تمور في الساحة الاسلامية مجموعة فعاليات ثقافية واعلامية، تتوزع اقاليم ومدن عديدة في العالم الاسلامي وغيره تمارسها حركات ونواد وجمعيات ومؤسسات ومساجد وصحف ودوريات كثيرة، ويشارك في انشطتها العديد من الدعاة والخطباء والكتاب والاعلاميين، تتباين عطاءاتهم بين الخطاب السجالي التعبوي، وبين بيان المفاهيم والمقلات الاولية في الفكر الاسلامي.
لكن خطاب الجميع يتسم بالتعميم تارة، فيما يتسم بالالتباس والابهام والتداخل تارة اخرى، ولا يجري فرز وتصنيف، او تحليل وتقويم للاشكاليات والتحديات الراهنة التي تواجهها الدولة الاسلامية والمجتمعات الاسلامية الحاضرة، ومن ثم تقريب واستكشاف مواقف العقيدة والشريعة منها.
فمثلا نجد هذا المقال يتناول الاختراق الثقافي، وذاك الخطيب يشدد على مخاطر المواجهة الحضارية بين الاسلام والغرب واشكالية العلاقة بالآخر، ومن دون تحسس في ما يطرحه اي واحد منهما محاولة فكرة جادة ودقيقة لتجاوز الشعارات يالصيحات التحريضية، باتجاه قراءة الواقع، واستنطاقه بقراءة منهجية تلم بأدوات ووسائل التحليل والبحث العلمي، لتغور في الاعماق وتكتشف سنن التغيير والمداولة والصراع، وتعدد لنا ما ينبغي استدعاءه من التراث، وما ينبغي التأكيد عليه واستيعابه وهضمه وتمثله من الموروث المعرفي الاسلامي، كزاد لا غنى عنه في هذه الفترة من تاريخنا، لان هذا الموروث هو الذي تقومت به هوية الامة، وتشكلت طبقاً له شخصيتها الحضارية، وارتسم في ضوئه مسارها التاريخي، وتجلت من خلال الوعي بمعالمه وتفاصيله ذاكرتها ازاء ماضيها وتاريخها.
فالوعي بالحاضر يتأسس على الالمام بالماضي اولا، لان الماضي هو الذي يكّون الحاضر، وبالتالي يوجه حركة المجتمع نحو المستقبل، ولا يصح ابداً لمن اراد ان يتعرف على حاضره بصورة واضحة ان يتجاوز الماضي، فالحاضر ليس الا سجلات الانسان من ابداعات وتحليات وتنويعات لمعارف وتراث ماض،! تتفاعل ايجابياً مع ما تفرزه وتطرحه الايام! من اسئلة واستفهامات متجددة.
وعلى هذا فلن يتحقق الوع الايجابي الفاعل بالحاضر الا عبر استدعاء ما يختزنه الماضي من قيم ومقولات ومنظومات المعارف والافكار.
بيد ان التعامل مع الماضي واستيحاء عناصره الحية لا يستطيع عليه كل احد، فكما يختزن التراث مقومات قوة الامة المسلمة وكمالها، تتكدس فيه عناصر قاتلة فضلا عن العناصر الميتة، استنزفت طاقات العقل المسلم قرون عديدة.
فبينما كان الانسان الاوروبي يؤسس لنهضته الحديثة، ويجدد بناء منظومته المعرفية ويوجه عقله نحو اكتشاف الطبيعة وسبر اغوارها، كان العقل المسلم يستنزف في مشاغل ثانوية، حتى بلغ التشتت والتضييع في تلك الفترة حداً مزرياً، فقد تجاوزت شروح بعض المتون الادبية وغيرها العشرات، واستغرق بعض الباحثين في مسائل غربية، فمثلا ألّف احدهم «رسالة في نوم الملائكة»، وألّف آخر «رسالة في زواج الجن»، وألّف ثالث ورابع.. الخ، مؤلفات في قضايا ومشكلات موهومة، بينما غيبت المشكلات المصيرية وانقطع هذا العقل عن المستقبل، في الوقت الذي كان فيه الانسان الغربي على الشاطىء الآخر من (المتوسط) منهمكاً في التخلص من الافكار الميتة والقاتلة، فقد كان الجدل يحتدم حول مسائل هامشية مثل: “ما هو عدد الملائكة التي يمكن ان تحل في رأس ابرة؟»، لدى «الفلسفة المدرسية» في اوروبا في العصور الوسطى، ولولا تجاوز العقل الاوروبي لهذه الافكار لما استطاع ابداً ان يتجه الأبداع والابتكار ويحقق المكاسب الكبرى في تطوره التقني.
من هنا لا بد من الفرز والتمييز على بصيرة بين ما لا بد من استمرار حضوره وبقائه من الماضي، وما لا بد من تجاوزه والتعامل معه باعتباره نتاج عصر معين هو زبد ذلك العصر.
ان افرازات وشطحات عصر التداعي العقلي والانحطاط الفكري الذي عاشته بعض اجيال المسلمين، فترك بصماته على انتاجهم الفكري آنذاك، يعتبر تجاوزها المقوّم الآخر لبناء نهضتنا الحاضرة، فكما تتقوم هويتنا بالتواصل مع معطيات وابداعات العقل المسلم بالامس من جهة، كذلك يكون لزاماً علينا تجاوز ما كبّل هذا العقل في بعض الفترات.
ولعل من ابرز الاشكاليات التي ترتهن الخطاب الاسلامي المعاصر، هي حالة التكرار والاجترار التي لم يتغلب عليها، فأضحى افضل ما يقال او يكتب، ما هو الا شرح وتلخيص وترديد لمقولات وافكار اطلقها مفكرون في عصور سالفة.
لكن المتأخرين لم يراكموا هذه المقولات، ولم يعملوا على تعزيز وتأصيل مقولات ونظريات تستجيب للتحديات والاستفهامات المتجددة، وانما استغرقوا في الشروح والحواشي على المتون والنصوص الموروثة من السلف، فتراجع دور العقل بعد ان نشطت فعالية الذاكرة، وكأن ذاكرتهم ارتدت القهقهري نحو عصور الركود والانحطاط، يوم تعطلت فعالية العقل وتعطلت روح الابداع، وتمحورت كل الجهود على الحواشي والتعليقات، فتهمش الدور الاساسي للعقل في التنظير والتأسيس والاكتشاف، في اطار التواصل مع السلف.
ويبدو ان السبب الرئيس لهذه الحالة، هو انخفاظ القدرة على التمثل، فما لم يتم تمثل واستيعاب معارف السلف واسهاماتهم، لا يمكن الاستمرار في العطاء، اذ ليس هناك من يبدأ من الصفر في التاريخ، فكل عطاءات الانسان هي ما يأتلف من تراكمات التجربة البشرية منذ بداية ظهور المجتمع على الارض.
وتتفاوت اسهامات الاجيال في اغناء التجربة والمشاركة الخلاقة في تطوير حركة التاريخ، ينجم عن اختلافهم في وعي وتمثل ما راكمته الاجيال السابقة من خبرات ومعارف.
وما يحدث من انكسارات وتراجعات في مسار تجارب البناء لدى المجتمعات، ينشأ في الاعم الاغلب من انهيار الذاكرة التاريخية، وفقدان الوعي، ونسيان كل معطيات وتجارب الانسان منذ فجر التاريخ، فيفضي المجتمع الى مستقبل دون ماضي او حاضر لا ماضي له، لانه لم يعد قادراً على اختزان الافكار وتركيبها، ويظل يكرر ذاته ولا يتقدم خطوة واحدة الى الامام، ويفقد القدرة على تأسيس اي موقف اصيل، بفعل ما تعرض له من اعاقة وتفريغ حضاري.
بيد ان ما يزحزح حالة الركود ويعمل على تحرير وعي الامة وقدراتها المختزنة هو صيحات المجددين ممن يطلقون خطاباً يحطم السكون المهيمن على حياة الامة، فينطلق تيار من المقولات والافكار تستلهم التراث وتستجيب لتحديات الحاضر.
وقد استطاع بعض المفكرين المسلمين في هذا العصر ان ينجز اعمالا، ويبتكر نظريات، ويؤصل مقولات منهجية، تتجاوز الفضاء المحدود الذي يتحرك فيه الخطاب الاسلامي المعاصر، ويمكن اعتبار فكر المفكر الاسلامي مالك بن نبي، وفكر الامام الشهيد محمد باقر الصدر من ابرز نماذج الفكر التجديدي في هذا العصر.
فمثلا استطاع الشهيد الصدر ان يتجاوز الاهتمامات التقليدية والمشاغل المعروفة بين الاسلاميين الى الاهتمام بالاشكاليات الراهنة التي تواجه الاسلام والمجتمعات الاسلامية، فشمر ساعده لمنازلتها، من خلال مشروع معرفي متكامل، بدأ بقراءة المذاهب والمناهج الغربية الوافدة، وتحليلها وتفكيكها ونقضها، وبالتالي رد الغرب الى حدوده الطبيعية التي ولد فيها، وبيان ان منظومة معارفه هي نتاج بيئته وتاريخه الخاص، بما يكتنف هذا التاريخ من منعطفات، وما يتحكم به من مسار خاص، انحرف عن هدي السماء وارتكس في او حال المادية، ودراسة فكره على انه جزء منه، وانه محكوم بتاريخه هذا وليس خارج التاريخ، ومن ثم اعادة الاعتبار (للأنا) والقضاء على عقدة النقص وروح الانبهار التي وقع في اسرها بعض رواد الاصلاح في القرن التاسع عشر في العالم الاسلامي، حين التقوا المدنية الغربية اول وهلة، فأضحوا غير قادرين على اكتشاف الأنا (الذات) الا من خلال مرآة الآخر.
وانتهى الشهيد الصدر الى اعادة تشييد الاسس والمقومات الاساسية لفلسفة اسلامية معاصرة، تجد فيها الأنا صورتها الحقيقية، بعد ان تعرضت هذه الصورة للمسخ والتشوية، بفعل ما كان يحدده الباحثون الغربيون من ابعاد مزيفة لهذه الصورة، قد يكون انتهاب ثقافات الشعوب، والاجهاز على موروثها الحضاري، احد تلك الابعاد، او بفعل ما التقطه المفكرون والكتّاب في ديارنا من وعي زائف عن اولئك الباحثين، وراحوا يعملون على اشاعة هذا الوعي والتثقيف عليه، كما نجد ذلك بنحو واسع في الفكر العربي الحديث منذ القرن التاسع عشر.
لقد اسهم العطاء الفكري للشهيد الصدر في التبشير بنمط جديد من الوعي بالاسلام ومناهج التفكير الاسلامي، واكتشاف تهافت المرتكزات المادية للفكر الغربي الحديث، وتفنيد التصور الذي قدمه هذا الفكر عن الكون والانسان والتاريخ، وتحديد الحدود الدقيقة لمساحته التي يمكن ان يقول فيها كلمته، ونقض دعوى العلمية في بعض الفلسفات الاوروبية الحديثة، وانهاء هذه الاسطورة في المادية الديالكتيكية، باعتبارها الفلسفة الوحيدة ذات الرؤية العلمية.
وبذلك اضحى الشهيد الصدر مؤسساً او مواصلا التأسيس لخطاب اسلامي جديد، لا يقتصر على النقد المنهجي للفكر الغربي واسقاطاته في الفكر العربي الحديث، وانما يتجاوز ذلك الى العمل على اعادة الثقة بالعناصر والمقومات الذاتية للامة المسلمة، وبعث عناصر الحياة واستدعاء روح الابداع الكامنة في تراثها وماضيها، لان اية محاولة للبناء والتنمية لا تقوم على الامكانات الذاتية للامة، لا يمكن ان تتقدم خطوة واحدة الى الامام، طبقاً لما قرره الشهيد الصدر في ان «حركة الامة كلها شرط اساسي لانجاح اي تنمية، واي معركة شاملة ضد التخلف، لان حركتها تعبير عن نموها، ونمو ارادتها، وانطلاق مواهبها الداخلية، وحيث لا تنمو الامة لا يمكن ان تمارس عملية تنمية، وتجربة الانسان الاوروبي الحديث، هي بالذات كأطارات لعملية التنمية لم تسجل نجاحها الباهر على المستوى المادي في تاريخ اوروبا الحديثة الا بسبب تفاعل الشعوب الاوروبية مع تلك المناهج وحركتها في كل حقول الحياة، وفقاً لاتجاه تلك المناهج ومتطلباتها واستعدادها النفسي المتناهي خلال تاريخ طويل لهذا الاندماج والتفاعل، فحين نريد ان نختار منهجاً او اطاراً عاماً للتنمية الاقتصادية داخل العالم الاسلامي، يجب ان نأخذ هذه الحقيقة اساساً ونفتش في ضوئها عن مركب حضاري قادر على تحريك الامة، وتعبئة كل قواها وطاقاتها للمعركة ضد التخلف، ولا بد حينئذ ان ندخل في هذا الحساب مشاعر الامة، ونفسيتها، وتاريخها، وتعقيداتها المختلفة»[1].
ولو حاولنا ان نراجع فكر الشهيد الصدر سنجد انه يؤكد في كل ما كتب على ما اسماه بالمركب الحضاري في الامة، المركب الذي يتأتى من هوية الامة، وعقيدتها وتراثها، وتاريخها، ويمثل الشرط الاهم في نهوض الامة وخروجها من نفق التخلف.
التنظير في فكر الشهيد الصدر
اتسمت اعمال الشهيد الصدر بأنها تعبير عن محاولات منهجية جادة لتأصيل نظرية اسلامية في كل حقل من حقول المعرفة الاسلامية التي اهتم بالكتابة فيها.
ولو حاولنا ان نتعرف بدقة على ما تسعى مجموعة مؤلفاته لتأسيسه، سنلاحظ بوضوع انها تنتظم في مشروع واحد، وهو محاولة تحديد اطار نظري في بحث ودراسة الفكر الاسلامي، وتحديد منهج اخر في البحث يتواءم مع متطلبات الحياة المعاصرة.
وبكلمة اخرى ان الهم الاساسي الذي يضطلع به مشروع الشهيد الصدر هو الحرص على اكتشاف نظريات الاسلام في التاريخ، والاقتصاد، والسياسة، والمجتمع الخ، فهو مكتشف كبير دأب على الاخذ بمنهج التفكير الاسلامي نحو آفاق جديدة لم يعهدها هذا التفكير من قبل، الا بصورة محدودة في اعمال بعض المفكرين المسلمين ممن سبقوه، فيما كان هذا التفكير يتحرك في دائرة المنهج المتوارث في معاينة مشكلات الحياة، والتعرف على مواقف الشريعة منها، ولذلك ظل يكرر الاجابات ذاتها على هذه المشكلات، من دون ان يتمكن من اكتشاف فضاءات اخرى يغور من خلالها في وقائع الحياة، ويستنطق القرآن الكريم والسنة الشريفة، لكي يقول الاسلام كلمته المطلوبة ازاء تلك الوقائع.
لقد توفرت مؤلفات الشهيد الصدر على اتجاه جديد تخطى من خلاله الفكر الاسلامي الحديث الحالة التقليدية التى ارتهن فيها، وأضحت للاسلام كلمته في مواجهة الايديولوجيات الاخرى، حيث برز الاسلام كأيديولوجيا معاصرة تنفي كل التهم الظالمة، وتمتد لتستوعب كل مشكلات الانسان، وتقدم الحلول الناجعة لها، وتتسع لتغطي تمام حاجات ومتطلبات المجتمعات الحديثة من مقولات ونظريات، ونظم، وقوانين.
وفي مراجعة سريعة للتراث الفكري للشهيد الصدر سنجد ان محاولة التأصيل النظري تنبسط على تمام اعماله، بالرغم من تواصلها في الصدور ما يزيد على العشرين سنة، فمثلا نراه في اقتصادنا ينجز الخطوة الاولى الأهم على طريق مشروع اكتشاف وصياغة المذهب الاقتصادي في الاسلام، وهي محاولة لم يسبق بها من قبل فيما نعلم.
وبغية ان نتعرف على ملامح هذه المحاولة، ينبغي ان نقرأ ما توخاه لها الشهيد الصدر، وما توخاه منها من دور مأمول في حركة تطور الفكر الاسلامي، وما يمكن ان تبشر به وتشيعه من منحى جديد في منهج الدراسات الفقهية وتأصيل النظم الاسلامية، وما تمتاز به هذه العملية عن ما يناظرها من دراسات في المذاهب الاخرى، وبذلك يحدد بشكل واضح وجهة البحث في عملية الاكتشاف التي ينجزها المفكر الاسلامي في اشادة اركان ورسم معالم المذهب الاقتصادي في الاسلام، والمفكر الاقتصادي الغربي الذي يمارس عملية ابتكار وتكوين المذاهب الاقتصادية الاخرى، «فالمفكر الاسلامي امام اقتصاد منجز تم وضعه، وهو مدعو الى تمييزه بوجهه الحقيقي، وتحديده بهيكله العام، والكشف عن قواعده الفكرية، وابرازه بملامحه الاصلية، ونفض غبار التاريخ عنها، والتغلب بقدر الامكان على كثافة الزمن المتراكم والمسافات التاريخية الطويلة، وايحاءات التجارب غير الامينة التي مارست ـ ولو اسمياً ـ عملية تطبيق الاسلام، والتحرر من اطر الثقافات غير الاسلامية التي تتحكم في فهم الاشياء، وفقاً لطبيعتها واتجاهها في التفكير، ان محاولة التغلب على كل هذه الصعاب، واجتيازها للوصول الى اقتصاد اسلامي مذهبي، هي وظيفة المفكر الاسلامي.
وعلى هذا الاساس يمكن القول بأن العملية التي نمارسها ـ والقول للشهيد الصدر ـ هي عملية اكتشاف، وعلى العكس من ذلك المفكرون المذهبيون الذين بشروا بمذاهبهم الرأسمالية والاشتراكية، فانهم يمارسون عملية تكوين المذهب وابداعه»[2].
في ضوء هذا المنهج تغلب الشهيد الصدر على المشكلات المنهجية التي كان يمنى بها الباحثون في الفكر الاقتصادي الاسلامي، حيث تتجه ابحاثهم نحو الاتجاه التجزيئي، فتتعامل مع التشريعات الاقتصادية في الاسلام باسلوب متجزأ مفكك، فتارة تكثف النظر على بعض الادلة الشرعية التي تقرر احد اشكال الملكية كالملكية الفردية، مع قطعها عن سائر الادلة التي تقرر الاشكال الاخرى للملكية، فتقوّلها لتزعم ان المذاهب الاقتصادي في الاسلام يتطابق مع المذهب الرأسمالي، وتارة اخرى تنحو هذه الابحاث منحى اخر، زاعمة ان الاقتصاد الاسلامي اقتصاد اشتراكي.
بل ان الدراسات الموضوعية الاصيلة التي اعتمدت المنهج التجزيئي، وحاولت ان تثبت وجود نظام اقتصادي اسلامي، لم تتمكن ان تتقدم خطوة واحدة الى الامام، وتؤصل الهيكل العام والاركان الاساسية لهذا النظام.
بينما تغلب الشهيد الصدر على هذه المشكلة المنهجية في ضوء الاتجاه المنهجي العام الذي ترسم خطاه في تمام اعماله، والذي يهدف لتجاوز اسلوب الدراسات التجزيئية في الفكر الاسلامي، وتبني اسلوب النظرة الكلية الموضوعية، وما تنتهي اليه هذه النظرة من تأصيل الموقف النظري العام للاسلام من شؤون الحياة الاجتماعية المختلفة.
وأحست ان تبني هذا الاسلوب الذي ينظر للاسلام ككل مترابط متسق متوازن، في الدراسات الفقهية، والقرآنية ـ بل حتى التاريخية، سيحقق للفكر الاسلامي فتوحات هامة، وينقله نقلد كبيرة الى آفاق جديدة لا يمكن ان يصلها لو ظل يتحرك في اطار النظرة التقليدية التجزيئية.
لقد ارسى الشهيد الصدر اسس المنهج الموضوعي في دراسة الاسلام، فكانت اعماله مرآة ناصعة تتجسد فيها خطوات هذا المنهج وتنتهي الى قطف ثمراته. ويبدو انه كان يستشرف مستقبل الاسلام في هذا العصر، فيبصر ما يلوح في الافق البعيد من تحديات معرفية معقدة، واشكاليات فكرية متنوعة تثيرها مستجدات الحياة مع توالي الايام، وتراكم المشكلات في حياة المجتمعات المعاصرة. وكان يعرف بدقة عدم قدرة الاسلوب التجزيئي في الدراسات الاسلامية في الوفاء بالمتطلبات الراهنة في الحياة الاسلامية.
ولذلك حرص على اشاعة تقاليد هذا الاسلوب المبتكر في الدراسات الاسلامية، فاهتم بتعميم تطبيقاته مع تمادي الايام في خارج دائرة الفقه الاقتصادي، فمثلا حث على تنبيه في دراسة وقائع التاريخ الاسلامي والسيرة الشريفة لأهل البيت عليهم السلام، وألمح الى النتائج والآثار العظيمة التي سيفصح عنها اعتماد هذا الاسلوب، باعتباره يقوم على اكتشاف الترابط والانسجام بين اعمالهم، ونفي ما قد يبدو من تباين واختلاف بين ادوارهم وطبيعة الاهتمامات التي تجلت في سلوكهم.
وأفصح عن هذا الاتجاه بأنه: «الاتجاه الذي يتناول حياة كل امام ويدرس تاريخه على اساس النظرة الكلية بدلا من النظرة التجزيئية، اي ينظر الى الائمة ككل مترابط، ويدرس هذا الكل وتكتشف ملامحه العامة، واهدافه المشتركة، ومزاجه الاصيل، ويفهم الترابط بين خطواته، وبالتالي الدور الذي مارسه الائمة جميعاً في الحياة الاسلامية.. حين نحاول اكتشاف الخصائص العامة والدور المشترك للائمة ككل، فسوف تزول كل تلك الاختلافات والتناقضات لانها تبدو على هذا المستوى مجرد تعابير مختلفة عن حقيقة واحدة، وانما اختلف التعبير عنها وفقاً لاختلاف الظروف والملابسات التي مر بها كل امام وعاشتها القضية الاسلامية والشيعية في عصره عن الظروف والملابسات التي مرت بالرسالة في عهد آخر، ويمكننا عن طريق دراسة الائمة على اساس النظرة الكلية ان نخرج بنتائج اضخم من مجموع النتائج التي تتمخض عنها الدراسات التجزيئية، لاننا سوف نكتشف الترابط بين اعمالهم»[3].
وفي بحوثه التالية التي القاها على مجموعة من تلامذته في فترة تلت تاريخ كتابته لهذه الكلمات، اعتمد هذا الاتجاه في دراسة وتحليل حياة اهل البيت (ع)، وبيان الدور المشترك لهم في التاريخ الاسلامي[4]، وهكذا نراه يسعى لتعميم المنحى الذي يعتمد على انتزاع نظرة عامة وبناء نظرية واضحة في تفسير وقائع حقبة اساسية في التاريخ الاسلامي، فيتوسع في استخدام ادوات المنهج الموضوعي النظري في ميدان آخر من الدراسات الاسلامية.
ويظل هذا المنهج في البحث هو السمة البارزة التي تطبع اعمال الشهيد الصدر اللاحقة، فلا يغيب عنه وهو يستعد لتدوين رسالة فقهية لعمل مقلديه، فينعكس تأثير هذا المنهج بنحو جلي في تقسيمه المبتكر لأحكام الشريعة الاسلامية، على ضوء ترابطها ومدلولاتها السلوكية العملية في حياة الانسان[5].
وربما كان الاتجاه الموضوعي في تفسير القرآن هو ابرز نموذج تجلت فيه بشكل واضح ودقيق حدود وتفاصيل هذا المنهج، والذي افصح عنه الشهيد الصدر في دروس التفسير التي القاها على مجموعة كبيرة من طلاب العلوم الاسلامية في النجف الاشرف عام 1399ه.
وقد لا نعدو الحقيقة اذا قلنا: انها اول محاولة لتأسيس اتجاه جديد في تفسير القرآن الكريم، واشادة اسس ومعالم منهج لاستباط مواقف القرآن الكريم من مختلف المشكلات الاجتماعية التي يعيشها الانسان.
وان كانت الدراسات القرآنية لم تعدم من قبل بعض التطبيقات الممتازة لهذا المنهج، كما نلاحظ ذلك في بعض دراسات العلامة الدكتور محمد عبد الله درّاز[6]، لكن الرائد الاول في ارساء الاساس النظري، وبناء المعالم الدقيقة، وترسيم الحدود الواضحة، وصياغة نظرية متكاملة الابعاد، هو السيد الشهيد الصدر.
بدأ الشهيد الصدر تأصيل الاتجاه الموضوعي في التفسير، وتوسع في بيان المبررات الموضوعية والفكرية لايثاره على التفسير التجزيئي، وانتهى بعد اشادة الاركان النظرية لهذا الاتجاه، لانتخاب موضوع «سنن التاريخ في القرآن الكريم»، كنموذج تطبيقي تتجسد فيه المعالم العملية لنظريته التي صاغها، وكان يأمل ان يطرق عدداً آخر من المواضيع المهمة، لولا ان امتدت يد البغي والجريمة الى هذا المفكر العظيم، وهو لم يفرغ من اتمام مشروعه، وان كان مشروعه لن ينتهي ابداً، كما يلوح لنا في مستقبل تطور الفكر الاسلامي الحديث.
لعل التوفيق والنجاح الكبير الذي تحقق على يد الشهيد الصدر في الدراسات القرآنية، كان ثمرة ناضجة لمنهج التأصيل النظري، ذلك المنهج الذي ولد في ذهنه منذ اوائل العقد الثالث من عمره، وقطف الشهيد الصدر ثمرته باكراً في «اقتصادنا»، اي قبل حوالي عشرين عاماً من تاريخ صياغته للمعالم والأسس التفصيلية النظرية لهذا المنهج، ومحاولة تطبيقه في ميدان الدراسات القرآنية.
ولم ينس ان يشدد على ما يمكن ان ينجزه تعميم تطبيق المنهج النظري في البحوث الفقهيه، في بداية كلامه عن مبررات استخدامه في تفسير القرآن الكريم، فقد اكد على ضرورة ان يتوغل «الاتجاه الموضوعي في الفقه، لابد وان يتوغل، لابد وان ينفذ عمودياً، لا بد وان يصل الى النظريات الاساسية، لا بد وان لا يكتفى بالبناءات العلوية، بالتشريعات التفصيلية، لا بد وان ينفذ من خلال البناءات العلوية الى النظريات الاساسية، التي تمثل وجهة نظر الاسلام، لاننا نعلم ان كل مجموعة من التشريعات في كل باب من ابواب الحياة ترتبط بنظريات اساسية، ترتبط بتطورات رئيسية، احكام الاسلام، تشريعات الاسلام في مجال الحياة الاقتصادية ترتبط بنظرية الاسلام، بالمذهب الاقتصادي في الاسلام..»[7].
وكأن الشهيد السدر ينعطف نحو الماضي، فيعود الى ما قبل عشرين عاماً تقريباً، مذكراً بان عملية التأصيل النظري التي يقوم بها هنا في حقل الدراسات القرآنية، لم تولد في فراغ، ولم تكن مقطوعة الجذور، وانما هي محاولة اخرى في تطبيق هذا المنهج واتمام بنياته، وهي تكمل ما تم من خطوات سابقة على هذا الطريق.
وان كانت الاسس النظرية تتبلور تلقائياً حين تحتضن محاولات التطبيق، وبذلك تدفقت في صورتها التامة والناضجة على يد الشهيد الصدر، في المرة الاخيرة التي كان يطبق فيها منهجه هذا في الدراسات القرآنية، حيث مهّد لعمله هذا ببيان الاطار العام للاتجاه الوحيدي او الموضوعي ـ كما اسماه هو ـ وأركانه ومقوماته الرئيسية، والمبررات والاسباب التي تقضي باستخدامه في الدراسات الاسلامية المعاصرة عموماً، والدراسات القرآنية بشكل خاص.
وهي المرة الاولى التى تبرز فيها التفاصيل والأسس النظرية للمنهج الذي تواصل استخدامه في اعماله منذ البدايات، ولم يتخلف في واحدة من اعماله اللاحقة.
وان كان ظهور الافكار النظرية الاولى في تأصيل هذا المنهج يعود الى التمهيد الواسع للجزء الثاني من «اقتصادنا» والذي انبسط على اكثر من خمسين صفحة من الكتاب، تحت عنوان «عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي ص 375 ـ 429»، وأوضح فيه كيفية استخلاص وصياغة مذهب الاسلام الاقتصادي في ضوء معطيات القرآن الكريم، والسنة الشريفة، والتراث الفقهي، وأماط اللثام عن مجموعة المشكلات التي تمنى بها مثل هذه العملية الاجتهادية، والسبل الكفيلة لتفادي الوقوع في تلك المشكلات، بعد تحديد الاطار المرجعي النظري الذي يتقوم على اساسه النسق العام لبناء المذهب، ويتم تركيب كافة ركائزه ومقوماته.
في هذا الضوء استطاع الشهيد الصدر ان يؤصل لمنحى جديد في عملية الاستنباط الفقهي، لا تستعين بالادوات المتعارفة في عملية الاستنباط، مما كانت تؤمنه العناصر والقواعد المشتركة في علم اصول الفقه، لا تستعين بها فحسب، وانما تعمد على الافصاح عن ولادة قواعد جديدة ينبغي ان تستلهمها بحوث اصول الفقه، بعد ان تحرك البحث الفقهي من خندقه التقليدي ووطأ ارضاً بكراً، لم يعرفها الاسلوب المتداول في الاستنباط.
ولا نزعم ان الشهيد الصدر فرغ من تأصيل تمام القواعد اللازمة في اصول الفقه لعملية استنباط وصياغة النظرية، ولكنه اشعل اول شمعة في الطريق لمن جاء بعده، ومن المعلوم ان القواعد الاصولية انما تتحرر بصورة طبيعية في فضاء المارسة العملية للبحث الفقهي، باعتبارها تؤمن الاجابات والحلول للمشكلات التي تثيرها تلك العملية، ولذلك لا يمكن ان يتكامل بناء القواعد الاصولية ويولد علم اصول فقه جديد يتولى تأمين المستلزمات والادوات الاساسية لاستنباط النظرية الفقهية في اى حقل من حقول الحياة، من دون ممارسة الفقيه لعلمية استنباط النظرية، وما يمكن ان تفرزه هذه العملية من استفهامات واشكاليات، تتولي اثارة وعي العقل الاصولي، وزحزحته من الدائرة التي ألفها، واقحامه في مسارب جديدة، ما كان له ان يبلغها لو ظل مرتهناً للاشكاليات القديمة التي تكررها عملية الاستنباط التقليدية.
هكذا ينمو ويتطور الفكر الاصولي، من خلال تفاعله مع البحث الفقهي، ووقوفه على رهاناته وما تتمظهر به.وكلما تكامل الفكر الاصولي واكبه تطور وتكامل التجربة الفقهية، باعتبار ان علم الاصول يؤمن للفقيه الادوات اللازمة له في عملية الاستنباط، فتنمو هذه العملية افقياً ورأسياً تبعاً للنمو في ادواتها.
وبعبارة اخرى هناك تفاعل وتأثير متبادل بين نمو وتطور الفقه والأصول، فبينما يقتحم الفقه آفاقا جديدة، يستجيب له اصول الفقه فيقعّد مجموعة قواعد وأسس تمكّنه من التغلب على المشكلات والاستفهامات التي تثيرها عملية الاستدلال الفقهي، وهكذا تتحرك التجربة الفقهية في فضاءات اخرى عندما ينتهي العقل الاصولي الى ابتكار وتقنين قواعد جديدة[8].
من الواقع الى فقه النص
اتسم المنهج الذي اعتمده الشهيد الصدر في التنظير لمواقف الاسلام من مشكلات الحياة المتنوعة بتحليل مدلولات النص في ضوء معطيات الواقع، ونتائج التجربة البشرية على الارض، وما تفرزه وتقرره هذه التجربة من تقدم او تراجع، فهو حين يكتب ينظر ويتأمل في حياة الانسان، ويتدبر الواقع، ويسعى لوعي واستيعاب مكتسبات تلك التجربة وآثارها المختلفة، كما يتفاعل مع التجربة الخاصة للحركة الاسلامية، ويسبر غور هذه التجربة ليلتقط ما يرهصها من تحديات، باعتبارها تسعى لتطبيق الاسلام في هذا العصر من خلال اقامة الدولة الاسلامية، فيعكف على استنطاق النص (القرآن الكريم، والسنة الشريفة) ومحاورته في ضوء الاشكاليات التي يعكسها الواقع.
لقد استطاع الشهيد الصدر ان يتغلب على عقبة كؤود ارتهن في اطارها التفكير الاسلامي فترة طويلة، فوجهه نحو واقع الحياة الاجتماعية ومتطلباتها، ونزل به من الفضاء الذهني الذي كان محتبساً فيه الى تضاريس الحياة الاجتماعية، وميدان التجربة الحياتية للانسان بكل ما تختزنه من وقائع، وتصدعات، وأخاديد، وما يتجلى عنها من افكار، واضاءات، وما تفصح عنه وتقوله من مقولات، وما تخفيه ولا تفصح عنه من رؤى واستفهامات.
هكذا تحرر الوعي في خطاب الشهيد الصدر، وتخلص من الاستغراق الخيالي في مفاهيم تجريدية ظل الخطاب الاسلامي في اسرها فترات طويلة، يجري ويعوم في حالة ذهنية غير واقعية، ويراوح في متاهات نظرية لا تتصل بالحياة الاجتماعية واشكالياتها بشكل مباشر، وانما تغوص في وقائع السماء واحوال عوالمها، وأحوال عوالم اخرى مفترضة من قبيل عوالم العقول والمثال، فيما تغيّب وقائع الارض وأحوال حياة الانسان فيها وما يكتنفها من تحديات وارهاصات معرفية وعملية.
ان فكر الشهيد الصدر كان حواراً حافلا مع الواقع، وتحليلا دقيقاً لمشكلات الحياة، واستكشافاً رائداً للنظريات الاسلامية ازاء هذه المشكلات، من خلال استنطاق القرآن الكريم والسنة الشريفة فيما يحمله لهما من اسئلة الواقع، وما يطرحه عليهما من مسائل الاجتماع البشري، فهو يبدأ بالواقع لينتهي الى النص، اي ان فقه النص يتحرر لديه في افق الواقع، ويستلهم الموقف في فضاء اشعاعاته، وبذلك تدفقت رؤيته للنص، ووعي دلالاته، واستخلص منها ما يقوله النص، في اطار متطلبات الواقع وقضاياه.
وبهذا يتضح ان عملية تأصيل النظريات الاسلامية في فكر الشهيد الصدر، ترتكز بصورد اساسية على هذه الكيفية، التي افصح هو عنها بصراحة في بداية حديثه عن الاتجاه التوحيدي او الموضوعي في التفسير، وابرز ملامح هذا الاتجاه، والاسلوب الذي يعتمده في استلهام مواقف وتوجيهات القران الكريم ازاء الحياة، فقد صرح بأن هذا الاسلوب يتمثل في ان «التفسير يبدأ من الواقع، وينتهي الى القرآن، لا انه يبدأ من القرآن وينتهي بالقرآن، فتكون عملية منعزلة عن الواقع، منفصلة عن تراث التجربة البشرية، بل هذه العملية تبدأ من الواقع وتنتهي بالقرآن، بوصفه القيّم والمصدر الذي يحدد على ضوئه الاتجاهات الربانية بالنسبة الى ذلك الواقع»[9].
كما اكد على ان ما يعنيه بالموضوعية في استخدام هذا المنهج، هي «بمعنى ان يبدأ من الموضوع وينتهي الى القرآن هذا الامر الاول، والامر الثاني ان يختار مجموعة من الآيات تشترك في موضوع واحد، ويقوم بعملية توحيد بين ملدولاتها، من اجل ان يستخرج نظرية قرآنية شاملة بالنسبة الى ذلك الموضوع»[10].
هذه هي الطريقة الرائدة في استخلاص النظرية، وتجاوز المشاغل التقليدية للعقل الاسلامي، حيث اعاد هذا المنهج ترتيب نظام التفكير، وأسلوب وعي العقل للنص بنحو آخر، بعد ان استنفذ الاسلوب التجزيئي اغراضه، ولم ينجز معطيات كبيرة مع تقادم الزمان، سواء في حقل الدراسات القرآنية او غيرها، «حتى نكاد نقول ـ والقول للشهيد الصدر ـ ان قروناً من الزمن متراكمة مرت بعد تفاسير الطبري والرازي والشيخ الطوسي، لم يحق فيها الفر الاسلامي مكاسب حقيقية جديدة، وظل التفسير ثابتاً لا يتغير الا قليلا خلال تلك القرون على الرغم من الوان التغيير التي حفلت بها الحياة في مختلف الميادين»[11].
ان ادراك الشهيد الصدر لتخلف مواقف الفكر الاسلامي، عن التحول والتغير المضطرد في انماط حياة الانسان، وطبيعة عيشه، واستغلاله للطبيعة وازدياد سيطرته عليها، من خلال اكتشاف قوانينها، والتعرف على اسرارها، وعدم تمكن هذا الفكر من استيعاب هذه التحولات، ومواكبة حركة التغيير في بنية المجتمعات، وانتاج مفاهيم ومقولات تستجيب للمتطلبات الراهنة للحياة، ان ذلك هو الذي دعاه الى الاعتماد على هذا الاسلوب الجديد في وعي معطيات النص، بالانتقال من الواقع الى النص، والتوحيد بين التجربة البشرية بما تشتمل عليه من ابعاد وتفاصيل متنوعة وما يقوله النص، فان التحام الواقع بالنص بهذه الكيفية، يتيح للمفكر المسلم ان يؤصل رؤى اسلامية جديدة تغاير ما ألفه من رؤى لا تتواصل مع التحولات المختلفة في انماط الحياة، ولا تتجاوز الاسلوب التجزيئي في التفكير الذي ظل لفترة طويلة من اهم اسباب اعاقة نمو وتطور الفكر الاسلامي، لانه يجعل التفكير بعيداً عن واقع التجربة البشرية، حيث لا يستطيع في اطاره العقل ان يوحد بين واقع هذه التجربة والنص.
من نتائج منهج التأصيل النظري
في مراجعة سريعة للتراث الفكري للشهيد الصدر تلوح لنا بعض الآثار والنتائج، التي اثمر عنها تطبيقه لهذا المنهج، ومما يمكن ان نستخلصه منها ما يلي:
1ـ لقد كان الهم الاكبر في فكر الشهيد الصدر، هو ان ينتهي الى تأصيل نظرية اسلامية، وتحديد المركب النظري الاسلامي في كل حقل فكري بحثه، كما يقول لنا بصراحة في بيان ما يهدف اليه تطبيق منهجه في التفسير مثلا، وهو «ان يستحصل اوجه الارتباط بين المدلولات التفصيلية، يحاول ان يصل الى مركب نظري قرآني، وهذا المركب النظري القرآني يحتل في اطاره كل واحد من تلك المدلولات التفصيلية موقعه المناسب، وهذا ما نسميه بلغة اليوم بالنظرية، يصل الى نظرية قرآنية عن النبوة، نظرية قرآنية عن المذهب الاقتصادي، نظرية قرآنية عن سنن التاريخ، وهكذا عن السموات والارض…»[12].
استطاع الشهيد الصدر من خلال تطبيق هذا المنهج استكشاف نظرية الاسلام في الاقتصاد في كتاب «اقتصادنا»، ونظرية الاسلام في المعاملات المصرفية في كتاب «البنك اللاربوي في الاسلام»، ونظرية القرآن عن سنن التاريخ، ونظرية القرآن عن عناصر المجتمع، في كتاب «المدرسة القرآنية»، والنظرية السياسية في الاسلام في السلسلة التي كتبها قبيل استشهاده، ونشرت فيما بعد بعنوان «الاسلام يقود الحياة» في ست حلقات.
ولم يتخلف البحث الفلسفي والمنطقي لدى الشهيد الصدر عن تطبيق هذا المنهج، فقد وفق لقطف ثماره في «الاسس المنطقية للاستقراء»، باكتشاف وصياغة مذهبى جديد في تفسير كيفية نمو المعرفة البشرية وتوالدها، عبر عن اتجاه آخر في تفسير المعرفة البشرية، غير ما كان معروفاً بين المذهبين التجريبي والعقلي، وهو ما اصطلح عليه بـ «المذهب الذاتي للمعرفة»، وقال عنه:
«نريد بالمذهب الذاتي للمعرفة: اتجاهاً جديداً في نظرية المعرفة، يختلف عن كل من الاتجاهين التقليديين اللذين يتمثلان في المذهب العقلي والمذهب التجريبي».
وقد لا نعدو الحقيقة اذا قلنا ان بحوثه الاصولية والفقهية شعت فيها شذرات تطبيق هذا المنهج ـ نأمل ان نقف مع منهجه الاصولي وابداعه في علم الاصول في مناسبة لاحقة ـ كذلك تجسد هذا المنهج في الدراسات التاريخية المحدودة التي طرقها في حياة اهل البيت عليهم السلام ـ كما اوضحنا ذلك فيمنا سبق.
وبذلك يتضح ان كل اعمال الشهيد الصدر كانت بمثابة عقد انتظمت حياته في اطار منهج التأصيل النظري، حيث اضحى كل مؤلف للشهيد الصدر، يمثل محاولة جادة ودقيقة يترسم فيها تجسيد هذا المنهج، ويتقدم خطوة على طريق اشادة اركانه.
ومما ينبغي التذكير به ان عملية التنظير التي اضطلع بها هذا المنهج، لا تعني الانتقاء الكمي لمجموعة من النصوص، واقتناص بعض المفاهيم منها، وانما هي عملية امتزاج وتفاعل تتوحد في افقها التجربة البشرية مع النص، وتنصهر مجموعة العناصر المكونة للنظرية في بوتقة واحدة لتنتج مركباً نظرياً، نظير ما نراه من تفاعل مجموعة عناصر كيمياوية بمقادير محددة وفي ظروف وشروط خاصة، وانتاجها لمركب معين، يمثل شيئاً جديداً يختلف عن تلك العناصر في خصائصه وآثاره.
2ـ تسود الكثير من الكتابات الاسلامية نزعة تقديس لتراث السلف بتمامه، ويبلغ التقديس حداً لا يميز فيه البعض بين ما هو مقدس وكامل (القرآن الكريم والسنة الشريفة)، وما هو نسبي متأثر بالاحوال والحاجات والظروف التي ولد فيها، وهو انتاج المسلمين في العلوم الاسلامية.
وينشأ عن هذا الفهم موقف يدعو الى ان وظيفتنا في هذا العصر تتلخص في فهم وشرح التراث الاسلامي فقط، وكأن الحقيقة قيلت بتمامها، والعلوم الاسلامية استنقذت تمام امكانات نموها وتكاملها، وان ما قاله علماء الاسلام الاوائل هو الكلمة الخالدة في كل العصور، ولذا يجب ان نتولى دور حراسة هذا التراث وحفظه واستظهاره فقط، من دون ان يكون لنا دور في نقد هذا التراث، وتفعيل عناصره الحية، ووعي النص المقدس (القرآن الكريم والسنة الشريفة) في فضاء الواقع الحياتي المتجدد، واستلهام مواقف النص تجاه مشكلات الواقع.
لقد تغلب هذا المنهج الذي اعتمده الشهيد الصدر على هذه النزعة (اللاتاريخية) في الخطاب السلفي، وما اشاعته من مناخ، كان له الاثر الكبير في تعطيل حركة تطور الفكر الاسلامي، وطمس روح الابداع والتجديد في العلوم الاسلامية لتفرة طويلة، فزحزح العقل الاسلامي من حالة السكون، ومكّنه من التواصل مع مشكلات العصر، واختراق فضاء الحياة ورهاناتها الحاضرة، وتجاوز المفاهيم والمقلات التي انجزت في ظل نسق تاريخي خاص، وأشاد رؤى وأفكاراً ونظريات على ضوء المنظومة المعرفية التي اصّلها، تعالج هموم المسلم المعاصر، وتداعيات التجربة البشرية الراهنة.
بيد ان من المؤسف ان هذا المنهج الذي ارسى دعائمه الشهيد الصدر، وواصل تطبيقه في مؤلفاته وابحاثه، وحرص على تعميمه في الدراسات الاسلامية المعاصرة، لم يتم استيعابه وتمثله فيما بعد، ولذا لا نجد تطبيقات واسعة لهذا المنهج في الفترة التي تلت استشهاد السيد الصدر، لا سيما وان الحاجة الى تبني منهج التأصيل النظري في الدراسات الاسلامية، تبدو في الوقت الحاضر اكثر الحاحاً وأعظم من اي وقت اخر في السابق، بعد مضي اكثر من عقد على تجربة تطبيق الاسلام في ايران، ومحاولة تطبيق الاسلام في السودان منذ سنوات، وتعاظم دور الحالة الاسلامية في الكثير من اقاليم العالم الاسلامي، وضراوة المواجهة الفكرية، وتفاقم آثار الصراع الحضاري بين الاسلام وخصومه التاريخيين.
* مقدمة
* التنظير في فكر الشهيد الصدر
* من الواقع الى فقه النص
* من نتائج منهج التأصيل النظري
عبد الجبار الرفاعي
* من مواليد (الرفاعي) العراق 1954.
* باحث اسلامي يعيش في المهجر.
* صدرت له عدة كتب ودراسات هي:
– نظرات في تزكية النفس.
– حركة القومية العربية.
– مصادر الدراسة عن الدولة والسياسة في الاسلام.
– التبليغ والاعلام الاسلامي.
– معجم ما كتب عن الرسول واهل البيت (12 مجلداً).
– معجم الدراسات القرآنية، صدر منه مجلدان.
– متابعات ثقافية.
– معجم المطبوعات العربية في ايران.
– مصادر النظام الاسلامي.
– ترجمة شرح منظومة السبزواري في الفلسفة.
* نشرت له عدة دراسات وبحوث في المجالات والدوريات الاسلامية.
* رئيس تحرير مجلة قضايا اسلامية حالياً.
[1] الصدر، السيد الشهيد محمد باقر، اقتصادنا، قم: المجمع العلمي للشهيد الصدر، 1408ه، ج1: ص14 (مقدمة الطبعة الثانية)
[2] ن.م، ص 389.
[3] الصدر، السيد الشهيد محمد باقر، (دور الائمة في الحياة الاسلامية)، في: بحوث اسلامية ومواضيع اخرى. بيروت: دار الزهراء، 1403هه، ص58 ـ 59.
[4] انظر الحسيني المرجع السابق، ص19، بغية الراغبين /14 ـ 13، النص والاجتهاد (تقديم) محمد صادق الصدر ص7، ط طهران مؤسسة البعثة، العتبات المقدسة (قسم الكاظمية) 1/74، ط 2(1987) ـ (الخليلي).
[5] قسّم السيد الشهيد الصدر احكام الشريعة الى اربعة اقسام وهي:
1 ـ العبادات: وهى الطهارة، والصلاة والصوم والاعتكاف والحج والعمرة والكفارات. 2 ـ الاموال، وهي على نوعين:
أ ـ الاموال العامة: كل مال مخصص لمصلحة عامة ويدخل ضمنها الزكاة والخمس.
ب ـ الاموال الخاصة: ما كان مالا للافراد.
3 ـ السلوك الخاص: كل سلوك شخصي للفرد، لا يتعلق مباشرة بالمال، ولا يدخل في عبادة الانسان لربه.
4 ـ السلوك العام: سلوك ولي الامر في مجالات الحكم، والقضاء والحرب ومختلف العلاقات الدولية، ويدخل في ذلك الولاية العامة، والقضاء والشهادات والحدود، وغير ذلك. لاحظ تفاصيل ذلك في: الفتاوى الواضحة ص ـ 132 134
[6] يعتبر كتاب «دستور الاخلاق في القرآن» للعلامة الدكتور محمد عبد الله درّاز، وهو رسالته الاساسية التي نال بها درجة دكتوراه الدولة من السوربون في باريس، اول محاولة رائدة على طريق اكتشاف «نظرية الاخلاق في القرآن»، في هذا العصر. لكن هذه الرسالة التي قدمت نسختها الفرنسية الى المطبعة عام 1948، لم تظهر ترجمتها العربية الا بعد ربع قرن من ذلك التاريخ، واكثر من خمسة عشر عاماً على وفاة مؤلفها.
[7] الصدر، السيد الشهيد محمد باقر، المدرسة القرآنية. بيروت: دار التعارف، ط2، 1401ه ـ 1981م، ص31 ـ 32.
[8] الرفاعي، عبد الجبار. النظام التعليمي في الحوزة العلمية: رؤية تقويمية لدواعي التجديد. (مخطوط) «فيه بيان مفصل لتأثير تطور البحث الفقهي على تطور الفكر الاصولي ونموه التكاملي نحو ما يؤمن للفقه ادواته وقواعده، وتجاوز الفكر الاصولي للحاكة التكرارية، وحالة النمو المترهل نحو آفاق غير عملية لا تخدم عملية الاستنباط».
[9] الصدر، السيد الشهيد محمد باقر، المدرسة القرآنية، ص22.
[10] ن. م. ص29.
[11] ن. م. ص 18.
[12] ن. م. ص 27.