمتلك حقاً في الأرض)) ولكنه يمتلك حقاً ((في منتو ج الأرض)) ! هل يبتغي الرأسمالي الأرض إكراماً لسواد عيونها وجمال منظرها، أم إكراماً للمـنتوج الذي تدره، للذهب الرنان الذي ينبجس منها؟ (ص36 – 37 – المرجع نفسه).
[19] صورة عن اقتصاد المجتمع الإسلامي ص 32.
[20] المرجع نفسه 33.
[21] نفسه ص46 – إن تنمية المال بالمال، في نظر الفقه، ناجمة عن انحراف النقد عن ((دوره الطبيعي كأداة للتبادل)) (ص46 نفسه) في حين أنها تتحقق بقيام هذا النقد بدوره الطبيعي هذا، علاوة على قيامه بأدواره الطبيعية الأخرى!
[22] رأس المال – المجلد الأول – الجزء الأول – الفصل الثالث ص 147 – الطبعة العربية – دار ابن خلدون.
[23] يعمد كبار المرابين والتجار الورعين في أرياف ومدن الجنوب العراقي بشكل خاص، عملاً بنصيحة أوليائهم الروحيين، إلى تقديم قروض بدون فائدة ولكنهم يسترجعون القرض نفسه مضافاً إليه ((هدية)) عينية سرعان ما تباع في الأسواق جالبة لصاحب القرض، الفائدة الربوية المنشودة، إن لم كن أكثر!
[24] صورة عن اقتصاد المجتمع الإسلامي ص39
[25] المرجع نفسه – ص42.
[26] خطوط تفصيلية – ص68 و69- في هذا الوضع يشرح السيد الصدر التبادل مستقياً أفكاره من ماركس دون إشارة للمصدر، وبالأخص قانون تبادل المتساويات، وكون التبادل لا يولد قيمة جديدة، وتبدل شكل السلعة، في التبادل، إلى الشكل النقدي، ثم تبدل الشكل النقدي إلى الشكل السلعي.. إلخ.
[27] صورة عن اقتصاد.. إلخ، ص 2 : وتنبغي الإشارة هنا إلى أنه حتى الرأسمال التجاري في العصور الإسلامية الوسيطة، بل لربما على امتداد الفترة السابقة لظهور الرأسمالية كنمط إنتاج، كان يجد سبيلاً (في حدود ضيقة) إلى نهب العمل الفائض الذي يؤديه عمال أجراء، وذلك بحدود استخدامه ليد عاملة لقاء أجر. وتصح هذه الفرضية بمقدار ما أن أحكام موريس لومبار صائبة. ففي كتابه المعنون ” الإسلام في مجده الأول” ترجمة وتعليق : إسماعيل العربي إصدار المؤسسة الوطنية للكتاب – الجزائر – ص 220- 226، الفترة المعنونة : “طبقة التجار والقصر”، يؤكد لومبار أن “التاجر صاحب الأعمال يعمد إلى إقامة صناعة وتشغيل العمال فيها، وتوفير المواد الأولية وتقديم القروض، كما يقوم بتوزيع المنتجات” (ص221)”. ويكرر الحديث عن وجود “عمال أحرار” إلى جانب “الصناع” ( الحرفيين) و”العبيد”.
[28] راجع كارل ماركس – رأس المال، المجلد الثالث، الجزء الرابع، الفصل 17″الربح التجاري” ص 281، والفصل 20 “حقائق تاريخية عن رأس المال التجاري” ص 323. الطبعة الإنجليزية السادسة. دار التقدم.
[29] خطوط تفصيلية عن اقتصاد المجتمع الإسلامي ص 46 و 47 و 48.
[30] مقدمة انجلز للطبعة الإنجليزية من رأس المال المجلد الأول، الجزء الأول ص23، الطبعة العربية، دار ابن خلدون.
[31] خطوط تفصيلية، ص14.
[32] السيد الصدر: خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء – مطبوعات جهاد سازندكَي، قم 1399 هـ – ص18و19 وأيضاً كتابة ((منابع القدرة الدولة الإسلامية)) فصل ((التركيب العقائدي للدولة الإسلامية، قم 1399هـ