العاطفة في تراث الإمام الشهيد الصّدر (رض)

إطلالة على مدرسة الشهيد الصدر الفلسفية

بحث علماء النفس دور العاطفة وأهميتها في بناء الشخصيات، وانّ الإنسان السوي لابد ان يتمتع بعاطفة متّزنة تساعده على تحريك قدراته وطاقاته بأعتدال نحو الهدف المنشود، فإذا اختلّت العاطفة سلباً أو إيجاباً فسوف ينعكس ذلك على السلوك الذي يصدر عن تلك الشخصية وسوف يقع الإنسان فريسة للظروف والأهواء.

وإذا أردنا أن نقوِّم العاطفة، فلابد أن نعرف نوع العواطف والأمور التي تتعلّق بها هذه العواطف فمثلاً إذا تعلقت بأمور غير سامية فسوف تكون العاطفة تبعاً لها في التقييم.

وإذا تعلقت باُمور سامية فسوف تسمو هذه العواطف تبعاً لسمو ما تعلقت به فقد تتعلّق بأمور مادية كالأشياء المملوكة، والأشخاص لذواتهم وغير ذلك كما في الحالة الاُولى. وتارة تتعلّق بأمور معنوية كالشرف والدين والعدالة والشجاعة والقيم و… إلى غير ذلك كما في الحالة الثانية.

ويجب أن نفرّق بين العاطفة والإنفعال، فهناك فارق جوهري بين الانفعال والعاطفة فالانفعال قد يدفع الإنسان بشدة باتجاه معين دون أن يكون له دور تنظيم الدوافع عند الإنسان  بنيما تقوم العاطفة بدور التحريك ولكن ليس بالطريقة الانفعالية المرتجلة. وأوّل من ميّز بين العاطفة والانفعال هو «شاند»، الذي يقول «انّ العاطفة هي تنظيم الانفعالات والاستعدادات الانفعالية حول موضوع أو فكرة»[1] فإن الانفعال حالة موقتة طارئة، بينما العواطف مستقرّة وثابتة ولذلك يعتقد علماء النفس أن العواطف لها أثر في تنظيم الدوافع الفطرية وتوجيهها وجهات موحّدة، وهذا التوجيه وهذه الوحدة يسمّونها «تكامل الشخصية».

فيقول الدكتور القوصي «الشخصية تعتبر قوية إذا ارتبطت عناصرها ارتباطات قوية، واذا اتجهت لتحقيق غرض واحد أو غرض أساس في الحياة، وهذا الترابط وهذه الوحدة في عناصر الشخصية وأغراضها يسمّى تكامل الشخصية والتكامل هنا شبيه بالتكامل المعروف في العلوم الرياضية فالتكامل هو جمع وحدات صغيرة كبيرة العدد لتكون كبيرة…»[2]، نفهم من هذا

النص أن الشخصية القيادية يجب أن تتسم بالعاطفة لتكون قوية من أجل أن تجمع كل قدراتها لهدف معيّن، ثم لتكون مثالاً أمام الآخرين للشخصية النموذجية التي يحتذى بها ويقتدى بها. وإذا لم تستطع أن تتماسك في اندفاعاتها نحو هدف معين فسوف تعيش الخلل من داخلها ولا يمكنها أن تعالج خلل الآخرين أو تقودهم أو تجمع قدراتهم وطاقاتهم، ولن تحتل الدور القيادي الذي يؤهلها للتأثير حتى لو توافرت على بعض العناصر المهمة والكفاءات العالية كالعلم أو بعض القدرات كالقوة أو المال أو غير ذلك لأن الكفاءة متعددة الجوانب. وبالتالي فهذه الشخصية لا تصل إلى الهدف لعدم وجود التنسيق بين عناصرها، وبالتالي فسوف تكون القدرة في جانب والعلم في جانب آخر، ولن تصل إلى المقصود بسهولة أو قد لا تصل وفي هذا البحث نحاول التعرف على رأي الشهيد الصدر(رض) في العاطفة ودورها في تكوين الشخصية الإسلامية من خلال رؤيته وفهمه للأسلام، وبذلك نكشف البعد العاطفي عند السيد الشهيد من خلال نظرته الواعية وأهتمامه بدور العاطفة في تكوين الشخصية الإسلامية وأثرها.

العاطفة في رأي الشهيد الصدر(رض)

السيد الشهيد رحمه الله يعطي دوراً مهما للعاطفة ويرى بأن الإسلام يقر العاطفة ويمزجها مع الفكر وينطلقان معاً لتحقيق الإنسان السوي الهادف، لأن المفاهيم وحدها لا يمكن أن تنطلق مجردة، فعندما يمر على الآية الكريمة في سورة الحديدة آية (16): «ألم يأن للذين امنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق…»، يقول السيد الشهيد: «ألم يأن لهؤلاء الذين أضاء الايمان عقولهم وتمكنت العقيدة من نفوسهم وتبين لهم الحق متجسداً في اشرف رسالات السماء أن يفجر هذا الايمان في نفوسهم موجاً من العاطفة ويشع فيهم أنفعالاً خاصاً يتّفق مع طبيعة ذلك الايمان وجوهره حتى تمتلأ قلوبهم بالخشوع للحق والانقياد له والانصياع إلى أوامره ونواهيه، وبهذا يعلن الإسلام على أزدواج الفكر مع العاطفة… وهذه هي السياسة العامة للدعوة الإسلامية فهي دعوة فكر وعاطفة أو بالاحرى دعوة إلى عقيدة بكل ما تتطلّبه من مفاهيم وعواطف…»[3].

إنّنا عندما نتأمل في هذا النص نجد أن السيد الشهيد ينظر إلى العاطفة المرتبطة بالايمان الفكري وبالقاعدة الفكرية التي تنتج منها العاطفة ويجد أن العقيدة الإسلامية بما فيها من متانة وقوّة قادرة على تفجير طاقات الإنسان، ولابد أن تكون العاطفة مستوحاة من تلك القاعدة الفكرية (العقيدة)، ولم يكتف السيد الشهيد باطلاق العنان لهذه العاطفة من العقيدة التي هي قاعدتها الفكرية، وأنما يريد توظيف هذه العاطفة توظيفاً صحيحاً لأنه يريد لها أن تساهم أيجابياً في بناء الحياة الصحيحة وتصب في اتجاهها المرسوم حتى لا تكون العاطفة منعزلة فيما بعد عن العقيدة التي أطلقتها ولا تكون العقيدة مجرّد فكرة فهو (رض)، يقول: «والسبب في هذا الربط بين المفاهيم والعواطف واضح كل الوضوح لأن الإسلام لا يريد المفاهيم والافكار بمعزل عن العمل والتطبيق وأنما يريدها قوّة دافعة لبناء حياة متكاملة في أطارها وضمن حدودها، ومن الواضح ان الافكار والمفاهيم لا تصبح كذلك إلاّ حين تتخذ أشكالاً عاطفية حتى تخلق الانفعالات التي تناسبها والعواطف التي تساندها تتخذه هذه العواطف موقفاً أيجابياً في توجيه الحياة العملية والسلوك العام…»[4].

فالسيد الشهيد لم يكن ينظر إلى العاطفة نظرة تحليلية مجردة عن وظيفتها ودورها، ولم يترك الإنسان مع عاطفته عرضة للأهواء والانفعالات حتى تكون عواطفه ساذجة أو مستمدة من الظروف أو المجتمع أو العوامل الخارجية التي لا تستند إلى الرسالة، بل يريد بعاطفته أن تقوده إلى الكمال والرقي. فهو يقول «وحيث أن الإسلام هو القاعدة الاساسية للمفاهيم الفكرية التي تتكون منها العقلية الإسلامية كان من نتيجة ذلك طبيعياً أن يكون هو القاعدة والينبوع الاساس لاعمق العواطف التي تتكون منها النفسية الإسلامية وبمقدار ما تكون الرسالة أكثر عمقاً وتركزاً في موضوعها الرئيسي من عواطف المسلم، ترتفع شخصيته النفسية ويكتمل طابعها الاسلامي، كما ترتفع شخصيته الفكرية ويكتمل طابعه بمقدار وجود القاعدة الإسلامية وتمركزها فيها….

فالعقيدة الإسلامية ينبغي أن تكون في نظر الإسلام ينبوعاً لأعمق العواطف في نفس المسلم كعاطفة الحب العميق لله ولرسوله ولرسالته التي تسمو على كل عاطفة وتهون في سبيلها كل العلائق، علائق الاُبوّة والاُخوّة والزوجية والعشيرة وعلائق المال والتجارة والمسكن ويقوم على أساسها التقدير العاطفي بكل موقف ولكل واقع…»[5].

وبهذا النص نرى انّ السيد الشيهد يقرّ بأن العاطفة المنطلقة من الرسالة والقاعدة الفكرية لها سوف ترتفع بالانسان، وسوف تصب ثمارها بنفس الرسالة، وسوف تعلو وتسمو به سمواً يعلو به على كل الأهواء والشهوات، ويتقرب من الله تقرباً يجعله أقرب من ابنه وأبيه وحياته ومساكنه المحببة إليه وتنقطع صلاته بما يشغله عن غير الله والرسالة.

فبدلاً من أن يرفض الإسلام العاطفة في الإنسان ويكبتها نجده يوجهها الوجهة الصحيحة بحيث أنّها بدل أن تكون شاغلة له فأنها تتحرك في صالح الفكرة والعقيدة. لأنها وليدتها ومستمدة منها. فهي ترجع اليها رجوعاً طبيعياً بخلاف العاطفة التي لا تكون وليدة العقيدة فهي لا تكون مستمدة من الرسالة ولا تصب في صالح الرسالة والعقيدة فتتحرك بالاحاسيس والهواجس والاوهام والاهواء ويذكر السيد الشهيد جملة من الاهواء والعلاقات التي قد تستقطب اهتمام الإنسان على حساب العقيدة وهذه الامثلة مستخرجة من الآية الكريمة في قوله تعالى (قل ان كان أباؤكم وأخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبّ اليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربّصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين).[6]

ولا يمكن الاعتماد على مثل هذه العواطف التي يسمّيها بالعواطف المنخفضة ويقول السيد الشهيد: «وأما العواطف السطحية المائعة التي لا تستند إلى مفهوم والتي يثيرها الاحساس أكثر مما يثيرها الفكر، فليس من الصحيح للدعوة ان ترتكز على هذه العواطف لأنّ انتشار هذه العواطف المنخفضة يشكل خطرا على الدعوات الفكرية التي تحاول الارتفاع بذهنية الاُمّة إلى المستوى الفكري والتسامي بها عن المشاعر المرتجلة والاحاسيس الساذجة، وأكثر من تلك العواطف السطحية خطراً، العواطف التي تستمد جذورها النفسية من مفاهيم فكرية تتعارض مع مفاهيم الدعوة…»[7].

اذن يتحدّث السيد الشهيد عن العواطف بقسميها، فالعواطف الايجابية هي ذات القاعدة الفكرية والأسس العقائدية، وليس هي الاحاسيس كيفما تكون هذه الاحاسيس فأنها قد تشكّل خطر لأنها تخلق الاجواء السلبية وتؤثر عى الحياة السليمة.

تربية العواطف

العواطف تنقسم إلى قسمين: العواطف الهادفة، والعواطف الساذجة، وتشكل الاولى عنصراً ايجابياً بينما تكون الثانية خطراً على الفرد والمجتمع، وتتكون العواطف الايجابية من العقيدة. والعواطف السلبية تكون من الدوافع الذاتية أو الاجواء العامة. لذا يرى شهيدنا الصدر أن العواطف يمكن ان تنمو وتتطور بالتربية فأنها ليست وجوداً جامداً أو قدراً محتوماً على الإنسان. فالمجاهدة والتعاهد والتربية الاخلاقية والروحية كلها وسائل للرقي عند الإنسان لان الإنسان لديه الاستعداد الفطري للتربية فيقول «رض»: «وأما الاسلوب الثاني الذي يتخذه الدين للتوفيق بين الدافع الذاتي والقيم والمصالح الاجتماعية فهو التعهد بتربية أخلاقية خاصة تعني بتغذية الإنسان روحياً وتنمية العواطف الإنسانيّة والخلقية فيه فأن في طبيعة الإنسان ـ كما ألمحنا سابقاً ـ طاقات واستعدادات لميول متنوعة ميول مادية تتفتّح شهواتها بصورة طبيعية كشهوات الطعام والشراب والجنس، وبعضها ميول معنوية تتفتح وتنمو بالتربية والتعهّد. ولأجل ذلك كان من الطبيعي للانسان اذا ترك لنفسه أن تسيطر عليه الميول المادية، انها تتفتح بصورة طبيعية وتظل الميول المعنوية واستعدادتها الكامنة في النفس مستترة، والدين باعتباره يؤمن بقيادة معصومة مسدّدة من الله فهو يوكل أمر تربية الإنسانيّة وتنمية الميول المعنوية فيها إلى هذه القيادة وفروعها فتنشأ بسبب ذلك مجموعة من العواطف والمشاعر النبيلة، ويصبح الإنسان يحب القيم الخلقية والمثل التي يربيه الدين على احترامها ويستبسل في سبيلها ويزيح عن طريقها ما يقف أمامها من مصالحه ومنافعه».[8]

اذن السيد الشهيد يضع الإنسان أمام مسؤوليته، وهو الإنسان الأوّل المسؤول عن تطوير عواطف وتربيتها لأنّ العواطف كامنة في داخل النفس واذا ترك الإنسان وحده أو ترك نفسه لوحدها ونسيها سيقع صريع المادة والشهوات والاهواء، واذا أحس توجيه هذه العواطف وتربيتها فسوف ينسجم مع فطرته وخلقته لأنه يشبع الحاجة العاطفية لديه وسوف تتطور العاطفة لديه بشكل تكون لذة من اللذائذ فيما اذا اصبحت معبرة عن فكره وفطرته وحقيقته، ولذلك فانّ الاهتمام بالعواطف لا يعني رفض هذه الطبيعة الإنسانيّة أو كبتها ولا يعني مصادرة حاجات الإنسان وحبّه لذاته فيقول السيد الشهيد: «وليس معنى ذلك ان حب الذات يمحى من الطبيعة الإنسانيّة، بل ان العمل في سبيل تلك القيم والمثل تنفيذ كامل لارادة حب الذات فانّ القيم بسبب التربية الدينية تصبح محبوبة للانسان ويكون تحقيق المحبوب بنفسه معبراً عن لذّة شخصية خاصة فتفرض طبيعة حب الذات بذاتها السعي لأجل القيم الخلقية المحبوبة تحقيقاً للذة خاصة بذلك».[9]

انّ الوصول إلى هذه الدرجة العالية والمرتبة القوية التي يحس بها الإنسان بالتفاعل مع ما يعتقد به ويعشق ذلك مرتبط تماماً بالادراك والفهم الذي يصل إليه الإنسان بحسب معرفته ووضوحه ويقينه وأحساسه الدائم بهذا الفهم ومعايشته له كما يصل إليه عادة المجاهدون والعارفون والصابرون ويرى السيد الشهيد أنّ الفهم الواقعي للحياة والاحساس الخلقي بهذا الفهم بمعنى الانضباط بهذا الفهم، إنما يتكفّلان بحلّ مشاكل الإنسان، ولم يأت الحل نتيجة حل للمشكلة الاقتصادية أو العامل السياسي، ولا يمكن تصور الحل بالعامل الاقتصادي وأنه يخلق الاستقرار في المجتمع إلاّ اذا تحول الإنسان إلى جهاز ميكانيكي خال من  المشاعر والاحاسيس ويشرف عليه مجموعة من المهندسين الفنيين. لذا يقول السيد الشهيد:

«فالفهم المعنوي للحياة والتربية الخلقية للنفس في رسالة الإسلام هما السببان المجتمعان على معالجة السبب الأعمق للمأساة الإنسانيّة ولنعبر دائماً عن فهم الحياة على أنّها تمهيد لحياة أبدية بالفهم المعنوي للحياة، ولنعبر أيضاً عن المشاعر والأحاسيس التي تغذيها التربية الخلقية بالاحساس الخلقي بالحياة فالفهم المعنوي للحياة والاحساس الخلقي بها هما الركيزتان اللتان يقوم على اساسهما المقياس الخلقي الجديد الذي يضعه الإسلام للانسانية، وهو رضا الله تعالى ورضا الله ـ هذا الذي يقيمه الإسلام مقياساً عاماً في الحياة ـ هو الذي يقود السفينة البشرية إلى ساحل الحق والخير والعدالة، فالميزة الاساسية للنظام الاسلامي تشمل فيما يرتكز عليه من فهم معنوي للحياة وأحساس خلقي بها… وانما يشاد البناء الاجتماعي المتماسك على فهم معنوي للحياة وأحساس خلقي به ينبثق عنهما يملأ الحياة بروح هذا الاحساس وجوهر ذلك الفهم وهذا هو الإسلام في أظهر عبارة وأروعها فهو عقيدة معنوية وخلقية ينبثق عنها نظام كامل للانسانية يرسم لها شوطها الواضح المحدد ويضع لها هدفاً أعلى من ذلك الشوط ويعرفها على مكاسبها منه…».[10]

انّ هذا النص غزير بالافكار حول أهمية العواطف النبيلة والافكار الصحيحة، من حيث اعطاء تعريف للعواطف والاحاسيس من جهة، وتعريف للأفكار الصحيحة من جهة اخرى فعندما يعطى دوراً للفهم المعنوي لا يقصد أي فهم كيفما أتفق، وكذلك عندما يقول الاحساس الخلقي بها لا يقصد أي احساس كيفما اتفق وإلاّ فالشيوعية لها فهم معيّن عن الحياة وكثير من الافكار تدعي الاحساس الخلقي بها، لذلك يعرّف الفهم المعنوي للحياة بأنّه: «هو فهم الحياة على أنه تمهيد لحياة أبدية» وعندما يعرف الاحساس الخلقي بالحياة يقول هو: (المشاعر والأحاسيس التي تغذيها التربية الخلقية) وبهذا الفهم وهذا التقييد لتعريف الفهم والاحساس تخرج كل الانظمة التي لا تقيم للأخلاق وزناً في نظامها كالرأسمالية مثلاً، أو لا تعترف بوجود حياة اخرى بعد هذه الحياة كالشيوعية مثلاً، كما يوضح النص أيضاً دور العاطفة الصحيح في اشباع حاجة الإنسان الفطرية إلى الاستقرار وأي استقرار هو أعظم من استقرار الفطرة السليمة فيما وضعت له وهي تشيد القيم والاخلاق ليس على اساس نبذ حب الذات، بل انطلاقا من الذات نفسها وتحويل حب الذات الشهواني إلى حب للذات على اساس الفطرة  الواعية للحياة، والبعد المعنوي لها بأنها حياة مقدمة لحياة طويلة أبدية، يجد الإنسان هناك كل شيء فيها وكل متعة حُرم منها هنا مؤقتاً بسبب تضحيته.

ولم يكن السيد الشهيد بهذا الطرح مثالياً أو تجريدياً وانما حاول أن يجد لذلك مصداقاً عملياً متحققاً على الارض فلم يكن عندما انطلق في نظرته إلى الحياة بربطها بما وراء الطبيعة، لم يكن قد ابتعد عن التجربة الارضية التي مرت في عصر صدر الإسلام عندما تبنى الإسلام تربية الإنسان فكرياً وعاطفياً، فيقول: «وقد حمل الإسلام المشعل المتفجر بالنور بعد ان بلغ البشر درجة خاصة من الوعي فبشر بالقاعدة المعنوية والخلقية على أوسع نطاق وأبعد مدى ورفع على أساسها راية انسانية وأقام دولة فكرية أخذت بزمام العالم ربع قرن واستهدفت تحويد البشر كلّه وجمعه على قاعدة فكرية واحدة ترسم اسلوب الحياة ونظامها فالدولة الإسلامية لها وظيفتان احدهما تربية الإنسان على القاعدة الفكرية وطبعه في اتجاهه وأحاسيسه بطابعها والاخرى مراقبته من خارج وارجاعه إلى القاعدة اذا انحرف منها عمليا».[11]

وهو بهذا النص يعطي وظيفة للدولة في تربية العواطف على اعتبار انها قابلة للتربية ويقدم لنا درساً عملياً تاريخياً حفلت به البشرية ليكون ذلك دليلاً على صحة ما قدمه من رؤية حول دور العاطفة في تكوين الشخصية الإسلامية، ودور الإسلام في تغذية وتوجيه هذه العاطفة توجيهاً صحيحاً وهذا يعني أن العاطفة يمكن ان توجه وتتطور من قبل الإنسان نفسه ومن قبل الدولة أيضاً اذا خلقت له المناخ المناسب من خلال التربية تارة والمراقبة والمحاسبة والقانون تارة اخرى. وقد قدّم الإسلام نماذج رائعة دافعت عن فكره واهدافه ووصل المسلمون إلى القمة في عواطفهم ومشاعرهم تجاه الإسلام بعد ما كانوا يرزحون تحت نير الظلم والظلمات.

نموذج تطبيقي من كتابات السيد الشهيد

إذا ادرنا أن نتعرف على هذا البعد في شخصيته «رض» بعد أن اطلعنا على نظرته ورؤيته حول أهمية العواطف ودورها، لابدّ أن نرجع إلى كل كتاباته المختلفة في حياته ليتجسد لنا هذا البعد في شخصيته الكريمة فانه اصبح واضحاً لدينا ان السيد الشهيد يملك رؤية فكرية عن دور العواطف لذلك فهو يستند في عواطفه إلى رؤية وقاعدة صلبة انعكست على كتاباته بشكل عام من البداية إلى الخاتمة. ولنأخذ مثالاً على ذلك ما كتبه عن العقيدة الإسلامية.

ان ايمان السيد الشهيد بالاسلام ايماناً من الفكر ومن القلب فرغم تفوقه في الثقافة الإسلامية وتعمقه بالفهم نجده مملوء بالحب والمشاعر تجاه الدين، وهذا ما نلاحظه عندما يتحدّث مثلاً عن رسالة الدين ودوره في بناء المجتمع وبعد أن يورد عدداً من الآيات القرآنية كشواهد على دعواه في مقابل غياب الجانب الاخلاقي عند الرأسمالية ومؤاخذاته على الشيوعية في كتاب فلسفتنا يقول: «هذه الصور الرائعة التي يقدمها الدين…»[12] ان مفردة «الرائعة» التي كثيراما يستعملها السيد الشهيد عندما يورد دليلاً من القرآن أو شاهداً من السنّة النبويّة دليل عما يجيش في نفسه من مشاعر الحب والاعجاب والاقناع بالدليل الشرعي.

انّ حب السيد الشهيد لعقيدته ودينه واضح في كتاباته من البداية التي بداها في كتاباته فهو ألف فلسفتنا سنة 1961م، وحتى كتاباته سنة 1979م حيث كتب في اواخر حياته الحلقة الاولى من سلسلة الإسلام يقود الحياة تحت عنوان لمحة تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية مجيباً طلب مجموعة من العلماء في لبنان فهو يقول «وبعد فأنا اذ اثمّن اهتمامكم المسؤول بالاطروحة المباركة التي رفع رايتها سماحة اية الله العظمى الامام الخميني فانعشت قلوب المسلمين جميعاً وأنارت نفوسهم…» وفي الحقيقة انها انعشت قلب السيد الشهيد الذي كان يسعى لقيام الجمهورية الإسلامية عندما يقرر قبل هذا التصريح بعشرين عاماً حيث يقول في مقدّمة كتاب فلسفتنا «وكان لابدّ للاسلام ان يقول كلمته في معترك هذا الصراع المرير وكان لابدّ ان تكون الكلمة قوية عميقة، صريحة واضحة، كاملة شاملة، للكون والحياة والإنسان والمجتمع والدولة والنظام ليتاح للأمّة أن تعلم كلمة الله في المعترك وتنادي بها وتدعو العالم اليها كما فعلت في فجر تاريخها العظيم» ويعتبر السيد الشهيد مشروعه الكتابي هو جزء من مشروع اقامة هذه الدولة المباركة التي لابدّ أن تقدّم العلاج والنظرية اولاً لتواجه المعترك فيقول في المقدمة «وليس هذا الكتاب إلاّ جزءاً من تلك الكلمة عولجت فيه مشكلة الكون كما يجب ان تعالج في ضوء الإسلام وتتلوه الاجزاء الاخرى التي يستكمل فيها الإسلام علاجه الرائع لمختلف مشاكل الكون والحياة» ان هذه الكلمات القوية تكشف عن امتلاء وجدان السيد الشهيد بالحب للدين والعقيدة ويظهر ذلك واضحاً في استدلاله على دحض المادية بعد أن يناقش المادية علمياً ويدحضها ويبيّن موقفها على ضوء الفيزياء وعلى ضوء نتائج الفيزياء الحديثة ويقارن بين المادة والفلسفة، والمادة والفيزيولوجيا، والمادة والبيولوجيا، وعلم الوراثة، والمادة وعلم النفس، فيقول بعد هذه المناقشة العلمية.

ولنلتفت بعد كل ما سقناه من دلائل الوجدان على وجود القوة الحكيمة الخلاّقة إلى الفرضية المادية لنعرف فى ضوء ذلك مدى سخفها وتفاهتها فان هذه النظرية حين تزعم ان الكون بما زخر به من أسرار النظام وبدائع الخلقة والتكوين وقد اوجدته علة لا تملك ذرة من الحكمة والقصد تفوق في سخفها وغرابتها الاف المرّات من يجد ديواناً ضخماً من أروع الشعر وأرقاه أو كتاباً علمياً زاخراً بالأسرار والاكتشافات فيزعم ان طفلاً كان يلعب بالقلم على الورق فاتفق ان تترتب الحروف فتكوّن منها ديوان شعر أو كتاب علم «سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد».[13]

ان استعمال الوجدان واستدلاله عليه يفوق داخل نفسه كل الادلة العلمية بل وقد افرد لمناقشة موضوع المادية عنواناً خاصاً في نفس الفصل اسمه «المادة والوجدان»[14] وهذا يعبّر عن الخزين الوجداني والعاطفي عند السيد الشهيد تجاه العقيدة وتجاه الايمان بالله سبحانه. ولم ينطفىء هذا الوجدان عنده سواء في أوائل حياته أو في آخرها كما نلاحظ ذلك من خلال الشواهد التي ستمر علينا من خلال البحث. ولو تعمّقنا في تفصيلات وجدان السيد الشهيد في اعتقاداته والأصول الرئيسية في العقيدة وكيف يتحول عنده المعتقد من فكرة نظرية إلى ثورة تتفجر داخل نفسه تنعكس على كل كتاباته فهو ينظر إلى العقيدة نظرة ثورية يحوّل بها المجتمع كلّه، فالتوحيد باعتباره الدعامة الاساسية الأولى في العقيدة وباعتباره الاصل الاول في الرسالات السماوية جمعاء وحيث ان التوحيد اول فكرة نادى بها الانبياء من آدم «عليه السلام» وحتى خاتم الرسل محمد «صلى الله عليه وآله» فلم يكتف السيد الشهيد بفكرة التوحيد بالرد بها على الملحدين والمشركين بل ينطلق بها ببعد آخر يتعامل مع فكرة التوحيد بمشاعره ووجدانّه لتكون عنده منهجاً ونظرية للعمل وثورة اجتماعية حمل لواءها الانبياء والمرسلون وكافحوا من أجلها ضدّ كل الوان الاستبداد والظلم فيقول: «فالتوحيد هو جوهر العقيدة الإسلامية وبالتوحيد يحرر الإسلام الإنسان من عبودية غير الله «لا إله إلاّ الله» يرفض كل أشكال الالوهية المزيفة على مر التاريخ وهذا هو تحرير الإنسان من داخل ثم يقرر كنيتجة طبيعية لذلك تحرير الثروة والكون من أي مالك سوى الله تعالى وهذا هو تحرير الإنسان من خارج وقد ربط الامام أمير المؤمنين «عليه السلام» بين الحقيقتين حين قال «العباد عباد الله والمال مال الله» وبذلك حطّم الإسلام كل القيود المصطنعة والحواجز التاريخية التي كانت تعوق تقدم الإنسان وكدحه إلى ربّه وسيره الحثيث نحوه، سواء تمثّلت هذه القيود والحواجز على مستوى آلهة ومخاوف وأساطير وتحجيم للانسانية بين يدي قوى اسطورية أو تمثلت على مستوى ملكيات تكرس السيادة على الارض للطاغوت فرداً كان أو فئة أو طبقة على حساب الناس وتحول دون نموهم الطبيعي وتفرض عليهم بالتالي علاقات التبعية والاستعباد ومن هنا كان الإسلام الذي كافح من أجله الانبياء ثورة اجتماعية على الظلم والطغيان وعلى ألوان الاستغلال والاستعباد ومن هنا أيضاً كان الانبياء وهم يحملون هذا المشعل يستقطبون دائما المعذين في الارض والجماهير البائسة التي مزّقتها أساطير الآلهة المزيفة روحياً وشتتها الجاهلية فكرياً ووقعت فريسة اشكال مختلفة من الاستغلال والظلم الاجتماعي»[15]، ونجد نصاً آخر للسيد الشهيد حول التوحيد في كتابه المدرسة الإسلامية الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية. يقول فيه: «فالقاعدة الإسلامية للحرية في الإسلام هي التوحيد والايمان بالعبودية المخلصة لله الذي تتحطم بين يديه كل القوى الوثنية التي هدرت الإنسان على مرّ التاريخ «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتّخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله…»[16].

… وهكذا يقيم الإسلام التحرر من كل العبوديات على أساس الاقرار بالعبوديه المخلصة لله تعالى ويجعل منه علاقة  الإنسان بربه الاساس المتين الثابت لتحرره من علاقاته مع سائر الناس ومع كل أشياء الكون الطبيعية…»[17] بهذه النصوص ينقلنا السيد الشهيد من بحث فكرة التوحيد المجردة إلى الحكمة والهدف من التوحيد والى معطيات هذه الفكره وأثارها على النفس ويوسع من مفهوم رفض الإله الشريك أو الإله البديل عن الخالق القدير من إله الصنم إلى إله الشهوة وإله السلطان وكل الطواغيت الذين يفسدون في الأرض وبهذه النصوص تكتمل النظرية الإسلامية برأي السيد الشهيد الصدر لتخليص الإنسان من أي إله على الأرض على مستوى الداخل (النفس الإنسانيّة) والخارج في الارض. كل ذلك من كلمة «لا إله إلاّ الله» الموجودة في الفكر وفي القلب والوجدان، فكل الأصنام سواء كانت أصنام الجاهلية أو أصنام العلم الحديث كالسياسة الظالمة التي تمارس ضد الشعوب والمحرومين يجب ان ترفض انطلاقاً من عقيدة التوحيد فالحضارات التي يضعها الاعلام ولو لعقود من الزمن هي آلهة وأساطير والاستعمار الحديث كذلك أساطير ولذلك يقول السيد الشهيد أن فكرة التوحيد كلما تجذرت في النفس تحرر الإنسان من الشهوات والأغلال التي عليه كما في الآية الكريمة «ويضع عنهم أصرهم والأغلال التي كانت عليهم».

يقول (رض): «ولأجل ذلك كان مرد فكرة الحرية في الإسلام إلى عقيدة إيمانية موحدة بالله ويقين ثابت بسيطرته على الكون وكلما تأصل هذا اليقين في نفس المسلم وتركزت نظرت التوحيدية إلى الله تسامت نفسه وتعمق أحساسه بكرامته وحريته وتصلبت أرادته في الطغيان والبغي وأستعباد الآخرين (والذين إذا اصابهم البغي هم ينتصرون)»[18].

إذن السيد الشهيد يرى أن فكرة التوحيد تكون تمويناً عملياً لمواجهة المشاكل والالام الناتجه من المسير والجهاد والعمل وهي مضافاً إلى ذلك تشكل الكرامة والاحساس بالاعتزاز الكامل، لأنه لا يخشى أحداً غير الله ولا يقف أمامه أي معبود وان كان طاغوتاً ولا تمنعه الشهوات الزائلة أو الأهواء المؤقتة، لأن الإسلام باعتماده على عقيدة التوحيد قد طوّر مقاييس الإنسان وأنتزعه من الأرض والشهوات والنساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة إلى آخر الشهوات المذكورة في الآية الكريمة «زيّن للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب. قل أؤنبّئكم بخير من ذلكم للذين اتّقوا عند ربّهم جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهّرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد»[19].

يقول السيد الشهيد (رض) معقباً عليها: «… ونحن نجد من هذا الضوء القرآني ان الطريقة التي استعان بها القرآن على انتشال الإنسانيّة من ربقة الشهوات وعبوديات اللّذة هي الطريقة العامة التي يستعلمها الإسلام دائماً في تربية الإنسان في كل المجالات: طريقة التوحيد، فالاسلام حين يحرر الإنسان من عبودية الأرض ولذائذها الخاطفة يربطه بالسماء وجناتها وكلها رضوان من الله لأن التوحيد عند الإسلام هو سند الإنسانيّة في تحررها الداخلي من كل العبوديات كما أنه سند التحرر الإنساني في كل المجالات…»[20].

وبهذه النظرة العميقة للتوحيد نجد ان حب السيد الشهيد للعقيدة يمنعه أن تكون الفكرة مجمّدة في ذهنه فهي تتفاعل عنده لتخرج من الفكر إلى المشاعر ومنها إلى السلوك ومن الفرد إلى المجتمع، لأنه يرى ان الناس عندما يوحدو الاله الواحد جميعاً ويعبدونه سوف يكون لهذا الشعور والاحساس الموحد أثر كبير في التحرير الاجتماعي العام ثم يعمم التجربه لينقلها من الصعيد الشخصي إلى النطاق الاجتماعي فيقول: «وعلى ضوء الأسس التي يقوم عليها تحرير الإنسان من عبودية الشهوة في النطاق الشخصي وتحريره من عبودية الأصنام في النطاق الاجتماعي سواء كان الصنم اُمّة أم فئة أم فرداً نستطيع أن نعرف…»[21].

ويعتبر السيد الشهيد مثل هذا الكلام ليس نظرياً دائماً، فيذكر بنجاح الأنبياء في كسب المحرومين على طول الخط كدليل على هذا الدعاء، وكيف أصبحت فكرة تحرير الإنسان من الداخل قاعده للثورة والانطلاق في الخارج رفض كل ألوان الظلم والاستبداد، فالتوحيد الخالص الذي يجب أن يعيشه الإنسان كما يريد السيد الشهيد يجب أن يعيشه الإنسان بقلبه بعد أن عاشه بعقله، لذا ترى إن السيد الشهيد عندما يورد الأدلّة والبراهين على أثبات الصانع الحكيم لم يكتف بها بل كان يريد منّا أن نعيشه في منطقة القلب أيضاً، لأن الفكر وحده لا ينفع مالم ينعكس على السلوك ومالم يكن هذا الحب هو المقياس لكل الحركات والسكنات التي يمارسها الإنسان في حياته، ولذلك يقول السيد الشهيد «وننصرف الآن من منطقة الفكر إلى منطقة القلب، من منطقة العقل إلى منطقة الوجدان أريد أن نعيش معاً لحظات بقلوبنا لا بعقولنا فقط بوجداننا بقلوبنا نريد أن نعرض هذه القلوب على القرآن الكريم بدلاً عن أن نعرض أفكارنا وعقولنا، نعرض صدورنا لمن ولاؤها؟ وما هو ذلك الحب الذي يسودها ويمحوها ويستقطبها؟ إن الله سبحانه وتعالى لا يجمع في قلب واحد ولائين لا يجمع مستقطبين إمّا حب الله وإمّا حب الدنيا، أمّا حب الله وحب الدنيا معاً فلا يجتمعان في قلب واحد فلنمتحن قلوبنا، فلنرجع على قلوبنا لنمتحنها هل تعيش حب الله سبحانه وتعالى أو تعيش حب الدنيا؟ فان كانت تعيش حب الله زدنا ذلك تعميقاً وترسيخاً وإن كانت ـ نعود بالله ـ تعيش حب الدنيا حاولنا أن نتخلص من هذا الداء الوبيل، من هذا المرض المهلك، إن كل حب يستقطب قلب الإنسان يتخذ إحدى صفتين وأحدى درجتين.. الدرجة الاُولى: أن يشكل هذا الحب محوراً وقاعدة لمشاعر وعواطف وطموحات هذا الإنسان قد ينصرف عنه في قضاء حاجة في حدود خاصة ولكن سرعان ما يعود إلى القاعدة لأنها هي المركز وهي المحور، قد ينشغل بحديث، قد ينشغل بكلام، قد ينشغل بعمل، بطعام، بشراب، بمواجهة، بعلاقات ثانوية، بصداقات، لكن يبقى ذلك الحب هو المحور»[22].

إن هذا النص مليء بالكلمات المعبرة عن الفكرة ومدى تفاعل السيد الشهيد معها: الوجدان، القلب، الولاء الحب، ثم يريد لهذا القلب أن يمتلىء بالحب الخالص النزيه عن الشوائب، وهذا ما يؤكد عليه علماء الأخلاق دوماً بأن المحبوب يملأ قلب حبيبه بحيث لا يدع مجالاً لغيره، خصوصاً إذا كان هذا المحبوب هو الله عزّ وجلّ، فيركز رحمة الله على ضرورة امتحان قلوبنا لنكتشف ماهيتها ودرجة الحب فيها فأن المشاعر العامة لا تكفي، فالمشاعر هل فيها نقطة مركزية تحركها؟ فيتعمق السيد الشهيد ليكون القلب مطبوعاً بالمشاعر والمشاعر مرتكزة على الحب الخاص الذي يستولي على القلب، وهذا الامتحان الذي يقدّمه السيد ليس امتحاناً صورياً للقلوب من أجل الاطلاع فقط، وإنما إذا كانت النتيجة إيجابية فيجب أن نركّز عليها ونهتم بها ونعمّقها، ونزيدها ذلك تعميقاً وترسيخاً، وان كانت النتيجة سلبية فلا يضع السيد الشهيد الجواب فوراً ولا يقف حيادياً أمام النتيجة السلبية هذه فيقول (نعوذ بالله) ويعبر عن النتيجة السلبية بالداء الوبيل والمرض المهلك اشارة إلى أن حب الدنيا رأس كل خطيئة وهو الوارد على لسان كثير من الروايات.

والسيد الشهيد رغم أنه يعتبر حب الله هو القاعدة ولكنه يرى أن هناك درجات عالية ومقامات سامية لبعض الصالحين والمقربين الذين يعيشون الحالة مع الله بشكل دائم من خلال ذكر الله بالقول والعمل، ولا تشغلهم عن الله طرفة عين أبداً وهي الدرجة الثانية التي أشار أليها السيد الشهيد كنتيجة بنفس المحاضرة «والدرجة الثانية من الحب المحور أن يستقطب هذا الحب كل وجدان الإنسان بحيث لا يشغله شيء عنه على الاطلاق ومعنى أنه لا يشغله شيء عنه، أنه سوف يرى محبوبه وقبلته وكعبته، أينما توجّه سوف يرى ذلك المحبوب هذه هي الدرجة الثانية من الحب المحور… الدرجة الاُولى يستخذها في نفوس المؤمنين الصالحين الطاهرين الذين نظفوا نفوسهم من أوساخ هذه الدنيا الدنيئه هؤلاء يجعلون من حب الله محوراً لكل عواطفهم ومشاعرهم وطموحاتهم وآمالهم قد ينشغلون بوجبه طعام بمتعة من المتع المباحة، بلقاء صديق، بنزهة في شارع، ولكن يبقى هذا هو المحور الذي يرجعون إليه بمجرد أن ينتهي هذا الانشغال الطارىء وأماالدرجة الثانية فهي الدرجة التي يصل أليها أولياء الله الأنبياء والأئمة عليهم السلام…»[23].

ونلاحظ إنّ السيد الشهيد لم يذكر الحالة التي يحب الإنسان فيها الله وقد يعصيه إنه ذكر بعض الأمثلة في الدرجة الاُولى الأمثلة المباحة فقط إنّها وجبه الطعام الحلال التي تلهيه عن الله والنزهة الحلال أو الصديق الحلال، أما الطعام الحرام أو الصديق الذي يجره إلى الحرام أو النزهة كذلك فأنها لا تجتمع بحال من الأحوال مع حب الله تعالى، وليست هي محل الكلام لأن الكلام في تقسيم المحبين وأنهم إلى درجتين فهناك من يحب الله كنقطة ارتكازية في قلبه وقد يُشغله شاغل وهناك من لا يشغله حتى الشاغل الحلال فكله لله ولا تشغله عن الله طرفة عين أبداً وأخيراً يختم السيد الشهيد خطابه بكلمات قوية ثابتة واضحة صريحة تكشف حبه وعاطفته لله ونظرته إلى حب الله واعتزازه الذي يملأ كل عقله وقلبه ويطفح على كلماته الشفافه الرقيقة بهذا النص الرائع «حب الله سبحانه وتعالى أساس كل كمال، حب الله هو الذي يعطي للانسان الكمال، العزّة، الشرف، الاستقامة، النظافة، القدرة على مقابلة الضعف في كل الحالات، حب الله سبحانه وتعالى هو الذي جعل اُولئك السحرة يتحوّلون إلى رواد على الطريق فقالوا لفرعون «فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا»[24].. كيف قالوا هكذا؟ لأن حب الله اشتعل في قلوبهم فقالوا لفرعون بكل شجاعة وبطولة فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا…»[25].

وبهذا النص وغيره نكتشف بالدلالة الواضحة أن السيد الشهيد ورغم اطّلاعه على الثقافة والعلوم ورغم اليقين الثابت لديه على مستوى العقل والفكر، ولكنه ليس انساناً فكرياً أو عقلياً فحسب وإنما هو يتدفق عاطفة وحبّاً لعقيدته ولدينه ولله سبحانه وتعالى كما أوضحنا ذلك في جملة من النصوص التي كتبها في فترات مختلفة من حياته ونجده يأت بالشاهد التاريخي والكلمة القوية ليس من أجل اقناع القارىء بفكرته، وإنّما من أجل تحويل القارىء إلى مشروعه الحضاري.

عبد الحليم الزهيري

[1] علم النفس أسسه وتطبيقاته التربوية، عبد العزيز القوصي، ص: 280.

[2] نفس المصدر، ص: 280.

[3] رسالتنا، رسالتنا يجب أن تكون قاعدة للعاطفة.

[4] نفس المصدر السابق.

[5] نفس المصدر السابق.

[6] التوبة: 24.

[7] رسالتنا، رسالتنا يجب أن تكون قاعدة للعاطفة.

[8] فلفستنا، ص 42.

[9] فلسفتنا، ص 43.

[10] فلسفتنا، ص: ص 43.

[11] فلسفتنا، ص 45.

[12] فلسفتنا، ص 42.

[13] فصلت: 53.

[14] فلسفتنا، ص: 308.

[15] الإسلام يقود الحياة ـ صورة عن اقتصاد المجتمع الاسلامي، ص: 10.

[16] آل عمران: 64.

[17] المدرسة الإسلامية، ص82.

[18] الشورى: 39.

[19] آل عمران: 14 ـ 15.

[20] المدرسة الإسلامية، ص:88.

[21] المدرسة الإسلامية، ص: 92. المدرسة الإسلامية، ص: 92.

[22] المدرسة القرآنية، المحاضرة 14. المدرسة القرآنية، المحاضرة 14.

[23] المصدر السابق.

[24] طه: 72.

[25] المدرسة القرآنية، المحاضرة 14.