يعتقد علماء الفيزياء الحديثة اليوم بوجود نظرية تسمى النظرية الموحدة الكبيرة والتي ربما كان بمقدورها توحيد قوى الطبيعة الأربعة وهي:
الكهرومغناطيسية ـ والجاذبية ـ والنووية الثقيلة ـ والنووية الخفيفة.
وهذه النظرية المحتملة تحوي معادلة واحدة تفسر كل الظواهر الفيزيائية المعروفة، بدءاً من الحركة العامة للكون ووصولا الى الغوص في الأعماق غير المتناهية للذرة[1].
تأسيساً على هذا الطرح الجديد بخصوص القوى المحتملة في الكون هل بالامكان تحقيق وانجاز نفس الهدف فيما يخص القوانين التي تتحكم في إنتاج المعرفة أو الكشف عن الحق والحقيقة؟ سواء أكانت هذه الأخيرة ذات طبيعة وقيمة احتمالية أم يقينية نسبية أم مطلقة؟ وهل بالامكان أن يأتي يوم تصبح فيه مصادر المعرفة واحدة وموحدة لدى أبناء آدم أينما كانوا وكيفما كانت طبيعة ثقافاتهم وحضاراتهم وجنسياتهم وبيئاتهم؟ وهب أن ذلك تحقق فعلا كيف سيكون آنذاك مصير العالم والحضارة الانسانية؟ هل سينتفي التناقض بين الانسان وأخيه الانسان؟ وهل سيتم القضاء أخيراً على الجهل بكل أبعاده، والجهل هو مصدر الكفر والظلم وعدو الإنسانية الأوّل؟ وبالنتيجة هل سيتم التمكين للايمان والحرية والحق والعدالة في الأرض فتنعم الانسانية بالسعادة؟ بكلمة اخرى، هل سيتحقق أخيراً المنطق الالهي القائل (…وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم)؟
هذه مجموعة تساؤلات أصبحت تفرض نفسها على العالم في كل وقت وحين.. وما يجمعها معنى ومضموناً كونها تشكل بنية المشروع الرباني الذي جاء به الوحي وجعل مسؤولية تحقيقه وانجازه على كاهل الانسان بصفة عامة والمسلمين في كل مكان وفي كل زمان بصفة خاصة.
وحين نتكلم عن المعرفة ومصادرها ومشاعيتها بين البشر تقفز الى أذهاننا مشكلة الجهل وهي في حد ذاتها ظاهرة اجتماعية لا فطرية.. ومن ثم نتساءل: كيف يمكن إعادة المعرفة الى مشاعيتها؟ وذلك من اجل ان تكون في متناول الجميع وفي خدمة الجميع. وحين نقول المعرفة فلا نقصد الثقافة، لأن هذه الأخيرة تعتبر افزازاً طبيعياً للمعرفة. اذ لا ثقافة بدون معرفة. ومن ثم لا ايمان ولا حق ولا حقيقة ولا عدالة ولا حرية.. ولا ايمان بدون معرفة.
وهكذا.. تصبح مشكلة الجهل، وهنا الجهل بمصادر المعرفة وعناصر بنيتها وطرق الوصول اليها من أكبر العوائق التي أدّت ومازالت تؤدي الى عرقلة مسيرة التكامل الانساني حتى صار انسان اليوم أقل شأناً من الحيوان في العديد من الامور. وهنا يبرز سؤال آخر: هل يكفي للقضاء على هذه الظاهرة القيام بنشر المعلومات على نطاق واسع من العالم، وكما يطالب بذلك العديد من المختصين ورجال السياسة والمثقفين؟ ونجيب… أن نشر المعلومات أيّاً كانت قيمتها وطبيعتها لا علاقة له بتاتاً بنشر المعرفة.
فهذه الأخيرة شيء والمعلومات شيء آخر. ذلك أن المعلومات منتوج خام للمعرفة لا علاقة له لا بمنهجية ولا بوسيلة ولا بطرق الوصول الى المعرفة ومصادرها المتنوعة. هذه هي مشكلة العالم اليوم.
أمّا التبجح بالقول بأن العالم الآن دخل عصر الاعلامية وبنوك المعرفة والمعلومات، وأنّ طريق السيطرة على العالم يمر عبر السيطرة على مصادر المعلومات وما الى ذلك.. فهو كلام أقل ما يقال عنه أنه غارق في البساطة ومشحون بالتضليل والدجل. وإلاّ كيف نفسر الارتفاع الهائل اليوم في نسبة الأمية العلمية والحضارية بين الشعوب وفي مختلف القارات؟ وبماذا نفسر ظاهرة البدائية التي يعيشها الانسان الحالي في كثير من المجالات وعلى رأسها المجالات التي تخص العقائد والايديولوجيات والفلسفات والممارسات الأخلاقية والسلوكية والديانات والنحل؟ فهل يختلف الانسان الحالي عن الانسان البدائي في مثل هذه الامور؟.
وبالنتيجة هل تغير منطق الكفر والشرك والضلال عما كان عليه في الماضي البعيد؟ لا نظن ذلك بتاتاً.
اذن فأين الخلل؟ ولماذا هذا التناقض الفظيع بين حضارية الانسان المادية وبدائيته العقائدية والفلسفية والايديولوجية؟ اننا نرى مكمن الخلل في التدني الرهيب في مستوى الوعي المعرفي لدى الانسان المعاصر. وكذا في التخلف الكبير في الوسائل والأدوات المستعملة للبحث أو الكشف عن المعرفة ومصادرها فكلما كانت مصادر المعرفة ناقصة، وكلما كانت الادوات المستعملة للوصول الى ذلك ضعيفة وناقصة كلما زاد الانسان في ضلاله وضياعه وجهله وتخلفه وبالنتيجة ازداد كفره وجرمه وشركه وظلمه لنفسه ولغيره، واصبحت كذلك الضرورة ملحة للعمل الجاد من أجل تقديم بديل الاخراج الانسان من ورطته هذه ومعاناته.
هذه هي مجمل عناصر الاشكالية الكبيرة التي جاء مشروع السيد الشهيد محمد باقر الصدر (رض) التأسيسي لمعالجتها ونقدها بقصد تجاوزها انقاذاً للبشرية ومعها الامّة الاسلامية جمعاء من الضلال الذي تعيش فيه والتخلف الذي ينخر جسمها المريض.
وقد جاء هذا المشروع الضخم ونحن نعيش مرحلة يمكن أن نطلق عليها تجاوزاً مرحلة «الفترة» التي تفصل مرحلتين تاريخيتين مصيريتين بالنسبة لمستقبل الانسانية.
إلاّ أن فترتنا هذه لا تشبه بصفة مطلقة «الفترة» التي ذكرها القرآن الكريم وهي المرحلة التي تتوسط مرحلتين نبويتين. والاختلاف الموجود بين «فترتنا» و «الفترة» القرآنية هو أن هذه الأخيرة تكون بين ظهور نبي ونبي.. أمّا «فترتنا» فهي بين ظهور نبي وامام معصوم. النبي هو محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والتسليم والامام هو المهدي المنتظر عليه السلام.
هذا هو الاختلاف الموجود ولا نحسبه هيناً. ذلك أن «فترتنا» تعتبر «فترة» تعيشها البشرية قبل قيام الساعة. وهو سر خطورتها وحدة تناقضات أحداثها وضخامة الصراعات المحتدمة فيها ودمويتها. فالانسان المنتظرة ظهوره ليس نبي ولكن إمام، وإمام صاحب مشروع عالمي وفي قمة الكمال الحضاري لأنّه لا مشروع تغييري بعده. فهو الأخير وبه تكون نهاية التاريخ ويعود الانسان الى ربه وخالقه للحساب. لذا فالكل في «فترتنا» هاته يستعد حتى الكافر يعد لهذا المستقبل من القوة والعتاد ما يرهب به المعسكر أو المعسكرات المنافسة حسب زعمه.
ونحن لا يهمنا الكم، كمية المشاريع النهضوية المطروحة أو التي طرحت على الساحة الاسلامية العالمية استعداداً لهذا المستقبل المصيري، ولكن ما يهمنا حقاً وحقيقة هو نوعية وأصالة وعمق هذه المشاريع في تأسيساتها وطموحها الأكيد في اعادة النظر في كل شيء يمس الكائن البشري في حاضره ومستقبله، من طريقة تفكيره ومعرفته الى طريقة أكله وشربه ولبسه. ولعلّ الامام الصدر ومشروعه الوحيد تقريباً، اذا استثنينا بعض المشاريع الصغيرة التي ظهرت هنا وهناك، الذي انتبه لهذا النوع من الأطروحات ولهذه الأشكال من القضايا. ذلك أنّه شعر بأن المطلوب آنياً هو العمل التأسيسي أو المشروع التأسيسي استجابة لضخامة القضايا والاشكاليات المطروحة على الساحة العالمية والاسلامية. لهذا قدّم السيد الشهيد لهذا المشروع الضخم بكلام بسيط وعميق في نفس الوقت حيث قال: «لابد لنا أن نتحرر من النزعة (الاستصحابية)، من نزعة التمسك بما كان حرفياً، بالنسبة الى كل أساليب العلم، هذه النزعة التي تبلغ القمة عند بعضنا… النزعة الاستصحابية التي تجعلنا دائماً نعيش مع أمة قد مضى وقتها، مع أمة قد ماتت وانتهت بظروفها وملابساتها، لأننا نعيش بأساليب كانت منسجمة مع أُمّة لم يبق منها أحد. وقد انتهت وحدثت أُمّة اُخرى ذات افكار اخرى، ذات اتجاهات اخرى، ذات ظروف وملابسات اخرى»[2].
نحاول نحن، من جهتنا أن نعيش هذه الاجواء بقراءة عامة لجميع مكونات هذا المشروع التأسيسي وذلك بالتطرق بتفصيل للعناصر الاشكالية فيه عبر الاصول التأسيسية الثلاثة:
فلسفتنا، الاُسس المنطقية للاستقراء، اقتصادنا. غاضين الطرف عن اغلبية الحقول التطبيقية
المتنوعة الاخرى والتي كان دورها فقط دور المثال والنموذج التطبيقي للاصول الثلاثة. وقد تم تدشين هذه المحاولة بقراءة نموذجية سابقة[3]. ألاّ أنّ طموحنا الآن هو محاولة الوصول الى قراءة عامة نستطيع بواسطتها تلمس السلبيل نحو نوع من التقنين الاجرائي لما توصل اليه هذا المشروع من نتائج وخلاصات وذلك من اجل ان يصبح أداة فعالة بأيدي من يعملون في سبيل نهضة الامّة الاسلامية.. وحتى لا تبقى مفردات نتائج هذا المشروع حبيسة الكتب والاوراق والرفوف وهو الأمر الذي لا يخدم سوى من يلهثون وراء المتعة والترف الفكري فقط.
وقراءتنا هذه مقسمة على قسمين:
القسم الأوّل نقرأ فيه المنطلقات والأهداف.
والقسم الثاني نقرأ فيه النتائج والمهام.
متوخين التوفيق في الوصول الى اخراج مفردات هذا المشروع من مادتها الخام الى الشكل الحركي والاجرائي في الواقع العملي.
المنطلقات والأهداف
1ـ في الأصل الاوّل: فلسفتنا:
سؤال يطرح نفسه:
هل كان مشروع السيد الصدر التأسيسي يهدف في جانب من جوانبه الى توحيد النظريات المعرفية الانسانية في نظرية تركيبيّة واحدة وذات مضمون انساني/ إسلامي؟ وإذا كان الأمر كذلك فعلى أية أُسس وبأية منطلقات؟
هل المنطلقات الاسلامية البحتة أم المنطلقات الانسانية البحتة أم كلاهما معاً؟ ثم بخصوص نفس هذه المنطلقات.. ماذا عن طبيعتها ونوعيتها؟ أهي تاريخية أم متعالية على التاريخ؟ يعني هل تم ادماج التاريخي في المتعالي المقدس أم العكس؟ أم ماذا؟
في الواقع هذا ما حصل وتم، ما دام الأمر كان يتطلب لطرح وتحليل الاشكالية المعرفية لدى الانسان المعاصر، ايجاد صيغة تتجاوز في كل أبعادها ما تواضع عليه العقل الانساني في العصور السالفة وعصرنا الحالي. والحالة هذه، اعتبار التاريخي وحدة مادية غير قابلة للدمج مع أي عامل «خارجي» يعني غير تاريخي او متعالي.
ولنأخذ أمثلة على ذلك، فحسب مصطلحات ومفاهيم العصر الحالي، تعتبر قضية الوحي قضية لا علاقة لها لا من بعيد ولا من قريب بقضايا العقل والتجربة المادية الملموسة.
فلكل مجاله الذي يتحرك فيه وليس من المعقول، حسب هذا الزعم، ادماج مجال في مجال، لأن ذلك مناقض لما هو متواضع عليه حتى الآن. لان القضية هنا متعلقة لما هو بالتاريخي وهو الوجود الانساني المادي، والوحي يعتبر معطى متعالي على التاريخ وفوقه. فكيف يمكن اذن ودائماً حسب هذا الزعم، الجمع بينهما؟ الا اذا عطلنا جميع الأجهزة المنتجة للمعرفة واستبدلناها بأدوات وأجهزة معرفية مغايرة. اذن سوف يختل توازن المجتمعات وتنهار قواها الحية وساد العبث والعدم في العالم.
هذه هي النظرة المحافظة حول اشكالية مصادر المعرفة وأدواتها وهي النظرة التي تواضع عليها الفلاسفة والمفكرون والعلماء طيلة قرون وما يزالون. فما السبيل اذن الى تجاوزها بهدف إحداث نقلة نوعية في الحضارة العالمية والدخول بذلك في عصر التنوير الاسلامي؟
الاجابة تكفل بها الأصل الأوّل من المشروع (الصدري) حيث قام أوّلا بطرح جديد للاشكالية ومغاير تماماً لما هو معروف اسلامياً وعالمياً، وذلك عن طريق معالجة المطلق المتعالي وهو هنا الوحي باعتباره الاطار.. ونعني اطار الممارسة المعرفية للانسان او القانون العام الذي يحكم عملية انتاج المعرفة لدى الانسان.. تماماً كما يحكم القانون العام الطبيعي جميع القوى الفيزيائية التي تسير الكون سواء أكانت هذه القوى تنتمي الى العالم اللامتناهي الصغر أم الى العالم اللامتناهي الكبر. فكما للكون وقواه الفيزيائية قانون عام يشكل اطاراً لحركة الكون وتفاعل أجزائه، فكذلك للمعرفة البشرية قانون عام واطار عام تتحرك بداخله ودون الخروج منه جميع عناصر انتاج المعرفة وعلى رأسها عنصرا العقل والتجربة.
وكما للعالم بنية مادية مكونة من عناصر فاعلة، فكذلك الأمر بالنسبة لمجال المعرفة، فهو الآخر له بنية عامة ذات عناصر مرتبطة ارتباطاً عضوياً لا يتأتى لأي كان الفصل بينها، الا اذ قصد تدمير الانسان وعالمه ومحيطه. وهذا ما حصل جزئياً في عالمنا المعاصر حيث تم تهميش عنصر الوحي وعدم الاعتراف به كاطار لانتاج المعرفة.. فخسر بذلك الانسان ثروة معرفية ضخمة كان بالامكان أن يصل بواسطتها الى ما لم يتسطيع الوصول اليه حالياً من تقدم وازدهار وتحضر.
ونلاحظ هنا بوضوح الهدف الاجرائي من وراء هذا الطرح والتحليل لاشكالية نظرية المعرفة حيث أريد لهذه النظرية أن تكون بمثابة جواب عملي لهذه المعضلة المعرفية لدى الانسان، وليس فقط جواباً نظرياً وتجريدياً. وهذا من وجوه التأسيس في المسألة. فلتجاوز النظرة الأحادية والنظرة الثنائية بخصوص المصادر المعرفية.. ثم لاعطاء القضية بعدها الاجرائي.. كان هناك عنصر التركيب بين مجموع عناصر مصادر المعرفة. كيف ذلك؟
أولا: بالتدليل العلمي على نسبية المعطى العقلي في عملية انتاج المعرفة.
وثانياً: بفعل نفس الشيء بخصوص التجربة. وثالث: بالتدليل الفلسفي (الأنطلوجي) على موضوعية العلاقة القائمة بين الوحي كمعطى متعالي زمانياً.
ويمكن تلخيص وجوه التأسيس في هذا كله عبر الآتي:
أ ـ اعتبار العقل لا وظيفة له في حالته الوجودية الاستقلالية.. فالعقل ككائن مستقل عن العناصر الاخرى المكونة للمعرفة لا مهمة ولا وظيفة له.
ب ـ اعتبار التجربة بكل أشكالها بلا وظيفة معرفية هي الاخرى في حالتها الوجودية الاستقلالية. فالتجربة وحدها لا معنى لها.
ج ـ اعتبار الوحي بلا ضرورة ـ يعني عبثاً ـ في حالته الوجودية المستقلة عن ساحة الفعل الانساني وأدواته المعرفية.
ولهذا وحتى يبقى للمعرفة وجود فعلي كان لزاماً توفر العناصر الثلاثة في بنية مصادرها. وعدم احترام هذه الحقيقة يعني ضياع الانسان وخراب مستقبله وحاضره. وبهذا التأسيس البديع تم ربط وجود المعرفة بوجود كل عناصرها.
فلكي يحصل الانسان على المعرفة وجب عليه أولا أن يتعرف على مصادهرا، بعد ذلك يقوم بعملية التركيب للخروج في النهاية بالمنتوج المعرفي متجرداً عن كل عنصر من عناصر النسق. فلا هو الهي محض ولا عقلي محض ولا تجريبي، وانما خلاصة الجميع.
وهو الأمر الذي يجعل المعرفة متكاملة وعلى درجة كبيرة من اليقين من جهة.. ويجعل كل عنصر من مصادر المعرفة حاضراً في جميع مجالات الفعل الانساني، مما يجعله متحرراً من جميع التناقضات المختلفة في حياته العملية من جهة ثانية. وهذا ما سيقربه من مجالات الابداع والتكامل المطالب به تكوينياً وشرعاً وتشريعياً.
وعند هذا الحد يبقى الانسان حراً في تقرير مصيره.. فامّا أن يكون بالمعرفة أو لا يكون بالجهل، ما دامت كينونته مرتبطة الى حد بعيد بطبيعة وقيمة معرفته ومصادرها، فقيمة الانسان حسب هذا الفهم تتجلى فيما يعرفه ومن أين؟ وكيف يعرفه؟.
بعد هذا يبقى علينا أن نحدد لهذه النظرية الجديدة منطلقاتها الاجرائية في مجال المعرفة وهي كالآتي:
أ ـ بخصوص الوحي (الكتاب والسنة المعصومة): فقد تم تجاوز الطرح الفلسفي العقيم، كون الوحي خارج عن مجالات التجربة المادية والمبادىء العقلية. وبالنتيجة لا علاقة له بنظرية المعرفة.
ب ـ بخصوص العقل: اعتبرت بالمبادىء العقلية الضرورية بمثابة الأساس العام الذي تقوم عليه جميع الحقائق العلمية. فالعقل ومبادؤه يكوّن الواسطة الضرورية بين الوحي والتجربة في عملية انتاج المعرفة.
ج ـ بخصوص التجربة: اعتبرت قيمة المعرفة المستنتجة من المجالات التجريبية مرتبطة بمدى الدقة في تطبيق المبادىء العقلية الضرورية على مجموعة التجارب المحصول عليها.
هذا عن المنطلقات أما الاهداف المتوخاة من هذا التأسيس فهي كالتالي:
أ ـ اعطاء نظرية المعرفة وظيفتها الحقيقية والتي تكمن في انتاج معرفة تخدم حركة التكامل الانساني في جميع ميادين اتلحضارة. وبالتالي اخراجها من المجال النظري البحت الى حيث مجالات الفعل اليومي الاجرائي.
ب ـ اعطاء الوحي وظيفته الطبيعية والتي تكمن في ترشيد وتأطير عملية التطور والتكامل الانساني معرفة، وسياسة، وعقيدة، ومدنية.. وعدم الاقتصار على الطابع «الديني» المحدود المقرر له من طرف أرباب الفكر الانساني العالمي. وبذلك يصبح للوحي المقدس دور رئيسي في تسيير حياة الانسان واخضاع كل ما هو نسبي ومتغير وغير مقدس لقوانينه الفاعلة.
ج ـ اعطاء العقل البشري وظيفته الحقيقية والتي خلق من اجلها وهي أن يكون الواسطة الضرورية بين المطلق والنسبي.. والمقدس وغير المقدس.. بين المتعالي والتاريخي.. بين الوحي والممارسة العملية اليومية للانسان.. بوكلمة بين الحقيقة الربانية المطلقة والثابتة والحقيقة الانسانية النسبية.
2ـ في الأصل الثاني: «الاسس المنطقية للاستقراء»
هذا الأصل التأسيسي الثاني في مشروع الامام الصدر جاء ليؤكد ما ذهبنا اليه في الأصل التأسيسي الأوّل وكذلك ما قلناه في المقدمة.. وهو أن السيد الصدر كان يمطح من بين أهداف آخرى، الى ابداع نظرية معرفية تركيبيّة توحيدية تكون وظيفتها انتاج معرفة انسانية راقية وملزمة في نفس الوقت لكل انسان على وجه الأرض، بحيث تنتفي وتندثر ظاهرة الجهل وذرائع صعوبة الوصول الى المعرفة.. ومعها يتم القضاء على ظاهرة الكفر والشرك والالحاد.. ويتم التمكين للانسان في اطار دولة ومجتمع الايمان.
وعلى هذا الأساس جاءت محاولة معالجة اشكالية الدليل الاستقرائي ومسألة الانتقال من الخاص الى العام في عملية انتاج المعرفة وتحديداً اليقينية، كمدخل في مسيرة اعادة بناء الانسان من جديد.
الا أن هذا المدخل جاء في الحقية للرد على الشبهات التي طرحت بخصوص النتائج التي خرجت بها أطروحات الأصل التأسيسي الأوّل. وعلى رأس هذه الشبهات طبيعة العلاقة الموضوعية القائمة بين عنصري الوحي والتجربة في نظرية المعرفة. اذ حتى اذا ما تم قبول الوحي كمعطى واقعي وضروري في عملية انتاج المعرفة أو قسط منها، فكيف يمكن قبوله من حيث علاقته الموضوعية بالتجربة أو بقوانين العقل ومبادئه؟
هذه هي نوعية الاشكالية المطروحة في هذا الأصل. والتي تم طرح اجابات وحلول لها قصد تجاوزها بطريقة تأسيسية.. وهذا تلخيص ذلك:
أ ـ اعتبار علاقة الوحي بالتجربة المادية كعلاقة الخلية بالخلية داخل النسق الحيوي في أي كائن كان. فهما يؤديان وظائف ذات قواسم مشتركة من حيث أسلوب العمل واالنتاج. وهذه الاسس المنطقية التي يقوم عليها الاستدلال سواء كان استدلالا علمياً بحتاً أم استدلالا متعالياً كالاستدلال على وجود الله سبحانه أو الاستدلال على النبوة أو الامامة أو المعاد الأخروي. وهذا يعني أن لا تناقض هناك بين المنهج المبني على قوانين العقل والتجربة والمنهج الاستدلالي المبني على قوانين الوحي. لأن كلا المنهجين يجمعها قاسم مشترك، وهو الأساس الاستقرائي.
ب ـ الاستقراء لا الاستنباط هو مرجع ومصدر المعرفة عكس ما تعتمده النظرية الأرسطية، وما نتج عنها من معارف. وذلك كون الأوّل ينطلق من الخاص لينتهي عند العام، فيما الثاني يقوم بالعكس يعني الانطلاق من العام نحو الخاص. وهذا ما عرقل عملية التطور المعرفي وتكامله الانساني. وكان السبب المباشر في اقصاء الوحي وعزله عن أية وظيفة ودور في في مجال انتاج المعرفة زيادة على اعتباره مناقضاً شكلا ومضمومَ مع قوانين العقل والتجربة العملية.
ج ـ اعتبار المنطق الأرسطي عاجراً عن اعطاء تفسير مقبول للدليل الاستقرائي ووضع أساس منطقي لتبرير اشكالية القفزة التي يصطنعها الدليل الاستقرائي في سيره من الخاص الى العام.
د ـ اعتبار المذهب التجريبي (التجربة كمصدر وحيد للمعرفة) عاجراً عن تقديم التفسير الأساسي للدليل الاستقرائي.
ه ـ اعتبار نظرية الاحتمال بمثابة الحلقة المفقودة في السلسلة المكونة للنسق المعرفي.. اذ بها يتم التأسيس للدليل الاستقارئي وجعله العنصر الرابط بين العناصر المنتجة للمعرفة والحالة هذه، الوحي، العقل، والتجربة.
و ذلك عبر الخطوات التالية:
1ـ عبر البحث عن نظرية الاحتمال وصياغتها بالطريقة التي تجعلها صالحة لكي تكون أساساً للدليل الاستقرائي.
2ـ عبر تطبيق نظرية الاحتمال على المرحلة الأوّلى من الدليل الاستقرائي وهي المرحلة الاستنباطية منه.
3ـ عبر دراسة المرحلة الثانية من الدليل الاستقرائي حيث الاحتمال الاستقرائي يتحول الى يقين[4].
هذه هي المنطلقات العامة التي وضعها الأصل التأسيسي الثاني كأساس للوصول الى الاهداف المتوخاة.. وهي هنا مجموعة في هدف واحد وهو: التدليل المنطقي والعلمي على موضوعية العلاقة الرابطة بين عناصر مصادر المعرفة لدرجة اليقين. وهذا أمر خطير جداً على مستوى انعكاساته على الممارسات الواقعية للانسان كما سنرى فيما سيأتي من هذه القراءة.
ولنعود الآن الى ما أسميناه بالحلقة المفقودة في النسق المعرفي البشري، وهي قضية الاحتمال أو نظرية الاحتمال والتي بواسطتها يصبح الاستدلال الاستقرائي واحد بالنسبة لمجموع عناصر نظرية المعرفة. وبه يتم دمج المعطيات الثلاثة: الوحي والعقل والتجربة في دائرة واحدة أو نسق واحد.. وهو ما يمكن تسميته بنظرية النسق الواحد في المعرفة. حيث انتاج المعرفة راجع الى عمل النسق ككل وليس الى العنصر المكون له. لنحاول قراءة هذا اذن عبر التعريف الخاص الذي وضعه الامام الصدر لنظرية الاحتمال.
نظرية الاحتمال كتأسيس:
يتلخص التعريف الذي وضعه السيد الصدر لنظرية الاحتمال في الآتي:
أولا: أن الاحتمال يقوم دائماً على أساس علم اجمالي، والقيمة الاحتمالية ـ لأية قضية ـ تحددها نسبة عدد الاعضاء التي تستلزم تلك القضية من مجموعة اطراف العلم الاجمالي الى عددها الكلي.
ثانياً: أن نظرية الاحتمال ـ على أساس هذا التعريف ـ تشمل الى جانب بديهيات الحساب الأولية، على خمس بديهيات اضافية وهي:
1ـ ان العلم الاجمالي ينقسم بالتساوي على أعضاء مجموعة الاطراف التي تتمثل فيه.
2ـ اذا أمكن تقسيم أحد أطراف العلم الاجمالي، دون أن يناظره تقسيم للاطراف الاخرى، فهذه الاقسام امّا ان تكون أصلية واما أن تكون فرعية، فاذا كانت أصلية كان كل قسم من أقسام الطرف عضواً في مجموعة أطراف العلم الاجمالي. واذا كانت الأقسام فرعية، فالطرف عضو واحد.
3ـ اذا وجدت قيمتان احتماليتان مستمدتان من علمين اجماليين، احداهما مثبتة لقضية ما والاخرى نافية لها، وكانت احدى القيمتين الاحتماليتين ـ في اثباتها أو نفيها للقضية ـ تنفي طرفية تلك القضية للعلم الاجمالي الآخر، دون العكس، فهي حاكمة على الاخرى ولا تصلح الاخرى للتعارض معها.
4ـ ان التقييد المصطنع للكلي المعلوم بالعلم الاجمالي، في قوة عدم التقييد، وهويتمثل في كل قيد لا يحدد من انطباقات الشيء المقيد، لأن جميع احتمالات انطباق الشيء تستلزم أو تستبطن توفر القيد.
5ـ كلما كان العلم الاجمالي الشرطي يتحدث عن جزاء غير محدد في الواقع، فلا يصلح أن يكون أساساً لتنمية الاحتمال بتجميع عدد من قيمه الاحتمالية في محور واحد.
ثالثاً: أنه كلما وجد علمان اجماليان تتعارض بعض القيم الاحتمالية في أحدهما مع بعض القيم الاحتمالية في الآخر ولم تنطبق عليهما البديهية الاضافية الثالثة، فلابد ـ لتحديد القيم الاحتمالية الحقيقية ـ من ضرب عدد أعضاء كل من العلمين بعدد أعضاء العلم الآخر، لنحصل على علم اجمالي كبير، ونحدد على أساسه القيم الاحتمالية لاعضاء العلمين الأوّلين. وهذا ما نسميه بقاعدة الضرب، وهي ليست بديهية بل مستنتجة من البديهيات السابقة[5].
وهذه النظرية تعتبر الدليل الاستقرائي تطبيقياً بحتاً لها، وبالنتيجة يصبح العقل ومبادئه الضرورية الأولية كحلقة وصل بين الاستدلال المنطقي الاستقرائي في المجال التجريبي العلمي حيث البحث عن القانون العام من خلال نظرية الاحتمال، وبين الاستدلال الاستقرائي المنطقي في مجال العقيدة والتشريعيات المتفرعة عنها حيث البحث عن القانون العام (= مقاصد) الذي يثبت مشروعية ومصداقية وواقعية ما جاء به الوحي من خلال نفس الأسلوب ونفس الأداة.. وهي نظرية الاحتمال، وهذا ما يمكن الترميز اليه بالآتي:
هذا هو الاستنتاج الأوّل.. أما الاستنتاج الثاني فيقوم على أساس تحليل قضية اليقين وهي معرفياً اشكالية تنمية قيمة احتمال التعميم والارتفاع به الى درجة عالية من درجات التصديق الاحتمالي، وهي امكانية استقرائية تمت برهنتها بنجاح، بأعتبار الاستقراء تطبيقياً للاحتمال وبديهياته. زيادة على أن حصول اليقين يتم بعد عملية تحول القيمة الاحتمالية الكبيرة الى يقين في مرحلة تالية من الدليل الاستقرائي.
واليقين الذي نتساءل عن مدى قدرة الاستقراء على ايجاده هو اليقين الموضوعي. فهل هناك مبررات موضوعية لكي يحصل التصديق الاستقرائي على أعلى درجة ممكنة، وهي درجة الجزم واليقين؟ أي أن درجة اليقين هل هي درجة صحيحة وموضوعية للتصديق الاستقرائي أم لا؟
فان كانت صحيحة وموضوعية فاليقين بالقضية الاستقرائية يقين موضوعي، وان كانت غير صحيحة ولا موضوعية فاليقين بالقضية الاستقرائية ـ اذا وجد في نفس الانسان ـ فهو يقين ذاتي بحت[6].
اذن وعلى حساب هذا الطرح الجديد للمشكلة ـ مشكلة اليقين في الدليل الاستقرائي المبني على نظرية الاحتمال ـ فاليقين ذو أشكال ثلاثة: يقين موضوعي، وآخر ذاتي والثالث منطقي. واليقين الذاتي هو التصديق بأعلى درجة ممكنة سواء كانت هناك مبررات موضوعية لهذه الدرجة أم لا.
واليقين الموضوعي هو التصديق بأعلى درجة ممكنة على أن تكون هذه الدرجة متطابقة مع الدرجة التي تفرضها المبررات الموضوعية[7].
وهكذا نعرف أن اليقين الموضوعي له طابع موضوعي مستقل عن الحالة النفسية والمحتوى السيكولوجي الذي يعيشه هذا الانسان أو ذاك فعلا. وأما اليقين الذاتي فهو يمثل الجانب السيكولوجي من المعرفة[8]. وهذا ما يمكن الترميز اليه بالآتي:
وبادخال عنصر ثان في توليد المعرفة اليقينية، وهو العنصر الذاتي بعد الاقرار بالدور المهم والأساسي الذي يقوم به العنصر الأوّل، وهو العنصر الموضوعي.. يتم التدليل على أن جزءاً من المعرفة على الأقل، لم يتكون ولا يتكون على أساس التوالد الموضوعي، وانما على أساس التوالد الذاتي.
ماذا يمكن استناجه من كل هذا؟ الجواب في الآتي:
1ـ عدم اعتبار الدليل الفلسفي لعقمه واستبداله بالدليل العلمي القائم على البرهان اليقيني والاستقراء المنطقي.
2ـ وكنتيجة للنقطة الاولى تم القضاء على مرجعية الدليل الفلسفي واحتكاره لمجال الاستدلال على قضايا العقيدة وافرازاتها المباشرة وغير المباشرة.
3ـ اعتبار الدليل الاستقرائي وأسسه المنطقية مرجعاً رئيسياً وضرورياً في عملية انتاج المعرفة او الاستدلال على مصداقيتها وموضوعيتها.
4ـ احداث قطيعة تاريخية ومعرفية مع قرون من الجدل الفلسفي العقيم حول قضايا المعرفة بصفة عامة والمعرفة الصادرة عن الوحي بصفة خاصة، بعد أن تم التأكيد على أن طريق المعرفة اليقينية في مثل هذه القضايا يمر عبر نفس الاتجاه الذي تسيّر عبره الانسانية شؤونها الحياتية وتنجز من خلاله منجزاتها العلميّة والتكنولوجية وحضارتها المادية.
وبهذا يكون هذا الأصل التأسيسي الثاني قد وصل الى قمة اهدافه باحداث نقلة نوعية كبيرة بخصوص أخطر قضية تواجه الانسانية منذ وجودها، وهي مسألة اقامة الدليل على يقينية أو عدم يقينية المعرفة التي يحصل عليها الانسان يومياً. وعلى هذا تكون نظرية المعرفة قد اكتمل بنيانها.
3 ـ في الأصل الثالث: اقتصادنا:
جاء فهذا السفر الاقتصادي في الموسوعي ليقوم بدوره التأسيسي الثالث اكمالا للتأسيس الأوّل والثاني. يقول السيد الصدر بهذا الخصوص: «… (فلسفتنا) هي الحلقة الاولى من دراستنا الاسلامية بوصفها دراسة تعالج الصرح الاسلامي الشامخ، الصرح العقائدي للتوحيد، وتتلوها بعد ذلك الدراسات التي تتعلق بالبنيات الفوقية في ذلك الصرح الاسلامي، لتكتمل لنا في نهاية المطاف صورة ذهنية كاملة عن الاسلام، بوصفه عقيدة حية في الاعماق، ونظاماً كاملا للحياة، ومنهجاً خاصاً في التربية والتفكير»[9].
وهذا تأكيد لما حددناه من خصوصيات وطبيعة هذا المشروع النهضوي الكبير والمترابط الحلت سواء من حيث بنياته التحتية أو الفوقية.
فهذه الدراسة المنهجية للمشكلة الاقتصادية جعلت من وظائفها الأساسية التأسيس للعلاقة القائمة بين العلم الاقتصادي والمذهب الاقتصادي من جهة وعلاقة كل منهما بالنظام الاقتصادي من جهة وعلاقة كل منهما بالنظام الاقتصادي الاسلامي من جهة اخرى.
ففي المدلول الاقتصادي الاسلامي يجب التمييز بين علم الاقتصاد والمذهب الاقتصادي، لندرك طبيعة التفاعل القائم بين التفكير العلمي والتفكير المذهبي في هذا المجال، ومن ثم يمكن تحديد المقصود من الاقتصاد الاسلامي.
والاشكالية المعالجة هنا اشكالية ممنهجية أكثر من أي شيء آخر، وهي اشكالية المنهج المعرفي الصالح لدراسة المشكلة الاقتصادية بصفة عامة، والخروج بنظرية اسلامية اقتصادية قابلة للتطبيق بصفة خاصة.
وأول نتيجة خرج بها هذا الأصل تتجلى في اعتبار المسألة الاقتصادية مشكلة من المشاكل الانسانية وليست ذات صفة اشكالية كما يذهب الى ذلك الفكر المادي بشقيه الاشتراكي والرأسمالي. يعني أنها فرع من أصل، والأصل هنا يتجلى في اشكالية خلافة الانسان وافرازها الأساسي اشكالية الانسان الاجتماعية.
ومن ثمَّ فحل المشكلة الاقتصادية للانسان يرتبط ارتباطاً عضوياً بحل الاشكالية الاجتماعية بالاساس. ونفس الأمر ينسحب على المشكلة السياسية والمشكلة الثقافية وما يتبعهما.
لنحاول الآن قراءة المنطلقات والاهداف التي أسس عليها هذا الأصل نهجه التأسيسي.. ولنبدأ بالمنطلقات.
أ ـ المنطلقات
وترتكز على الأركان العامة التالية:
1ـ مبدأ الملكية المزدوجة.
2ـ مبدأ الحرية الاقتصادية في نطاق محدود.
3ـ مبدأ العدالة الاجتماعية [10]10.
فيما يخص الركن الاوّل يطرح البديل الاسلامي بصيغة تناقض كلّياً ما هو ممارس على الساحة العالمية. فالمقرر في الاسلام ثلاث ملكيات: الملكية الخاصة، والملكية العامة، وملكية الدولة. ولكل ملكية من هذه الملكيات حقلا ومجالا خاصاً تمارس فيه. وأصالة هذا الطرح وتأسيسيته يؤكدها صاحب المشروع نفسه حيث يقول:
«… وكذلك من الخطأ أيضاً أن يعتبر مزاجاً مركباً من هذا وذاك «يعني النظام الاقتصادي الاسلامي) لأن تنوع الأشكال الرئيسية للملكية في المجتمع الاسلامي، لا يعني أن الاسلام مزج بين المذهبين: الرأسمالي والاشتراكي، وأخذ من كل منهما جانباً.. وانما يعبر ذلك التنوع في أشكال الملكية عن تصميم مذهبي أصيل، قائم على أسس وقواعد فكرية معينة، وموضوع ضمن اطار خاص من القيم والمفاهيم، تناقض الاسس والقواعد والقيم والمفاهيم التي قامت عليها الرأسمالية الحرة، والاشتراكية الماركسية».[11].
أمّا الركن الثاني فيطرح طرحاً ذاتياً وموضوعياً. فأمّا الذاتي فيكمن في التكوين الطبيعي في ظل التربية الخاصة التي ينشيء الاسلام عليها الفرد في المجتمع الاسلامي. وأمّا موضوعياً فعبر المبدأ القائل: لاحرية للشخص فيما نصت عليه الشريعة المقدسة، من ألوان النشاط التي تتعارض مع المثل والغايات التي يؤمن الاسلام بضرورتها.
وبخصوص الركن الثالث فتم عرضه عبر الصورة الاسلامية للعدالة الاجتماعية والتي تحتوي على مبدأين عامين، لكل منهما خطوطه وتفصيلاته:
أحدهما: مبدأ التكافل العام.
والآخر: مبدأ التوازن الاجتماعي[12].
هذه هي الاركان التي يقوم عليها الاقتصاد الاسلامي، اما عن المذهب الاقتصادي في الاسلام فله صفتان أساسيتان: الواقعية والأخلاقية.
لأن الاقتصاد الاسلامي واقعي وأخلاقي في طريقته وغايته. حيث لا يوجد هناك انفصام بين شكله ومضمونه وأبعاده وأهدافه. وهذه هي الاشكالية التي يتم تجاوزها هنا.. وهي اشكالية العلاقة بين المعطيات الواقعية فيما بينها.. المعطى السياسي والمعطى الثقافي والمعطى الاقتصادي والمعطى الاجتماعي. لأن الاقتصاد الاسلامي جزء من كل. لذلك «فمن الخطأ أن لا نعير الصيغة الاسلامية العامة اهميتها، وأن لا ندخل في الحساب طبيعة العلاقة بين الاقتصاد وسائر اجزاء المذهب، والتأثير المتبادل بينها في كيانه العضوي العام.. لأن الارتباط القائم في التصميم الاسلامي الجبار للمجتمع، بين كل جانب منه وجوانبه الاخرى، يجعل شأنه شأن خريطة يضعها أبرع المهندسين لانشاء عمارة رائعة، فليس في امكان هذه الخريطة أن تعكس الجمال واروعة ـ كما أراد المهندس ـ الا اذا طبقت بكاملها»[13].
وهذا الارتباط المذكور أعلاه والتفاعل بين الاقتصاد الاسلامي ومفردات الحياة العامة يمكن تلخيصه في التالي:
1ـ ارتباط الاقتصاد الاسلامي بالعقيدة.
2ـ ارتباط الاقتصاد الاسلامي بمفاهيم الاسلام عن الكون والحياة.
3ـ ارتباط الاقتصاد الاسلامي بروحانية الاسلام ومثله.
4ـ ارتباط الاقتصاد الاسلامي ومذهبه بالسياسة المالية للدولة.
5ـ ارتباط الاقتصاد الاسلامي بما يحدد من الغاء الربا وأحكام الاسلام الاخرى في المضاربة والتكافل العام والتوازن الاجتماعي.
6ـ ارتباط الاقتصاد الاسلامي بما ينص عليه بخصوص أحكام الملكية الخاصة منجهة وأحكام الجهاد التي تنظم علاقات المسلمين بغيرهم في حالات الحرب.
7ـ ارتباط الاقتصاد الاسلامي بالتشريع الجنائي في الاسلام.
8ـ ارتباط الاقتصاد الاسلامي بالنظام السياسي الاسلامي[14].
ب ـ الاهداف
تتمحور اهداف هذه المنطلقات حول هدفين رئيسين:
الأول: مصالح الانسان الطبيعيّة.
الثاني: مصالح الانسان الاجتماعية.
ومن خلال هذه الاهداف تتجلى بوضوح مركزية الاشكالية الاجتماعية كافراز طبيعي ونتيجة لوجود الانسان كخليفة، بمعنى آخر كيف يندفع الانسان الى تحقيق المصالح الاجتماعية وتنظيم المجتمع بالشكل الذي يضمنها؟[15].
فما دامت هناك فوارق أساسية بين المصالح الطبيعية والمصالح الاجتماعية للانسان، وهنا التناقض القائم بين المصالح الاجتماعية والدوافع الذاتية، فلا يمكن للمجتمع الانساني الظفر بكماله الاجتماعي الا اذا توفرت له شروط، وعلى رأسها: مسألة الاطار العام، الذي يضم جميع أنشطة الكائن البشري، والحالة هذه اطار الوحي. وهو الوحيد القادر على التجاوب مع الفطرة ومعالجة اشكالية الانسانية الاجتماعية.
وكخلاصة لهذا الفهم الجديد للمشكلة الاقتصادية.. نجد:
1ـ أن حل المشكلة الاقتصادية للانسان مرتبط ارتباطاً عضوياً بايجاد حل للاشكالية الاجتماعية.
2ـ ان الوحي هو الاطار العام لمذهب الاقتصاد الاسلامي. ما دام هذا الأخير يعتبر جزءاً من تنظيم اجتماعي شامل للحياة.
ووجه التأسيس في كل هذا يكمن في الآتي:
أ ـ التأكيد وبصفة علمية بحتة على أن الاقتصاد الاسلامي ليس علماً.
ب ـ اعتبار وظيفة الاقتصاد الاسلامي وظيفة مذهبية بحتة، وهي تقوم على الكشف عن الصورة الكاملة للحياة الاقتصادية وفقاً للتشريع الاسلامي، ودرس الآفكار والمفاهيم العامة التي تشع من وراء تلك الصورة كفكرة انفصال شكل التوزيع عن نوعية الانتاج، وما اليها من أفكار[16].
ج ـ تقرير امكانية أن يتكون للاقتصاد الاسلامي علم ولكن بشرط أساسي وهو تجسيد هذا الاقتصاد في كيان المجتمع بجذوره ومعالمه وتفاصيله، ثم دراسة أحداثه وتجاربه الاقتصادية دراسة منظمة.
د ـ اعتبار المشكلة الاقتصادية فرع من الاشكالية الاجتماعية العامة للانسان الخليفة.
ه ـ عدم وجود أولوية للمشكلة الاقتصادية على المشكلتين السياسية والثقافية.
و ـ اعتبار حل المشكلة الاقتصادية مرتبط بحل المشاكل المتعلقة بالاشكالية الاجتماعية.
ز ـ اعتبار علاقات التوزيع منفصلة عن شكل الانتاج. وعلى أساس هذا المبدأ (مبدأ الفصل بين النظام الاجتماعي وأشكال الانتاج). يقدم الاسلام نظامه الاجتماعي بما فيه مذهبه الاقتصادي بوصفه نظاماً اجتماعياً صالحاً للامّة في كل مراحل انتاجها وقادراً على اسعادها حين تمتلك سر الذرة، كما كان يسعدها يوم كانت تحرث الأرض بيدها[17].
ح ـ اعتبار المشكلة الاقتصادية، من وجهة نظر الاسلام، ليست في قلة موارد الطبيعة كما تقول الرأسمالية، ولا في التناقض المزعوم بين شكل الانتاج وعلاقات التوزيع كما تقول الماركسة.. ولكن في سببين رئيسيين هما: الظلم وكفران النعمة الاللهية. الظلم يتجلى في سوء التوزيع، وكفران النعمة في اهمال الاستثمار والموقف السلبي منه.
ط ـ اعتبار العمل سبب الملكية، زيادة على كون العمل سبب لتملك العامل للمادة، ولس سبباً لقيمتها.
ي ـ اعتبار مسألة التوزيع خاضعة للقوانين التالية:
* العمل أداة رئيسية للتوزيع بوصفه أساساً للملكية.
* الحاجة أداة رئيسية للتوزيع بوصفها تعبيراً عن حق انساني ثابت في الحياة الكرمية.
* الملكية أداة ثانوية للتوزيع عن طريق النشاطات التجارية التي سمح بها الاسلام ضمن شروط خاصة لا تتعارض مع المبادىء الاسلامية للعدالة الاجتماعية[18].
ك ـ في مجال التداول (المبادلة) اعتبار النقد وكيلا عاماً عن السلع وأداة لقياس قيمتها وتسهيل تداولها لا أداة تنمية للملك مستقلة بذاتها[19].
هذه هي مجمل القوانين الضرورية لتسيير النظام الاقتصادي الاسلامي ختم بها هذا الأصل الثالث عملية التأسيس المنهجي والاجرائي الشامل لمشروع نهضة شاملة.
فما هي اذن خلاصة النتائج والمهام على المستوى الاجرائي/ العملي التي من الضروري والواجب استخلاصها من هذه القراءة حتى تبقى لهذا المشروع وظيفته العملية التغييرية على مستوى الواقع العالمي المعاصر بصفة عامة ومستوى الواقع الاسلامي بصفة خاصة؟
ثم ماذا عن مهمة الكبرى.. وهي اعادة التأسيس والتي نحن مطالبون بها حاضراً ومستقبلا؟ لأن الاكتفاء بالقراءة للبنية التأسيسية للمشروع دون العمل على ابداع قراءة تأسيسية تكون بنفسها كمقدمة وكتوطئة لعملية اعادة التأسيس لهذا المشروع الاسلامي الحضاري الأصيل.. لا تكفي أبداً ولن يكون لها مردود عملياً واجرائياً، وبالتالي سيقى مشروع الامام الصدر طي الكتب تأكله الأيام والسنون فيتحول الى تراث بالمفهوم الفولكلوري.. وهذه أكبر خيانة لوصية الشهيد.
وحتى لا نسقط في هذه الورطة كان لزاماً استخلاص ما يمكن فعله حاضراً ومستقبلا من اجل التمكين لهذا المشروع في الأرض باذن الله تعالى.. وهذا ما سنحاوله فيما يأتي.
النتائج والمهام
«وهذه النزعة «الاستصحابية» الى ما كان والحفاظ على ما كان يجعلنا غير صالحين لمواصلة مسؤولياتنا، وذلك لأن أساليب العمل ترتبط بالعالم.
ترتبط بمنطقة العمل، ترتبط بالبستان الذي تريد أن تزرع فيه، وهذا البستان وهي الامة التي تريد أن تزرع فيها بذور الخير والتقوى والورع والايمان.. ليست لها حالة واحدة، الامّة تتغير، نعم اسلامك لا يتغير، لكن الامّة تتغير. الامة اليوم غير الامّة بالأمس في مستواها الفكري، في مستواها الأخلاقي، في علاقاتها الاجتماعية في أوضاعها الاقتصادية، في كل ظروفها. الامة اليوم غير الامّة بالأمس. وحيث أن الامّة اليوم غير الامّة بالأمس لا يجوز لك أن تتعامل مع الامّة اليوم كما تتعامل مع الامّة بالأمس، أنت اليوم حينما تريد أن تتصل بانسان من أبناء الامّة في بلد آخر لا تمشي على رجليك ولا تركب حيواناً، وانما تركب سيارة لكي تصل الى هناك، يعني أنك غيّرت أساليب عملك مع ابناء الامّة لماذا؟ لأن الامة تغيرت. لهذا يجب أن تأخذ بعين الاعتبار الظروف والتغيرات والتصورات التي توجد في الامّة. هذه التصورات والتغيرات التي توجد في الامّة تحدد لنا أساليب العمل، وليس بالامكان أن يكون هناك أسلوب واحد يصدق على الامّة اليوم وعلى الامّة بالأمس وعلى الامّة غداً»[20].
هذا نص تاريخي واضح في دعواه صريح في معانيه ودلالاته وألفاظه جمع بين البساطة والعمق.. اختصر الأزمة وطرح الاشكالية ووصف الوضع بأحسن ما يكون.. الأزمة متجلية في مستوى وعي المهام لدى طلائع التغيير حيث النزعة (الاستصحابية) المتخلفة..
والاشكالية اشكالية تأسيس واعادة تأسيس لمشاريع ومناهج التغيير.. لأن أساليب العمل ترتبط بالعالم وبمنطقة العمل وهذا شيء متطور باستمرار.
والوضع وضع الامّة المخالف لما كانت عليه منذ قرون ومنذ سنين.. فالامّة تغيرت.. وليس بالامكان أن يكون هناك أسلوب واحد يصدق عليها في كل زمان وفي كل مكان.
والمطلوب، اعادة النظر في كل شيء.. حتى في مشاريع تغيير ونهضة كمشروع الامام الصدر نفسه.. لأنه لم يخرج نفسه من هذه القاعدة. فدعوته هذه لم تستثن أحداً.. فالكل يخضع لعملية اعادة التأسيس المستمرة والمتحركة مع الزمنن والواقع. فكما أن قوى التخلف تتحرك.. فكذلك يجب أن تكون قوى التغيير والتقدم. أما التقوقع على أسلوب واحد.. ومستوى فكري واحد.. وبديل واحد وحتى مشروع تغييري واحد ولو في مستوى مشروع الصدر.. فهذا لن يخدم سوى الخصوم وأصحاب (الاستصحاب) المكتفين والقانعين بما هو كائن وموجود.
لقد كان الامام الصدر في موقع يعطيه كل الحق في الدعوة لمشروعه التأسيسي الضخم بصورة وشكل مطلق.. يعني امّا أن تكون الامّة به أو لا تكون.. ومن كان يقدر أن ينازعه ذلك؟ فقد كان مرجعاً في كل شيء وفي جميع المجالات التي تحتاجها الامّة.. ولكنه لم يفعل.. واكتفى بطرح مشروعه هذا مع الدعوة الملحة لابناء الامّة المخلصين لاكمال العمل والسير قدماً في عملية التأسيس واعادة التأسيس حتى يأتي اليوم الذي يكتمل فيه المشروع الحضاري الاسلامي شكلا ومضموناً فيصبح قادراً وجديراً بفرض وجوده على العالم. نقول هذا حتى لا نصاب نحن ايضاً بمرض الاستصحاب ونعتبر أنه ليس في الامكان أحسن مما كان. ونلقي بكل الواجبات الملقاة علينا على عاتق وكاهل مشروع السيد الشهيد وحده.. ثم نغط في نوم عميق منتظرين حلول اليوم السعيد يوم الاسلام الكبير والعظيم.. اذن.. ما العمل؟ العمل في أن نضع برنامج عمل مستهلماً من روح المشروع الصدري يكون بمثابة مهام مستقبلية.
لكن قبل طرح المهام، ألا يجدر بنا أن نلخص أولا مجموع النتائج والملاحظات التي خرجنا بها بعد قراءتنا للاصول التأسيسية الثلاثة وهي كالتالي:
1ـ الاصول التأسيسية الثلاثة في المشروع الصدري كانت استجابة واقعية وليست فقط نظرية لمعضلات الواقع.. واقع المسلمين وواقع الانسانية في مرحلة تطورها الحضاري الحالي. وبالتالي فهي لم تطرح بهدف التنظير بل بالأساس للتغيير.
2ـ حيث كان الهدف الأسمي لهذا الطرح التأسيسي هو التغيير الواقعي، فقد سلكت عملية التأسيس طريقين:
الأول: منهجي بحت، والثاني اجرائي بحت.
لأن الثاني، ونعني الاجرائية، يتطلب الأوّل ونعني المنهجية. وقبل أن يصبح المشروع اجرائياً وجب عليه أن يكون ممنهجاً. فالمنهجية الصحيحة تساعد كثيراً على النجاح في عملية التطبيق..
وبسبب هذا جاءت الاصول الثلاثة بالشكل والمضمون الذي جاءت به من اجل التمكين للمشروع التغييري ككل من النزول الى ساحة الواقع للمارسة فيه بغية تغييره.
ولهذا كان لزاماً التعامل مع مشروع السيد الصدر تعاملا اجرائياً ومنهجياً والا انتفت ضرورته ومنفعته.
3ـ من نتائج التركيز على نظرية المعرفة وقضاياها في الأصل الأوّل وعلى طبيعة ونوعية العلاقة الرابطة بين عناصرها في الأصل الثاني وممارسة ذلك في الأصل الثالث.. القضاء التام على خرافة ظاهرة الثنائية التكوينية والتشريعية سواء في الطبيعة أو في مجال المعرفة أو في الانسان. وذلك من قبيل اعتبار الانسان كائن مثالي ومادي ومعرفته كذلك وميوله وأفكاره وتجاريبه وممارساته وانعكاس ذلك على طبيعة معتقداته حيث يصبح الحق والحقيقة لا وجود له الا في الواقع الذاتي فقط وليس الموضوعي.. وهذا ما يؤدي الى ضياع الحق نفسه وجميع المفاهيم المرتبطة به، وانتشار الضلال والعبثية والعدمية والتمكين لمشروعيتها في تنفس الانسان وفي محيطه.
وهذا أمر خطير جداً من حيث انعكاساته الحضارية، من سياسية واجتماعية، واقتصادية، وثقافية، والعقائدية. لم يتنبه له سوى الاسلام ككل بطرحه للبديل وهو: التوحيد، بقصد القضاء على هذه الظاهرة التاريخية والتي سماها بالشرك. فلكي لا يصبح الانسان مشركاً معرفياً، وسياسياً، واقتصادياً، واجتماعياً، وثقافياً أكدت الاصول التأسيسية الثلاثة في مشروع السيد الصدر على اشكالية نظرية المعرفة وأعطتها كل ما تستحق من الدرس والبحث والتحليل. وما التدليل العلمي الذي جاءت به هذه الاصول بخصوص توحيد مصادر المعرفة في ثلاثة مصادر الا مقدمة للتمكين لعقيدة توحيد الربوبية والألوهية في اطار مشروع الانسان الخلفية الذي جاء به الاسلام وعمل له.
بناء على هذه النتيجة تصبح مقولات من قبيل الحقيقة الدينية والحقيقة العلمية، والمعرفة الدينية ومنافستها المعرفة العلمية، والفكر الديني والفكر العلمي، والدولة الدينية والدولة العلمانية والعقل والنقل وما الى ذلك.. لا معنى لها بتاتاً وكلام لا واقع له. فما دام الوحي الرباني بشقيه القرآن والسنة المعصومة يشكل عنصراً أساسياً من العناصر المكونة للمعرفة والمنتجة لها، فالمعرفة والمجتمع والدولة والفرد لا يمكن أن يتطبعوا بغير الطبيعة الاسلامية. وهذه الحقيقة تعتبر من أكبر النتائج وأخطرها في المشروع التأسيسي للسيد الصدر. لأنّها تنسف كل قيد وكل شرط وكل عائق يمنع الوحي الرباني من أن يكون اطاراً عاماً للممارسة الانسانية اليومية. وهذه من بركات مرجعية الدليل العلمي بالنسبة لقضية المعرفة اليقينية الموصلة لعقيدة التوحيد، من جهة، وتهميش الدليل الفلسفي العقيم من جهة اخرى.
من هنا لا يبقى مجالا للشك في ضرورة ومصداقية الوحي في بناء الانسان او اعادة بنائه وبناء المجتمع والدولة الحاضنة للانسان الخليفة. وهذا ما يدعم كون الدولة ظاهرة اجتماعية أصيلة في حياة الانسان نشأت على يد الانبياء ورسالات السماء واتخذت صيغتها السوية ومارست دورها السليم في قيادة المجتمع الانساني وتوجيهه من خلال ما حققه الانبياء في هذا المجال من تنظيم اجتماعي قائم على أساس الحق والعدل يستهدف الحفاظ على وحدة البشرية وتطوير نموها في مسارها الصحيح[21].
وظلّ الانبياء يواصلون بشكل وآخر دورهم العظيم في بناء الدولة الصالحة، وقد تولّى عدد كبير منهم الاشراف المباشر على الدولة كداود وسليمان وغيرهما وقضى بعض الانبياء كل حياته وهو يسعى في هذا السبيل كما في حالة موسى عليه السلام واستطاع خاتم الانبياء محمد (ص) أن يتوج جهود سلفه الطاهر باقامة أنظف وأطهر دولة في التاريخ شكلت بحق منعطفاً عظيماً في تاريخ الانسان وجسدت مبادىء الدولة الصالحة تجسيداً كاملا ورائعاً[22].
هكذا تصبح الدولة اذن ضرورة شرعية واجتماعية وحضارية ومن أسمى الاهداف التي عمل من أجل تحقيقها المشروع التأسيسي للامام الصدر.
يقول السيد الشهيد بهذا الخصوص:
«.. فالدولة الاسلامية ليست ضرورة شرعية فحسب بل هي اضافة الى ذلك ضرورة حضارية لانها المنهج الوحيد الذي يمكنه تفجير طاقات الانسان في العالم الاسلامي والارتفاع به الى مركزه الطبيعي على صعيد الحضارة الانسانية وانقاذه مما يعانيه من ألوان التشتت والتبعية والضياع»[23].
ان بناء الانسان واعادة بنائه حتى يصير صالحاً للقيام بوظيفة ودور الانسان الخليفة ـ وحسب هذا الفهم ـ يتطلب مقدمات اذا تحققت تنتج أهدافاً وعلى رأس هذه الأهداف: بناء الدولة الاسلامية القوية.
والمقدمات التي نقصدها تتلخص في بناء نظرية معرفية يكون دورها الأخذ بيد الانسان والسير به حتى يصل الى الحق والحقيقة المتمثلة في العقيدة الصحيحة.. العامل الأساسي في بناء الذات الانسانية وتطوير محتواها الداخلي الى درجة التكامل والتجانس مع مفردات رسالة الوحي ومبادئه وقوانينه وتشريعاته. ومن ثم لعب دوره الذي خلق من أجله: الخلافة في اطار الدولة الاسلامية القية.
يفهم من هذا الكلام، اذن، أن كل ما تم ابداعه عبر الاصول التأسيسية الثلاثة، كان بهدف التقديم لبناء الدولة الاسلامية الحاضنة لمشروع الانسان الخليفة. ومن لم يفهم مشروع الامام الصدر بهذا الفهم فقد بخسه حقه وعمل على اضعافه وضياعه. لأن لهذا المشروع النهضوي منطق داخلي لا يفهم ولا يستوعب الا عبره وبواسطته.. وهو ما يمكن الترميز له بما يلي:
ليس هنالك من اجرائية أكثر مما في هذا المنطق.. وليس هنالك من دعوة صريحة للمارسة الواقعية في اطار نظرية تغييرية حضارية أكثر ممّا في هذا المشروع. اذن فما هي مهامنا نحن معشر الاسلاميين الموزعين على أكثر من منطقة في العالم؟ ما هي مهامنا اتجاه هذا المشروع الخالد؟ أنقف عند حدود الموقف العاطفي أو نقنع بالموقف النظري ونقف عنده لنعيد تحديده ونجتره في كل مناسبة وذكرى؟ أم نتحدى ذلك الى ملامسة الموقف العملي الاجرائي؟ واذا كان الموقف الصحيح هو هذا الأخير فيلزم لذلك مقدمات، ومن هذه المقدمات قضية تحديد المهام، والتي حسب ما اعتقده تشمل النقاط التالية:
1ـ على مستوى المواقف:
* اعتبار مرجعية الامام الشهيد الصدر من حيث مشروعه التأسيسي هذا مرجعية باقية مستمرة كاطار عام لأي مشروع حي وجاد مستقبلي أو حاضر.. قطري أو عالمي.
* اعتبار مشروع كهذا كل لا يتجزأ.. فامّا أن يؤخذ كله أو يترك كله.
* اعتبار الموقف العزائي السلبي اتجاه هذا المشروع بمثابة الخطر الكبير الذي يهدد حاضره ومستقبله.
* اعتبار التبني القطري الانعزالي والطائفي المغلق لهذا المشروع بمثابة حكم بالاعدام عليه.
2ـ على مستوى الفعل:
*العمل على اخراج مواد المشروع الخام اخراجاً تحليلا حضارياً قصد تقديمه سهلا سلسلا وفي متناول شباب وشابات أمتنا الاسلامية الحاضرة والمستقبلية.
* العمل حركياً على ابتكار وتطوير مختلف الاساليب اللازمة لتجسيد المشروع على أرض الواقع العملي سواء كانهذا الواقع، واقع فرد او جماعة او دولة او حركة.
* الابتعاد ما أمكن عن الاسلوب الاستعراضي والدعائي في التعامل مع المشروع. وكذا فيما يخص تقديمه كواجهة للمشروعات الخيرية الضعيفة التأثير والمردودية.
* خلق واستثمار الفرص والمناسبات سواء على المستوى الدولي او الاقليمي للتعريف بالمشروع وأبعاده وبصاحبه وعبقريته.
* تشجيع ودعم الاعمال النقدية الصادرة عن الشخصيات المبدعة داخل الدائرة الاسلامية ومن أي تيار كانت، مادياً ومعنوياً وأدبياً، وذلك عن طريق طرح دعوة عامة الى كل ناقد مبدع لتقديم عمل بخصوص المشروع أبعاداً ومضاميناً وأهدافاً.
* خلق لجنة متابعة للسهر على مثل هذه الاعمال النقدية الابداعية، وعدم الاكتفاء بالمتابعة الموسمية أو السنوية المتبعة حتى الأن لأنّها غير مجدية.
* طبع ونشر وتوزيع على نظاق واسع، جميع هذه الاعمال النقدية الابداعية مع اعطاء الاولوية للجامعات والمراكز العلمية والثقافية والتنظيمات الحركية داخل وخارج العالم الاسلامي.
هذه نماذج من المهام الآنية التي يتطلبها مشروع الامام الصدر (رض) في الوقت الحاضر، أردنا بها احداث قفزة نوعية الى الأمام من حيث طبيعة تعاملنا المستقبلي مع المشروع وصاحبه، وحتى نستطيع تحقيق بعض طموحاته في النهضة والتقدم والحرية والعدالة لجميع أبناء آدم وخاصة منهم أبناء الامّة الاسلامية جمعاء. فهل تجد هذه المهام من يتعهدها بالانجاز والتنفيذ حتى تثمر خيراً ننتفع به نحن وأجيالنا القادمة في كدحنا نحو تحقيق مجتمع الانسان الخليفة؟
هذا ما نرجوه من العلي القدير.. وما توفيقنا الا بالله عليه توكلنا واليه المصير، والحمد لله رب العالمين.
عبد الحق مصطفى
الفهرس
* مقدمة
* المنطلقات والاهداف
* الاصل الاول: فلسفتنا
* الاصل الثاني: الاسس المنطقية للاستقراء
نظرية الاحتمال كتأسيس
* الاصل الثالث: اقتصادنا
المنطلقات
الاهداف
الاول: مصالح الانسان الطبيعية
الثاني: مصالح الانسان الاجتماعية
* النتائج والمهام
عبد الحق مصطفى
* مواليد المغرب 1960م.
* باحث في الفلسفة والفكر الاسلامي.
* حصل على شهادة عليا في العلوم الفيزيائية.
* دبلوم في الدراسات الاسلامية.
* مارس التدريس والصحافة لعدة سنوات.
* له نشاطات ثقافية في اوساط الجالية الاسلامية في المهجر.
* يعيش حالياً في بلجيكا.
[1] د. عبد الله زيعور، أصداء فيزيائية لخطى الكون العاقل. المنطلق عدد: 104 ص 55.
[2] المحنة، ص: 78 ـ 79.
[3] انظر الفكر الجديد: العدد السادس: الامام الصدر نموذج قراءة في مشروعه التأسيسي، ص: 107.
[4] الاسس المنطقية للاستقراء، ص: 8.
[5] الاسس المنطقية للاستقراء، ص: 223 ـ 224.
[6] الاسس المنطقية للاستقراء، ص: 329.
[7] نفس المصدر، ص: 325.
[8] نفس المصدر، ص: 326.
[9] اقتصادنا، ط: 5، ص، مؤسسة الكتاب الاسلامي للدراسات والترجمة والنشر، باريس.
[10] اقتصادنا، ص: 266.
[11] نفس المصدر السابق، ص: 268.
[12] نفس المصدر السابق، ص: 274.
[13] اقتصادنا، ص: 279 ـ 281.
[14] نفس المصدر، ص: 283 ـ 287.
[15] نفس المصدر، ص: 291.
[16] نفس المصدر السابق، ص: 302.
[17] نفس المصدر السابق، ص: 308.
[18] نفس المصدر السابق، ص: 343.
[19] نفس المصدرالسابق، ص: 334.
[20] المحنة، ص: 78 ـ 77.
[21] الاسلام يقود الحياة، ص: 13، ط، دار التعارف للمطبوعات ـ بيروت.
[22] نفس المصدر، ص: 14.
[23] نفس المصدر السابق، ص: 159.