المقدمة (السيد الصدر صناعية الهية خاصة)
قبل الكلام في مدرسة السيد الشهيد الصدر الكبرى، من المهم ان نلتفت الى جانب من جوانب العظمة في شخصيته الخارقة للعادة، ذلك هو عدم التناسب بين عمر السيد الشهيد وبين ملكاته ودراساته، فهو من مواليد 1353 هـ وكان في طفولته يدرس في الكاظمية دراسة مزدوجة في آن واحد، فكان يدرس في ابتدائية منتدى النشر في الوقت الذي كان يواصل دراساته الحوزوية، وبالوقت نفسه كان يقرأ الكثير من الكتب والمجلات في شتى الفنون والعلوم وحقول الثقافة، وكان يلقي الخطب والقصائد التي يكلف بها أو التي يكتبها بيده في المناسبات العامة، ويبدو ان دوامه في الابتدائية كان من أجل التعرف على وسط الدراسة عند عامة ابناء الامة في ذلك العمر وإلاّ فان مستواه العلمي كان اعلى من مستوى خريج الثانوية، وكان معروفاً من قبل المدرسين والادارة لذلك لم يعامل معاملة التلميذ ولم يلزم بالتقيد بالدوام مع انه كان كثير الاحترام للمعلمين والادارة والتلاميذ، ولم يكمل الابتدائية ومايعرف عنه انه كان في الصف الثالث وربما لم يكمل الصف الرابع حيث ترك الابتدائية ليعطي وقتها للدراسة الحوزوية المتقدمة عليها بكثير.
وفي سنة 1365 هـ اي عندما قارب عمره الثانية عشرة سنة انتقل الى النجف الأشرف يحضر بحث الخارج على كبار العلماء ! مثل آية اللّه العظمى الشيخ محمد رضا آل ياسين وآية اللّه العظمى السيد ابو القاسم الخوئي، وله كذلك علاقة علمية ودراسية عليا مع علماء كبار مثل آية اللّه الشيخ عباس الرميثي.
وانهى دراساته الاصولية سنة 1378 هـ والفقهية سنة 1379 هـ وبدأ بتدريس الخارج في الأصول سنة 1978 م وفي الفقه سنة 1981 م وفي الوقت نفسه شارك في تأسيس الدعوة الاسلامية وكان له الدور الاساسي في ذلك، وقاد مسيرتها الفكرية والحركية، وفي سنة 1978 م شرع بتأليف كتابه فلسفتنا وانجزه خلال عشرة شهور متداخلة مع تدريسه الفقه والاصول مع عمله الحركي والاجتماعي الواسع.
ولو أمعنا النظر في كتاباته لوجدنا انه كان متمرساً في علم الرياضيات والفيزياء والكيمياء والهندسة وهذا يعني انه كان يدرس كل العلوم بجهود شخصية الى جانب دراساته الاساسية.
وهذه خصائص ومعالم في شخصية خارقة للعادة تدل على اختصاصه بعناية الهية خاصة، وبالجمع بين هذه الخصائص والخصائص النفسانية الفذة والصفات الاخلاقية العالية المثالية التي كان يتمتع بها السيد الشهيد والتزامه وايمانه العالي وتسليمه للّه تعالى واندكاكه بالولاية، والجوانب العاطفية العجيبة التي كانت تفخر كل من عرف هذا الوسام الزكي.
اقول بالجمع بين هذا الجانب والجانب العلمي يتضح ان شخصيته صيغت صياغة خاصة، ومن هذه الشخصية يتكون عند من يعرفها أو يطلع عليها دليل أو مؤشر على سنة اللّه في الاصطفاء والاختيار وحتى على مفهوم وابعاد فلسفة العصمة عند الاولياء الذين يصطفيهم اللّه سبحانه وتكرار هذه الامثلة في التاريخ الاسلامي يكون فهماً على عقيدة الاصطفاء وبالتالي العقيدة بالامامة وولاية أهل البيت (عليهم السلام).
ابعاد مدرسة الشهيد الصدر الكبرى:
حينما يكون الحديث في علم أصول الفقه ودراسته وتدريسه ومنهجيته ونظرياته وتطوره تسمع مدرسة السيد الشهيد الصدر، وحينما يكون الحديث في علم الفقه تسمع هذا العنوان، وهكذا حينما يكون الحديث في الفلسفة ـ وعلم الكلام، وعلم التفسير، وعلم الاقتصاد، والسياسة والنظم الاجتماعية، والعمل السياسي والاجتماعي، والثورة والجهاد والتضحية والاستشهاد، وحينما يكون الحديث في الفكر الاسلامي تسمع عنوان قيمومة السيد الشهيد في هذا المجال… ولم يلتفت الكثير من الناس الى الجامع بين هذه العناوين والى فلسفة نسبتها الى شخص واحد، والى الترابط والتكامل فيما بينها وتكوينها مدرسة واحدة تنسب الى عملاق لم يقتصر على بحث ماهو كائن وانما استهدف مايجب ان يكون ولم يقتصر في ذلك على البحث والتعليم والتنظير وانما قاد حركة عمل واسعة لتحقيق اهداف واسعة ولم يقتصر على العمل بل تطوع للتضحية والشهادة وهو في هذا السن المبكرة بالنسبة لصنفه من العلماء المراجع.
ومن هنا يتضح ماذا نعني بعنوان (مدرسة الشهيد الكبرى) اننا نعني بها كل هذه الابعاد التي لو دار الحديث فيها يذكر عنوان مدرسة للسيد الشهيد في مجالها.
الهدفية وأثرها في حياة السيد الشهيد ومدرسته
والسر الذي جعل السيد الشهيد الصدر يختلف عن العلماء والفلاسفة من جهة، ويختلف عن العاملين في السياسة والحقول الاجتماعية من جهة اخرى، وعن الثوار المضحين بانفسهم من اجل الآخرين من جهة ثالثة، وانه يجمع خصائص كل هذه الطوائف الايجابية وهذه الحالات كلها، انه صاحب رسالة حضارية في هذا العالم هي رسالة الاسلام العظيم، وهي رسالة الانبياء والرسل (عليهم السلام)وهو على درجة عالية من الايمان والصدق في مشايعة الانبياء فأصبح متشبهاً بهم فاختلفت شخصيته عن الآخرين بما تختلف شخصيات الرسل عن العلماء والفلاسفة من جهة وبما تختلف به عن الشخصيات الاخرى من الجهات الاخرى. والانبياء علماء عاملون والسيد الشهيد يقتدي بهم فهو عالم عامل. ولما كان الاسلام رسالة اللّه للبشرية لينظم بها حياتها في هذه الدنيا ويأخذ بأيدي الانسان المؤمن المطيع الى مايرضاه له في الآخرة فهو مبدأ كامل يتناول كل الحياة وكل مايتعلق بوجود الانسان في هذا الكون، ويتناول كل الوجود البشري والخصائص البشرية ومكونات الشخصية الفردية والاجتماعية، من العقيدة فالتفكير والميول والرغبات والغرائز والعواطف والسلوك والعلاقات والانظمة والقوانين، لذلك اصبحت مدرسة السيد الشهيد واسعة بسعة الحياة وبسعة الاسلام.
ولما كانت المفارقات في حياة المسلمين واسعة وشاملة والتخلف عندهم واسعاً شاملاً اصبحت رسالة السيد الشهيد رسالة تغييرية، وتبعاً لذلك كانت مدرسته قائمة على أساس هذا الوعي التغييري، فكان يفكر في كل شيء في هذا المجتمع ويدرسه ويدرس نظرية لتغييره ليصبح اسلامياً أو أكثر اسلامية أو أكثر فعالية لحركة الاسلام التغييرية، فلتغيير النفوس على المستوى الفردي نظرية، ولتغيير المجتمع كله نظرية، ولتغيير كل جانب من جوانب الحياة نظرية ولتغيير الواقع في كل وسط من اوساط الامة نظرية، ولتغيير المنهجة نحو الافضل والاسهل في دراسة كل حقل من حقول العلم والمعرفة نظرية… وهكذا.
وبما ان السيد الشهيد (قدس سره) يمتلك صورة عن كل نظرية في هذه الجوانب انعكس ذلك في دراساته فجاءت متعاضدة متكاملة متسقة، ومرتبة تبدأ من القاعدة وتتكامل في البنى الفوقية، واصبحت كل كتاباته تشكل كتاباً واحداً بل أنه كان يملك صورة عن كتاب واحد يريد ان يصدره ضمن حلقات كما سنرى.
فالسر في سعة مدرسة هذا المرجع القائد وترابطها هو المنطلق الذي انطلق على اساسه السيد الشهيد في كل حياته وكونه هادفاً في هذه الحياة وكون هدفه واسعاً وشاملاً بسعة الاسلام وشموله وكونه تبنى النظرية التغييرية فانطلق بوعي تغييري فى كل حياته، ولأنه موهوب بما يؤهله لتقديم المدرسة كلها بكفاءة عالية واتقان منقطع النظر.
فالسيد الشهيد كان امة، وكان حركة اسلامية تعنى بتغيير الواقع بالاسلام ومن اجل الاسلام ونحو الاسلام.
وقد جاءت مدرسة السيد الشهيد في هذا العصر بما فيه من تقصير ومافيه من قدرات وصناعات ووسائل وادوات واجهزة اجتماعية وسياسية وعسكرية وحركية وماعليه العالم من ترابط لتعالج الوضع وتغيره الى اسلامي، ولتعرض الاسلام بما يتلاءم مع الذهنية العامة للناس وطريقة تخاطبهم فيما بينهم ليكون العرض حكيماً. وهذان الجانبان هما عنصر التجديد في هذه المدرسة العملاقة فهي مدرسة حضارة الاسلام لهذا العصر، ومدرسة الامة الاسلامية المعاصرة مقابل المدارس الفكرية غير الاسلامية السابقة، لان العلماء في مختلف العصور كانوا يهتمون بالمشكلة العامة التي تحيط بهم، وهي على الاعم كانت مشكلة مذهبية وطائفية ومشكلة انحراف من قبل بعض المسلمين، والمشكلة اليوم مشكلة استبدال جذري، استبدال حضاري.
الطابع الحركي لمدرسة السيد الشهيد
اقترنت اول انتاجات السيد الشهيد الفكرية والعلمية بانطلاقة حركة اسلامية فاعلة وكان له الدور الاكبر في تأسيسها، وقد سبقت التأسيس دراسات واسعة شارك فيها علماء ومفكرون من عدة مدن ومناطق من العراق وعدة شخصيات من الحوزة العلمية من غير العراقيين ايضاً، ودرس فيها واقع الامة في كل الوطن الاسلامي والحركات الاسلامية التي سبقت هذه الانطلاقة، واجريت اتصالات مع بعض الحركات ودرست صورة المجتمع الاسلامي المنشود وصورة الدولة الاسلامية والقوانين والانظمة فتكفل السيد الشهيد بوضع صرح فكري شامل لبناء حضاري متكامل كما بين ذلك في الكلمة القصيرة التي كتبها على غلاف فلسفتنا وهي مطبوعة الآن في أول صفحات الكتاب حيث قال فيها:ـ
«غزا العالم الاسلامي منذ سقطت الدولة الاسلامية صريعة بأيدي المستعمرين سيل جارف من الثقافات الغربية… فكانت تمد الاستعمار امداداً فكرياً متواصلاً في معركته التي خاضها للاجهاز على كيان الامة وسر أصالتها المتمثل بالاسلام… وكان لابد للاسلام ان يقول كلمته في معترك هذا الصراع المرير، وكان لابد ان تكون الكلمة قوية عميقة، صريحة واضحة، كاملة شاملة، للكون، والحياة، والانسان والمجتمع، والدولة والنظام، ليتاح للامة ان تعلن كلمة (اللّه) في المعترك وتنادي بها وتدعو العالم اليها كما فعلت في فجر تاريخها العظيم.
وليس هذا الكتاب الا جزءً من تلك الكلمة عولجت فيه مشكلة الكون كما يجب ان تعالج في ضوء الاسلام وتتلوه الاجزاء الاخرى التي يستكمل فيها الاسلام علاجه الرائع لمختلف مشاكل الكون والحياة».
ولذلك تراه وضع تمهيداً لكتاب فلسفتنا لم يكن من الموضوعات الفلسفية وانما جعله للمسألة الاجتماعية، ومحاولة لاعطاء احسن اجابة عن السؤال: ماهو النظام الاصلح، وقد ذكر فيه النظم والمذاهب العالمية الاربعة، الرأسمالية، والاشتراكية، والشيوعية، والاسلام.
ثم قال: فما هو موقفنا من هذه الانظمة ؟ وماهي قضيتنا التي يجب ان ننذر حياتنا لها ونقود السفينة الى شاطئها ؟» وبعد استعراض الانظمة الثلاثة ونقدها وتفنيد مزاعمها بانها تحل المشكلة الاجتماعية، بين ان الحل الصحيح للمشكلة هو ماقدمه الاسلام وهو ان يطور المفهوم المادي للانسان عن الحياة وبتطويره تتطور طبيعياً اهدافها ومقاييسها وتتحقق المعجزة حينئذ من أيسر طريق».
وفي آخر التمهيد قال: «ولذلك فليس الوعي السياسي للاسلام وعياً للناحية الشكلية من الحياة الاجتماعية فحسب بل هو وعي سياسي عميق مرده الى نظرة كلية كاملة نحو الحياة والكون والاجتماع والسياسة والاقتصاد والاخلاق، فهذه النظرة الشاملة هي الوعي الاسلامي الكامل». ثم قال: «فلابد ان نقف عند المبدأ الاسلامي في فلسفته عن الحياة والكون في فلسفته عن الاجتماع والاقتصاد وفي تشريعاته ومناهجه..» ثم قال: «ولما كنا لانستهدف في هذا الكتاب الدراسات الفلسفية لذاتها وانما نريد دراسة القواعد الفكرية للمبادئ فسوف نقتصر على درس العنصرين الاساسيين لكل قاعدة فكرية ينبثق عنها نظام، وهما طريقة التفكير، والمفهوم الفلسفي للعالم..».
وأكد ذلك في مقدمة كتاب اقتصادنا حيث قال: «كنا ياقرائي الاعزاء على موعد منذ افترقنا في كتاب فلسفتنا، فقد حدثتكم ان (فلسفتنا) هي الحلقة الاولى من دراستنا الاسلامية بوصفها دراسة تعالج الصرح الاسلامي الشامخ، الصرح العقائدي للتوحيد، ونتلوها بعد ذلك الدراسات التي تتعلق بالبنيات الفوقية في ذلك الصرح الاسلامي..».
بل ان السيد الشهيد كان قد صمم في ذهنه كتاباً واحداً بكل هذا الصرح يبدأ فيه من الفلسفة ويسير فيه حتى الانظمة والقوانين الفرعية في مختلف مجالات الحياة وقد نَصَّ على ذلك في تمهيد فلسفتنا بقوله: «ولأجل ذلك فسوف نخصص هذه الحلقة الاولى من (كتابنا) لدراسة البنية الاولى التي هي نقطة الانطلاق للمبدأ وندرس البنيات الفوقية في الحلقات الاخرى انشاء اللّه» راجع فلسفتنا ص 52.
لذلك تراه جعل الفصل الاخير من (فلسفتنا) لمسألة الادراك، ليكون ذلك مدخلاً الى كتاب (مجتمعنا) لعلاقة مواضيع مجتمعنا بعلم النفس الفردي والاجتماعي وعلاقة ذلك بفلسفة الادراك. وقد اشار في نهاية البحث الى الترابط بين الادراك وبين (مجتمعنا) بقوله: «وسوف ندرس في (مجتمعنا) طبيعة هذا التكيف وحدوده في ضوء مفاهيم الاسلام عن المجتمع والدولة لأنه من القضايا الرئيسة في دراسة المجتمع وتحليله، وفي تلك الدراسة نستوفي بتفصيل كل النواحي التي اختصرنا الحديث عنها في بحث الادراك هذا».
ولما استجاب الشهيد (قدس سره) الى رغبات المؤمنين بان يؤجل كتاب (مجتمعنا) ويعجل باصدار كتاب اقتصادنا جزءً من (نظامنا) وصدر اقتصادنا اشار الى الترابط بين (اقتصادنا) وبحث الادراك ايضاً في طبعات (فلسفتنا) اللاحقة بقوله «وقد قمنا في دراستنا الموسعة للمادية التاريخية في كتاب (اقتصادنا) بنقد مستوعب لنظريات الماركسية عن الادراك البشري… ولاجل هذا نكتفي هنا بماجاء في الطبعة الاولى من هذا الكتاب استغناءً بدراستنا الموسعة في الحلقة الثانية ـ اقتصادنا».
ويمكنك ان تقدر ماكان يحتفظ به ذهن السيد الشهيد من حجم الكتاب الاكبر الذي كان يريد انجازه من قوله في مقدمة الطبعة الاولى لكتاب اقتصادنا «فيجب اذن ان يدرس هذا الكتاب بوصفه بذرة بدائية لذلك الصرح الاسلامي، ويطلب منه ان يفلسف الاقتصاد الاسلامي في نظرته الى الحياة الاقتصادية وتاريخ الانسان ويشرح المحتوى الفكري لهذا الاقتصاد».
ومن التدبر في هذا تنكشف لك جوانب كبيرة من عظمة شخصية هذا المرجع القائد الشهيد، وكان رضوان اللّه عليه يراقب وضع الامة حتى من خلال الاقبال على كتاباته وقد عكس ذلك في مقدمة الطبعة الثانية لـ (اقتصادنا).
هذا اضافة الى ماكتبه السيد الشهيد للامة في مجلة الاضواء وماالقي نيابة عنه في المحافل وما كتبه في المنشورات التي كانت تصدر باسم جماعة العلماء، وماكتبه للدعاة في نشرة الدعوة، وما كان يلقيه او يتحدث به لطلبة ولقيادة الدعوة والعلماء العاملين، وهكذا جاء تأليفه للبنك اللاربوي في الاسلام حيثُ كتبه اطروحة للتطبيق وليس من اجل البحث فحسب.
وهذا الطابع الحركي استمر عند السيد الشهيد حتى بعد مااصبح مرجعاً للتقليد وقد عكس ذلك في محاضرته حول مفهوم المحنة في القرآن الكريم ومما قال: «.. كما نفكر في (الترتب) وفي بحث (اجتماع الامر والنهي) وكما نفكر في ان العصير العنبي هل هو محكوم عليه بالحرمة والنجاسة او غير محكوم عليه بالحرمة والنجاسة، كذلك لابد وان نفكر الى جانب ذلك باساليب العمل.
هذا جزء من وظيفتنا لأننا ندرس العلم للعمل ولاندرس العلم لكي نجمده في رؤوسنا نحن ورثة الانبياء بحسب زعمنا، والانبياء عاملون قبل ان يكونوا علماء، هم علماء لكي يكونوا عاملين وليسوا عالمين دون عمل…».
وبعد قيام الثورة الاسلامية في ايران بقيادة الامام الخميني (قدس سره)استأثر الطابع الحركي على قيادة السيد الشهيد (قدس سره) وقت انتصار الثورة الاسلامية وحتى استشهاده (قدس سره) استأثر الطابع الحركي في تفكيره وانتاجه ومما خرج منه الى النور المواضيع التي جمعت في (الاسلام يقود الحياة).
توظيفه للجهد الجماعي:
ومما تميزيه السيد الشهيد (قدس سره) الرغبة في اشراك اكبر عدد ممكن من المؤمنين في بحوثه وانتاجاته بطرق مختلفة، منها الدراسة الجماعية المباشرة في اجتماعات مقصودة هادفة، ومنها عن طريق حلقات الدرس وما يتخللها من مناقشات وتقريرات، ومنها توزيع بحوثه على شكل ملازم على عدد من المؤمنين المثقفين لاستجماع ملاحظاتهم عليها، واكثر ماكان يتوخاه معرفة مدى سهولة فهم مقاصده لانه كان يكتب لتعليم الامة ولايريد ان يصب انتاجه بقوالب جافة وعبارات مغلقة وحتى رسالته العملية اخضعها الى هذه الطريقة.
ان السيد الشهيد كان واقعياً وكان يستمع ويتقبل أو يأخذ برحابة صدر الصحيح والاصح ويطوره أو يصبه في قالبه الخاص او ينضجه ويصححه ثم يصبه في اسلوبه البديع وقد قال عنه أحد اساتذة الفكر الاسلامي وقادة الحركة الاسلامية انه (كان سريع الاخذ غزير العطاء).
المتابعة واعادة النظر المستمرة:
مع ان السيد الشهيد (قدس سره) كان يخوض البحار ويغوص في اعماقها في علوم صعبة دقيقة واسعة كل منها يستأثر بقدرة البطل العملاق من غير السيد الشهيد الا انه لم يشغله ذلك عن اعادة النظر دائماً وباستمرار في كل انتاجاته، وهذه مهمة صعبة جداً بل هي بالنسبة لأكثر العلماء والباحثين تكون مستحيلة، لأنها تستدعي حضور انتاجاته المتشعبة الواسعة الدقيقة في ذهنه دائماً، ومراقبتها ومراقبة حركتها في المجتمع ويراقب حركة العلم والبحث فيما حوله ويلاحظ الثغرات ومواطن الضعف في العرض والاسلوب ليعالجها في الطبقات والبحوث اللاحقة.
وقد عكس ذلك في عدة مجالات منها مقدمة الطبعة الثانية لكتاب (اقتصادنا) ومما جاء فيها: «وقد كان بودي ان تتاح لي فرصة للتوسع في بعض مواضيع الكتاب وتسليط المزيد من الاضواء على عدد من النقاط التي تناولها..».
ومنها اصداره لكتاب (الاسس المنطقية للاستقراء) بعد (فلسفتنا) وقد سمعت انه كان بصدد اصدار كتاب آخر في الفلسفة ليتبعه بكتاب رابع.
ومنها اعادة النظر في عرض (شكل الحكم في الاسلام) داخل (النظام السياسي في الاسلام) عدة مرات منذ كتابته نشرة الاسس وحتى اصداره موضوع (لمحة تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الاسلامية) وموضوع (خلافة الانسان وشهادة الانبياء) حيث أبان الامتزاج العضوي بين مبدإ الشورى ومبدإ ولاية الفقيه.
ومنها اعادة النظر في حلقات علم الاصول بعد اصداره الحلقة الاولى بعنوان (المعالم الجديدة) واصداره الحلقات الثلاث بعنوان (دروس في علم الاصول).
من معالم الابداع في انتاجات السيد الشهيد (قدس سره)
معالم الابداع عند مدرسة السيد الشهيد كثيرة جداً منها ماسطره في انتاجاته المكتوبة ومنها ماظهر في احاديثه ومحاضراته غير المكتوبة او غير المحفوظة، ونحن هنا نشير الى شواهد منها لاتشكل إلاّ نسبة ضئيلة من ابداعاته، ونقسمها على مجالات البحث التي تعرض لها:
أولاً ـ معالم الابداع في الفقه ونختار منها:
أ ـ ماانعكس في كتابة نشرة الاسس، وكانت كلها ابداعاً في مجال الدعوة والتبليغ والسياسة، وابداع في صب مبادئ الاسلام والفقه السياسي في عبارات مختصرة تكون دستوراً للعمل الاسلامي وللدولة الاسلامية المنشودة والمستهدفة من ذلك التحرك.
ب ـ ماكتبه في (اقتصادنا) من الفصل الاخير من الجزء الاول وهو فصل (اقتصادنا في معالمه الرئسية) وحتى نهاية الجزء الثاني.
ومعالم الابداع في هذا الكتاب كثيرة أولها طريقة تأليف الكتاب وعرض الاقتصاد الاسلامي بهذا القالب الذي لم يسبق له مثيل بل لم تسبقه محاولة جادة وشاملة وانما كانت مقالات ومحاضرات جانبية، ومنها التركيب بين الفتاوى والاحكام الفقهية لانتزاع قواعد اقتصادية عامة، ومنها جعل المفاهيم الاسلامية ركناً في عملية اكتشاف وانتزاع القواعد الاقتصادية الى جنب الفتاوى والاحكام، ومنها أخذ الاراء الاجتهادية الاخرى المخالفة لاجتهاد المؤلف نفسه واعتمادها في عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي.
ومنها مابينه في كيفية ملء منطقة الفراغ وماسجله من مؤشرات للفقيه (ولي الامر) في انجاز المهمة حتى لاينجر الى مايغاير المذهب الاسلامي.
ومنها مابينه من أثر للذاتية في عملية الاجتهاد، وهذا بحث في غاية الاهمية ويكون منطلقاً الى تبني الانتاج الجماعي في عملية التقنين للمجتمع والدولة.
وقد أوضع هذه الحقيقة أكثر في بحوثه في سلسلة (الاسلام يقود الحياة) ومما قاله: «ومن هنا كان التخطيط للحياة الاقتصادية في المجتمع الاسلامي مهمة يجب ان يتعاون فيها مفكرون اسلاميون، واعوان يكونون في الوقت نفسه فقهاء مبدعون وعلماء اقتصاديون محدثون».
جـ ـ الابداع في تأليف كتاب (البنك اللاربوي في الاسلام) ونشير الى جانبين من الابداع في هذه الاطروحة البديعة.
1ـ في التفريق بين موقفين في عملية التخطيط، موقف من يريد أن يخطط الى اقامة نظام معرفي ضمن تخطيط شامل للمجتمع، فهو يضع للبنك الاسلامي اطروحته ضمن صورة اسلامية للمجتمع كله، وموقف من يريد ان يخطط لانشاء بنك لاربوي بصورة مستقلة عن سائر جوانب المجتمع، مع كون المجتمع غير اسلامي والدولة غير اسلامية، وبقاء المؤسسات الربوية الاخرى تعمل في ذلك المجتمع.
وقد اوضح ذلك ايضاً في اطروحته (الاسس العامة للبنك في المجتمع الاسلامي) التي وضعها بعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران. وكان (قدس سره)دقيقاً حتى في العنوانين حيث جعل الاول (البنك اللاربوي في الاسلام) بينما جعل الثاني (البنك في المجتمع الاسلامي).
2ـ طريقة البحث في الاطروحة وكيفية تطبيق النظام المصرفي على الاحكام الشرعية مع الابداع في وضع طريقة عملية للبنك تحفظ حيويته وفاعليته واستمراره في الحياة ومنافسته للبنوك الاخرى ومشاركته في الحياة الاقتصادية.
ومن هنا تتضح معالم الابداع في اطروحته للبنك في المجتمع الاسلامي.
د ـ الابداع في سلسلة الاسلام يقود الحياة:
وأخص منها: فصل (لمحة تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الاسلامية) وفصل «خلافة الانسان وشهادة الانبياء» وفصل «خطوط تفصيلية عن اقتصاد المجتمع الاسلامي».
1ـ ومن معالم الابداع في الفقرة الاولى ماأبانه (قدس سره) من صورة للنظام السياسي الاسلامي في عصر الغيبة، وهو المزيج العضوي بين ولاية الفقيه وبين مسؤولية الامة وصلاحيتها ودورها في صنع حياتها. وهو نهج بديع وغير بعيد عما جسده الامام الخميني (قدس سره) عملياً في اشرافه على تأسيس الجمهورية الاسلامية وما اعطاه للامة من دور رئيس في ذلك وما عكسه دستور الجمهورية الاسلامية ايضاً.
2ـ ومن معالم الابداع في الفقرة الثانية:
1ـ اختصار الصورة الكاملة لاقتصاد المجتمع الاسلامي باربعة ابواب هي: ـ
الاول ـ التوزيع الاولي لمصادر الثورة الطبيعية، الثاني ـ الانتاج وكيف يتم توزيع منتوجاته، الثالث ـ التصرف في الاموال، الرابع ـ مسؤوليات الدولة العامة.
2ـ اختصار اقتصاد المجتمع الاسلامي في اربع عشرة قاعدة ـ موزعة على الابواب الاربعة المذكورة.
وهذه الطريقة البديعة تفتح المجال واسعاً امام الفقهاء والباحثين في عملية التشريع والتخطيط من جهة وتجعل مهمة الالتزام بالضوابط (القواعد العامة) سهلة فلا ينحرف التقنين عن الاسلام في كل تشعباته لأن القواعد العامة محدودة ومحدودة لاتغيب عن البال وواضحة وصريحة لامجال للالتفاف عليها.
هـ ـ معالم الابداع في رسالته العملية (الفتاوى الواضحة) ومنها:
1ـ وضوح العبارة واستقلالية التعبير في الفتاوى فلم تكن عبارات ملفقة كما هو واقع الكثير من الرسائل العملية.
2ـ المقدمة العقائدية التي كتبها لتثقيف الامة على اصول الدين مع اخذها الفتاوى للعمل.
و ـ من معالم الابداع في بحوثه الفقهية وقد انعكس ذلك في كتاب (بحوث في شرح العروة الوثقى) وتركز الابداع في عمق البحث والنظر الثاقب وان اضطر الشهيد في التقيد بنفس المنهج السائد ولكن اشارته الى ضرورة احداث تغيير في المنهجة يعد فتحاً كبيراً عسى ان يهيِّىء اللّه الرجال الاكفاء لانجاز ماكان يتمناه السيد وقد اشار (قدس سره) الى ذلك بقوله: «… وواضح لدي وانا الاحظ بحوث هذا الكتاب ـ ان المنهج بحاجة الى تطوير اساسي يعطي للبحث الفقهي ابعاده الكاملة» وذكر ان الكتاب كان ممارسة تدريسية بأساليب البحث العلمي السائد وانه ترك العبارات كما هي وكما نقلت من المسجل ثم ذكر العذر في ذلك وقال عن العبارات والممارسة التدريسية «قد خضعت نفس الاعراف المتبعة في مجال التدريس السائد من ناحية المنهج ولغة البحث والتوسع في الشرح والتوضيح واتجهت الى تعميق المحتوى والمضمون كلما اتيح لنا ذلك تاركاً تطوير المنهج ولغة البحث الى حين تتوفر الظروف الموضوعية التي يتطلبها ذلك».
ثانياً ـ من الابداع في أصول الفقه:
والابداع هنا واسع جداً بل يعتبر السيد الشهيد صاحب مدرسة في علم الاصول ولايسعني وامثالي عرض معالم الابداع كلها ولانسبة كبيرة منها واقدر الناس على ذلك العلماء المجتهدون وخاصة تلامذة السيد الشهيد الذين تخرجوا على يديه في حياته ولكني اشير الى شيء يسير من ذلك !
أ ـ الابداع في المعالم الجديدة للاصول: واخص منه:
1ـ الابداع في أصل فكرة وضع حلقات متدرجة في علم أصول الفقه تكون مناهج تدريسيه لعلم الاصول كله في مستويات متدرجة تأخذ بيد الطالب من مرحلة الابتدائية في هذا العلم وحتى مرحلة البحث الخارج وهذه مبادرة لم يسبق لها مثيل. وكما ذكرنا فان السيد الشهيد بعد اصداره المعالم الجديدة اعاد النظر في المشروع واخرجه في الحلقات الثلاث من (دروس في علم الاصول) المشهورة.
2ـ الابداع في القسم الاول من كتاب المعالم الجديدة للاصول.
ويلاحظ في عنوان (موضوع علم الاصول) و (علم الاصول منطق الفقه) و (أهمية علم الاصول في عملية الاستنباط) و (الاصول والفقه يمثلان النظرية والتطبيق) و (التفاعل بين الفكر الاصولي والفكر الفقهي).وفي بيانه لتاريخ استعمال كلمة الاجتهاد، وتطور معنى كلمة الاجتهاد عن السنة والشيعة. وتأريخ علم الاصول، وبيانه ان علم الاصول حاجة تأريخية، وبين السبب في تطور علم الاصول وتبلوره عند السنة قبل الشيعة وذلك لان الحاجة عندهم لعلم الاصول كانت مبكرة لحرمانهم انفسهم من علوم أهل البيت (عليهم السلام).
وهذه البيانات كلها مهمة في تفسير الاختلاف بين السنة والشيعة من جهة وبين الاصوليين والاخباريين من الشيعة من جهة. وتفسير الاختلاف وفلسفة منشئه يعين كثيراً على ازالة الحواجز النفسية ومن ثَمَّ الى التقريب بين الذهنيات وبالتالي التقريب بين المدارس نفسها.
ويتجلى الابداع في موضوع (مصادر الالهام للفكر الاصولي) وهي: الاول ـ بحوث التطبيق في الفقه، الثاني ـ علم الكلام، الثالث ـ الفلسفة، الرابع ـ الظرف الموضوعي، الخامس ـ عامل الزمن أي الفاصل الزمني بين الفكر الفقهي وبين عصر النص (اي عمر الحاجة التاريخية)، السادس ـ عنصر الابداع الذاتي.
وذكر مصادر الالهام هذه وبيانها ينير الدرب امام الطالب والعالم في الدرس والبحث.
ومن معالم الابداع في هذا القسم من الكتاب ايضاً مابينه تحت عنوان (عطاء الفكر الاصولي وابداعه) في العلوم ذات العلاقة مثل اللغة، والفلسفة، والكلام. وغيرها من ميادين المعرفة.
3ـ الابداع في ادخال مدرسته الفلسفية العملاقة في نظرية الاحتمالات والاستقراء في بحوث علم الاصول.
4ـ ومن معالم الابداع في هذا الكتاب عرض علم الاصول بلغة عصرية سهلة تجعل العلم في متناول المثقفين أي ان السيد الشهيد اول من عمل على تثقيف الامة ثقافة اصولية.
5ـ ومن معالم الابداع ايضاً التطرق الى بعض المواضيع والافكار التي تفتح ذهنية القارئ العادي وتوفر له ثقافة اسلامية، عامة وخاصة في المجالات التي لها علاقة في تاريخ الدراسات الحوزوية.
ب ـ من الابداع في كتاب (دروس في علم الاصول)
1ـ تطبيق اطروحة السيد الشهيد في عرض علم الاصول عرضاً مدرسياً منهجياً في مستويات متدرجة، تطبيقاً كاملاً من ادنى مستوى مبتدئ الى مستوى البحث الخارج. مع عدم التقيد بآراء المؤلف الاجتهادية.
2ـ الابداع في المنهجة العامة لكل كتاب من الكتب الثلاثة، وبيان المنهجة وتصوير السبب في اتباعها بشكل يجعل القارئ يتصور ان منهجة السيد الشهيد قطعية ولامجال لمخالفتها.
3ـ الاسلوب المدرسي في كل بحوث الحلقات وروعة تصوير المعاني بكلمات وعبارات رائعة فيها الكثير من التجديد. مع روعة العناوين وجعلها دليلاً للبحث والدراسة ومنبهاً على مقاصد العلم مع عدم التقييد بآراء المؤلف الاجتهادية.
جـ ـ من معالم الابداع في الموضوعات والآراء في كل مابحثه السيد الشهيد في علم الاصول، في الكتب التي ألفها وفي تدريسه الخارج، المنعكس في تقريرات تلامذته. وهي كثيرة جداً يصعب ذكر نسبة منها ولكن اشير الى شيء يسير منها:
1ـ ماذكرناه سابقاً من تصوير لتاريخ الاجتهاد وتاريخ علم الاصول .
2ـ ماذكرناه ايضاً من موضوع الاجتهاد والذاتية.
3ـ ابداعه في تصوير مسلكي (قبح العقاب بلا بيان) و (حق الطاعة) وخصلة الحكيم في الخصومة العويصة بين المدرسة الاصولية والمدرسة الاخبارية.
تصويره الرائع للاصول العملية وجعلها المرجع الاحتياطي للفقيه في كل ماله يتعذر عليه ان يجد الدليل المحرز.
5ـ توظيفه الرائع لنظرية الاحتمالات في البحوث الاصولية.
6ـ تصويره الرائع لدور العقل (أي تصوير الوسائل الرئيسية للاثبات في علم الاصول) البيان الشرعي والادراك الفعلي وتزهد للادراك العقلي.
ثالثاً ـ من معالم الابداع في عالم الاقتصاد.
واقصد به كل مابحثه في هذا المجال من عرض للمذاهب الاقتصادية وللاسس الفلسفية التي تقوم عليها مثل المادية التاريخية، والقوانين العلمية الاقتصادية، ونظراته الاقتصادية في البنك اللاربوي والبنك في المجتمع الاسلامي وكل ماافاده في مجال التخطيط الاقتصادي فانها كلها ابداع واصالة تجعل اراءه وتفسيراته مرجعاً وحجة عند علماء الاقتصاد في مختلف المدارس والمذاهب الاقتصادية حتى في تفسير نظرياتهم الخاصة بهم.
رابعاً ـ من معالم الابداع في علم الفلسفة:
أ ـ الطابع الحركي في دراسته الفلسفية:
1ـ السيد الشهيد قدم دراساته الفلسفية ضمن ماقدمه للأمة من فكر ووعي ضمن زخم وفعل حركي تغييري أي انه جعل دراساته الفلسفية جزءً من حركة اجتماعية وسياسية تدعو للاسلام وتغير بالاسلام ونحو الاسلام.
وكان موفقاً جداً في هذه المهمة فلا يفصل بعد هذا الجهد بين دراساته الفلسفية وبين الحركة الاسلامية السياسية الاصيلة في العالم: ـ
ولم تكن هذه المهمة سهلة بل هي من أصعب المهام العلمية وهي السر في جعل دراسات السيد الشهيد الفلسفية كلها جديدة مكتوبة لاوسع دائرة من المثقفين المعاصرين ويعد هذا الانجاز طفرة نوعية في الدراسات الفلسفية الاسلامية.
ب ـ عرضه المدارس الفلسفية المنافسة باوضح مما تعرض من قبل اصحابها، ونقدها وتزييفها باقوى حجة وأوضح بيان.
جــ ماعكسه من اطلاع في مختلف العلوم العصرية من فيزياء وكيمياء ورياضيات وعلوم انسانية حديثة في دراساته الفلسفية بعد ان كانت الدراسات الفلسفية الاسلامية، تردد ماترجم من العلوم في العصور القديمة.
د ـ الابداع في طرح نظريته في الاسس المنطقية للاستقراء بجعل الفلسفة في خدمة السليقة البشرية في الحوار والاستدلال والاستشهاد وليجعلها في خدمة الاسلوب القرآني واسلوب السنة في الدعوة والاحتجاج بعد ان كانت الدراسات الفلسفية الاسلامية تقتصر على المنطق العقلي الارسطي الذي يجعل الفلسفة في أضيق دائرة من الاختصاصيين.
خامساً ـ من معالم الابداع في التفسير:
ويتجلى ذلك في محاضرته في التفسير الموضوعي فانها تكشف ايضاً عن ابداع واصالة في علم التفسير بشكل عام اضافة الى ماعكسته كتاباته عن علوم القرآن في محاضرات علوم القرآن التي القيت في كلية اصول الدين وفي مناسبات شتى.
سادساً ـ من معالم الابداع في أطروحة المرجعية الموضوعية.
أ ـ التفكير في اصلاح وضع الحوزة والمرجعية من أعظم ملامح الابداع عند عالم ينتهي الى بيت علمي عريق وتربى في الحوزة العلمية منذ طفولته. ويحمل اخلاقية عالية كما هو حال السيد الشهيد (قدس سره).
ب ـ اشارته في تعبيره (المرجع الصالح) و (المرجعية الصالحة) الى ظاهرة في هذا الوسط وهذه الاشارة من أجرإ مايمكن ان يصدر من امثال السيد الشهيد .
جــ تقسيمه المرجعية الى مرجعية موضوعية ومرجعية ذاتية واشارته الى كون المرجعيات كانت ذاتية وباطروحته يحاول ان تتغير الى موضوعية ومن أهم ملاحظاته على المرجعية الذاتية مايلي:
1ـ جهاز الحاشية الذي يعبر عن جهاز عفوي مرتجل يتكون من اشخاص جمعتهم الصدف والظروف الطبيعية لتغطية الحاجات الآنية بذهنية تجزيئية وبدون اهداف محددة واضحة. انظر ص 94 من كتاب مباحث الاصول.
2ـ ان المرجعية الذاتية تتبع اسلوب الممارسة الفردية للعمل المرجعي اذ لاتشعر كل القوى المنتسبة اليه بالمشاركة الحقيقية حتى في المسؤولية والتضامن الجاد وحتى في المواقف. انظر ص 96 من المصدر نفسه.
3ـ كون المرجعية مرتبطة بحياة المرجع وبحوثه تبدأ المرجعيات الاخرى من الصفر. انظر ص 97.
د ـ وضعه اهدافاً للمرجعية الصالحة، وبيانه لكون وضوح تلكم الاهداف المرجعية وتثبيتها هو الذي يحدد صلاح المرجعية، فالمرجعية الصالحة هي المرجعية الهادفة. وتتلخص تلك الاهداف بما يلي:
1ـ نشر احكام الاسلام بين الامة وتربية الامة تربية اسلامية.
2ـ ايجاد تيار فكري اسلامي واع في الامة.
3ـ اشباع الحاجات الفكرية الاسلامية للعمل الاسلامي.
4ـ القيمومة على العمل الاسلامي… واسناد العمل الصحيح وتصحيح ماهو خطأ.
5ـ اعطاء مراكز العالمية الصفة القيادية للامة بتبني مصالحها والاهتمام بقضايا الناس ورعايتها واحتضان العاملين في سبيل الاسلام. انظر ص 92.
ولايخفى ان السيد الشهيد جعل هذه المهام اهدافاً للمرجعية الصالحة تسعى هي لتحقيقها بعملها وتبنيها لقضايا الامة واحتضانها للعاملين وبتضحيتها ولم يجعلها صحةً مجانية مفروضة على الامة وعلى المؤمنين تثقل كاهل العمل وحركة الامة.
سابعاً ـ من معالم الابداع في التبليغ والعمل الاسلامي:
وقد تجلى ذلك في عزمه على تقديم الصرح الفكري الشامل. وفي عمله الحركي ومشاركته في تأسيس الدعوة وقيادته إيّاها، وماكتب في الاضواء وفي نشرة الدعوة، وفي اطروحة المرجعية الصالحة والمرجعية الموضوعية، وماكان يلقيه على طلابه وعلى المؤمنين وعلى مسؤولي الدعوة والذي لم ينشر منه الا النزر القليل، ننقل منه فقرات من محاضرتي (المحنة):
«… كيف يمكن ان نترقب فرجاً من اللّه.. اذا كنا لانتفاعل مع النُّذُر التي يريد اللّه تبارك وتعالى ان يميز فيها الخبيث من الطيب…».
«… الاخلاقية التي كنا نعيشها ليست اخلاقية الانسان العامل بل هي اخلاقية انسان آخر لايصلح للعمل الحقيقي..» «نحن بحاجة الى ان نكون على أهبة لايثار المصلحة العامة للكيان على المصلحة الخاصة لهذا الفرد او لهذا الفرد..».
«المظهر الثاني من مظاهر اخلاقية الانسان العامل هو الاتجاه الى التجديد في اساليب العمل (نزعة التجديد في اساليب العمل). «النزعة الاستصحابية الى ماكان والحفاظ على ماكان يجعلنا غير صالحين لمواصلة مسؤولياتنا». «النزعة الاستصحابية التي تجعلنا دائماً نعيش مع امة قد مضى وقتها، مع امة قد ماتت وانتهت بظروفها وملابساتها، لاننا نعيش باساليب كانت منسجمة مع أنه لم يبق منها احد، فاذا كنا نؤمن بان الاساليب تتغير وان كانت النظرية ثابتة اذن فلابد لنا ان نفتح باباً للتفكير في هذه الاساليب، كما نفكر في النظريات الفقهية والنظريات الاصولية.. كذلك لابد وان نفكر الى جانب ذلك باساليب العلم. هذا جزء من وظيفتنا لاننا ندرس العلم للعمل…».
«اننا حينما نفكر في اساليب العمل يجب ان لانفكر في ذلك بعقلية الاصول والفقه… بالعقلية الرياضية،.. هناك عقلية رياضية وهناك عقلية اجتماعية،… العمل الاجتماعي يقوم على اساس الحدس الاجتماعي، والحدس الاجتماعي يتكون من الخبرة والتجربة ومن الاطلاع على ظروف العالم وملابسات العالم… اذن فيجب ان نفتح اعيننا على العالم،… نعيش الخبرة والتجربة في العالم…».
ثامناً ـ من معالم الابداع في نهضته وشهادته:
وجانب عظيم من مدرسة السيد الشهيد تجلى في نهضته وشهادته، خاصة إذا درسنا الوسط الذي كان يعيش فيه ومقاييسه والمكانة التي احتلها في المجتمع وفي اوساط المثقفين في العالم الاسلامي والمستقبل المنظور الذي كان امامه من جهة، ودرسنا الهموم التي كان يحملها واسلوبه في اختيار الشهادة والتضحية في كل شيء بارادته.
ان السيد الشهيد كان يحمل هموم البشرية كلها كما هو واضح من كلمته التمهيدية لكتاب فلسفتنا ومقدمة الطبعة الثانية لكتاب اقتصادنا ومما صدر منه من ادب للعمل الاسلامي، وهو كشخص لم تتضرر مصالحه الدنيوية وكان بامكانه ان يختار حياة الدعة والراحة ويستقبل اقبال الدنيا عليه ويغض النظر قليلاً عن القضية، قضية الانسانية وقضية الامة الاسلامية، وقضية الحوزات العلمية وقضية الشعب العراقي، ولكنه نذر نفسه قرباناً للحق والفضيلة والعدل والصلاح، وبدأت محنته منذ سنة 1968 م تتزايد حينما رأى العدوان والظلم يتعمق ويتسع.
ومنذ سنة 1970 م كان يفكر بالتضحية بنفسه وبكل وجوده بصورة خاصة في سبيل انقاذ الشعب العراقي وخطط لذلك عدة مرات وكان يدرس مدى جدوى شهادته لامدى امكان نجاته، بل كانت السلطة تتحاشاه وتغازله لتساومه. واستندت محنته في حمل هم الامة عامة والشعب العراقي خاصة في بداية سنة 1979 م حينما اخذت السلطة تقابل العراقيين ومشاعرهم تجاه انتصار الثورة الاسلامية في ايران على الاستعمار وامريكا بالبطش والحديد والنار والارهاب وبدأت تعد العدة وتمهد لزج الشعب العراقي في اتون الحرب الطاحنة التي تريد شنها ضد الاسلام والمسلمين، وفي الوقت نفسه ركزت السلطة في عروضها عليه وكانت عروضاً مغرية لمن يريد الدنيا بلباس الدين، ونشب صراع مرير رهيب بينه وبين السلطة واخذ يشتد لحظة بعد لحظة، واخذت السلطة تضيق الخناق عليه لحظة بعد لحظة، واستمر ذلك لأكثر من سنة تعدل الف سنة، حتى استنفدت السلطة كل طرق المساومة معه فخيرته بين الشهادة وبين الدنيا العريضة بصراحة ووضوح وجدية فاختار الشهادة برضا وشكر للّه واطمئنان نفس وراح الى رَوْح وريحان وجنة نعيم والى مقر صدق عند مليك مقتدر، ووفد على جده المصطفى (صلى الله عليه وآله)وعلى اجداده أهل البيت (عليهم السلام). بعد ان انار الطريق ومهده للامة فلم يبقَ لها الا الاستمرار في المسير.
وهذا جانب بديع جداً من مدرسة السيد الشهيد الصدر اعاد فيه الى الاذهان صورة المدرسة الحسينية الخالدة.
المصداقية في شخصية السيد الشهيد وحياته
وقبل الختام علينا ان ننبه الى جانب مهم من مدرسة السيد الشهيد الصدر (قدس سره)، هو قلما يتوفر لغير الانبياء والشهداء والصديقين الذين صنعتهم العناية الالهية لعمارة الدار الآخرة، ذلك جانب المصداقية في حياته، اذ كثيراً مانرى المفكرين والباحثين والفلاسفة يفتقرون اليها وقلما تتكامل شخصياتهم وحياتهم وسلوكهم اليومي مع بحوثهم ودراساتهم.
فالسيد الشهيد منذ ولادته وحتى لحظة شهادته كان مثلاً اعلى منذ عصر الغيبة في تطبيق مدرسته في حياته.
وقد رأينا كيف كان مثلاً أعلى في الجهاد والتضحية والتفاني في سبيل رسالته في كل ادوار حياته.
وهو كذلك كان مثلاً أعلى في العلاقة والتعامل مع اللّه سبحانه، ومع نفسه ومع ادوات بحثه ودرسه ومع وقته، ومع الناس جميعاً.
كان (قدس سره) يمثل القمة في مدرسة الاخلاق الفاضلة التي عرف بها آل الصدر اعزهم اللّه، والتي تركزت في بيته منذ جده (قدس سره) فابيه وعمومته، فاخيه استاذنا المرحوم المجاهد السيد اسماعيل الصدر (قدس سره) واخته الشهيدة رضوان اللّه عليها.
وكان السيد الشهيد يتحمل المشقة في سبيل احترام الناس والاحتياط والتحفظ من ان يسبب لهم هماً او غماً أو اذىً ولو بسبب الحسد الذي تكثر دواعيه وعوامله في مثل وسطه.
وكان (قدس سره) في الذروة من الرحمة والعاطفة حتى اتجاه اعدائه وكان معروفاً عنه ذلك بوضوح.
وكان مثلاً أعلى في الزهد وجشوبة العيش والتواضع والعزوف عن الدنيا فهو مصداق لما كان جده الامام الصادق (عليه السلام) يصرح به حتى انه كان يأخذ من الدنيا بقدر الضرورة.
كلمة في الختام:
وفي الختام لابد من الانتباه الى امرين، احدهما ماذكرناه من ان جوانب مدرسة المرجع القائد الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) عديدة وواسعة لاتنحصر فيما ذكرناه، ولايمكننا استقراؤها، وما اردنا إلاّ تصويرها للذهن.
وثانيهما: ان السيد الشهيد لم يمهل حتى يكمل كل مااراد انجازه وتحقيقه، فالبحوث الفقهية التي اراد انجازها لم تكمل وكذلك التطوير الذي اراده لمنهجة البحث الفقهي، وحلقاته في الاصول بحاجة الى هوامش وتعليقات لكيفية التدريس والدراسة ولم تزل الفجوة كبيرة بين الحلقة الثانية والحلقة الثالثة، وكتاب مجتمعنا لم ير النور، وكذلك كتاب نظامنا، وكتاب اقتصادنا الكبير لم يكمل ايضا كما صرح هو في نهاية الجزء الثاني منه وفي نهاية كتاب الاسلام يقود الحياة، فانه وصف المجلدين بانهما بذرة لما كان يريد انجازه من دراسات في الاقتصاد الاسلامي، ووعد بتفصيل مااجمله في كثير من المواضيع.
واللمحة التمهيدية للدستور لم يلحقها بتفصيل الدستور، والتفسير لم يكمله ونظرياته في علم الحديث وعلم الرجال لم تطبع في كتاب مستقل، وحتى في الفلسفة فاني سمعت انه كان بصدد اصدار كتابين بعد الاسس المنطقية يمثلان منهجة اخرى في نظرية المعرفة، ونظريته في تنظيم المرجعية وتطويرها وترشيد العمل الاسلامي وتنظيمه لم تطبق بعد.
وعلى هذا فانه (قدس سره) ترك امانة في اعناق العلماء من بعده وفي اعناق المؤمنين الواعين الذين يهتمون بامور الدين وامور المسلمين.
وسلام على الشهيد الصدر يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً، وسيعلم الذين ظلموا اي منقلب ينقلبون والعاقبة للمتقين ولاحول ولاقوة إلاّ باللّه العلي العظيم.
عبدالأمير آل سيد علي خان