دور الزمان والمكان في الاجتهاد لدى الشهيد الصدر

إطلالة على مدرسة الشهيد الصدر الفلسفية

من الفقهاء الذين عنوا بمسألة دور الزمان والمكان في الاجتهاد في تراثهم العلمي بشكل عام هو آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر. ويعتبر كتاب (اقتصادنا) من أكثر مؤلّفاته تعرّضاً للمسألة، وذلك في سياق محاولته لاكتشاف المذهب الاقتصادي في الإسلام.

وعلى الرغم من أنّ السمة الاقتصادية هي الغالبة في بحثه، إلاّ أنّ من الواضح عدم تأطّر البحث بذلك، وسريانه إلى أبواب الفقه كافّة، وإن كانت بعضها أكثر حظّاً من غيرها.

أوّلاً ـ مراحل الاجتهاد ومسألة الزمان والمكان:

للاجتهاد مراحل ينبغي التعرّف على ما يقع منها مورداً لتأثير الزمان والمكان. ولا يساعد ذلك على توضيح عنوان البحث فحسب، بل إنّه ينقّح محلّ النزاع أيضاً والمراحل التي تطويها عملية الاجتهاد للوصول إلى الحكم الشرعي ثلاثة:

المرحلة الاُولى: إعداد العناصر المشتركة

يقوم المجتهد في أُولى خطوات الاستنباط بإعداد العناصر المشتركة الكلّية التي تقع كبرى في قياس استنباط الحكم الشرعي، أو قل هي ـ كما يعبّر السيد الشهيد ـ مرحلة اكتشاف العناصر المشتركة من أجل ضمّ العناصر الخاصّة إليها لاستنباط الحكم الشرعي. والعلم الذي تقع على عاتقه هذه الوظيفة هو علم الأُصول، ولذا يعرّفه السيد الشهيد بأنّه: «العلم بالعناصر المشتركة في عملية استنباط الحكم الشرعي».[1]

المرحلة الثانية: تطبيق العناصر المشتركة

يفتّش الفقيه في هذه المرحلة عن العناصر الخاصّة ـ صغرى القياس ـ ليطبق عليها العناصر المشتركة والكلّية.

المرحلة الثالثة: تطبيق الحكم الشرعي

يقوم الفقيه هنا بتطبيق نتيجة القياس على الموارد والمصاديق آخذاً بنظر الاعتبار الأوضاع والظروف الاجتماعية والمصالح العامّة، أي إنّ الفقيه ـ بعبارة ثانية ـ يطبّق في هذه المرحلة الحجّة الشرعية التي توصّل إليها على الموارد والحالات. وعلم الفقه هو المعني بهاتين المرحلتين الأخيرتين، ولنأخذ مثالاً لتطبيق هذه المراحل عليه: يحاول الفقيه أولاً إثبات حجّية خبر الواحد وحجّية الظهور كقاعدتين عامتين. ثم يطبّق هاتين القاعدتين في المرحلة الثانية على صحيحة محمد بن مسلم عن الإمام الصادق (عليه ‏السلام) التي ورد فيها: «أيّما قوم أحيوا شيئاً من الأرض وعمروها فهم أحقّ بها وهي لهم»[2]، وذلك بعد أن يبحث عن صحة سندها وجهتها، فتقع هذه الرواية كعنصر خاص للقاعدتين المتقدّمتين باعتبار ظهورها، وكونها خبراً واحداً، فتكون بذلك حجّة شرعية لدى الفقيه كي يطبّقها في المرحلة الثالثة على موردها في زمانه وظروفه.

وحيث إنّ تطبيق هذه الحجّة الشرعية (ملكية المحيي) في السابق لا يلزم منها أيّ محذور باعتبار محدودية وسائل الإنتاج في الإعمار والإحياء، فلا شك أنّه يفتي بجواز علمية الإحياء وملكية المحيي، ولكنّه لا يستطيع في ذلك اليوم مع هذا التقدّم العلمي وتطوّر وسائل الإنتاج للزوم اختلال النظام والعدالة الاجتماعية، فيتعيّن عليه دراسة الظروف المحيطة بزمان تطبيق الحجّة الشرعية التي توصّل إليها في المرحلة الثانية.

فيتّضح من ذلك أنّ المراد عند من يقول بتأثير الزمان والمكان في الاجتهاد، التأثير في المرحلة الثالثة من مراحل استنباط الحكم الشرعي. دون المرحلتين السابقتين؛ لأنّ القواعد الكلّيّة والعناصر المشتركة لا تتأثّر بالزمان والمكان، وكذلك مرحلة التطبيق.

وقد أشار السيد الشهيد في معرض بحثه عن ضرورة التغيير في الرسائل العملية إلى هذه النقطة فقال: «والأحكام الشرعية على الرغم من كونها ثابتة، قد يختلف تطبيقها تبعاً للظروف من عصر إلى عصر، فلابدّ لرسالة عمليةتعاصر تغيّراً كبيراً في كثير من الظروف أن تأخذ هذا التغيير بعين الاعتبار في تشخيص الحكم الشرعي»[3].

وتنبغي الإشارة إلى عدم حصر القائلين بتأثير الزمان والمكان بمرحلة تطبيق الحكم على مصداقه، بل يعتبرون ذلك أيضاً في وضع وتعيين الحكم الشرعي أيضاً.

تحرير محلّ النزاع:

قبل الدخول في دراسة الأقوال والأدلّة ينبغي تحرير محلّ البحث، وإن كان قد عُلم ممّا تقدّم شيء من ذلك إلى حدّ ما، ولكن ينبغي البحث في أطراف ذلك أكثر؛ ليعرف مراد القائلين بتأثير الزمان والمكان في الاجتهاد.

تشترك في عملية الاستنباط جملة أُمور، فالكتاب والسنّة هما مصدرا الاستنباط، والقواعد الأُصولية تعين الفقيه ـ كما قلنا ـ على معرفة الحجّة الشرعية، وتتكفّل طريقة الاستنباط كيفية تطبيق القواعد الأُصولية على مواردها، ومن ثمّ تطبيق نتيجة ذلك على المصاديق. وهنا يجب التعرّف على أيّ هذه العناصر أكثر تأثّراً بالظروف والأوضاع والمتغيّرات الخارجية، فالزمان والمكان لا يعدّان من مصادر الاستنباط، ولا ممّا يؤثّر في عملية الاستنباط حتى لدى من يرى اختصاص الخطابات القرآنية بالحاضرين في مجلس الخطاب؛ إذ لا يختلفون بينهم في اشتراك الأحكام بين الحاضرين والمعدومين. وعليه، فإنّ الكتاب والسنّة مصدران ثابتان في عملية الاستنباط.

وأمّا القواعد الأُصولية فهي ـ كما أسلفنا ـ لا تختص بزمان معيّن ليطرأ عليها التغيير بمرور الوقت، وكذلك منهج الاستنباط لم يتغيّر عمّا كان أوصى به أهل البيت (عليهم ‏السلام) أصحابهم وإن تطوّر أكثر، فهذه الأُمور لم تتأثر بتغييرات الزمان والمكان بلا خلاف في ذلك. فلا يبقى سوى الحكم، فقسم من الأحكام ثابتة لا تتغيّر، باعتبار عدم تشريعها لمرحلة أو فترة معيّنة كي تنتهي بانتهائها. ولكن السؤال يقع عن موضوعات هذه الأحكام الثابتة، هل هي ثابتة أيضاً أو يمكن عروض التغيير عليها ويتغيّر الحكم الثابت بتبعها؟ وسؤال آخر عن المساحة المتروكة لولي الأمر، فهل ثمّة أحكام متروكة لولي الأمر لم يحدّدها الشارع ويحدّدها هو بحسب الأوضاع والظروف والمصالح العامة؟

هاتان نقطتان جديرتان بالدراسة والبحث، الأُولى في تطبيق الأحكام الثابتة، والثانية في الأحكام المخوّل فيها ولي الأمر.

ثانياً ـ الأحكام الثابتة والمتغيّرة:

ما تقدّم هو في بيان موضوع البحث والمبادئ التصورية له، وقد حان لنا الدخول في صلب البحث، فننقل رأي السيد الشهيد الصدر أوّلاً ثم نتعرّض للأدلّة التي أقامها على ذلك.

المستفاد من كلماته (قدس‏ سره) أنّه يرى للزمان والمكان تأثيراً كبيراً في الأحكام الشرعيّة وفي النظام الاقتصادي، ولا يقتصر هذا الدور على تطبيق الأحكام، بل يتعدّاه إلى الأحكام الولائية الخاصّة بولي الأمر.

ولنطرح البحث بصيغة أُخرى، ثم نتوصّل إلى رأي السيد الشهيد: هل الأحكام الشرعية ثابتة بنحو لا تمسّها يد التغيير بسبب تغيّر الزمان والمكان؟ أو هل إنّها قد شُرِّعت لمقطع زماني خاص، بحيث إذا تغيّر تغيّرت معه تلك الأحكام؟ أو إنّ بعض الأحكام ثابت وبعضها متغيّر؟

يختار الشهيد الصدر الاحتمال الثالث ويفترض خطوتين لإثباته:

الخطوة الأُولى: إقامة الدليل العقلي على ذلك مع قطع النظر عن الدليل النقلي.

الخطوة الثانية: إقامة الدليل النقلي.

وبعبارة علمية: الخطوة الأُولى في مقام الثبوت، والثانية في مقام الإثبات.

الخطوة الأُولى:

ويتألّف الدليل الثبوتي الذي يقيمه في المقام الأول من ثلاث مقدّمات:

المقدّمة الأُولى: إنّ الحكم الشرعي هو عبارة عن التشريع الصادر من الله تعالى لتنظيم حياة الانسان[4].

المقدّمة الثانية: إنّ الحياة الاجتماعية نابعة من الحاجات الإنسانية. وقد استدلّ السيد الشهيد على ذلك بقوله: «خلق الإنسان مفطوراً على حبّ ذاته والسعي وراء حاجاته، وبالتالي استخدام كلّ ما حوله في سبيل ذلك، وكان من الطبيعي أن يجد الإنسان نفسه مضطراً إلى استخدام الإنسان الآخر في هذا السبيل أيضاً؛ لأنّه لا يتمكّن من إشباع حاجاته إلاّ عن طريق التعاون مع الأفراد الآخرين، فنشأت العلاقات الاجتماعية على أساس تلك الحاجات، واتسعت تلك العلاقات ونمت باتساع تلك الحاجات ونموّها.. فالحياة الاجتماعية إذن، وليدة الحاجات الإنسانية»[5].

المقدّمة الثالثة: إذا درسنا الحاجات الإنسانية، وجدنا فيها جانباً رئيساً ثابتاً على مرّ الزمن، وفيها جوانب تستجد وتتطوّر طبقاً للظروف والأحوال، فهذا الثبات الذي نجده في تركيب الإنسان العضوي وقواه العامّة، وما أُودع فيه من أجهزة للتغذية والتوليد وإمكانات للإدراك والإحساس، يعني حتماً اشتراك الإنسانية كلّها في خصائص وحاجات وصفات عامّة.

ومن ناحية أُخرى، نجد أنّ عدداً كبيراً من الحاجات يدخل في نطاق الحياة الإنسانية بالتدريج، وينمو من خلال تجارب الحياة وزيادة الخبرة بملابساتها، وخصائصها. فالحاجات الرئيسة ثابتة إذن، والحاجات الثانوية تستجد وتتطوّر وفقاً لنمو الخبرة بالحياة وتعقّداتها.

والنتيجة التي يخرج بها السيد الشهيد الصدر من هذه المقدّمات هي: إنّ النظام الاجتماعي الصالح للإنسانية ليس من الضروري ـ لكي يواكب نمو الحياة الاجتماعية ـ أن يتطوّر ويتغيّر بصورة عامّة، كما أنّه ليس من المعقول أن يصوغ كلّيات الحياة وتفاصيلها في صيغ ثابتة، بل يجب أن يكون في النظام الاجتماعي جانب رئيسي ثابت، وجوانب مفتوحة للتطوّر والتغيّر، ما دام الأساس للحياة الاجتماعية (الحاجات الانسانية) يحتوي على جوانب ثابتة وجوانب متغيّرة، فتنعكس كلّ من جوانبه الثابتة والمتطوّرة في النظام الاجتماعي الصالح[6].

ولا يختص هذا الاستنتاج بالنظام الاجتماعي خاصّة وإن كان السيد الشهيد ذكره فيها، بل إنّه يعمّ الأحكام الشرعية كافّة، وقد استدلّ (قدس‏ سره) بنفس هذا الاستدلال في رسالته العملية لإثبات استجابة نظام العبادات في الإسلام لجميع الحاجات الإنسانية[7].

الخطوة الثانية:

قد ثبت في الخطوة الأُولى اشتمال النظام الاجتماعي على جوانب ثابتة وأُخرى متغيّرة تبعاً لحاجات الإنسان. وفي هذه الخطوة نحاول إثبات ذلك بالدليل النقلي لنرى مدى صحة وقوع ما تعقّلناه في مرحلة الثبوت، وهل إنّ الأحكام الشرعية التي بلّغها النبي (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) والأئمة (عليهم ‏السلام) من بعده ثابتة ومتغيّرة أو لا؟

إنّ إثبات هذا المطلب بمكان من الضرورة، إذ ما لم يثبت ذلك من خلال النقل والنصوص فلا قيمة لما اثبتناه في الخطوة الأُولى. ومن هنا، يقول السيد الشهيد (قدس‏ سره): «وهذا هو الواقع في النظام الاجتماعي للإسلام تماماً»[8]. فالأحكام ليست ثابتة مطلقاً ولا متغيّرة مطلقاً، فالمعظم الذي يشكّل القسم الأساسي منها ثابت، والباقي متغيّر بتغيّر الأوضاع والأحوال. فالأول: هو استجابة لحاجات الإنسان مثل: الضمان المعيشي، والتوالد، والأمن، والزواج والطلاق، والحدود، والقصاص، ونظام العبادات.

والثاني: هو استجابة لحاجات متغيّرة، وهي الأحكام التي سمح فيها الإسلام لولي الأمر أن يجتهد فيها وفقاً للمصلحة والحاجة في ضوء الجانب الثابت في النظام.

فاتضح أنّ الأحكام الشرعية والنظام الاجتماعي في الإسلام يتكون من قسمين: ثابت ومتغيّر.

ثالثاً ـ دور الزمان والمكان في الأحكام المتغيّرة:

1ـ دائرة الترخيص:

نحاول تحت هذا العنوان التفصيل أكثر فيما توصّلنا إليه قبل قليل، من انقسام الأحكام والنظام الاجتماعي في الإسلام إلى ثابت ومتغيّر. والمتغيّر هو عبارة عن الأحكام الولائية المتروكة لتشخيص ولي الأمر، فنقول: أصطلح السيد الشهيد على هذا القسم من النظام الاجتماعي بـ (منطقة الفراغ) أو قل (منطقة الترخيص)، وهي التي يمنح فيها ولي الأمر الاجتهاد في ضوء ما تقتضيه المصلحة والأوضاع، حتى إنّها قد تقتضي حكمين مختلفين في مجتمع واحد في زمانين مختلفين، فضلاً عن مجتمعين.

2ـ منطقة الفراغ ليست نقصاً:

قد يتبادر إلى الذهن سؤال عن أنّ التعبير بمنطقة الفراغ ألا يتعارض مع الأحاديث الدالّة على أنه: «ما من واقعة إلاّ ولها حكم»؟! ثم ألا يستلزم هذا وجود نقص في التشريع؟ !

والجواب هو: إنّه لا يقصد بالفراغ الفراغ من كلّ حكم، بل الفراغ من الحكم الإلزامي، أي عدم إصدار الشارع حكماً إلزامياً لجميع الأزمنة، وإنّما أصدر حكماً بالإباحة. ولو كان ثمّة حكم بالوجوب أو الحرمة فهو ليس بنحو الدوام، بل بمقتضى الظروف والأوضاع.

وبعبارة اُخرى، إنّه ما من واقعة في الحياة إلاّ ولها حكمها الخاص من الأحكام الخمسة بما فيها الإباحة، إلاّ أنّ الأُمور المحكومة بالإباحة قد يكون لها حكم ثانوي آخر فيما لو اقتضت المصلحة ذلك. ومن هنا، يمكن أن يقال بأنّ الأحكام الإلزامية التي تملأ منطقة الفراغ أو منطقة الترخيص إنّما هي أحكام ثانوية.

ومنه يُعرف الجواب عن السؤال الثاني، فإنّه ما من واقعة إلاّ ولها حكم أصلي خاص بها، فلا فراغ في الشريعة وعليه، فلا نقص فيها.

إذن، فمنطقة الفراغ ـ حسب السيد الشهيد ـ في الوقت الذي لا تُعدّ نقصاً أو عيباً في التشريع، فإنّها تُعدّ كمالاً فيه، قال (قدس‏ سره): «ولا تدلّ منطقة الفراغ على نقص في الصورة التشريعية، أو إهمال من الشريعة لبعض الوقائع والأحداث، بل تعبير عن استيعاب الصورة، وقدرة الشريعة على مواكبة العصور المختلفة؛ لأنّ الشريعة لم تترك منطقة الفراغ بالشكل الذي يعني نقصاً أو إهمالاً، وإنّما حدّدت للمنطقة أحكامها، بمنح كلّ حادثة صفتها التشريعية الأصلية، مع إعطاء ولي الأمر صلاحية منحها صفة تشريعية ثانوية حسب الظروف. فإحياء الفرد للأرض ـ مثلاً ـ عملية مباحة تشريعياً بطبيعتها، ولولي الأمر حق المنع عن ممارستها وفقاً لمقتضيات الظروف»[9].

3ـ ملء منطقة الفراغ من قِبل النبي (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم):

حينما نقول: منطقة الفراغ، فإنّما نعني ذلك بالنسبة إلى الشريعة ونصوصها، لا بالنسبة إلى الواقع التطبيقي للإسلام الذي عاشته الأُمّة في عهد النبوة، فإنّ النبي (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) قد ملأ ذلك الفراغ بما كانت تتطلّبه أهداف الشريعة في المجال الاقتصادي. وعليه، فما قام به (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) من تطبيق للأحكام يعبّر تارة عن أحكام ثانوية في دائرة الترخيص، وأُخرى عن أحكام ثابتة خارج هذه المنطقة.

توضيح ذلك: إنّ للنبي (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) ـ كسائر الأنبياء ـ منصبين أو وصفين كما يعبّر السيد الشهيد: أحدهما وصف (النبوة)، والثاني وصف (ولاية الأمر).

فباعتباره نبياً، يبلّغ الأحكام الواردة إليه عن طريق الوحي إلى الأُمّة. وباعتباره وليّاً للأمر، يصدر الأوامر بحسب اقتضاءات المصلحة العامة صوناً للنظام والعدالة الاجتماعية.

فالأحكام من السنخ الأوّل، أحكام ثابتة للجميع، ولا تتغيّر بتغيّر الزمان والمكان. والأحكام من السنخ الثاني، قابلة للتغيير بتغيّر الظروف والأحوال. يقول السيد الشهيد الصدر حول السنخ الثاني: «إنّ نوعية التشريعات التي ملأ النبي (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) بها منطقة الفراغ من المذهب بوصفه ولي الأمر ليست أحكاماً دائمية بطبيعتها؛ لأنّها لم تصدر من النبي بوصفه مبلّغاً للأحكام العامّة الثابتة، بل باعتباره حاكماً ووليّاً للمسلمين. فهي إذن، لا تعتبر جزءاً ثابتاً من المذهب الاقتصادي في الإسلام، ولكنّها تلقي ضوءاً إلى حدّ كبير على عملية ملء الفراغ التي يجب أن تمارس في كلّ حين وفقاً للظروف»[10].

فاتضح أنّ المقصود من منطقة الفراغ في النظام الاجتماعي، ما كان منها بحسب النصوص الشرعية، لا ما طبّقه النبي (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) في مجتمعه. كما اتضح أيضاً أنّ ما طبّقه (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) في منطقة الفراغ، إنّما هي الأحكام المرنة وغير الثابتة.

4ـ فلسفة منطقة الفراغ:

بعد اتضاح أنّ ما قام به النبي (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) من عملية الملء، إنمّا هو لسنخ الأحكام المتغيّرة، فإنّ لسائل أن يقول: لماذا لم تملأ الشريعة منطقة الفراغ بالأحكام الثابتة ابتداءً؟ ولماذا تركت ذلك لولي الأمر؟

ويجيب السيد الشهيد على ذلك، بأنّ الشريعة الإسلامية لمّا كانت غيرمقصورة على زمان دون زمان، بل هي شاملة لكلّ الأعصار، فلذا لم تقرّر مبادئ نظامها الاقتصادي بوصفها علاجاً مؤقتاً أو تنظيماً مرحلياً يجتازه التأريخ بعد فترة من الزمن إلى شكل آخر من أشكال التنظيم. وإنّما قدّمتها باعتبارها الصورة النظرية الصالحة لجميع العصور، فكان لابدّ لإعطاء الصورة هذا العموم والاستيعاب، أن ينعكس تطوّر العصور فيها ضمن عنصر متحرك، يمدّ الصورة بالقدرة على التكيّف وفقاً لظروف مختلفة[11].

فإذاً تكمن فلسفة تشريع (منطقة الفراغ) في النظام الاقتصادي والاجتماعي، بمنحه قدرة المواكبة لركب المتغيّرات والتطوّرات في سائر العصور.

5ـ أهميّة منطقة الفراغ:

قد ظهر ممّا تقدّم أهميّة منطقة الفراغ في النظام الاجتماعي في الإسلام، فإنّ وجود العنصر المتحرّك كفيل باتصاف ذلك النظام بالشمولية والاستيعاب؛ ليمنحه القابلية على مواكبة جميع المتغيّرات وأنماط التنمية الإنسانية والحياتية والاستجابة للمتطلّبات والحاجات المستجدة، ولذا يقول السيد الشهيد في مطلع بحثه عن منطقة الفراغ وأهميتها في بناء النظام الاقتصادي: «وحيث جئنا على ذكر منطقة الفراغ في التشريع الاقتصادي، يجب أن نعطي هذا الفراغ أهمية كبيرة خلال عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي؛ لأنّه يمثل جانباً من المذهب الاقتصادي في الإسلام؛ فإنّ المذهب الاقتصادي في الإسلام يشتمل على جانبين:

أحدهما: قد ملئ من قبل الإسلام بصورة منجزة، لا تقبل التغيير والتبديل.والآخر: يشكّل منطقة الفراغ في المذهب، قد ترك الإسلام مهمّة ملئها إلى الدولة أو (ولي الأمر)، يملؤها وفقاً لمتطلّبات الأهداف العامّة للاقتصاد الإسلامي، ومقتضياتها في كلّ زمان»[12]. ويقول في موضع آخر: «وأمّا إذا أهملنا منطقة الفراغ ودورها الخطير، فإنّ معنى ذلك تجزئة إمكانيات الاقتصاد الإسلامي، والنظر إلى العناصر الساكنة فيه دون العناصر الحركية»[13].

6ـ دور الولي الفقيه في منطقة الفراغ:

ذكرنا أنّ النبي (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)هو الذي يملأ ـ باعتباره ولي الأمر ـ منطقة الفراغ بالأحكام الولائية، في ضوء مقتضيات المصالح القائمة آنذاك، كأحكام مرنة ومتغيّرة. ولكن السؤال عمّن يقوم بذلك من بعده؟

والجواب هو من ينطبق عليه عنوان ولي الأمر، وهم الأئمّة (عليهم ‏السلام) من بعده، ثم الفقهاء في عصر الغيبة. ولا إشكال ولا خلاف في حقهم (عليهم ‏السلام) في التصدّي لذلك. ولكن الخلاف في ثبوته للفقهاء بعدهم، وقد استدلّ السيد الشهيد على ذلك بدليلين:

أ ـ الدليل العقلي:[14] وهو مركّب من ثلاث مقدّمات، هي كالتالي:

المقدّمة الاُولى: قيام النظام الاقتصادي في الإسلام على أساس العدالة الاجتماعية، وهذه المقدّمة واضحة جدّاً؛ لورود الآيات والروايات التي تدعو الإنسان إلى تحقيق العدالة.

المقدّمة الثانية: اختلاف مقتضيات العدالة الاجتماعية باختلاف الأوضاع الاقتصادية، فقد يكون عمل ما في صالح المجتمع فترة من الفترات، وقد يكون بضرره في فترة أُخرى. ومن هنا، لا يمكن صياغة مفردات النظام الاقتصادي الجزئية صياغة ثابتة. وكمثال على ذلك ما أشرنا إليه سابقاً، من أنّ مقتضى العدالة الاقتصادية كان يسمح للفرد بالإحياء من دون أن يحدّد مقدار ذلك، باعتبار محدودية إمكانيات الفرد المحيي في ذلك الزمان، إلاّ أنّ مقتضيات العدالة الاجتماعية اليوم مع هذا التطوّر العلمي الموجود لا تسمح بذلك بأن يحيي الفرد ما يشاء من الأراضي.

المقدّمة الثالثة: إنّ أفضل طريق لحفظ وتحقيق العدالة الاجتماعية هو إيكال ذلك إلى ولي الأمر. وأمّا إيكاله إلى أفراد المجتمع وآحادهم لتحقيق العدالة، فإنّه وإن كان مطلوباً وضرورياً، إلاّ أنّه غير كاف في نفسه؛ إذ يؤدّي إلى عكس المطلوب، وإلى اختلال النظام. فالمتعيّن إذن، إرجاع ذلك إلى ولي الأمر، ليملأ دائرة المباحات تحقيقاً للعدالة الاجتماعية، بحسب مقتضيات الزمان والمكان.

ب ـ الدليل النقلي: وقد تمسّك السيد الشهيد بقوله تعالى:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الاْمْرِ مِنْكُمْ»[15] بتقريب: «إنّ هذا النصّ دلّ بوضوح على وجوب إطاعة أُولي الأمر، ولا خلاف بين المسلمين في أنّ أُولي الأمر هم أصحاب السلطة الشرعية في المجتمع الإسلامي، وإن اختلفوا في تعيينهم وتحديد شروطهم وصفاتهم. فللسلطة الإسلامية العليا إذاً حق الطاعة والتدخّل لحماية المجتمع، وتحقيق التوازن الإسلامي فيه، على أن يكون هذا التدخّل ضمن دائرة الشريعة المقدّسة»[16].

فالأحكام الثابتة هي فوق الزمان والمكان، ولا تنتهي بانتهاء عصر النبوة، بعكس الأحكام المتغيّرة التي تتبدّل بتبدّل الظروف والأحوال، والمستند فيها هو الآية الشريفة المتقدّمة.

7ـ حدود ولاية الأمر:

عرفنا أنّ مساحة الأحكام المتغيّرة متروكة لولاية الأمر، والآن نريد معرفة دائرة هذه الولاية؛ لكي نعرف دائرة الأحكام الإلزامية الصادرة ضمنها.

والإباحة هي الحكم الأصلي ـ كما أسلفنا ـ لمنطقة الفراغ، وهي قابلة لطروّ حكم آخر عليها، وأمّا ما كان الحكم الأولي فيها غير الإباحة من الأحكام الأُخرى، فهي خارجة عن منطقة الفراغ.

وعليه، فصلاحيات ولي الأمر تتحدّد بحدود ما كان حكمه الأولي الإباحة دون ما لم يكن كذلك. ولذا فالسيد الشهيد ـ بعد الاستدلال بآية (أُولى الأمر) الشريفة المذكورة آنفاً ـ يقول: «وحدود منطقة الفراغ التي تتسع لها صلاحيات أُولي الأمر، تضمّ في ضوء هذا النصّ الكريم كلّ فعل مباح تشريعياً بطبيعته، فأيّ نشاط وعمل لم يردّ نصّ تشريعي يدلّ على حرمته أو وجوبه يسمح لولي الأمر بإعطائه صفة ثانوية، بالمنع عنه أو الأمر به. فإذا منع الإمام عن فعل مباح بطبيعته أصبح حراماً، وإذا أمر به أصبح واجباً. وأمّا الأفعال التي ثبت تشريعياً تحريمها بشكل عام كالربا مثلاً فليس من حق ولي الأمر، الأمر بها. كما أنّ الفعل الذي حكمت الشريعة بوجوبه كإنفاق الزوج على زوجته لا يمكن لولي الأمر المنع عنه؛ لأنّ طاعة أُولي الأمر مفروضة في الحدود التي لا تتعارض مع طاعة الله وأحكامه العامّة، فألوان النشاط المباحة بطبيعتها في الحياة الاقتصادية هي التي تشكّل منطقة الفراغ»[17].

8ـ نماذج من صلاحيات ولي الأمر:

وهي عبارة عن نماذج من النصوص لاستعمال ولي الأمر صلاحياته في حدود منطقة الفراغ، وهذه النماذج ـ كما يقول السيد الشهيد ـ تلقي ضوءاً على طبيعة المنطقة، وأهمية دورها الإيجابي في تنظيم الحياة الاقتصادية. ثم ينقل أربعة نصوص في ذلك، نوردها مع توضيح منه (قدس‏ سره) حولها[18]:

أ ـ ما ورد عنه (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) من النهي عن منع فضل الماء والكلاء، فعن الإمام الصادق (عليه ‏السلام)أنّه قال: «قضى رسول الله بين أهل المدينة في مشارب النخل أنّه لا يمنع فضل ماء وكلاء»[19].

وهذا النهي نهي تحريم كما يقتضيه لفظ النهي عرفاً، وإذا جمعنا إلى ذلك رأي جمهور الفقهاء القائل: بأنّ منع الإنسان غيره من فضل ما يملكه من ماء وكلاء ليس من المحرّمات الأصلية في الشريعة، كمنع الزوجة نفقتها وشربالخمر، أمكننا أن نستنتج أنّ النهي من النبي صدر عنه بوصفه ولي الأمر. فهو ممارسة لصلاحياته في ملء منطقة الفراغ حسب مقتضيات الظروف؛ لأنّ مجتمع المدينة كان بحاجة إلى إنماء الثروة الزراعية والحيوانية، فألزمت الدولة الأفراد ببذل ما يفضل من مائهم وكلائهم للآخرين تشجيعاً للثروات الزراعية والحيوانية. وهكذا نرى أنّ بذل فضل الماء والكلاء فعل مباح بطبيعته، وقد ألزمت به الدولة إلزاماً تكليفياً تحقيقاً لمصلحة واجبة.

ب ـ ورد عن النبي (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) النهي عن بيع الثمرة قبل نضجها، ففي الحديث عن الصادق (عليه ‏السلام): أنّه سئل عن الرجل يشتري الثمرة المسمّاة من أرض، فتهلك ثمرة تلك الأرض كلّها؟ فقال: «قد اختصموا في ذلك إلى رسول الله (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)، فكانوا يذكرون ذلك. فلمّا رآهم لا يدعون الخصومة، نهاهم عن ذلك البيع حتى تبلغ الثمرة، ولم يحرّمه، ولكنّه فعل ذلك من أجل خصومتهم»[20].

وفي حديث آخر: «أنّ رسول الله (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)أحلّ ذلك فاختلفوا، فقال: لا تباع الثمرة حتى يبدو صلاحها»[21]

فبيع الثمرة قبل بدو صلاحها عملية مباحة بطبيعتها، وقد أباحتها الشريعة الإسلامية بصورة عامّة، ولكن النبي نهى عن هذا البيع بوصفه ولي الأمر، دفعاً لما يسفر عنه من مفاسد وتناقضات.

ج ـ ونقل الترمذي عن رافع بن خديج أنّه قال: نهانا رسول الله (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) عن أمر كان لنا نافعاً، إذا كانت لأحدنا أرض أن يعطيها ببعض خراجها أو بدراهم، وقال: «إذا كانت لأحدكم أرض فليمنحها أخاه أو ليزرعها»[22].

ونحن حين نجمع بين قصّة هذا النهي واتفاق الفقهاء على عدم حرمة كراء الأرض في الشريعة بصورة عامّة، ونضيف إلى ذلك نصوصاً كثيرة واردة عن الصحابة تدلّ على جواز اجارة الأرض، نخرج بتفسير معين للنصّ الواردفي خبر رافع بن خديج، وهو أنّ النهي كان صادراً من النبي بوصفه ولي الأمر، وليس حكماً شرعياً عامّاً. فإجارة الأرض بوصفها عملاً من الأعمال المباحة بطبيعتها، يمكن للنبي المنع عنها ـ باعتباره ولي الأمر ـ منعاً تكليفياً وفقاً لمقتضيات الموقف.

د ـ جاءت في عهد الإمام (عليه ‏السلام) إلى مالك الأشتر أوامر مؤكّدة بتحديد الأسعار وفقاً لمقتضيات العدالة، فقد تحدّث الإمام إلى واليه عن التجّار وأوصاه بهم، ثم عقّب ذلك قائلاً: «واعلم ـ مع ذلك ـ أنّ في كثير منهم ضيقاً فاحشاً، وشحاً قبيحاً، واحتكاراً للمنافع، وتحكّماً في البياعات، وذلك باب مضرّة للعامّة، وعيب على الولاة. فامنع من الاحتكار؛ فإنّ رسول الله (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) منع منه، وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل، وأسعار لا تجحف بالفريقين في البائع والمبتاع».[23]

ومن الواضح فقهياً: إنّ البائع يباح له البيع بأيّ سعر أحب، ولا تمنع الشريعة منعاً عامّاً عن بيع المالك للسلعة بسعر مجحف، فأمر الإمام بتحديد السعر ومنع التجار عن البيع بثمن أكبر صادر منه بوصفه ولي الأمر. فهو استعمال لصلاحياته في ملء منطقة الفراغ، وفقاً لمقتضيات العدالة الاجتماعية التي يتبنّاها الإسلام[24].

رابعاً ـ دور الزمان والمكان في الأحكام الثابتة:

1ـ الحاجات الثابتة:

عرفنا لحدّ الآن مدى تأثير عنصري الزمان والمكان في الأحكام المتغيّرة والمرنة في النظام الاجتماعي، ونحاول فيما يلي من البحث معرفة مقدار تأثيرهما على الأحكام الثابتة، ولكن نشير قبل ذلك إلى إشكال يتعلّق بتنويعنا الأحكام إلى ثابتة ومتغيّرة في ضوء ثبات أو تغيّر الحاجات الإنسانية، فهل توجد لدينا حاجات ثابتة أساساً لتترتّب عليها أحكام ثابتة؟ ومعنى الثبات في هذه الحاجات، هو وجودها من عصر التشريع الأول إلى عصرنا هذا، ومن بعده إلى يوم القيامة.

قد يبدو لأول وهلة عدم وجود هكذا مفهوم للثبات، وذلك نظراً إلى تغيّر حاجات الإنسان المعاصر عمّا كانت عليه في عصر التشريع. وعليه، فلا حكم ثابت بثبات الحاجات. وقد تعرّض السيد الشهيد الصدر ضمن إشارته لاعتبار العبادات من الحاجات الثابتة في حياة الإنسان إلى بيان وتحليل هذا التساؤل قائلاً: «ولئن كانت العبادات كالصلاة والوضوء والغسل والصيام مفيدة في مرحلة ما من حياة الإنسان البدوي؛ لأنّها تساهم في تهذيب خلقه، والتزامه العملي بتنظيف بدنه، وصيانته من الافراط في الطعام والشراب، فإنّ هذه الأهداف تحققها للإنسان الحديث اليوم طبيعة حياته المدنية وأُسلوب معيشته اجتماعياً. فلم تعد تلك العبادات حاجة ضرورية، كما كانت في يوم من الأيام، ولم يبق لها دور في بناء حضارة الإنسان أو حلّ مشاكله الحضارية».

ويجيب السيد الشهيد على ذلك ضمن مقدّمتين:

المقدّمة الأُولى: إنّ للإنسان نمطين من العلاقة مع الأشياء: علاقته مع الطبيعة، وعلاقته مع الله ومع أخيه الإنسان. فالتطور الاجتماعي في الوسائل والأدوات، إنّما يفرض التغيّر في علاقة الإنسان بالطبيعة، وما تتخذه من أشكال مادية، فكلّ ما يمثّل علاقة بين الإنسان والطبيعة، كالزراعة التي تمثل علاقة بين الأرض والمزارع تتطور شكلاً ومضموناً من الناحية المادية تبعاً لذلك. فعلاقات الإنسان بالطبيعة أو الثروة تتطوّر عبر الزمن، تبعاً للمشاكلّ المتجددة التي يواجهها الإنسان باستمرار وتتابع خلال ممارسته للطبيعة، والحلول المتنوعة التي يتغلّب بها على تلك المشاكلّ، وكلّما تطوّرت علاقاته بالطبيعة ازداد سيطرة عليها، وقوّة في وسائله وأساليبه[25].

المقدّمة الثانية: إنّ العبادات ليست علاقة بين الإنسان والطبيعة لتتأثر بعوامل هذا التطوّر، وإنّما هي علاقة بين الإنسان وربّه، ولهذه العلاقة دور روحي في توجيه علاقة الإنسان بأخيه الانسان. وفي كلا هذين الجانبين نجد أنّ الإنسانية على مسار التأريخ، تعيش عدداً من الحاجات الثابتة التي يواجهها إنسان عصر الزيت وإنسان عصر الكهرباء على السواء.

ونظام العبادات في الإسلام علاج ثابت لحاجات ثابتة من هذا النوع، ولمشاكلّ ليست ذات طبيعة مرحلية، بل تواجه الإنسان في بنائه الفردي والاجتماعي والحضاري باستمرار. ولا يزال هذا العلاج الذي تعبّر عنه العبادات حيّاً في أهدافه حتى اليوم، وشرطاً أساسياً في تغلّب الإنسان على مشاكله، ونجاحه في ممارسته الحضارية[26].

ويقول(قدس‏ سره)حول الحاجات الثابتة التي تمثّل أساس الأحكام الثابتة غير العبادية: إنّ «كلّ جماعة تسيطر خلال علاقاتها بالطبيعة على ثروة، تواجه مشكلة توزيعها، وتحديد حقوق الأفراد والجماعة فيها، سواء كان الإنتاج لدى الجماعة على مستوى البخار والكهرباء، أم على مستوى الطاحونة اليدوية»[27].

إذن، ثمّة حاجات في البعد العبادي من حياة الإنسان وفي البعد الاقتصادي يشترك فيها جميع البشر. وقد اتضح ـ إلى حدٍّ ما ـ من خلال النصّ المنقول عن السيد الشهيد، المقصود بالحاجات في البعد الاقتصادي، ولكن ماهي الحاجات الموجودة في البعد العبادي التي يمكن في ضوئها تشريع الأحكام المرتبطة بها؟

يذكر (قدس‏ سره) ثلاثة أنواع من الحاجات والمشاكلّ التي يواجهها الإنسان على هذا الصعيد[28]:

أ ـ الحاجة إلى الارتباط بالمطلق:

وهي حاجة ثابتة في وجود الإنسان، والذي يشبع هذه الحاجة هو نظام العبادات. ويستدلّ السيد الشهيد على ذلك بدليل مركّب من ثلاث مقدّمات:

المقدّمة الاُولى: يعاني الإنسان في تحرّكه الحضاري من مشكلة رئيسة ذات حدّين:

أحدهما: يتمثّل في الضياع واللاإنتماء، وهذه هي مشكلة الإلحاد، وهي الجانب السلبي من المشكلة.

والثاني: عبارة عن الغلو في الانتماء، بتحويل الحقائق النسبية التي ينتمي إليها إلى مطلق، وهذا هو الجانب الإيجابي في المشكلة. وأطلقت الشريعة على الجانب الأول: الإلحاد، وعلى الثاني: الشرك والوثنية.

المقدّمة الثانية: تلتقي هاتان المشكلتان في نقطة واحدة، هي إعاقة حركة الإنسان في تطوّره عن الاستمرار الخلاّق المبدع الصالح.

المقدّمة الثالثة: إنّ الإيمان كغريزة لا يكفي ضماناً لتحقيق الارتباط بالمطلق بصيغته الصالحة؛ لأنّ ذلك يرتبط بطريقة إشباع هذه الغريزة وأُسلوب الاستفادة منها، كما هو الحال في كلّ غريزة. ومن هنا كان لابدّ للإيمان بالله والشعور العميق بالتطلّع نحو الغيب والانشداد إلى المطلق من توجيه يحدّد طريقة إشباع هذا الشعور، ومن سلوك يعمّقه، والعبادات هي التي تقوم بدور التعميق لذلك الشعور؛ لأنّها تعبير عملي وتطبيقي لغريزة الإيمان.

ب ـ الموضوعية في القصد وتجاوز الذات:

تتنوّع مصالح الإنسان إلى مصالح تعود مكاسبها إلى نفس الفرد، وأُخرى تعود على غيره.

والنوع الأول: يضمن الدافع الذاتي لدى الفرد توفيره والعمل في سبيله. وهذا بعكسه في النوع الثاني فلا يكفي الدافع الذاتي لضمان تلك المصالح؛ لأنها لا تخص الفرد العامل، وكثيراً ما تكون نسبة ما يصيبه من جهة وعناء أكثر من نسبة ما يصيبه من تلك المصلحة الكبيرة ومن هنا كان الإنسان بحاجة إلى تربية على الموضوعية في القصد، وتجاوز الذات في الدوافع. والعبادات تقوم بدور كبير في هذه التربية الضرورية؛ لأنها أعمال يقوم بها الإنسان من أجل الله سبحانه، ولا تجوز إذا أدّاها الإنسان من أجل مصالحه الشخصية.

ج ـ الشعور الداخلي بالمسؤولية:

تتبع الإنسانية دوماً نظاماً معيّناً في توزيع الحقوق والواجبات، وتحيطه بضمانات لالتزام الأفراد بهذا النظام. والضمانات منها ما هو موضوعي كقانون العقوبات، ومنها ما هو ذاتي ينبثق عن الشعور بالمسؤولية. والأخير بحاجة إلى إيمان برقابة لا يعزب عن علمها مثقال ذرة، وإلى مران عملي ينمو من خلاله هذا الشعور، وهو يكون عن طريق الممارسات العبادية.

والنتيجة، هي وجود حاجات ثابتة في حياة الإنسان، يشترك فيها جميع الناس في العصور كافة، وهي تتوزع ما بين الجانب الاقتصادي والجانب العبادي من حياة الإنسان، وهي التي يقوم على أساسها النظام الاقتصادي، ونظام العبادات على مستوى التشريع.

2ـ الزمان والمكان والأحكام الثابتة:

ذكرنا أنّ لولي الأمر ملء منطقة المباحات، والحكم فيها بحكم ثانوي إلزامي. وأمّا الأحكام الثابتة الأصلية فليس لولي الأمر تغييرها، بأن يغيّر الواجب إلى محرّم أو بالعكس. فلا تأثير للزمان والمكان في هذه الدائرة من الأحكام، ولذا يقول الشيهد الصدر (قدس‏ سره): « وأمّا الأفعال التي ثبت تشريعيّاً تحريمها بشكل عام كالربا مثلاً فليس من حق ولي الأمر الأمر بها. كما أنّ الفعل الذي حكمت الشريعة بوجوبه كإنفاق الزوج على زوجته لا يمكن لولي الأمر المنع عنه؛ لأنّ طاعة أُولي الأمر مفروضة في الحدود التي لا تتعارض مع طاعة الله وأحكامه العامّة»[29].

نعم، الزمان والمكان يؤثران بشكل آخر في نظر السيد الشهيد، أي في مرحلة تطبيق الحكم على موضوعه، لا في مرحلة تعيين أصل الحكم. وقد أشار (قدس‏ سره) إلى ذلك في مقدّمة الفتاوى الواضحة، فقال: «والأحكام الشرعية على الرغم من كونها ثابتة، قد يختلف تطبيقها تبعاً للظروف من عصر إلى عصر، فلابدّ لرسالة عملية تعاصر تغيّراً كبيراً في كثير من الظروف أن تأخذ هذا التغيير بعين الاعتبار في تشخيص الحكم الشرعي».[30]

قد يقال: إنّ الأحكام الثابتة لو كانت استجابة للحاجات الثابتة، فلا مجال حينئذ للكلام عن التغيير.

فإنّه يقال: إنّ الأحكام وكذا الحاجات، وإن كانت ثابتة لا تتغيّر، إلاّ أنّ أُسلوب إشباع تلك الحاجات هو الذي يتغيّر. وقد أشار السيد الشهيد إلى ذلك بقوله: «زوّد الجانب الثابت من النظام بقواعد تشريعية ثابتة في صيغها القانونية، غير أنّها تتكيّف في تطبيقها بالظروف والملابسات، وبذلك تُحدِّد الأُسلوب الصحيح لإشباع الحاجات الثابتة التي تتنوع أساليب إشباعها بالرغم من ثباتها، وذلك كقاعدة نفي الضرر في الإسلام، ونفي الحرج في الدين».[31]

إنّ قاعدة نفي الضرر والحرج كصياغتين تشريعيتين، وإن كانتا ثابتتين نظرياً، لكنّهما تتأثّران في مقام التطبيق بالمؤثرات الزمانية والمكانية، ومع ذلك لا يضرّ بثباتهما كحكمين عاميّن، فكذلك الأحكام الثابتة تتنوّع في مقام التطبيق.

3ـ نماذج من تأثير الزمان والمكان في الأحكام المتغيّرة:

توضيحاً لما ذكرنا نستعرض بعض الأمثلة الواردة في كلام السيد الشهيد(قدس‏ سره):

أ ـ الشرط الضمني: قال: «الشرط الضمني واجب ونافذ، وهو كلّ شرط دلّ عليه العرف العام، وإن لم يصرّح به في العقد، ولكن نوع هذه الشروط ـ لمّا كان العرف هو الذي يحدّدها ـ تختلف، فقد يكون شيء ما شرطاً ضمنياً مع العقد في عصر دون عصر».[32]

ب ـ أسرى الحرب: للإمام أن يختار في أسرى الحرب التي تكون بإذنه العفو أو أخذ الفدية وإطلاقهم أو الاسترقاق، قال (قدس‏ سره): « إنّ ولي الأمر مسؤول عن تطبيق أصلح الحالات الثلاث على الأسير، وأوفقها بالمصلحة العامة؛ فإنّ الاسترقاق قد يكون أحياناً أصلح من العفو والفداء معاً، وذلك فيما إذا كان العدو يتبع مع أسراه طريقة الاسترقاق، ففي مثل هذه الحالة يصبح من الضروري أن يعامل العدو بالمثل».[33]

ج ـ مصرف الزكاة للفقراء: من الأحكام الثابتة في الإسلام جواز دفع الزكاة للفقراء، ولكن الإسلام لم يعط للفقر مفهوماً مطلقاً، ومضموناً ثابتاً في كلّ الظروف والأحوال، وإنّما أعطاه مفهوماً نسبياً، من قبيل عدم الالتحاق في المعيشة بمستوى معيشة الناس، وبقدر ما يرتفع مستوى المعيشة يتسع المدلول الواقعي للفقر، فيتسع هذا المفهوم حتى لغير الواجد للحاجات الرفاهية والكمالية، وإن كان غنيّاً بالنسبة للضروريات؛ لأنّه دون متوسّط المعيشة لدى عامّة الناس، فإذا اعتاد الناس مثلاً على استقلال كلّ عائلة بدار نتيجة لاتساع العمران في البلاد، أصبح عدم حصول عائلة على دار مستقلّة لوناً من الفقر، بينما لم يكن فقراً حينما لم تكن البلاد قد وصلت إلى هذا المستوى من اليسر والرخاء.

فيُستنتج من ذلك كلّه، إمكانية انعكاس تأثيرات الزمان والمكان حتى على الأحكام الثابتة التي هي خارج إطار منطقة المباحات، حيث يكون التأثير في مقام التطبيق، ولا يختص هذا الكلام بالأحكام غير العبادية، بل يشمل العبادات أيضاً، كما لاحظنا ذلك في النموذج الثالث الأخير الذي ذكرنا.

4ـ تغيير الأحكام الثابتة من خلال تغيير الموضوع:

من خلال النماذج المشار إليها في دائرة الأحكام الثابتة، فإنّه يمكن استنتاج ما يلي: إنّ التأثير الزماني والمكاني إنّما يطرأ في الأحكام الثابتة على الموضوع، وهذا بعكس الأحكام المتغيّرة، فإنّ التغيّر فيها يطرأ على نفس الحكم. فوجوب الزكاة حكم شرعي دائمي إلاّ أنّ التغيير يقع في ناحية الموضوع وهو الفقير، حيث تختلف النظرة العرفية لمن يعيش الحالة المعاشية المتوسطة باختلاف الظروف المعيشية، ولذا يقول السيد الشهيد: «وليس غريباً إعطاء مفهوم مرن لمدلول تعلّق به حكم شرعي، كالفقر الذي ربطت به الزكاة. ولا يعني هذا تغيّر الحكم الشرعي، بل هو حكم ثابت لمفهوم خاص، والتغيّر إنّما هو في واقع هذا المفهوم تبعاً للظروف».[34]

وينظّر (قدس‏ سره) للمقام أيضاً بمثال آخر وهو مفهوم (الطب)، ويقول: « إنّ الشرع حكم بوجوب تعلّم الطب كفاية على المسلمين، وهذا الوجوب حكم ثابت تعلّق بمفهوم خاص وهو (الطب). ولكن ما هو مفهوم الطب؟ وما يعني تعلّم الطب؟ إنّ تعلّم الطب هو دراسة المعلومات الخاصّة التي تتوفّر في ظرف ما عن الأمراض وطريقة علاجها، وهذه المعلومات الخاصة تنمو على مرّ الزمن، فما هي معلومات خاصة بالأمس لا تعتبر معلومات خاصة اليوم، ولا يكفي في طبيب اليوم أن يتقن ما كان يعرفه الأطباء الحاذقون في عصر النبوة؛ ليكون ممتثلاً لحكم الله في تعلّم الطب، فالمرونة في المفهوم إذاً غير التغيّر في الحكم الشرعي، وإذا كان طبيب اليوم غير طبيب عصر النبوة، فمن المعقول أن يكون فقير اليوم في مفهوم الإسلام غير فقير عصر النبوة أيضاً»[35].

نتائج البحث: يُستخلص ممّا تقدّم النتائج التالية:

1ـ إنقسام الحاجات الإنسانية إلى ثابتة ومتغيّرة.

2ـ إنقسام الأحكام الشرعية وصياغات النظام الاجتماعي والاقتصادي ـ باعتبارها تمثّل التلبية التشريعية لتلك الحاجات ـ إلى ثابتة ومتغيّرة، ويطلق على الجانب المتغيّر في الإطار الاجتماعي (منطقة الفراغ).

3ـ ينحصر نظام العبادات بتلبية الحاجات الثابتة فقط.

4ـ تخلو منطقة الفراغ من الحكم الالزامي الأوليّ، والحكم الأوليّ لها هو الاباحة.

5ـ إنّ أمر ملء منطقة الفراغ اُوكل الى وليّ الأمر والدولة الاسلامية.

6ـ للزمان والمكان تأثير كبير في ملء منطقة المباحات أو منطقة الفراغ.

7ـ يقوم الولي الفقيه بملء منطقة فراغ بحسب مقتضيات الزمان والمكان والمصالح العامّة.

8ـ تتحدد دائرة الفراغ بالمباحات الشرعية، ويترتّب على ذلك تأطّر دائرة الصلاحيات التنفيذية للولي الفقيه بحدود المباحات أيضاً.

9ـ بالرغم من عدم تأثير الزمان والمكان في الأحكام الثابتة نفسها، ولكنّهما يؤثّران في مقام التطبيق.

10ـ وقوع التغيير في دائرة الأحكام المتغيّرة في نفس الحكم، بعكس الأحكام الثابتة فإنّ التغيير يقع في طرف الموضوع.

الشيخ محمود زماني

ترجمة: الشيخ صفاء الخزرجي

مجلّة فقه أهل البيت (ع) / 46

[1] دروس في علم الأُصول ( الحلقة الأُولى ): 38; المعالم الجديد للأُصول: 8.

[2] الفروع من الكافي 5: 279 ، كتاب المعيشة ـ باب في إحياء أرض الموات ، دار الأضواء ـ بيروت 1405هـ.

[3] الفتاوى الواضحة: 97.

[4] دروس في علم الأُصول ( الحلقة الأُولى ): 65، والحلقة الثانية: 13.

[5] اقتصادنا: 338.

[6] المصدر السابق: 339.

[7] الفتاوى الواضحة: 703 ـ 706.

[8] اقتصادنا: 339.

[9] المصدر السابق: 725.

[10] المصدر السابق: 401.

[11] المصدر السابق: 722.

[12] المصدر السابق: 400.

[13] المصدر السابق: 401.

[14] المصدر السابق: 301.

[15] سورة النساء: 59.

[16] اقتصادنا: 301 و725.

[17] المصدر السابق: 726.

[18] المصدر السابق نفسه.

[19] الظاهر أن السيد الشهيد نقل مضمون الرواية، والأصل فيها ما نقله في الصفحة 642 من اقتصادنا، وهي كالتالي: « عن ابي عبدالله (عليه ‏السلام) قال: قضى رسول الله (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) بين أهل المدينة في مشارب النخل أنه لا يمنع نفع الشيء. وقضى بين أهل البادية أنه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء. وقال لا ضرر ولا ضرار». فروع الكافي: ج 5، كتاب المعيشة ـ باب الضرار. ح 6.

[20] فروع الكافي 5: 175، كتاب المعيشة ـ باب بيع الثمار وشرائها ح2.

[21] المصدر السابق ح 4.

[22] سنن الترمذي 2: 421، دار الفكر ـ بيروت 1403هـ.

[23] نهج البلاغة: 140 الكتاب 53، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم، الطعبة الرابعة 1415هـ.

[24] اقتصادنا: 728.

[25] المصدر السابق: 723؛ الفتاوى الواضحة: 704.

[26] الفتاوى الواضحة: 706.

[27] اقتصادنا: 723.

[28] الفتاوى الواضحة: 706 ـ 718.

[29] اقتصادنا: 726.

[30] الفتاوى الواضحة: 97.

[31] اقتصادنا: 339.

[32] الفتاوى الواضحة: 97.

[33] أُنظر اقتصادنا: 315.

[34] اقتصادنا: 716.

[35] المصدر السابق.