مداخلة قصيرة تضم خواطر موجزة. وهذه الخواطر ليست وليدة سعة في المعرفة ولا طول باع في البحث، ولا مطالعةٍ كاملة في آثار السيد الشهيد، وانما هي في أفضل الفروض تأملات واثارات في أجوائه وعوالمه، مما نبه عليه بنفسه نصاً أو ممارسةً أو معنى في حياته او في غيابه، ولعمري انه كان بايجاز درساً من دروس أبي الضيم وسيد الشهداء ابي عبد اللّه الحسين(عليه السلام)
أول الدروس التي ثبتها السيد الشهيد فيما نزعم انه وضع عملية التغيير الاجتماعي في دائرة الامكان، فجعل فسحة الامل فيه فسحة واقعية وكبيرة. وقد نظر الى المجتمع على انه مصاب بانحرافات غير عصيّة على التقويم، لا على انه كافر يستحق التصفية الجسدية ثم جمع في ذلك بين عملية التنظير للتغيير المطلوب وعملية التغيير ذاتها، مترجمة الى خطوات في الممارسة والسلوك.
هل التغيير الاجتماعي ضرورة؟ ويأتي الجواب بالايجاب انه ليس ترفاً فكرياً وطموحاً سلطوياً، انه واحد من تعبيرات عملية التكامل المستمرة للانسان المؤمن، ولذلك فالتغيير الاجتماعي ليس هو الهدف النهائي والاوصل إلى نقطة انتهاء فزوال، انه تيسير وترشيد لعملية تعبيد الإنسان للمطلق جلّ وعلا.
هكذا هي أهداف الشهيد، كبيرة مطلقة، في مسيرة متصاعدة نحو المطلق، وهكذا ايضاً يضع الشهيد الفكر في الحركة، ومرةً أخرى لا ترف في المسيرة، لا في الفكر ولا في الحركة، وهكذا ايضاً تكون قيادة التغيير للاسلام، بالاسلام وفي مسار الاسلام.
وبالتالي تكون المعارف الدينية للفرد والمجتمع معاً لا لاحدهما فحسب. فعملية التغيير الاجتماعي التي تبدأ بالنفس ينبغي ان تنتج نفوساً طاهرة منسجمة مع بعضها، وأي تنافر بينها إنما هو مؤشر على نقص ما في عملية التغيير. إذا لم يكن الفرد الذي بدأ بنفسه فغيّرها قادراً على تغيير الآخرين بقرار ينقلهم في لحظة من الظلمات الى النور وهو ليس بقادر بالتأكيد فان خطوات اخرى تتوسط في عملية التغيير المستمرة هي عملية الدعوة إلى ذلك ومن هنا وجب ان تتحول مادة الدعوة هذه وهي مجموعة المفاهيم والتعاليم الى زادٍ اجتماعي يومي، مستساغ وقابل للهضم، وقد بذل السيد الشهيد الصدر (قدس سره) في سبيل ذلك جهداً عظيماً ابتداء من تبسيط احكام العبادات حتى تحليل المعقد من الجوانب الفلسفية والاقتصادية.
ان عملية التغيير عملية تهم الجميع، وفي الوقت الذي ينبغي ان يجد كل فرد دوره فيها، فان خطاب التغيير ينبغي ان يتوجه إلى الجميع كذلك، وهكذا لم يستثن خطاب الشهيد السعيد أحداً ممن يهمهم أمر التغيير لا على أساس قومي ولا مذهبي، بل انه إنسانية عملية التغيير دعته إلى مخاطبة العراقي بما هو كذلك فيما يتعلق بعملية التغيير التي رفع لواءها في العراق، وذلك جانب حساس ومهم في التعبئة الاجتماعية الناجحة، الأمة كلها معنية بل الإنسان، كل إنسان معني، وهذه طريقة في الفهم لا تكتيك في العمق وهكذا يرتفع السيد الشهيد إلى مصاف المفكرين الانسانيين بعبوره الحدود المختلفة.
ولنا ان نخرج بعد ذلك في استشراف معالم عملية التغيير الاجتماعي لدى السيد الشهيد إلى دور المبادرة في ذلك. وأحسب انه رضوان اللّه عليه كان صريحاً في هذا كما كان في غيره، فقد بادر عملياً دون انتظار. ومسار المبادرة لدى السيد الشهيد غني هو الآخر بالدروس، ومنها انه جمع اشكال التحرك المطلوب: فنهض بنفسه، وتحرك مع امته، واتجه نحو الطاغوت بشكل مباشر، وربما يحسن التنبه هاهنا إلى ان الدرس المركزي في مسار المبادرة كان التمييز بين ما ورد في الروايات من انتظار الفرج وبين ما يمكن ان ندعوه في عصرنا بانتظار الثورة. فالفرج ليس الثورة بذاتها، التغيير الاجتماعي ليس الفرج نفسه وانما هو الانتظار الحركي الفاعل، الانتظار الحيّ. التغيير ليس غضباً آنياً او فورة عاطفية، انه عملية واعية مخططة وليس نفاد صبر حتى يمكن ان يكون (دم انتظار). على ان مبادرة التغيير التي تبدأ بالموعظة الحسنة لابد ان تصل إلى مرحلة الثورة عاجلاً أو آجلا، لتكون الموعظة الحسنة جزءاً من مقدمة الثورة لان الموعظة نفسها تطرح علمنة العقائد والمسلك (اي جعلها علمية) وتحريرها بالتالي من ضغوط الجهل والخوف والادران المادية.
وفي مسار المبادرة ايضاً معْلم ثمين آخر هو ايمان السيد الشهيد بحقه المطلق في ممارسة مثله التي دعا اليها وكأني به يقول وهو يستشهد ان ممارسة الحقوق والحريات هي أفضل طريقة للتمتع بها. وهكذا كان، فايمانه بحرية التعبير والحق في اعتناق الافكار دون ضغط او خوف كان له ثمن ليست كالاثمان. ولقد قيل لمسؤوليه في الامم المتحدة في العام الماضي بحق: ما بال الناس أقاموا الدنيا ولم يقعدوها اعجاباً بالفيلسوف جان بول سارتر عندما رفض استلام مبلغ جائزة نوبل الذي خصص له قبل سنين معللاً ذلك بأنها فرصة سنحت له لممارسة حرية الاختيار، مابال اولئك لم يصنعوا شيئاً عندما قدم السيد الشهيد ما قدم، ومن ذلك حياته، ثمناً لممارسته حرية العقيدة والاختيار؟
رحم اللّه الامام الشهيد السعيد الصدر(رضي الله عنه) والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.
الدكتور مصطفى الانصاري