فقه النظرية عند الشهيد الصدر

إطلالة على مدرسة الشهيد الصدر الفلسفية

بداية يستوجب الحديث عن فقه النظرية بيان المقصود من جزأي هذا المركب الذي اضيفت إحدى كلمتيه الى الأخري، ونحتاج الى هذا البيان كيما يتقدم البحث وهو يرتكز على تحديد واضح للمصطلح، يجليه في أذهان المتتبعين ويبدد الغبش والغموض الذي يكتنفه، بخاصة أنه مصطلح حديث ومبتكر في ميادين الدراسات الفقهية الإسلامية.

وفي الواقع فان هذا المصطلح هو عنوان للون من البحث الفقهي نعتقد أن أول من جلاّه بشكلٍ مستفيض من بين الإمامية على الأقل وركز عليه بحسب متابعتنا المرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر. غير أن العقود تمضي بعد هذا التأسيس الأولي لفقه النظريات على يد الصدر، وهي تحمل في أحشائها الكثير من الأسف لأن هذا اللون من البحث الفقهي، مع ماله من أهمية، لم يتابع العمل عليه، بل ظلَّ مغيباً عن دوائر الدرس والبحث العلمي في حوزاتنا العلمية.

وأجدنا اليوم أحوج من أي وقت مضى للرجوع اليه، وإيلائه الاهتمام اللائق به والعمل على بلورته، لما فيه من ثمرات جمة للأمة، وسعيها للوصول الى مركب حضاري مستمد من هويتها الإسلامية.

ان فقه النظريات بحسب ما سنبينه، يشرع الأبواب واسعة على المصادر الإسلامية من كتاب كريم وسـنة شـريفة للنهل من معينها نظريات مذهبية إسـلامية شـاملة، تخولنا مواجهة الكثير من التحديات والأزمات، وتتيح لنا الإجابة في ضوء الإسلام عن الكثير من اشكالات النهوض الحضاري للأمة الإسلامية في عصرنا الراهن.

ان هذا الفقه يتيح للدين أن يتقدم مرة أخرى الى دوره ووظيفته في القيمومة على الحياة والمجتمع، بعد ان عزلته طويلاً عن هذا الدور حكومات فاسدة توالت على حكم البلدان الإسلامية، والتخلف الذي استشرى على مختلف الأصعدة، واستقالة العقل الاجتهادي الإسلامي عن مواكبة متغيرات الأزمنة وتطورات العصور.

مدلول كلمة فقه:

لكلمة فقه مدلولان، احدهما لغوي والآخر اصطلاحي.

وهي بحسب مدلولها اللغوي تحمل معنيين:

الأول: مطلق الفهم: يقال فلان يفقه الخير والشر أي يفهمه.

والثاني: دقة الفهم ولطف الإدراك ومعرفة غرض المتكلم من كلامه، واستعمالها في القرآن الكريم يرشد الى هذا المعني، قال تعالي: «واحلل عقدة من لساني * يفقهوا قولي» طه 72ـ 82، وفقه القول يكون بدقة الفهم ولطف الإدراك لمقصود المتكلم منه، فهو يسترجع في طياته ان يكون المخاطب مقبلاً وعلى استعداد وتهيؤ لهذا الفهم.

قال تعالي: «فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا» النساء 87، أي لا يقتربون من فقه معنى الحديث لجمود فهمهم وخمود فطنتهم.

أما المعنى الإصطلاحي للكلمة فهو يسترجع بعداً اجتهادياً لها، ودعوة لسبر الدين ونصوصه على خط استخلاص معطيات دينية وحصيلة لهذا الاجتهاد تعطي للدين في كل زمن دوره في القيمومة على الحياة وتربطه بها، وتنير للإنسان فيها دروب الهداية الربانية لتسلك به الى مصاف الرقي والتكامل، وتخرجه من الظلمات الى النور.

ان المقصود من كلمة فقه فيما يتصل بعنواننا «فقه النظرية» هو هذا المعني، خلكن يبقى هنا ان نبرر استعمالنا لها في هذا المعني، ولنا فيما يلي مناقشة تفضي الى ذلك، فكلمة فقه بمدلولها الاصطلاحي المتداول اليوم تنكمش عن مدلولها العام الذي أشرنا اليه وعن مدلولها كما يقترب القرآن الكريم من ـ الإفصاح عنه في قوله تعالي: «وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون». التوبة 221.

فمن الواضح ان الآية الكريمة تحض على التفقه في الدين، الدين في كل أبعاده ومستوياته وتجلياته لا فقط على معرفة خصوص الأحكام الشرعية العملية كما هو الفقه المصطلح عليه عند المتشرعة.

والدليل على ذلك قوله تعالي: «لينذروا قومهم» فان الإنذار لا يتم بمجرد قيام الفقيه باستنباط الأحكام العملية وحشوها في الرسائل العملية على سبيل المثال، بل الإنذار والوصول الى الغرض منه «لعلهم يحذرون» مسألة أعقد من ذلك، وأمر «إنما يتم بالتفقه في جميع الدين»[1]، واكتساب معرفة مؤثرة ومتواصلة في مختلف نظرياته ومفاهيمه وأفكاره وأحكامه “

وبوسعنا بعد هذا التقريب ان نسمي كل ثمرة للاجتهاد في النصوص الدينية، تكتسب وفق ضوابط ومنهجية مشروعة بالفقه، سواء أكانت هذه الثمرة أحكاماً عملية أم نظريات شاملة تواكب الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية للإنسان المسلم بالرؤى والحلول ذات الطابع (المذهبي) الإسلامي.

وهكذا ينطوي مدلول كلمة (فقه) على عدة عناوين ومسمّيات فتارةً نصرفه الى الأحكام الشرعية فنسميه بفقه الأحكام وأخرى نصرفه الى النظريات الإسلامية فنسميه بفقه النظريات.

وأما أن نحجم الفقه، ونحصره في آفاق ضيقة محدودة، ضمن البعد المتمثل بالأحكام الفقهية الشرعية واستنباطها من أدلتها فحسب، فهذا لا يحقق الهدف الكبير من التفقه في الدين الذي أشارت اليه الآية القرآنية الكريمة وهو إنذار الأمة بالمستوى الذي يحقق لها الانضباط في خطوط الإسلام العامة.

ان الطريق الى إنذار الأمة بنحو مؤثر، والوصول الى امتثال المنذرين هو التفقه في الدين واستنطاق نصوصه بالشكل الذي يوفر الإجابات والتصورات على مختلف المستويات والأصعدة.

ان المستجدات والتطورات التي طرأت على حياة الإنسان في الفترة الأخيرة، والتحديات الحضارية التي تواجهها الأمة الإسلامية، وحاجات الدولة الإسلامية من التشريع والنظريات، لم يعد يكفيها فقه لا يتعدى فيما يشتمل عليه من مسائل أحكام نشاط المكلفين الشخصي من عبادات ومعاملات وإيقاعات وفرائض. وصار من اللازم اليوم العمل على تجاوز هذه الحالة من الانكماش في الفقه والانطلاق نحو فقه أعمق وأرحب ينظر الى الدين من منظار آخر، وفي نطاق ما تحتاجه الدولة الإسلامية والمجتمع بأسره.

السبب في انكماش الفقه:

يعزو الشهيد الصدر في كتاباته انكماش فقه المدرسة الإمامية في نطاق نشاط المكلفين الشخصي وانعزاله عن تقديم النظريات في قضايا المجتمع والدولة، الى عدم وجود مطلب ملح في العصور الخالية التي تختلف فيها أوجه الحياة عن أوجه الحياة المعاصرة، يفرض على الفقيه معالجة تتعدى ما يطلب نشاط المكلفين الشخصي من عبادة أو معاملة.

كما ان سياسة التنحية السياسية والطائفية للمدرسة الإمامية عن التدخل في شؤون السلطة والمجتمع، كان من آثارها بمرور الزمن ان تخلت أجيال الفقهاء عن الاهتمام بموضوعات وقضايا المجتمع والدولة الإسلاميين لصالح التركيز على الأمور التي تهم الفرد المسلم في نطاق أنشطته الشخصية.

والذي عمّق من هذه المشكلة أكثر، أن عملية العزل والتنحية السياسية هذه لم تستمر على اختصاصها بالمدرسة الإمامية فحسب بل «شملت بعد أن سقط الحكم الإسلامي على أثر غزو الكافر المستعمر البلاد الإسلامية، الإسلام ككل والفقه الإسلامي بشتى مذاهبه، وأقيمت بدلاً عن الإسلام قواعد فكرية أخرى لإنشاء الحياة الاجتماعية على أساسها واستبدل الفقه الإسلامي بالفقه المرتبط حضارياً بتلك القواعد الفقهية»[2].

وكان من الطبيعي بعد كل ذلك، ان تتأثر الذهنية الفقهية من هذه الوضعية التي راجت طويلا، فينعكس ذلك على الفقه ويصاب المصطلح بالصميم ويؤدي الى انكماش معناه في مدلوله الذي يقتصر على فقه الأحكام.

يقول السيد الصدر بهذا الشأن: «إن أخذ المجال الفردي للتطبيق بعين الاعتبار فقط، نجم عنه انكماش الفقه، من الناحية الموضوعية، فقد أخذ الاجتهاد يركز باستمرار على الجوانب الفقهية الأكثر اتصالاً بالمجال التطبيقي الفردي، وأهملت المواضيع التي تمهد للمجال التطبيقي الاجتماعي نتيجة لانكماش هدفه واتجاه ذهن الفقيه حين الاستنباط غالباً الى الفرد المسلم وحاجته الى التوجيه بدلاً عن الجماعة المسلمة وحاجتها الى تنظيم حياتها الاجتماعية[3].

وبرأي الشهيد الصدر فإن تركيز الفقهاء على المجال الفردي للتطبيق ترك آثاراً خطيرة على نظرة الفقهاء الى الشريعة ككل، «وهذا الاتجاه الذهني لدى الفقيه لم يؤد فقط الى انكماش الفقه من الناحية الموضوعية، بل أدى الى تسرب الفردية الى نظرة الفقيه نحو الشريعة نفسها، فان الفقيه بسبب ترسيخ الجانب الفردي من تطبيق النظرية الإسلامية للحياة في ذهنه، واعتياده على أن ينظر الى الفرد ومشاكله، عكس موقفه هذا على نظرته الى الشريعة فاتخذت طابعاً فردياً وأصبح ينظر الى الشريعة ذاتها كأنها تعمل في حدود الهدف المنكمش الذي عمل له الفقيه فحسب، وهو الجانب الفردي من تطبيق النظرية الإسلامية للحياة»[4].

ويعود الشهيد الصدر ليؤكد، قبيل استشهاده، في محاضراته حول التفسير الموضوعي على ضرورة إخراج الفقه من حالة الانكماش من الناحية الموضوعية ولابدية توغل الاتجاه الموضوعي في الفقه، ليصل الى النظريات الأساسية للإسلام وأن لايكتفي بالبناءات العلوية والتشريعات التفصيلية، بل ينفذ من خلال هذه البناءات العلوية الى النظريات الأساسية والتطورات الرئيسية التي تمثل وجهة نظر الإسلام «لأننا نعلم أن كل مجموعة من التشريعات في كل باب من أبواب الحياة ترتبط بمثل تلك النظريات والتطورات، فتشريعات الإسلام في المجال الاقتصادي ترتبط بنظرية الإسلام بالمذهب الاقتصادي في الإسلام، وأحكام الإسلام في مجال النكاح والطلاق والزواج وعلاقات المرأة مع الرجل ترتبط بنظرياته الأساسية عن المرأة والرجل ودور كل منهما. هذه النظريات الأساسية تشكل القواعد النظرية لهذه الأبنية العلوية، لابد أيضاً من التوغل اليها ومحاولة اكتشافها بقدر الإمكان»[5].

ويبدو ان التنبيه الى أهمية فقه النظريات أخذ حيزاً مهماً في تفكير الشهيد الصدر، فقد اعتبر أن هذا اللون من البحث الفقهي ليس جزءاً من الفقه فحسب، بل هو أيضاً ضرورة من ضرورات الفقه في عصرنا الراهن، فتجاوز التشريعات التفصيلية والنفوذ من البناءات العلوية الى النظريات الأساسية التي تمثل وجهة نظر الإسلام من المهام التي لا تنفصل عن عمل الفقيه «ولا ينبغي أن ينظر الى ذلك بوصفه عملاً منفصلاً عن الفقه، بوصفه ترفاً، بوصفه نوع تفنن، بوصفه نوع أدب، ليس كذلك بل هذا ضرورة من ضرورات الفقه، لابد من النفاذ، لابد من التوغل عمودياً أيضاً الى تلك النظريات، ومحاولة اكتشافها بقدر الطاقة البشرية»[6].

النظرية:

إن النظرية بمعناها العام تعني الاطار العام للتفسير، وهي ضرورة أساسية لكل تصور متعدد المفردات، فمتى ما توفرنا على تصور ذي مفردات متعددة لزم ان نتوفر على إطار شامل يصون لنا هذه المفردات من التناثر والتناشز، ويحفظ لها انسجامها ضمنه.

إن المراد من النظرية بما يناسب دراستنا هنا، هو الصيغة الفكرية المركبة من مجموعة من المبادئ والأسس والرؤى والمفاهيم والأحكام والنصوص الإسلامية التي ترتبط بعضها ببعض في إطار التعبير عن المذهب الإسلامي في مجال ما من مجالات الإنسان والكون والمجتمع.

إنها صيغة ونسيج منسجم وموحد، قصد من جمع خيوطه في اطراد واحد، والتوليف بينها ان نصل الى الموقف الإسلامي العام في مجال من مجالات الحياة، وبخاصة المجالات الاجتماعية.

إن فائدة النظرية الإسلامية بعد استلهامها وصياغتها تتمثل بما تقدمه من نسق نظري ومواقف ومرتكزات واطار عام للتحرك في المجال الذي تتطرق له وذلك ضمن الخطوط والضوابط والمقاييس العامة للشريعة المقدسة.

ولاشك في أن كل نظرية من هذا القبيل لا نستطيع أن نستلهمها إلاّ بعد الفهم الدقيق لمجالها الذي سترشدنا الى الإطار المذهبي للتحرك فيه.

من هنا كان لابد من أن يرد فيها وصفاً وتحليلاً وايضاحاً ما يستوعب أبعاد الواقع الموضوعي والمجال التي هي بصدد الإفصاح عن المذهب الإسلامي فيه.

ولأنها ستعلن موقفاً بديلاً للمذاهب والنظريات الموجودة في الميدان، فلابد من أن تنطوي على المفارقة بينها وبين هذه المذاهب، وإعمال نقد موضوعيّ للمذاهب الأخري، حيث لا يمكن أن نبرز النظرية الإسلامية للذين ندعوهم الى تبنيها إلاّ إذا امتلكنا وعياً نقدياً بالنظريات الموجودة في الميدان وأثبتنا لدى التحليل مدى صمودها امام النقد.

إن بناء النظرية الإسلامية بالنتيجة يعتمد على عمل فقهي فكري تركيبي، واع ومتخصص، يتم في ضوئه اكتشاف المذهب، على أساس مقاييس ومعايير محددة.

ثم ان النظرية الإسلامية لا يمكن لها أن تنضج وتتبلور وتبين مثالبها ومحاسنها إلاّ بوضعها على المحك، وبالتطبيق العملي لها في واقع الحياة، وتحديداً في إطار دولة ونظام إسلاميين، ذلك أن التطبيق العملي للنظرية الإسلامية والاسترشاد بها في مجالها المعين يرتفع بها الى مستوى المساءلة والتجربة، ويفتح على العقل الاجتهادي كوى ونوافذ بصيرة جديدة تؤدي الى التعديل فيها وتطويرها.

مركب فقه النظرية:

وبالعودة الى مركب كلمتي فقه النظرية بعد هذا المطاف التمهيدي، فانه بمعناه الخام يصبح: فهم نصوص الشريعة فهماً يراد منه اكتشاف واستخلاص النظريات الإسلامية، أو انه الاجتهاد القائم على القرآن الكريم والسنة المطهرة والعقل، لاكتشاف النظريات الإسلامية في مختلف مجالات الحياة التي يراد للدين ان يتقدم الى دوره في القيمومة عليها، فأي ثمرة للاجتهاد والتفقه في الدين، وبيان نظرياته ومفاهيمه ورؤيته للأمور حتى فيما يتعلق بالأحكام الشرعية، إذا لم يكن الهدف منها اكتشاف نظريات تقوم على المصادر الدينية من قرآن وسنة وعقل؟!

واذا كان فقه الأحكام يضطلع بمهمة بيان مجموعة الأحكام الشرعية المستنبطة من الشرع، ويبحث فيه المستنبط عن العناصر المشتركة في عملية الاستنباط ويحددها في علم الأصول، لكي يستطيع استخدامها والاستفادة منها في عمليات الاستنباط المستقبلية للأحكام، فكذلك فقه النظريات، فإن هذا الفقه وإن كان يتخذ مجمل النظريات الإسلامية موضوعاً له، فيتولى التعريف بها والكشف عن طبيعتها ومصادرها في الشريعة، لكنه أيضاً يعني بالبحث عن آليات هذا العمل الفقهي وقواعده العامة ويحدد هذه الأمور في منهجية مبتكرة عنونها الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر بالمنهجية الموضوعية.

وكما أن من نتائج تكامل الفكر الأصولي، تطور وتكامل فقه الأحكام، كذلك فان من نتائج تكامل بنية المنهج الموضوعي المذكور وسد ثغراته وتنقيحه، وبلورة أدواته وضوابطه، تأمين المستلزمات والآليات المناسبة لتطور فقه النظرية.

ولاشك اننا نحتاج لبلورة المنهج الموضوعي أن نستعين بمحاولات التطبيق، فهذه المحاولات تفرز امام العقل الاجتهادي مجموعة المشكلات والاستفهامات التي تمنى بها هذه العملية التفقهية في الدين، فتستثيره وتدفعه نحو تقعيد القواعد واكتشاف السبل التي تمكنه من التغلب عليها والإجابة عنها.

وهكذا نحتاج اليوم وباتجاه بلورة وتكميل بنية المنهج الموضوعي الى المزيد من التطبيقات والممارسة لفقه النظريات في ضوء المنهج الذي أرسى دعائمه الشهيد الصدر.

في هذه الدراسة، نقف وقفة مفصلة مع بنية المنهج الموضوعي كما تظهر معالمه في ثنايا مؤلفات السيد الصدر.

إن ميزة الشهيد الصدر الذي نسبنا له المنهج الموضوعي لا تكمن في مجرد أنه بذل جهداً كبيراً في تحديد أدوات وضوابط هذا العمل الفقهي والكشف عن أصوله وقواعده العامة بل انه صاحب ومبتكر مصطلح «فقه النظريات». فقد ورد هذا المصطلح للمرة الأولى في الدراسات الإسلامية ضمن نص من الكتاب القيم للشهيد الصدر (اقتصادنا). حيث يقول الشهيد الصدر: «أما حين يريد هذا الفقيه ان يتخطى فقه الأحكام الى (فقه النظريات) ويمارس عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي في الإسلامپ“ فان طبيعة العملية تفرض عليه نوع الأحكام التي يجب ان ينطلق منها، وتحتم ان تكون نقطة الانطلاق مجموعة متسقة ومنسجمة من الأحكام، فان استطاع ان يجد هذه المجموعة فيما يضمه اجتهاده الشخصي من أحكام وينطلق منها في عملية الاكتشاف لفهم الأسس العامة للاقتصاد الإسلامي، دون أن يمنى بتناقض أو تنافر بين عناصر تلك المجموعة “ فهي فرصة ثمينة تتحد فيها شخصية الممارس بوصفه فقيهاً يستنبط الأحكام، مع شخصيته بوصفه مكتشفاً للنظريات.

وأما إذا لم يسعد بهذه الفرصة، ولم يسعفه اجتهاده بنقطة الانطلاق المناسبة “ فان هذا لن يؤثر على تصميمه في العملية، ولا على ايمانه: بان واقع التشريع الإسلامي يمكن أن يفسر تفسيراً نظرياً متسقاً شاملاً»[7].

ولقد استطاع الشهيد الصدر تعميم استخدام المنهج الموضوعي في الدراسات الاسلامية، واستطاع من خلال العمل في ضوئه اكتشاف نظريات الاسلام في الاقتصاد في كتاب (اقتصادنا) ونظرية الإسلام في المعاملات المصرفية في كتاب (البنك اللاربوي في الاسلام) ونظرية القرآن في سنن التاريخ، ونظرية القرآن في عناصر المجتمع، في كتاب (المدرسة القرآنية) والنظرية السياسية في الإسلام في سلسلة (الإسلام يقود الحياة).

وقد دعا الفقهاء والمجتهدين حتى على صعيد التفسير القرآني، الى ضرورة تبني المنهج الموضوعي والنظرة الكلية الى الشريعة لإنتاج المركب النظري.

ونجده في هذا النص يوضح مرامه من المنهج الموضوعي في التفسير الذي يفضي الى اكتشاف النظرية الإسلامية القرآنية، فإذا كان «التفسير التجزيئي يكتفي بإبراز المدلولات التفصيلية للآيات القرآنية الكريمة فان التفسير الموضوعي يتطلع الى ما هو أوسع من ذلك، حيث نجده يحاول ان يصل الى مركب نظري قرآني، يحتل في إطاره كل واحد من تلك المدلولات التفصيلية، موقعه المناسب، وهذا ما نسميه بلغة اليوم بالنظرية، يصل الى نظرية قرآنية عن النبوة، ونظرية قرآنية عن المذهب الاقتصادي، ونظرية قرآنية عن السنن التاريخية وهكذا “ وبذلك يكون التفسير الموضوعي متقدماً خطوة على التفسير التجزيئي»[8].

دور المنهج:

إن للمنهج دوراً فريداً في النهوض بالنظرية. فهو الذي يعبّد الدرب الذي يجب أن يتخذ في سبيل الحصول عليها والكشف عنها.

وكل باحثٍ لابد له من أن ينطلق بدايةً من منهج محدد يعمل في ضوئه ويكون متناسباً مع موضوع بحثه، ذلك أن المنهج يوفقه الى حد بعيد في توفير الجهد والوقت المبذول ويساهم في الحد من الخطأ في النتائج، واستخلاصها سليمة وصحيحة.

لو شئنا أن نقدم المزيد من التوضيح لسألنا: ما هي مهمة الباحث؟

ان مهمته هي البحث والتقصي والتدقيق وذلك بمعونة التأمل المتدبر والتفكير العميق للوصول أخيراً الى نتيجة في مجال أو في موضوع أو حول مسألة ما، وفق المعطيات والمصادر والإمكانات المتوفرة.

ويكون عمل الباحث في أحيان كثيرة هو السعي للجمع بين الخيوط المتناثرة ليقدّم نتيجة يحل بها مشكلة عالقة، أو يقدم تصوراً أو نظرية تعالج موضوعاً ما من مواضيع الحياة والكون والإنسان.

ولاشك في أنّ كل باحث يحتاج في الأشواط الأولى من بحثه الى خطوط عريضة في المنهج، لأنّ أي عملية بحث وتقصٍ وتفكير لا تقوم بدايةً على خطة واضحة، ولا يقف وراءها منهج موجّه مهما كان مستوى نضجه، فهي عمل عشوائي، سيسوده بالتأكيد الارتجال والتناقضات، ولن يقيض لصاحبه تقديم نتائج ونماذج ناصعة وسليمة. أمّا الباحث الذي يتقدم في بحثه على ضوء منهج واضح، فإنّه يختصر التجربة وينير الدرب للسالكين من بعده. كما أنه يتيح للمتلقين لبحثه تتبع مشواره البحثي، وبالتالي تبرير النتيجة التي وصل اليها وقدّمها لهم، وبيان موضوعيتها وصحتها، لتصير بذلك مقبولة لديهم.

واليوم بمقدور المرء أن يحدد المفكر المبدع من غيره، من خلال تتبّع المسارات البحثيّه لهؤلاء وتشخيص أيّها الذي اتّصف بالدقة والجدة والمنهجية، فالذي استطاع من المفكّرين تقديم نتائج ونماذج سليمة هي نتيجة لبحثه الفكري وطريقته التي اختطها في المنهج، استحقّ أن يدرج اسمه في عداد المبدعين.

المنهج إذاً هو البداية الفعلية لكل من قصد اللحاق، وعادة ما تؤدي عملية اللحاق ومواصلة العمل في المنهج، إلى بلورة المنهج وإيضاح أهليته للاستمرار.

ثمّ إنّ المضي في الممارسة والتطبيق تفضي عادة الى الكشف عن ثغرات المنهج، وبالتالي تساعد على ابداء الحلول التي تسرع في تكامله ونضجه.

ومن خلال مواصلة العمل في المنهج، يطرأ على بعض خطوطه العريضة التعديل والتغير بحسب الثغرات التي كشف عنها التطبيق وتنوع استعمالاته وجدته.

في الواقع لا منهج مجرداً عن تطبيقاته أو عن المواضيع التي حتّمت وضعه. إنّ المنهج بعد كلّ شيء يتشكل من أحشاء التطبيقات التي عالجها، ويكتسي باللحم من خلال الموضوعات والنماذج التي ولدها.

نقول ذلك لأن تحديد وتقعيد أي منهج يتوقف على معرفة أهدافه والغرض منه، أي على طبيعة الميادين والمواضيع التي سيعالجها. كما يتوقف على طبيعة المصادر والإمكانات المتوفرة، وأيضاً على درجة الدقة والموضوعية المطلوبة في النتيجة.

والمنهج بشكل عام يضم اليه الأدوات والضوابط العامة التي لابد للباحث من أن يضبط ممارسته في المعرفة على وقعها ووفقها ليصل الى نتائج سليمة في بحثه.

إن قصة المنهج تماثل إلى حدٍّ ما قصة مهندس يخطط ويعمل لتشييد بناء. فهو يتطلّع بدايةً الى الهدف من تشييد البناء، والشروط التي لابد من أن تتوفر فيه، والإمكانات المتاحة، ثم بعد ذلك يشرع برسم الخارطة ووضع التصاميم الأساسية التي سينساق العمل وفقها. وهو تبعاً لتكرار العملية، وتطور تجربته، واصطدامه بالعثرات والعراقيل أثناء العمل، وبحثه عن منافذ الحلول يعمد الى تحسين ادائه وتصاميمه المتبعة حتى يصل في كل مرة الى نتائج أفضل من سوابقها.

إنه لو مني عمله ببعض المشكلات التي لم تؤخذ في الحسبان حين وضع الخارطة والتصميم ابتداءً، فسيلتفت في تصاميمه القادمة الى هذه المشكلات وسيحاول ان يجعل التصميم الذي يضعه لاحقاً أكثر دقة واستيعاباً للمشكلات.

إن المنهج كما التصميم ينبع ايضاً من طبيعة الأهداف والأغراض المتوخاة منه، كما ينبع من الإمكانات والمصادر المتوفرة، وبحسب الدقة والموضوعية المطلوبة في النتيجة.

وبأية حال، ان الباحث لا يمكن له أن يقدم معطيً، أو نتيجة لبحثه دون منهج سليم للعمل، ولذلك كان لوضع المناهج وبلورتها أهمية كبيرة في عالم اليوم بل هو حاجة ضرورية للفكر والبحث وبالتالي للمعرفة والمجتمع والانسان ولا عجب أن نرى العلماء والمفكرين اليوم يؤكدون جداً على أهمية الدور الذي تلعبه المناهج في المقاربات الفكرية.

إن واحدة من مشكلات الفكر الإسلامي الكبيرة، هي مشكلة المنهج، فلا زالت الكثير من المقاربات الفكرية الحديثة للنصوص الإسلامية تتم بعيداً عن أي منهج محدد. وتأخذ المشكلة مع المنهج بعداً آخر حين تهمل بعض المناهج الجدية ولا تتخذ الخطوات العملية للاقتداء بروحية هذه المناهج وبلورتها وتكريسها في الدراسات الاسلامية.

ولابد بالنسبة للفكر الإسلامي من أن تأخذ هذه القضية مكانة متقدمة في سلم الأولويات لديه، إذا ما أريد لهذا الفكر أن يقدم معطيات فكرية إسلامية معاصرة أصيلة تتوائم مع متطلبات ومتغيرات الزمن.

وباعتقادي ان الفكر الإسلامي لن يقيَّض له التجاوز عن السلبيات التي يعاني منها، والاتجاه نحو آفاق جديدة في معاينة مشكلات الحياة المعاصرة، والتعرف على مواقف ونظريات الشريعة، إلاّ إذا تحرّك خارج دائرة المناهج المتوارثة، وحدد مناهج جديدة تخوله استنطاق القرآن الكريم والسنة الشريفة على خط اكتشاف كلمة الإسلام ونظرياته إزاء تلك المشكلات.

لقد كانت مسألة التجديد في المنهج والبحث عن مناهج أكثر نجاعة، هاجس الكثير من مفكري ومثقفي الإسلام، وقد ارتفعت في الآونة الأخيرة أصوات كثيرة من هؤلاء تطالب بتدارك الوضع الموجود، على أساس قناعة عميقة منهم بأن المناهج المتوارثة، باتت لاتتلاءم مع احتياجات العصر الحاضر ومشاكله المستجدة التي تتطلب موقفاً واضحاً للدين منها.

وقد ظهر من المفكرين الإسلاميين عدة حاولوا أن يجيبوا عن الإشكاليات المعاصرة المطروحة، في مجال عريض من القضايا، ويقدموا رؤى ونظريات الإسلام عنها ضمن مناهج مبتكرة تتفاوت في الجدية والموضوعية، كما عمل قلة منهم على إبراز المناهج التي عملوا في ضوئها لاكتشاف واستخراج نظريات الإسلام ورؤاه تجاه هذه القضايا.

ومن أبرز هؤلاء القلّة الذين وعوا مقولة المنهج وانتبهوا لأهميتها، والى عدم كفاية المناهج المتوارثة وعدم قدرتها على معالجة المشكلات، والاستجابة للتحدي الموجود في أسلمة المجتمع المعاصر بكل مجالاته، الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر.

إن الشهيد الصدر كما هو معروف من كتاباته، لم يكتف بمجرد صياغة نظريات إسلامية، تطل على التحديات الحضارية التي تواجه المجتمع المسلم في عالمنا المعاصر، بل بذل جهداً محموداً في صياغة وابراز المنهج الذي عمل في ضوئه لإنجاز هذه النظريات والكشف عنها من النصوص الإسلامية.

وقد يسر بهذا العمل على الباحثين الذين اتبعوه، ورغبوا بعده بالاقتداء، مواصلة التطبيق للمنهجية التي أرسى دعائمها، وفتح أمام الفكر الإسلامي آفاقاً جديدة لم يعهدها من قبل.

لقد بث الشهيد الصدر المنهجية التي اختطها لاكتشاف النظريات الإسلامية وفقهها، ومجموعة الأسس والضوابط التي اعتمد عليها في استنطاق النصوص الدينية، والتأكد من سلامة المسير وصحة النتيجة، في مجمل كتبه ومؤلفاته.

المنهج الموضوعي: معنى تسمية المنهج موضوعياً:

ذكرنا أن المنهج ينبع من طبيعة الأهداف المتوخاة منه، ومن الدقة والموضوعية المطلوبة في النتيجة والإمكانات والمصادر المتوفرة، من هنا نقول: إنه لابد لمنهج استنطاق الكتاب والسنة الشريفة، في خط اكتشاف نظريات الإسلام في مواضيع الحياة والكون والمجتمع، من ان يتلاءم ايضاً مع طبيعة المصادر الدينية ومتطلبات عملية استنطاقها. وهذه المتطلبات هي بالدرجة الأولى الاتزان في مقاربة النصوص، والتحرر من الذاتية، والمحافظة على الموضوعية، والسعي قدر الإمكان لتقديم تصورات إسلامية تعبر عن وجهة النظر الإسلامية الحقيقية تجاه القضايا المطروحة، لا عن آراء وتأولات بشرية تلوي عنق النص لأجل تبريرها.

وإذا كان الهدف من اعتماد منهج فقه النظريات الاسلامية في مواضيع الحياة والكون والمجتمع، فلابد من أن يتضمّن هذا المنهج الضوابط التي تساعد بأكبر قدر من الدقة والموضوعية على اكتشاف وصياغة النظريات التي تعبر واقعاً عن وجهة نظر الإسلام.

لأجل كل ذلك رأينا المجدد الكبير السيد محمد باقر الصدر يصف منهجه في فقه النظريات، الذي اختطه لاستنطاق القرآن والسنة الشريفة، في خط اكتشاف واستخلاص وصياغة النظريات الإسلامية في مجالات الكون والحياة والمجتمع، يصفه بالمنهج الموضوعي.

وحين نرجع الى مؤلفات الشهيد الصدر ونظرياته التي انساق في انجازها وفق المنهج الذي وسمه بالموضوعي سنجد في ثناياها أن السيد الشهيد يصرف وصف الموضوعية استناداً الى ثلاثة معايير متفاوتة يجب أخذها بعين الاعتبار في ممارسة عملية اكتشاف النظرية الإسلامية:

المعيار الأول للموضوعية:

من الموضوع الى النص:

الموضوعية نسبة الى الموضوع الخارجي، فالمنهج موضوعي لأنه يحاول أن يبيّن طبيعة المحاولة التي تتيح للباحث القيام بدراسة للمواضيع الخارجية التي تزخر بها وقائع الحياة، دراسة ترمي الى تحديد موقف نظري للرسالة الإسلامية منها.

إن المنهج يرسم للباحث حركة بحثه بالتأكيد على الانطلاق من الموضوع الخارجي والانتهاء بعد ذلك الى القرآن والسنة الشريفة لاستنطاقهما من أجل استخراج نظرية اسلامية شاملة بالنسبة الى ذلك الموضوع.

إنّ الممارس في إطار هذا المنهج، وفي سبيل تحقيق القيمومة للإسلام في مجالات الحياة المختلفة، سيجد أنَّ الدين الإسلامي اطروحة لا تنفصل فيها الحياة عن العقيدة، ولا ينفصل فيه الوجه الاجتماعي عن المحتوى الروحي، يبدأ بعمله في اكتشاف النظريات الاسلامية التى تهيئ للإسلام التفاعل مع واقع الحياة والتقدم نحو دور القيمومة وتحقيق المجتمع العادل في الأرض، من أي واحد من موضوعات الحياة المختلفة التي لابد للدين من أن يقول كلمته فيها، كي لا ينأى عن دوره في ممارسة القيمومة والهداية وعملية التغيير، العملية التي يعبر عنها القرآن الكريم بأنها إخراج للناس من الظلمات الى النور.

على الممارس في المرحلة الأولى أن يسعى الى استيعاب ما أثارته تجارب الفكر الانساني حول ذلك الموضوع الخارجي من مشاكل، وما قدمه من حلول، وما طرحه التطبيق التاريخي من أسئلة ونقاط فراغ. كل ذلك ليشكل لديه نقطة انطلاق مبدئية يتجه بعدها الى درس الموضوع الذي تبناه وتقييمه تقييماً شاملاً من وجهة نظر الإسلام، ووفق معطيات القرآن الكريم والسنة الشريفة، من أحكام ومفاهيم وأفكار، للوصول أخيراً الى اكتشاف النظرية الإسلامية الشاملة فيه.

وإذْ يتحرك المنهج الموضوعي صوب التفسير القرآني، فان السيد الشهيد ينبه الى ان التفسير الموضوعي «هو الذي يطرح موضوعاً من موضوعات الحياة العقائدية أو الاجتماعية أو الكونية ويتجه الى درسه وتقييمه من زاوية قرآنية للخروج بنظرية قرآنية بصدده»[9]. إن المفسر الموضوعي «يأخذ النص القرآني، لا ليتخذ من نفسه بالنسبة الى النص دور المستمع والمسجل فحسب، بل ليطرح بين يدي النص موضوعاً جاهزاً مشرباً بعدد كبير من الأفكار والمواقف البشرية، ويبدأ مع النص القرآني حواراً على شكل سؤال وجواب “ المفسر على ضوء الحصيلة التي جمعها من خلال التجارب البشرية، المعرضة للصواب والخطأ يسأل والقرآن يجيب، يجلس سائلاً ومستفهماً، ومتدبراً، فيبدأ مع النص القرآني حواراً حول هذا الموضوع، وهو يستهدف من ذلك أن يكتشف موقف القرآن الكريم من الموضوع المطروح، والنظرية التي بإمكانه أن يستلهمها من النص، من خلال مقارنة هذا النص بما استوعبه الباحث من الموضوع من أفكار واتجاهات. ومن هنا كانت نتائج التفسير الموضوعي نتائج مرتبطة دائماً بتيار التجربة البشرية؛ لأنها المعالم والاتجاهات القرآنية، لتحديد النظرية القرآنية بشأن موضوع من مواضيع الحياة»[10].

اذاً الغاية من المنهج الموضوعي حين يتحرك الى القرآن الكريم هي تحديد موقف نظري للقرآن وبالتالي للرسالة الإسلامية ازاء واحد من موضوعات الحياة والكون والانسان، وهو بذلك يمنح القرآن الكريم قدرة على القيمومة وعلى العطاء الدائم والابداع في مواكبة الحياة، باعتبار ان التجربة البشرية تدخل في متن هذا التفسير، وتغنيه بما تقدمه من مواد تطرح بين يدي القرآن؛ لكي يستطيع المفسر أن يستنطق الأجوبة والبدائل من القرآن.

ويتحرك المنهج الموضوعي بالطريقة ذاتها الى الفقه، أي أن الممارس ينطلق من الموضوع الخارجي، من أي واحد من الموضوعات التي يزخر بها الواقع الاجتماعي، التي لابد من أن نقف على رؤية الإسلام في مجالها، ليمارس الدين دوره في القيمومة على الحياة، وليتاح للأمة أن تعلن كلمة الله في المعترك وتنادي بها وتدعو العالم اليها، بعد أن صار هذا العالم يذعن لإمامة الإفكار الوضعية المنحرفة، ووجد الانسان المسلم نفسه منساقاً وراء انماط ومذاهب للعيش في مجالات الحياة المختلفة، منافية لتعاليم ومقاصد الشريعة الاسلامية وقيمها وأحكامها ومثلها العليا.

ويؤكد الشهيد الصدر على أهمية أثر الانطلاق من الموضوع الخارجي المشرب بالتجارب البشرية في هذا المنهج بقوله «وهذا هو الطريق الوحيد للحصول على النظريات الأساسية للإسلام والقرآن تجاه موضوعات الحياة المختلفة»[11].

إن الممارس في اطار المنهج الموضوعي يبدأ اولاً من الموضوع الخارجي ويتحرك بعد ذلك الى الفقه، فإذا كان موضوعه الخارجي الموضوع الاقتصادي والمذهب الإسلامي الذي يفضل الإسلام ان يسترشد به في هذا المجال الحيوي من مجالات الحياة، فلابد له أولاً من أن يحاول الإحاطة الشمولية بطبيعة هذا المجال، وبجوانبه المختلفة وبالمشاكل التي أفرزتها التجربة البشرية، وبالحلول التي طرحها الفكر الإنساني لهذه المشكلة، ونقاط الفراغ. كي يحمل هذه الحصيلة ويتجه بها الى الفقه الإسلامي، ويتوغل في أعماقه ليكتشف نظريات الإسلام التي تعالج جوانب هذا الموضوع وتزيل الغموض الذي يلابس موقف الدين فيها، وبتعبير الشهيد الصدر «يحمل الحصيلة التي جمعها عن الموضوع، ويتجه الى الفقه الإسلامي، ويتوغل في أعماقه، للنفوذ من خلال البناءات العلوية والتشريعات الى النظريات الأساسية التي تمثل وجهة نظر الإسلام ازاء الموضوع الذي اختاره، لأننا نعلم أن كل مجموعة من التشريعات في كل باب من أبواب الحياة ترتبط بمثل تلك النظريات والتطورات، ففي مجال الحياة الاقتصادية ترتبط تلك الأحكام، بنظرية الإسلام بالمذهب الاقتصادي الإسلامي، وفي مجال النكاح والطلاق وعلاقات المرأة مع الرجل، ترتبط بنظرياته الأساسية عن المرأة والرجل ودور كل منهما. هذه النظريات الأساسية تشكل القواعد النظرية لهذه الأبنية العلوية، لابد من التوغل عمودياً أيضاً اليها، ومحاولة اكتشافها بقدر الامكان»[12].

المعيار الثاني للموضوعية:

من المدلول التفصيلي إلى المدلول المشترك:

هو دراسة الآيات والأحكام دراسة موضوعية، فالممارس في إطار هذا المنهج، بعد ان ينطلق من واحد من موضوعات الحياة المختلفة ويستوعب ما قدمه الفكر الإنساني حول ذلك الموضوع من حلول وما طرحه التطبيق التاريخي من أسئلة ومن نقاط فراغ لابد له في خطوة ثانية أن يعود الى نصوص الإسلام ليتوغل فيها ويستنطقها سلباً ام ايجاباً حول الرصيد الذي جمعه عن الموضوع الخارجي، بهدف اكتشاف موقف الإسلام من هذه الآراء والوصول الى نظرية بديلة مستمدة من الإسلام ومصادره ومأخوذة من طريقته في التشريع وتنظيم الحياة.

لكنه انما يصل الى البديل الإسلامي والى فقه هذه النظرية الإسلامية عن طريق تجاوز المداليل التفصيلية للأحكام والآيات والخروج عن حالة التناثر والتراكم فيما بينها، والعمل على دراسة كل مجموعة من الآيات القرآنية أو الأحكام التشريعية التي تشترك في الموضوع الواحد، دراسة شمولية تنسق وتوحد بين مداليلها وتبين في اطراد واحد أوجه الارتباط بين هذه المداليل التفصيلية، ليخلص الممارس بالتالي الى تحديد إطار نظرية واضحة ترسمها تلك المجموعة من الآيات أو التشريعات ككل بالنسبة الى ذلك الموضوع.

اذاً المنهج يكون موضوعياً في عدم التصحيح باعتبار ان الممارس ينطلق من الموضوع الخارجي، ويكون موضوعياً فيعدم التصحيح باعتبار ان الممارس يتحرك في خطوة تالية لاقتطاف مدلول الآيات أو الأحكام التي تشترك في الموضوع الواحد، ويعمد الى التنسيق بينها واستكشاف أوجه ارتباطها، والنفوذ من خلال ذلك الى النظريات العامة التي تفرزها، والتي تمثل وجهة نظر الاسلام ازاء الموضوع الخارجي المطروح.

يقول الشهيد الصدر عن هذه الممارسة التي توصل الى فقه النظريات الإسلامية: انها «تحتاج الى المزيد من الوعي للأحكام والمفاهيم الإسلامية التي قد تبدو متناثرة في الموضوع الواحد، في الوقت الذي تكون فيه منسجمة ومتكاملة فيما اذا توفرت النظرة العميقة الواعية الشمولية للأسس والمنطلقات والمقاصد والأهداف، ولهذا فإن الإجتهاد على صعيد فقه النظريات يحتاج الى المزيد من الجهود كما الى المزيد من الإبداع، لأن المسألة ليست استحضاراً للنصوص وتجميعها في مجال معين فحسب بل هي عملية اجتهاد معقدة تتجمع فيها شخصية الفقيه والمكتشف»[13].

ولمزيد من إلقاء الضوء على هذه الخطوة الثانية نشير الى تطبيقات الشهيد الصدر لهذه العملية، فهو في كتابه السنن التاريخية في القرآن، عمد الى اختيار مجموعة من الآيات التي تتحمل مسؤولية توضيح موضوع واحد، وأبرز مداليلها التفصيلية في سياق موحد، أي أنه بيّن أوجه الترابط بين هذه المدلولات التفصيلية وقدمها في سياق موحد يملأ كل الفراغات والإجابات التي تحتاج اليها للوصول الى النظرية القرآنية الشاملة ازاء موضوع سنن التاريخ.

وقد مارس الشهيد الصدر في مؤلفه هذا منهجه الموضوعي اذ انه انطلق من موضوع خارجي، موضوع مشرب بعدد كبير من الأفكار والمواقف البشرية، أدلت الكثير من المذاهب الوضعية بأفكارها وآرائها في مضماره.

وقد رأى الشهيد الصدر ان استخلاص وتحديد النظرية الاسلامية، أمر لا يمكن ان يفترض الاستغناء عنه «لأن البحث في سنن التاريخ، مرتبط ارتباطاً عضوياً شديداً بكتاب الله بوصفه كتاب هدي، بوصفه اخراجاً للناس من الظلمات الى النور؛ لأن الجانب العلمي البشري والتطبيقي في هذه العملية ـ إخراج الناس من الظلمات الى النور ـ يخضع لسنن التاريخ، فلابد اذاً من ان نستلهم، ولابد من أن يكون للقرآن الكريم تصورات وعطاءات في هذا المجال، لتكوين اطار عام للنظرة القرآنية الإسلامية عن سنن التاريخ»[14]

اذاً الساحة التاريخية وسننها أمر مرتبط أشد الارتباط بوظيفة القرآن ككتاب هداية، وككتاب يدعو الى عملية تغييرية، يعبر عنها في القرآن الكريم بأنها اخراج للناس من الظلمات الى النور.

ويؤكد الشهيد الصدر في هذا السياق ان القرآن الكريم في حدود ما نعلم هو أول كتاب عرفه الانسان أكد على مفهوم السنن التاريخية، وكشف عنه وأصر عليه، وقاوم بكل ما لديه من وسائل الاقناع والتفهيم النظرة العفوية والغيبية الاستسلامية في تفسير ظواهر التاريخ. فقد «أكد القرآن على أنَّ الساحة التاريخية لها سنن ولها ضوابط، كما يكون هناك سنن وضوابط لكل الساحات الكونية الأخري. القرآن الكريم قاوم النظرة العفوية الاستسلامية في تفسير الأحداث. الانسان الاعتيادي كان يفسر التاريخ بوصفه كومة متراكمة من الأحداث يفسره على أساس الصدفة تارةً وعلى أساس القضاء والقدر والاستسلام لأمر الله سبحانه وتعالى تارةً أخري. القرآن الكريم قاوم هذه النظرية العفوية الاستسلامية، ونبه العقل البشري الى أن هذه الساحة لها سنن ولها قوانين، ولكي تستطيع أن تكون انساناً فاعلاً ومؤثراً لابد لك من أن تكتشف هذه السنن وتتعرف على تلك القوانين لكي تستطيع ان تتحكم فيها وإلاّ تحكمت هي فيك وأنت مغمض العينين.

افتح عينيك على هذه القوانين لكي تكون أنت المتحكم فيها، وليس العكس»[15].

ويأسف السيد الصدر لتضييع المسلمين لهذا المفهوم الحيوي، الذي نبه اليه القرآن الكريم، حيث إنهم لم يتوغلوا الى أعماقه، بينما استلم دفة البحث فيه الغربيون، وبدأت لديهم أبحاث متنوعة ومختلفة حول فهم التاريخ وفهم سننه، ونشأت على هذا الأساس اتجاهات مثالية ومادية ومتوسطة، ومدارس متعددة، كل واحدة منها تحاول أن تحدد هذه السنن التاريخية، وتدلي بنظريتها في هذا المضمار[16].

اذاً الموضوع الخارجي الذي ينطلق منه الشهيد الصدر، الى النص القرآني يطرحه بين يديه هو السنن التاريخية، «ونحن إذ ندعي أن البحث في السنن التاريخية واعطاء نظرية عامة يرتبط بوظيفة القرآن بوصفه كتاب هدى وكتاب تغيير، فنحن مسؤولون بطبيعة الحال ان نقدم البديل الأفضل، ذلك ان الاسلام يطالبنا بتقديم هذا البديل للاتجاهات التي مارست عملية البحث في سنن التاريخ»[17].

أما اذا أردنا ان نبحث في السنن التاريخية على ضوء الإسلام ونكشف موقف القرآن الكريم في هذا الموضوع، ونقدم نظرية اسلامية بديلة للأفكار والاتجاهات الوضعية الموجودة، فلابد من ان ننطلق الى النص القرآني من جملة المسائل التي تتبلور بالاجابة عنها كل نظرية، سواء أكانت إسلامية ام وضعية.

هذه المسائل التي قدمت الاتجاهات الأخرى اجاباتها فيها، وبالتالي صاغ كل اتجاه من مجموع الإجابات والأفكار التي قدمها نظريته في سنن التاريخ، يأخذها في اطار النص القرآني الاسلامي للكشف عن جوانب النظرية الإسلامية في سنن التاريخ. وهكذا «ننطلق منها ونضعها بين يدي النص، نبدأ مع النص حواراً على شكل سؤال وجواب.

الممارس على ضوء الحصيلة التي جمعها من خلال التجارب البشرية المعرضة للصواب والخطأ يسأل، والقرآن يجيب، يجلس سائلاً ومستفهماً ومتدبراً، فيبدأ مع النص القرآني حواراً حول هذا الموضوع، وهو يستهدف من ذلك ان يكتشف موقف القرآن الكريم من الموضوع المطروح، والنظرية التي بامكانه ان يستلهمها من النص من خلال مقارنة هذا النص بما استوعبه الباحث عن الموضوع من أفكار واتجاهات»[18]. يقوم الممارس هنا، بعملية حوار مع النص القرآني أو بعملية استنطاق كما يعبر الشهيد الصدر.

اما كيف يقدم النص اجاباته ونظرياته في الموضوع، إن ذاك هو الذي يسميه الشهيد الصدر بالأسلوب الموضوعي في استنطاق النص. يجمع الممارس في إطار هذا الأسلوب الآيات القرآنية التي على علاقة مع الموضوع بشكل وآخر،او التي تعتني بالاجابة عن جانب من جوانب الموضوع، ثم ينتقل الى اكتشاف العلائق بين مداليلها التفصيلية والتوفر على فرز مدلولاتها المفاهيمية ثم صياغة هذه المداليل في بناء نظري موحد، يتسم بالشمول والتكامل والانسجام، بحيث يستطيع الممارس في النتيجة ومن خلال هذا السياق الموحد أن يعكس رؤية القرآن الكريم والرسالة الإسلامية والاسلام حول الموضوع المطروح.

وقيمة المنهج الموضوعي في هذه المرتبة منه، هي فيما يقدمه لعملية تركيب النظرية الإسلامية من مفاهيم وأسس واجابات قرآنية عامة ومبادئ قرآنية تشكل اللبنة لبناء الصرح الشامل للنظرية الإسلامية التي تشع من خلال الكل.

إن السؤال الذي تطرحه كل مدرسة على نفسها، وتجعل من الإجابة عنه منطلقاً الى تشييد نظريتها الشاملة ورؤيتها في سنن التاريخ هو التالي: هل للتاريخ البشري سنن وقوانين أم لا؟ وهذا السؤال ذاته ننطلق منه ونضعه بين يدي النص القرآني فيقال في السؤال: ما هو موقف القرآن الكريم من السنن التاريخية وما هو عطاؤه في تأكيد هذه السنن أو نفيها؟ أويقال بكلام آخر: هل للتاريخ البشري سنن وقوانين في مفهوم القرآن الكريم تتحكّم في مسيرته وفي حركته وتطوره؟

الإجابة تتم من خلال استنطاق آيات القرآن الكريم موضوعياً، يصل الشهيد الصدر الى بلورة مفهوم قرآني يجيب عن هذا التساؤل، يختار بداية من الآيات الكريمة، الآيات التي أعطيت فيها الفكرة الكلية عن سنن التاريخ فكرة ان التاريخ له سنن وضوابط، ينسق بينها وبين مداليلها ليخرج بهذه الفكرة الكلية، فيتبلور بذلك المفهوم القرآني الذي يؤكد على أن الساحة التاريخية لها سنن، ولها ضوابط، كما يكون هناك سنن وضوابط لكل الساحات الكونية الأخري، وهذا المفهوم يجعله الشهيد الصدر مدخلاً ينطلق منه الى إتمام صياغة النظرية الإسلامية في سنن التاريخ والكشف عن جوانبها المختلفة. ثم يتقدم به خطوة الى الأمام ويطرح على النص القرآني جملة جديدة من الأسئلة:

ما هي هذه السنن التي تتحكم بالتاريخ البشري؟ وما هي العوامل الأساسية في نظرية التاريخ؟ ما هو دور الإنسان في عملية التاريخ؟ ما هو موقع السماء أو النبوة على الساحة التاريخية؟

كل هذه الأسئلة يحملها من خارج النص القرآني ليطرحها بين يديه، يستنطقه وهو بصدد الكشف عن النظرية الإسلامية ـ في سنن التاريخ التي تشع من خلال مختلف الإجابات.

ومن الآليات التي تشترك في بيان أن للتاريخ سنناً وضوابط، على مستوى التطبيق على مصاديق ونماذج، ينتهي الى وضع إجاباته عن الأشكال التي تتخذها سنن التاريخ في مفهوم القرآن الكريم، ثم يكمل الشوط في عملية استنطاق الآيات القرآنية الى نهايته، في مقام توضيح تمام النظرية القرآنية حول السنن التاريخية «وهكذا نتوصل الى مركب نظري قرآني يحتل في إطاره كل واحد من تلك المدلولات التفصيلية موقعه المناسب، وهذا ما نسميه بلغة اليوم بالنظرية. يصل الى نظرية قرآنية عن التوحيد، نظرية قرآنية عن النبوة، نظرية قرآنية عن المذهب الاقتصادي، نظرية قرآنية عن سنن التاريخ وهكذا»[19].

إن بيت القصيد من هذه الإثارات السريعة، هو اننا نستطيع أن نعتمد الأسلوب ذاته الذي اعتمده الشهيد الصدر هنا ووسمه بالمنهج الموضوعي، لاستنطاق نصوص القرآن الكريم والسنة الشريفة في الكثير من القضايا والموضوعات التي يهمنا أن نحصل على موقف اسلامي فيها، ويكتسب هذا المنهج أهمية من أنه يسد فراغاً كبيراً تعاني منه الآليات المنهجية التي نمتلكها للاجتهاد في النصوص الإسلامية والتفقه فيها، وهو دون شك لو صففناه الى جانب الآليات التقليدية المتعارفة، لفتح أمام عملية الاجتهاد في النصوص الإسلامية آفاقاً كبيرة وأبواباً جديدة، نحن في أمسّ الحاجة اليها في عصرنا الراهن، عصر النظريات الكبري، والحياة التي تسير مختلف مجالاتها بالمفاهيم والنظريات الشاملة.

إن وظيفة الممارس للمنهج الموضوعي في إطار النص القرآني هي وظيفة حيوية، ذلك ان الممارس يحمل في كل مرحلة وفي كل عصر تراث البشرية، ويحمل أفكار العصر الذي يعيشه واستفهاماته ومشاكله، ويحمل المقولات التي تعلمها في تجربته البشرية، ثم يضعها بين يدي القرآن الكريم، الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ليحكم على هذه الحصيلة بما يمكن لهذا الممارس ان يفهمه، وأن يستشفه وأن يتبينه من خلال مجموعة من الآيات الشريفة. ومعنى ذلك أن الممارس عندما ينطلق من الواقع والحياة وينتهي الى القرآن الكريم، فانه ينتهي اليه «بوصفه القيم والشاهد الذي تحدد على ضوء مفاهيمه ونظراته الربانية أطر ما ينبغي أن تكون عليه اتجاهات الواقع الإنساني. ومن هنا تبقى للقرآن حينئذ قدرته على القيمومة دائماً، وقدرته على العطاء المستمر فحيث إن القرآن هو المنبع، فهو إذاً العطاء الثر والدائم والمتجدد، والمفجر للطاقات، لأنه كلمات الله، وكلماته لا تنفد» ان التفسير في إطار المنهج الموضوعي «قادر على التجدد والابداع باستمرار، باعتبار ان التجربة البشرية تغني هذا التفسير بما تقدمه من مواد تطرح بين يدي القرآن الكريم، لكي يستطيع هذا المفسر ان يستنطق أجوبته عنها. وهذا هو الطريق الوحيد للحصول على النظريات الأساسية للإسلام وللقرآن تجاه موضوعات الحياة المختلفة»[20].

اما في كتابه القيم «اقتصادنا» فقد كان رحمه الله بصدد البحث عن المذهب الاقتصادي في الإسلام، ومحاولة اكتشاف نظريات الإسلام التي تتصل بالمسألة الاقتصادية، وحشدها في نسيج واحد يعبر بأكمله عن المذهب الإسلامي في الاقتصاد.

وقد حمل هذا العمل حين وضعه مبرراته في ساحة الصراع الفكري والسياسي، فقد كان العالم الإسلامي في الستينيات من هذا القرن يشهد انبهاراً بالمذاهب الاقتصادية الوافدة، حتى راح يبحث عن طرق لتنظيم الحياة الاقتصادية وفقاً لتصورات ونظريات بعيدة عن تصورات ورؤى الإسلام عن العدالة الاجتماعية.

وعلى أساس من هذه الحالة من الانبهار بالآخر، ومن قناعة بان الإسلام قادر على إمدادنا بموقف ايجابي غني بمعالمه التشريعية وخطوطه العامة وأحكامه التفصيلية ومفاهيمه التي يمكن ان تصاغ منها نظرية كاملة في الاقتصاد، وعلى أساس اقتناعه بأن الإسلام يعلن في جميع نصوصه التشريعية وفي القرآن الكريم، وفي مختلف مفاهيمه ومقولاته التي يعلنها، وبشكل صريح عدم رضاه عن الرأسمالية والماركسية معاً، فقد انبرى السيد الشهيد لاكتشاف نظريات الإسلام في المجال الاقتصادي، وحشد في نهاية المطاف جميع هذه النظريات في صيغة واحدة تعبر عن المذهب الإسلامي في الاقتصاد.

فما دام الإسلام لا يقر بالاندماج في إطارات رأسمالية واشتراكية، فمعنى ذلك انه لابد من أن يوفر البديل او يرشد اليه. ويصبح من الطبيعي بعد ذلك على المفكر المسلم، وعلى المجتهد في نصوص الاسلام ان يستلهم من النصوص الاسلامية نظريات الإسلام والطرق التي يفضل الاسترشاد بها في تنظيم الحياة الاقتصادية، من تصورات الإسلام الذاتية للعدالة، وقيمه ومثله التي يؤمن بها ونظرته العامة الى الحياة، ليتشكل من خلال ذلك مذهب اسلامي في الاقتصاد.

وهكذا انطلق الشهيد الصدر الى النصوص الإسلامية ليستنطقها حول الاقتصاد من واقع موضوعي لمس في هذا الواقع تراجع الدين الاسلامي عن دور القيمومة في المجتمع، وهجوم لمذاهب وضعية ألقت بكلكلها على الساحات الحياتية والثقافية للمسلمين.

وفي هذه المذاهب الكثير مما يتعارض مع العقيدة والتشريع الإسلاميين. لذا يفتتح السيد الشهيد مراجعته النصوص الإسلامية، باستنطاقها سلباً أم ايجاباً في السلوكيات الاقتصادية التي انتجتها هذه المذاهب، ليصل من خلال ذلك الى تقديم البديل الإسلامي وإعلان كلمة الاسلام في هذا المعترك الحياتي المهم. وكانت الحصيلة النهائية كتابه الشهير (اقتصادنا)، وقد أوضح في بعض من كلماته انه وضع الكتاب للوقوف امام الهجوم الاشتراكي والرأسمالي، ولوضع النظرية الاقتصادية الاسلامية بين يدي المفكرين الاسلاميين وبين يدي نظام حكم اسلامي توقع له ان ينشأ في المستقبل، بغية ان لا يتأثر العالم الاسلامي والأمة بالأفكار الوافدة بل ينطلق المسلمون ويعودون لبناء حضارتهم من خلال قوة دفع وفاعلية ناتجة عن مركب حضاري، يرتبط في ذهن الامة بتاريخها وامجادها الذاتية ويعبر عن اصالتها من خلال الدين الإسلامي الذي هو عنوان شخصية الأمة التاريخية، ومفتاح امجادها السابقة.

انطلق الشهيد الصدر على ضوء المنهج الموضوعي، من واحد من المواضيع التي يزخر بها الواقع الحياتي والاجتماعي للناس؛ ليعود الى القرآن الكريم والسنة الشريفة ومعطياتهما من أحكام ومفاهيم، يستشيرهما ويستنطقهما موضوعياً، ليرجع ثانيةً إلى الواقع بنظرية إسلامية ازاء الموضوع الذي انطلق منه فكان كتابه القيم (اقتصادنا).

المعيار الثالث للموضوعية:

من الذاتية إلى الموضوعية:

يعتبر المنهج موضوعياً بلحاظ ثالث، لأن المنهج هذا، يمهد للباحث قدر الإمكان ممارسة فقه النظرية بالطريقة التي توفر له درجة ملائمة من الموضوعية في نتيجة عمله تعبّر عن أقرب التصورات لواقع التشريع الإسلامي.

والمسألة ان الباحث الذي يحاول الكشف عن نظريات الإسلام في مواضيع الحياة والكون والمجتمع، قد يواجه السؤال المنهجي الآتي:

من أين لي أن أتأكد ان النظرية التي كشفت عنها واستخلصتها من المصادر الإسلامية ومعطياتها من احكام ومفاهيم “ تعبر حقاً عن وجهة نظر الإسلام، وانها جاءت نتيجة لما قدمته هذه المصادر وليست نتيجة لتفكيري الذاتي، واسقاطاتي الشخصية على النصوص وتأويلاتي الخاصة لها؟

وبكلام آخر كيف أتجنب الوقوع في منزلقات الذاتية وأنا أمارس عملية الكشف عن النظريات الاسلامية؟ وكيف أصل الى استلهام النظرية التي تعبّر حقيقة عن وجهة نظر الاسلام، لأن المسألة هي مسألة الكشف عن رأي الإسلام ونظرياته العامة، لا عن وجهة نظري الخاصة، التي لربما أريد أن ألوي عنق النص حتى أفتش لها عن سند؟

ويعبر هذا السؤال عن أهم الإشكاليات والعقبات التي تقف في طريق الممارس وممارسته النزيهة لفقه النظريات الإسلامية، ان مواجهة هذه الإشكالية لا تتم إلاّ باصطناع منهج يوفر الضوابط التي تراعي طبيعة النصوص الإسلامية وتيسر للممارس مقاربة هذه المصادر وقد تحرر من مخاطر الذاتية ومنزلقاتها، كي يقوم أخيراً باستنطاق هذه النصوص بطريقة سليمة ومعافية.

ان موضوعية المنهج تعني حينئذ، أن يوفر المنهج الضوابط التي تؤدي الى نتيجة ونظرية تعبر عن أقرب التصورات لواقع التشريع الإسلامي، وليس للأفكار الذاتية المسبقة، التي قد يحملها الفرد، ويحاول أن يسلطها على الموضوع.

الفرق بين عملية التكوين وعملية الاكتشاف:

مما يجب أن نعلمه، ان العملية التي يمارسها المجتهد في فقه النظريات، تختلف بطبيعتها عن طبيعة العملية التي يمارسها الرواد المذهبيون الآخرون، فإن هؤلاء يتجهون مباشرة الى ممارسة عملية تكوين النظريات وابداعها، يشيدون بناء النظرية ابتداءً، ثم يجعلون من هذه النظرية أساساً لبحوث ثانوية، وأبنية علوية من القوانين التي ترتكز عليها، وعلى وجهتها المذهبية، وتعتبر طابقاً فوقياً بالنسبة لها.

ولابد أيضاً من أن ندرك باستيعاب، ان البعد المذهبي لنظرية معينة أو لمجموعة من النظريات في مجال ما يعتبر عاملاً مهماً في تحديد اتجاه القانون العام في هذا المجال، ويشكل قاعدة لبناء فوقي من القانون «المذهب والقانون طابقان من البناء النظري الكامل للمجتمع، وهذا البناء يقوم على أساس نظرة عامة، ويضم طوابق متعددة، يرتكز بعضها على بعض، ويعتبر كلّ طابق متقدم أساساً وقاعدةً للطابق العلوي المشار عليه. فالمذهب والقانون طابقان من هذا البناء، والقانون هو الطابق العلوي منهما الذي يتكيف وفقاً للمذهب، ويتحدد فى ضوء النظريات والمفاهيم الأساسية التي يعبر عنها ذلك المذهب»[21].

فالمجتمع الذي يريد أن يتحرك في اطار مذهب معين، ويريد لحركته ان تنطبق مع مبادئ ونظريات هذا المذهب، يتعين عليه الاستعانة بقوانين للعمل تنعكس فيها هذه المبادئ والنظريات.

ولتتجسد لنا أكثر الصلة بين المذهب والقانون، ومدى تأثر القانون نظرياً وواقعياً بالنظريات المذهبية، يقدم لنا الشهيد الصدر نماذج توضيحية من المذهب الرأسمالي الحر في الاقتصاد، وعلاقاته بالقوانين المدنية على صعيدها النظري والواقعي. «ففي مجال الحقوق الشخصية من القانون المدني، نستطيع أن نفهم أثر المذهب الرأسمالي فيه اذا عرفنا أن نظرية الالتزام وهي حجر الزاوية في القانون المدني، قد استمدت محتواها النظري، من طبيعة المذهب الرأسمالي، في الفترة التي طغت فيها الأفكار الرأسمالية على الحرية الاقتصادية، وسيطرت مبادئ الاقتصاد الحر على التفكير العام، فكان من نتيجة ذلك ظهور مبدأ سلطان الإرادة في نظرية الالتزام، الذي يحمل الطابع المذهبي للرأسمالية، إذ يؤكد ـ تبعاً لإيمان الرأسمالية بالحرية واتجاهها الفردي ـ على أن الإرادة الخاصة للفرد هي وحدها مصدر جميع الالتزامات والحقوق الشخصية، ويرفض القول بوجود أي حق لفرد على آخر، أو لجماعة على فرد، ما لم تكمن وراءه ارادة حرة يتقبل الفرد بموجبها ثبوت الحق عليه بملء حريته. ومن الواضح ان رفض أي حق على الشخص ما لم ينشئ ذلك الشخص الحق على نفسه بملء إرادته، ليس إلاّ نقلاً أميناً للمضمون الفكري للمذهب الرأسمالي ـ وهو الحرية الاقتصادية ـ من الحقل المذهبي الاقتصادي الى الحقل القانوني، ولذا نجد ان نظرية الالتزام، حين تقام على أساس مذهبي آخر في الاقتصاد، تتخلف عن ذلك، وقد يتضاءل دور الإرادة فيها حينئذ الى حد بعيد.

ونقل المضمون النظري للمذهب الرأسمالي الى التفصيلات التشريعية على الصعيد القانوني نجده ايضاً في مجال الحقوق العينية من القانون المدني: فحق الملكية وهو الحق العيني الرئيسي، ينظمه القانون وفقاً للموقف العام الذي يتخذه المذهب الاقتصادي من توزيع الثروة، فالرأسمالية المذهبية حين آمنت بحرية التملك، وكانت تنظر الى الملكية بوصفها حقاً مقدساً. فرضت على الطابق الفوقي في البناء الرأسمالي، ان يسمح للأفراد بملكية المعادن تطبيقاً لحرية التملك، وأن يقدم مصلحة الفرد في الانتاج بما يملك على أي اعتبار آخر فلا يمنع الفرد من ممارسة تملك أمواله بالطريقة التي تحلو له مهما كان أثر ذلك على الآخرين، ما دامت الملكية والحرية حقاً طبيعياً للفرد، وليست وظيفة اجتماعية يمارسها الفرد ضمن الجماعة. وحين أخذ دور الحرية الاقتصادية يتضاءل، ومفهوم الملكية الخاصة يتطور، بدأت القوانين المدنية تمنع عن تملك الفرد لبعض الثروات أو المرافق الطبيعية، ولا تسمح له بالإساءة في استعمال حقه في التصرف والانتفاع بماله»[22].

وبسبب هذه العلاقة بين القانون المدني والمذهب، وبسبب الروابط والأواصر التي تشد أحدهما الى الآخر، باعتبارهما مندمجين في مركب نظري واحد، وباعتبار المذهب بنظرياته وقواعده يعتبر القاعدة التي يرتكز عليها القانون، وعاملاً مهماً في تحديد اتجاه القانون العام، أصبح من الممكن جداً أن نتعرف على المذهب وملامحه الأصيلة عن طريق القانون المدني، فالشخص الذي لم يتح له الاطلاع المباشر على المذهب الاقتصادي لبلد ما، يمكنه ان يرجع الى قانونه المدني، لا بوصفه المذهب الاقتصادي، فان المذهب غير القانون، بل باعتباره البناء العلوي للمذهب، والطابق الفوقي الذي يعكس محتوى المذهب، وخصائصه العامة. ويمكنه عندئذ في ضوء دراسة القانون المدني للبلد، ان يعرف بسهولة كون البلد رأسمالياً أو اشتراكياً، بل وحتى الدرجة التي يؤمن بها بالرأسمالية أو الاشتراكية.

وعلى ضوء علاقة التبعية التي شرحناها بين القانون المدني والمذهب، وحين نكون بصدد اكتشاف مذهب لا نملك له أو لبعض جوانبه صورة واضحة ولا صيغة محددة من قبل واضعيه، يصبح من الممكن اكتشاف هذا المذهب عن طريق القانون، اذا كنا على علم بالقانون الذي يرتكز على ذلك المذهب المجهول.

وهكذا إذا أردنا ان نتعرف على محتوى مذهب مجهول يؤمن به بلد ما، او جماعة ما، وان نكتشف هذا المذهب، يصبح من الواجب على عملية الاكتشاف ان تفتش عن اشعاعات المذهب في المجال الخارجي، أي عن أبنيته العلوية، وآثاره التي ينعكس ضمنها في مختلف الحقول، لتصل عن طريق هذه الاشعاعات والآثار الى تقدير محدد لنوعية الأفكار والنظريات في هذا المذهب، الذي يختفي وراء تلك التمظهرات.

وبذلك يتعيّن على عملية الاكتشاف ان تسلك طريقاً معاكساً للطريق الذي سلكته عملية التكوين، فيبتدئ من البناء العلوي الى القاعدة، وتنطلق من جمع الآثار وتنسيقها الى الظفر بصورة محددة للمذهب، بدلاً عن الانطلاق من وضع المذهب مباشرة الى تفريع الآثار بعد ذلك»[23].

مهمة المفكر في اكتشاف النظرية الإسلامية:

وهذا الذي ذكرناه سالفاً هو تماماً ما يمارسه المجتهدون في فقه النظريات الاسلامية، فما هؤلاء بصدد وضع نظريات مصدرها رؤيتهم واستخلاصاتهم البشرية للأمور، بل هم بصدد الكشف عن وجهة نظر الإسلام ونظرياته، وهم بصدد اكتشاف مذهب لا يملكون له، أو لبعض جوانبه صورة واضحة، إذ لم تقدم الشريعة صيغة محددة له، ولا يملكون للوصول اليه إلاّ ابنيته العلوية، وآثاره التي ينعكس ضمنها في مختلف الحقول.

إن الممارس لفقه النظريات «مضطر للانطلاق من الطابق العلوي، والتدرج منه الى الطابق المتقدم لأنه يمارس عملية اكتشاف، وأما أولئك الذين يمارسون عملية التكوين، ويحاولون تشييد البناء لا اكتشافه، فهم يصعدون من الطابق الأول الى الثاني؛ لأنهم يمارسون عملية بناء وتكوين، والطابق الثاني لا يكون في عملية البناء إلاّ أخيراً»[24].

وهكذا تختلف مهمة المفكر الاسلامي وطريقته في اكتشاف النظرية عن مهمة المفكرين والرواد المذهبيين من أتباع المدارس الوضعية، من الرأسمالية والاشتراكية، بل تختلف مهمته ايضاً حتى عن أولئك الذين يدرسون المذاهب الرأسمالية والاشتراكية، دراسة اكتشاف وتحديد، لأن هؤلاء، بإمكانهم دراسة هذه المذاهب عن طريق الاتصال بها مباشرةً، وفقاً لصيغها العامة التي بشر بها رواد تلك المذاهب. وعلى العكس من ذلك حين نريد ان نتعرف على كثير من محتوى المذهب الذي يؤمن به الإسلام في مجال من مجالات الحياة، فما دمنا لا نستطيع ان نجد الصيغة المحددة لذلك في مصادر الاسلام، فسوف نضطر بطبيعة الحال الى تتبع الآثار واكتشاف المذهب بصورة غير مباشرة عن طريق معالمه المنعكسة في لبنات فوقية من الصرح الإسلامي[25].

إن تحديد النظرية الإسلامية في مجال معين، وان كان من الممكن استنباط بعض جوانبها مباشرةً من النصوص، ولكن هناك جوانب تتقوم بها النظرية ليس من الميسور الحصول عليها من النصوص مباشرة وانما يتعين الحصول عليها بطريق غير مباشر، أي على أساس اللبنات الفوقية في الصرح الاسلامي، وعلى هدى الأحكام الإسلامية التي هي في مستوى التشريع.

وهذا العمل هو الذي يجعل عملية الاكتشاف التي يمارسها المفكر الإسلامي تظهر أحياناً بشكل مقلوب، بل قد يبدو انها لا تميز بين المذهب والقانون المدني حين تستعرض أحكاماً إسلامية في مستوى القانون المدني، وهي تريد أن تدرس النظرية الإسلامية، ولكنها في الواقع على حق مادامت تستعرض تلك الأحكام بوصفها بناءً علوياً للنظرية قادراً على الكشف عنها، لاباعتبار انها هي النظرية نفسها.

وهكذا فاننا نجد الشهيد الصدر في ممارسته لفقه النظريات في كتابه القيم اقتصادنا، قد سار في اكتشاف مجموعة النظريات الإسلامية في مجال الحياة الاقتصادية التي تشكل بمجموعها المذهب الإسلامي تجاه هذا الحقل وفق مرحلتين أساسيتين اثنتين:

الأولي: حدد ونسّق فيها، من أحكام الإسلام في المعاملات والحقوق والضرائب والالتزامات، ما يعد بناءً علوياً للمذهب، وما يلقي ضوءاً عليه في عملية الاكتشاف، وأضاف الى صف هذه الأحكام في عملية الاكتشاف المفاهيم الإسلامية التي تشكل جزءاً مهماً من الثقافة الإسلامية.

الثانية: اجتاز فيها هذه الأحكام الى ما هو أعمق، أي الى القواعد الأساسية والنظريات العامة التي تشكّل المذهب الاقتصادي في الإسلام، وذلك بعد ان أنجز عملية تركيب بين كل مجموعة من الأحكام المتصلة بموضوع مشترك، ودرس كل واحد منها بوصفها جزءاً من كل، وجانباً من صيغة عامة مترابطة ليخلص من ذلك كله الى اكتشاف القواعد العامة التي تشع من خلال كل مجموعة أو من خلال كل مركب وتصلح لتفسيره وتبريره. ومن خلال ذلك وصل الى اكتشاف الجوانب المختلفة للنظرية ومن ثم جمع خيوط النظرية في نسيج واحد وأعطاها صيغتها الشاملة والنهائية.

وعلى صعيد اكتشاف النظرية القرآنية نبه الشهيد الصدر إلى ان المفسر في إطار المنهج الموضوعي، بعد ان يطرح بين يدي النص القرآني موضوعاً من موضوعات الإنسان والكون والمجتمع. يتجه الى الاقتطاف والتنسيق بين مجموعة الآيات القرآنية، التي تتحمل مسؤولية الكشف عن موقف القرآن الكريم من الموضوع المطروح، والتي تعد بناءً علوياً، نستطيع من خلاله ان نستلهم مختلف جوانب النظرية بما يوحد بين مدلولات هذه الآيات ضمن مركب نظري واحد ليخلص بالتالي الى تحديد اطار نظرية واضحة ترسمها تلك المجموعة القرآنية ككل بالنسبة الى ذلك الموضوع.

ان الباحث الإسلامي في اطار المنهج الموضوعي لا يكتفي بمجرد ابراز المدلولات التفصيلية للآيات القرآنية الكريمة “ العمل الذي يؤديه التفسير التجزيئي، بل يتطلع الى ما هو أوسع من ذلك حيث نجده يحاول ان يصل الى مركب نظري قرآني يحتل في إطاره كل واحد من تلك المدلولات التفصيلية موقعه المناسب، وهذا ما نسميه بلغة اليوم بالنظرية “ يصل الى نظرية قرآنية عن النبوة، ونظرية قرآنية عن المذهب الاقتصادي، ونظرية قرآنية عن سنن التاريخ. وهكذا[26].

دور الأحكام والمفاهيم في الكشف عن النظرية:

بناءً على ما تقدّم من أن عملية الاكتشاف تسلك طريقاً غير مباشر، فتبدأ من البناء العلوي وتنتهي الى القاعدة، وتنطلق من جمع الآثار وتنسيقها الى الظفر بالنظرية الإسلامية. بات من اللازم علينا في هذا البحث ان ندرج تصوراً عاماً عن هذه الآثار والعناصر التي تتقوم بها اللبنات الفوقية للنظريات الإسلامية، بوصفها أدوات للمنهج، تمنح الممارس الرصيد الذي ينطلق به للكشف عن النظريات الإسلامية.

وفي التتبع لما كتبه الشهيد الصدر في هذا الصدد نجد أن هذه الآثار تتركز في عنصرين أساسيين اثنين:

الأول: الأحكام والنصوص التشريعية.

الثاني: المفاهيم الإسلامية.

يعتمد الشهيد الصدر في تطبيقه للمنهج الموضوعي، وهو بصدد الكشف عن النظريات الإسلامية في المجال الاقتصادي في الجزء الأكبر من ممارسته على النصوص التشريعية والأحكام الإسلامية التي تنظم الحياة الاقتصادية وعلاقات الإنسان بأخيه الإنسان في مجالات انتاج الثروة وتوزيعها وتداولها.

يعتمد هذه الأحكام كرصيد أساسي وذخيرة أصلية تتيح له ان يستلهم النظرية الشاملة والمذهب الإسلامي في الاقتصاد من خلالها[27]. «ذلك ان بعض جوانب النظرية الإسلامية في الاقتصاد وإن كان بالإمكان استنباطها مباشرة من النصوص ومصادر التشريع، ولكن هناك من المبادئ والنظريات والأفكار الأساسية التي تزيل الغموض عن أكثر جوانب النظرية، ليس من الميسور الحصول عليها من النصوص مباشرةً، بل يتعين الحصول عليها بطريقٍ غير مباشر “ أي على هدى الأحكام التي نظم بها الإسلام العقود والحقوق»[28].

هذا على صعيد اكتشاف النظرية والمذهب الاقتصادي في الإسلام، أما على صعيد فقه النظرية الإسلامية في سنن التاريخ، فقد اعتمد الشهيد الصدر في الجزء الأكبر من ممارسته على سلسلة من المفاهيم القرآنية التي أوضح من خلالها الأبعاد المختلفة للنظرية الإسلامية في سنن التاريخ.

وعلى ذلك فإذا كانت الأحكام والمفاهيم الأداتين الأساسيتين في المنهج الموضوعي اللتين نصل من خلالهما الى استخلاص فقه النظريات الإسلامية فان ضرورات التنقيب عن المنهج الموضوعي وتحديده تفرض علينا فيما يلي ان نفرد لكل منهما مبحثاً منفصلاً ومفصلاً:

الأحكام كلبنات فوقية للنظرية:

اعتبر الشهيد الصدر الأحكام الإسلامية بناءً علوياً يجب تجاوزه الى ما هو أعمق وأشمل، وتخطيه الى الأسس التي يقوم عليها هذا البناء العلوي وينسجم معها، ويعبر عن عمومياتها في كل تفصيلاته وتفريعاته دون تناقض أو نشاز.

ويؤكد الشهيد الصدر أنه لولا الإيمان بأن أحكام الشريعة تقوم على أسس موحدة لما كان هناك مبرّر لممارسة عملية اكتشاف المذهب، من وراء الأحكام التفصيلية في الشريعة. فقد دعا الفقهاء قبيل استشهاده الى تطوير الاجتهاد باتجاه تقديم معطيات وقواعد ونظريات إسلامية عامة تفرز قدرةً على تطبيق الإسلام في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية، وحض على عدم الاقتصار في الاجتهاد على مجرد استنباط الأحكام المتصلة بالجانب الفردي من حياة المكلف المسلم.

ذلك ان قصر الاجتهاد على هذا الجانب وحده، وعدم تحركه لتلبية حاجات المجتمع والدولة من النظريات الإسلامية التي تعطي للحياه الاجتماعية للإنسان المسلم صبغتها الربانية، سيؤدي بحسب تأكيد الشهيد الصدر الى انهيار نفس هذا الجانب من تطبيق الإسلام شيئاً فشيئاً.

ولأهمية هذا الموضوع كرر الشهيد الصدر في مناسبات عدة نداءه للعلماء لتطوير الاجتهاد، ففي محاضراته حول التفسير الموضوعي في القرآن نبه الفقهاء الى (لا بدية توغل الاتجاه الموضوعي في الفقه بصورة عمودية للوصول الى (النظريات الاساسية))، وعدم الاكتفاء بالوقوف على البناءات العلوية، والتشريعات التفصيلية. (لابد من النفوذ العمودي) من خلال (البناءات العلوية الى النظريات الأساسية التي تمثل وجهة نظر الإسلام؛ لأننا نعلم ان كل مجموعة من التشريعات في كل باب من أبواب الحياة ترتبط بنظريات أساسية وبتصورات رئيسية)[29].

وعلى أساس من هذا الاتجاه الذي يدعو اليه السيد الشهيد في الدراسات الفقهية، يصبح من اللازم على عملية الاجتهاد، ان تطرق باب فقه النظريات الإسلامية وتعمد الى عملية بحث عن إشعاعات النظريات الإسلامية في الأحكام والتشريعات المتصلة بها؛ ليصل عن طريقها الى الأسس العامة والتصورات الرئيسية التي تقوم عليها هذه النظريات.

ونضرب مثالاً لهذه الممارسة في مجال البحث عن النظرية الإسلامية في الاقتصاد، فان هذه العملية حتمت على الشهيد الصدر دراسة الأمور التي تنعكس فيها النظرية والبحث ابتداءً عن اشعاعات النظرية في الأحكام والتشريعات المتصلة بها.

جاء الصدر بداية الى حشدٍ كبير من الأحكام والتشريعات الإسلامية في المعاملات والحقوق التي تنظم العلاقات المالية بين الأفراد، وبينهم وبين الدولة، والأحكام التي تحدد موارد الدولة وسياساتها العامة في انفاق تلك الإيرادات. اقتطف هذا الحشد تمهيداً لاكتشاف معالم النظرية الاسلامية في الاقتصاد، لكنه نبه في موازاة هذا العمل الى ان حشد هذه الأحكام المتناثرة في الموضوع الواحد، ليس معناه ان على الممارس التدقيق في جميع هذه الأحكام ودراستها دراسة شاملة، بل لابد ان يقتطف وينسق منها العناصر التي تعد بناءً علوياً للنظرية و قادرة على الكشف عنها.

بتحديد أدق، فإن على الممارس للمنهج الموضوعي في اكتشاف النظريات الإسلامية، ان يحشد بداية جميع الأحكام التي تختص بموضوعه وتتصل به من قريب أو بعيد، ثم ينتقل بعد ذلك الى فصل الأحكام المذهبية عن تلك التي لا تمتلك اشعاعات مذهبية، أي انه يختار فقط الأحكام التي تعد بناءً علوياً للنظرية، فينسق بينها للخروج من خلالها بمبادئ وبمعطيات وتصورات عامة.

لقد وجد الشهيد الصدر خلال دراسته الشاملة للأحكام الإسلامية التي تتصل بالمجال الاقتصادي، نوعين من هذه الأحكام:

النوع الأول: أحكام تدخل في صميم تحديد القاعدة الإسلامية لجانبٍ من جوانب النظرية، ويتميز من خلالها الموقف الإسلامي تجاه مسألة من مسائل الحياة الاقتصادية عن مواقف المذاهب الأخري، وهذه هي الأحكام التي اعتبرها الشهيد الصدر تتضمن اشعاعات مذهبية وعلى الممارس ان يفردها جانباً ويكون منها رصيداً صالحاً كبناءٍ علوي، يساهم الى حد كبير في عملية الكشف عن النظرية الإسلامية.

النوع الثاني: أحكام ليس لها إطار مذهبي، أي تلك الأحكام التي توافق عليها جميع المذاهب المختلفة وتدرجها في إطار نظرياتها.

وهذه الأحكام لا تساهم في عملية الاكتشاف، ولذا فهي ليست داخلة في البناء العلوي وعلى الممارس استبعادها في ممارسته.

لأجل ذلك رأينا الشهيد الصدر، يستبعد في عملية الكشف عن النظرية الإسلامية في الاقتصاد أحكاماً من قبيل حرمة الغش ووجوب ضريبة الجهاد؛ لأن حرمة الغش تتفق عليها جميع المذاهب والنظريات الاقتصادية، وليس لها اطار مذهبي، كما أن ضريبة الجهاد التي يأمر بها الاسلام لتمويل جيش المجاهدين؛ تتصل بدور الدعوة في الدولة الاسلامية، لا في المذهب الاقتصادي في الاسلام[30].

واعتبر السيد الشهيد أحكاماً أخرى داخلة في عملية الكشف عن النظرية الإسلامية في الاقتصاد مثل (حرمة الربا) و(ضريبة التوازن)، ذلك ان تحريم الربا والمنع عن القرض بفائدة يساهم في عملية الاكتشاف لأنه جزء من بناء علوي لنظرية توزيع الثروة المنتجة، وهو وجهة نظر بديلة ومتميزة للإسلام تجاه هذه المسألة تختلف بالطبع عن وجهات النظر لدى المذاهب الأخري، وهذا معنى كون هذا الحكم يحمل إشعاعاً مذهبياً.

وكذا بالنسبة لضريبة التوازن، فإن الضريبة التي يشرعها الإسلام لحماية التوازن الاجتماعي كالزكاة مثلاً، تساهم في عملية الاكتشاف، وتدخل في صميم الأحكام التي تشكل البنى العلوية التي نصل من خلالها لاستخلاص النظرية الإسلامية.

الأحكام وعملية التركيب بينها:

ان اقتطاف الأحكام الإسلامية التي تحمل اشعاعات مذهبية، وتنعكس فيها النظرية وتدخل في صميم اكتشافها، لا يعني أن نكتفي فقط بعرض أو فحص كل واحد من تلك الأحكام، بصورة منعزلة عن الأحكام الأخري؛ لأن طريقة العزل أو الانفرادية في بحث كل واحد من تلك الأحكام، انما تنسجم كما يقرر الشهيد الصدر مع بحث على مستوى القانون المدني في أحكام الشريعة، فإن هذا المستوى يسمح بعرض المفردات مستقلة بعضها عن البعض؛ لأن دراسة أحكام الشريعة في مستوى القانون المدني، لا تتخطى المجالات التفصيلية لتلك الأحكام، وانما تتكفل بعرض أحكام الإسلام التي تنظم عقود البيع والإجارة والقرض والشركة مثلاً، وليست مكلفة بعد ذلك بعملية تركيب بين هذه الأحكام، يؤدي الى قاعدة عامة.

وأما حين يكون درسنا لتلك الأحكام وعرضنا لها جزءاً من عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي الذي يعبر عن مجموعة من النظريات والمبادئ التي يعتمدها المجتمع ويفضل الاسترشاد بها في حياته الاقتصادية وحل مشاكلها العملية، فلا يجدي عرض المفردات فحسب لاكتشاف المذهب، وان اكتفت بحوث كثير من الإسلاميين بهذا القدر، بل يتحتم علينا أن ننجز عملية تنسيق وتركيب بين تلك المفردات، أي أن ندرس كل واحد منها بوصفه جزءاً من كل وجانباً من صيغة عامة مترابطة، لننتهي من ذلك لاكتشاف القاعدة العامة التي تشع من خلال الكل أو من خلال المركب وتصلح لتفسيره وتبريره[31]. وأما في طريقة العزل والنظرة الانفرادية فلن نصل الى اكتشاف.

ان ما يفعله الممارس في أول الشوط هو تحديد صورة دقيقة لبناء علوي شامل من التشريع الاسلامي، الذي يضم مجموعة الأحكام ذات الاشعاع المذهبي، وباستيعاب هذا البناء يكون الممارس قد قطع نصف المسافة في طريقه لاكتشاف النظرية، وبقي عليه البحث الاساسي من ناحية اكتشاف القواعد والنظريات العامة التي يقوم على أساسها البناء العلوي، وترتكز عليها تلك المجموعة من الأحكام التي حشدها.

إن الشوط الثاني من عملية الاكتشاف هو الانطلاق من البناء العلوي الى القاعدة ومن التفصيلات التشريعية الى العموميات النظرية.

وعلى الممارس في بداية الشوط الأول أن لا يقوم بمجرد حشد الأحكام المذهبية وعرضها كماً متناثراً دون أن يبين الصلة والخيط الذي يجمع بينها، بل لابد أن يتبع في عرض تلك التشريعات والأحكام والتعبير عنها، طريقة تعكس باستمرار ووضوح الترابط النظري الدقيق بينها. الأمر الذي يعدها للشوط الثاني من عملية الاكتشاف حين نستخدمها كلبنة فوقية ينطلق منها الى القاعدة والعموميات النظرية.

وما يفعله الممارس في الشوط الثاني هو ازالة الغموض عن جوانب النظرية وملء أجزائها على مراحل. يطرح في كل مرحلة بين يدي النصوص التشريعية والفقهية والأحكام، وبين يدي تلك الصيغة المترابطة والشاملة التي تعبر عن التشريعات والأحكام التي صاغها في الشوط الأول، في قضية تمس جانباً من جوانب النظرية. يطرحها على الجانب المتصل بها من الأبنية العلوية ليستخلص المبادئ والتصورات الإسلامية فيها. وبعد ان يقوم بعدة أشواط من هذا النوع، ويستخلص وجهة النظر الإسلامية للجوانب المختلفة للنظرية، يجمع في النهاية خيوط النظرية الإسلامية كلها في مركب واحد، ويعطيها صيغتها العامة.

وهذا تماماً ما فعله الشهيد الصدر للكشف عن النظرية الإسلامية في الاقتصاد، وهي عملية تشكل منهجاً يستحق ان يعمم الى مجالات أخرى في حياة الانسان الاجتماعية، لاكتشاف النظريات الإسلامية المذهبية فيها.

ويمكن بشيء من التدقيق أن نحدد بعضاً من هذه المجالات على سبيل فتح الآفاق أمام المهتمين والراغبين في خوض غمار فقه النظريات.

فمن هذه المجالات المجال الثقافي والمجال الاعلامي باعتبار الأخير أهم أدوات البناء والتحويل الثقافي في المجتمعات الحديثة. ان الاعلام موضوع من واقع الحياة اليومية على علاقة وثيقة بمسألة تحقيق الهداية للبشرية واخراجها من الظلمات الى النور أو عكس ذلك.

ان الاعلام الذي نريد أن نرسم له نظرية واطاراً اسلامياً عاماً للتحرك فيه، اذا لم يسترشد لمسيره بالأحكام والقيم والمفاهيم والمقاصد والأهداف الاسلامية، ولم ينطلق من منطلقات إسلامية واضحة ومحددة، فلن يؤتي الثمار المرجوة منه، ولن يؤثر على حياة الأمة ويرشد مسيرها الى الوجهة الربانية وينهضها على خط تحقيق خير أمة أخرجت للناس.

مجال آخر يعمل فيه هذا المنهج وهو تحديد النظرية الإسلامية فى موضوع حساس ومهم جداً عنوانه الحريات العامة في الدولة الإسلامية. انه موضوع لابد أن يبحث وتفقه النظريات الإسلامية فيه، لأن ترك ميادينه خالية من وجهات نظر إسلامية بصدده، معناه ترك الأبواب مشرعة على مصراعيها أمام الأفكار المنحرفة لملء هذا الفراغ في أذهان أبنائنا ومثقفينا وأجيالنا، وبالتالي انحراف مجتمعنا وراء مد عاصف من التحولات والتقلبات القلقة التي لا تنتمي الى القيم والمعتقدات والتشريعات الإسلامية في شيء.

ان ما قام به الشهيد الصدر في كتابه اقتصادنا، وباختصار شديد، هو تحديد المجالات والجوانب التي من المفترض أن تعمل فيها النظرية، وأبدت المذاهب وجهة نظرها فيها، والتي لابد للإسلام أن يعلن موقفه البديل فيها متى ما وجد. وركونه بعد ذلك في الجزء الأكبر من ممارسته الى الأحكام الإسلامية التي تتعلق بالمجال الاقتصادي واقتطاف الأحكام المذهبية منها، ثم العمل على دراستها وعرضها بطريقة تعكس الانسجام الدقيق بينها، وقد قام الشهيد الصدر في مرحلة لاحقة باستخدام هذا العرض المترابط الذي أخرج به الأحكام عن حالة التناثر فيما بينها، كبناء علوي ينطلق منه الى تحديد العموميات النظرية.

المفاهيم الإسلامية

تقف المفاهيم الإسلامية الى جانب الأحكام في عملية الكشف عن النظريات الإسلامية، ان لها دوراً كبيراً في هذه العملية، فهي تشكل جزءاً مهماً من الثقافة الإسلامية، وتساهم الى حد كبير بتيسير فهم النصوص الشرعية التي يعتمدها المجتهد في فقه النظريات.

وسنقتصر هنا على تحديد الدور الذي تضطلع به هذه المفاهيم على صعيد الاجتهاد في فقه النظريات، بما أن ذلك يدخل في صميم تحديد المنهج وأدواته في هذا اللون من الفقه.

وأرى من الواجب الإشارة هنا الى انّ من يطل على مبحث المفاهيم الإسلامية كما حرره الشهيد الصدر في العديد من كتاباته، يجده مبحثاً مبتكراً وعميقاً يستحق من المحققين التوقف ملياً عنده والعناية به بدراسة منفصلة وواسعة.

ان الشهيد الصدر يعرف المفاهيم الإسلامية بأنها «وجهات نظر وتصورات إسلامية في تفسير الكون وظواهره، أو المجتمع وعلاقاته، أو أي حكم من الأحكام المتشرعة». فهي كل رأي للإسلام أو تصور إسلامي يفسّر واقعاً كونيّاً أو اجتماعياً أو تشريعيّاً. «فالعقيدة بصلة الكون بالله تعالى وارتباطه به تعالى تعبير عن مفهوم معيَّن للإسلام عن الكون. والعقيدة بأنَّ المجتمع البشري مرّ بمرحلة فطرة وغريزة، قبل أن يصل الى المرحلة التي يسود فيها العقل والتأمل تعبير عن مفهوم إسلامي عن المجتمع. والعقيدة بأن الملكية ليست حقاً ذاتياً وانما هي عملية استخلاف، تعكس التصور الإسلامي الخاص لتشريع معين، وهو الملكية للمال، فإن المال في المفهوم الإسلامي كله مال الله، والله يستخلف الأفراد أحياناً للقيام بشأن المال، ويعبر عن هذا الاستخلاف تشريعياً بالملكية»[32].

وما يجب أن نلتفت اليه في نطاق وعينا للمفاهيم الإسلامية وتحديدها، انَّ هذه المفاهيم بمعظمها لم تأتِ بصورة ناجزة في النصوص الإسلامية، بل اننا نأخذها عادة ونستخلصها وفق طريقتين أساسيتين:

الأولي: الطريقة المباشرة: ونعني بها أن نستخلص المفاهيم الإسلامية عن طريق النصوص التي تعطيها بشكل مباشر في القرآن والسنة. ومن هذا القبيل النصوص الشرعية التي تقدم مفهوماً معيناً تمهيداً لإعطاء الحكم الشرعي، ومثالها من السنة ما جاء في الحديث بشأن الأرض وملكية الانسان لها: «إن الأرض لله تعالي، جعلها وقفاً على عباده، فمن عطّل أرضاً ثلاث سنين متوالية لغير ما علة أخذت من يده ودفعت الى غيره» الملاحظ في هذا الحديث انه قد استعان بمفهوم معين عن ملكية الأرض ودور الفرد فيها، على توضيح الحكم بانتزاع الأرض من مالكها وتبرير ذلك[33].

الثانية: الطريقة غير المباشرة: وهذه الطريقة متعددة المسالك ومن أهم هذه المسالك الطريقة المعتمدة على نطاق واسع في دروس التفسير القرآنية، وهي: طريقة التفسير المفهومي لنصوص القرآن الكريم.

وفق هذه الطريقة يصل المفسر الى مفهوم اسلامي ما، باستخلاصه من مجموعة من الآيات القرآنية الكريمة، وذلك بحشد الآيات التي تخاطب موضوعاً واحداً ويدرسها بحثاً من موقف موحد تتكامل عناصره عبر الآيات المختلفة. فإذا كان لكل آية دلالة خاصة، فإن ضم الآيات المشتركة في الموضوع الواحد الى بعضها، يجعل من الممكن الخروج بمفاهيم جديدة من حصيلة التركيب بين مدلولاتها الجزئية.

وننبه هنا الى ان منهج التفسير المفهومي المعتمد لدى الكثير من المفسرين حالياً هو غير المنهج الموضوعي في التفسير الذي اعتمده الشهيد الصدر، فالأول: هو عملية متابعة لموضوع واحد سمَّته النصوص الدينية من خلال الآيات القرآنية المختلفة التي تتناوله برؤية موحدة. انه بالنتيجة تفسير ينطلق من النص الى النص في حركة دائرية، أما التفسير في إطار المنهج الموضوعي فإنه يتجاوز هذا العمل، ويرسم منطلقاً آخر لحركته، اذ ينطلق من أحد المواضيع الذي يزخر بها الواقع الانساني الخارجي، وبعد الإحاطة بمختلف ملابسات هذا الموضوع العملية والفكرية، واستقصاء معضلاته والحلول البشرية، يعود الى النص لمعرفة موقفه من كل ذلك. انه تفسير يدخل مواضيع الحياة في متنه، فلا ترتسم حركته من النص واليه، بل يقوم هذا التفسير على فقهين، فقه الواقع وفقه النص، وهو يوحد بين هذين الفقهين في سياق بحث واحد، لكي يستخرج نتيجة هذا السياق الموحد من البحث نظرية إسلامية تحدد موقف الإسلام تجاه الموضوع الخارجي الذي أدخله في متن بحثه.

وعلى أساس الطريقة اللامباشرة في استخلاص المفاهيم الاسلامية نصل الى استخلاص مفاهيم متكاملة ورؤية شاملة لمواضيع شتى من قبيل الاستخلاف، الجهاد، التقوي، الشفاعة، التوحيد، المعاد، وغير ذلك من القضايا “

دور المفاهيم في عملية الكشف عن النظرية:

والآن كيف تساهم المفاهيم الإسلامية في عملية الكشف عن النظرية الإسلامية في مجال ما؟

إن مساهمة المفاهيم الإسلامية في عملية الكشف عن النظرية الإسلامية يختلف مستواه من موضوعٍ الى آخر، فقد يكون الاعتماد أساسياً على الأحكام التشريعية في موضوع ما، بينما يكون الاعتماد على المفاهيم أساسياً في موضوع آخر. فمثلاً في صياغة نظرية الاسلام حول السنن التاريخية، فإن الاعتماد الأساس للشهيد الصدر كان على المفاهيم، ولم يكن للأحكام التشريعية دخل في تحديد جوانب ومعالم النظرية “ أما في صياغة نظرية الإسلام حول المذهب الاقتصادي فاننا وجدنا ان الأحكام لعبت دوراً أساسياً في صياغة هذه النظرية، فيما لعبت المفاهيم دوراً أساسياً آخر، لكنه بقي ثانوياً.

وكما على صعيد الأحكام، كذلك على صعيد المفاهيم لابد أيضاً ان نعزل لكل مجال المفاهيم الإسلامية التي تتصل به أو بالأحكام الإسلامية المتشرعة فيه.

وتقوم المفاهيم الإسلامية بالإضافة الى دورها في بلورة معالم النظرية، بتأدية دورين أساسيين آخرين على صعيد عملية الاكتشاف.

ان بعضها يقوم بدور الاشعاع على بعض الأحكام، وتيسير مهمة فهمها من نصوصها الشرعية، والتغلب على العقبات التي تعترض ذلك.

ويحصل هذا العمل حين تشكل هذه المفاهيم إطاراً فكرياً يكون من الضروري اتخاذه لتتبلور ضمنه النصوص التشريعية في الإسلام، تبلوراً كاملاً، وييسر فهمها دون تردد[34].

وكنموذج من هذه المفاهيم التي أدخلها الشهيد الصدر في إطار عملية الكشف عن المذهب الاقتصادي في الإسلام، وقامت بدور الاشعاع على بعض الأحكام، بتشكيلها إطاراً فكرياً، مفهوم الاسلام عن الملكية.

يفيد هذا المفهوم أن الله تعالى استخلف الجماعة على الثروة في الطبيعة، وجعل من تشريع الملكية الخاصة اسلوباً يحقق ضمنه الفرد متطلبات الخلافة، من استثمار المال وحمايته وإنفاقه في مصلحة الانسان، فالملكية عملية يمارسها الفرد لحساب الجماعة، ولحسابه ضمن الجماعة.

ولسنا هنا في هذه الاشارة السريعة بصدد تحديد المدرك الاسلامي لهذا المفهوم، وانما نريد أن نقول: إن الملكية بموجب ذلك المفهوم هي وظيفة اجتماعية، يسندها الشارع الى الفرد، ليساهم في حمل أعباء الخلافة التي شرف الله بها الانسان على هذه الأرض، وليست حقاً ذاتياً لا يقبل التخصيص والاستثناء، فمن الطبيعي ان تخضع الملكية لمتطلبات هذه الخلافة «ان استيعاب الفقيه لهذا المفهوم الاسلامي عن الملكية يشكل إطاراً فكرياً يجعله يتقبل نصوصاً تشريعية تحد من سلطة المالك، وتسمح بانتزاع المال من يد صاحبه في بعض الأحايين، من هذه النصوص الإسلامية في الأرض، التي تؤكد على أن الأرض اذا لم يقم صاحبها باستثمارها ورعايتها وفقاً لمتطلبات الخلافة تنتزع منه ويسقط حقه فيها، وتعطى لآخر. ان الفقيه دون وجود هذا الاطار الفكري لديه المنبثق عن المفهوم، قد يتردد كثيراً في الأخذ بهذه النصوص، لكن النظر الى تلك النصوص بمنظور المفهوم الاسلامي عن الملكية ييسر على الفقيه الأخذ بها، والتجاوب مع فكرتها وروحها»[35].

ويتأكد هذا الدور للمفاهيم لدى الشهيد الصدر، حين نلاحظ معه أن بعض النصوص التشريعية أعطت المفهوم أو الإطار تمهيداً لإعطاء الحكم الشرعي.

باقر بري*

* طالب دكتوراه لبناني، بكلية الإلهيات في جامعة طهران.

[1] السيد محمد حسين الطباطبائي. تفسير الميزان.

[2] السيد الشهيد محمد باقر الصدر (الاتجاهات المستقبلية لحركة الاجتهاد) منشور في كتاب (الاجتهاد والحياة). بيروت: مركز الغدير للدراسات الإسلامية، ص251.

[3] المصدر السابق، ص651.

[4] المصدر السابق، ص651.

[5] الشهيد محمد باقر الصدر. مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن. دار التوجيه الاسلامي، بيروت ـ كويت/(ط1) 0891 ص42 ـ 52.

[6] المصدر السابق، ص52.

[7] الشهيد محمد باقر الصدر. اقتصادنا. دار التعارف للمطبوعات. بيروت 0991، ص893.

[8] الشهيد محمد باقر الصدر. مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن. دار التعارف للمطبوعات، بيروت 0991، ص63.

[9] المصدر السابق، ص12.

[10] المصدر السابق، ص43.

[11] المصدر السابق، ص93.

[12] المصدر السابق، ص83.

[13] اقتصادنا.

[14] التفسير الموضوعي للقرآن، ص15.

[15] المصدر السابق، ص26.

[16] المصدر السابق، ص26.

[17] المصدر السابق، ص15.

[18] المصدر السابق، ص53.

[19] المصدر السابق، ص63.

[20] المصدر السابق، ص93.

[21] اقتصادنا، ص653.

[22] المصدر السابق، ص563 ـ 663.

[23] المصدر السابق، ص663.

[24] المصدر السابق، ص063.

[25] المصدر السابق، ص073.

[26] المصدر السابق، ص073.

[27] التفسير الموضوعي، ص63.

[28] المصدر السابق، ص341.

[29] اقتصادنا، والمصدر السابق ص073.

[30] اقتصادنا، ص373.

[31] المصدر السابق، ص373.

[32] المصدر السابق، ص473.

[33] اقتصادنا ص073.

[34] المصدر السابق، ص773.

[35] المصدر السابق، ص773.