1ـ تعيين الولاية بأكثرية الآراء
بصدد تحديد العلاقة بين الشورى والولاية، يمكن أن نذكر النظريات الثلاث التالية:
النظرية الأولى: هي التي تقول بأن الشورى ـ وهي العمل بأكثرية الآراء ـ تمثل الأساس للولاية في هذا العصر، وتستند هذه النظرية فقهياً على النصوص التي وردت في الكتاب والسنة، التي يفترض استفادة هذه النظرية منها[1].
ولعل أفضل هذه النصوص التي يمكن أن تستند عليها هذه النظرية هي قوله تعالى (وأمرهم شورى بينهم)[2] لأن الآية الكريمة جاءت في سياق تعداد مجموعة من صفات المؤمنين العامة، التي أقرها الشارع المقدس ومدحهم بها، وهذا يعني أن ما تضمنته الآية يمثل صفة من صفات الكمال الأخلاقي والاجتماعي، وهي أن تكون أمور المسلمين بالشورى.
والظاهر من نسبة الأمر إلى المسلمين عامة أن يكون المراد من الأمر القضايا التي ترتبط بالشؤون العامة للمسلمين، إذا أرادوا إدارة امورهم بهذه الطريقة، فهم يمثلون الجماعة المتكاملة أخلاقياً وإجتماعياً. وعندما نفترض أن الأمور حينما تدار بهذه الطريقة تكون مقبولة ومرضية من قبل الله، والتشريع الإسلامي، فلابد أن تكون ملزمة لأفراد المسلمين، لأنه لا معنى أن تكون هذه الطريقة من الإدارة تمثل تكاملاً في المجتمع ولكن لا يكون فيها الإلزام. إذ الإلزام عنصر أساسي في طبيعة الإدارة والولاية. ويؤكد هذا المضمون في الآية ما ورد من قوله (ص):
(إذا كان أمراؤكم خياركم واغنياؤكم سمحاؤكم وأموركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها)[3]…
مناقشة الاستدلال بآية الشورى
وقد كان آية الله العظمى السيد الشهيد الصدر يذهب إلى هذه النظرية في بداية التحرك الإسلامي له سنة 1378هـ. استناداً لهذه الآية الكريمة: (والذين استجابوا لربهم واقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون)[4].
إلا أنه عدل عن هذه النظرية بعد ذلك وكان يورد عليها مجموعة من الملاحظات نذكر منها الملاحظتين التاليتين: ـ
الأولى: أن الآية لو كان لها الدلالة على جعل الولاية للشورى، فهي لا تدل على الولاية أكثر من الدليل (الأصل)، الذي يدل على مسؤولية الإنسان عن نفسه وعمله، نعم تضيف إليه أمراً آخر وهو أن يتشاور المسلمون في شؤونهم، بدل أن يتخذوا القرار بشكل فردي، لأن الآية ليس فيها دلالة على أن الولاية سوف تكون للأكثرية من المتشاورين، بل ان المسلمين الذين يكون كل واحد منهم مسؤولاً عن نفسه يجب عليهم أو يحسن بهم أن يتشاوروا في أمورهم. فقد يكون المراد منها الحث على التشاور وإنما يكون الإلزام بالقرار عندما يكون إجماعياً، مع ملاحظة أن الآية لا تتحدث عن خصوص التشاور في (الأمر)، والذي هو الولاية، الذي يعني جميع المسلمين بل تتحدث عن جميع أمور المسلمين، وبإطلاقها يمكن شمول (الأمر) للأمر الذي يهم جميع المسلمين.
وبهذا الفهم للآية لا يمكن أن نلتزم رأي الأكثرية، بإدعاء أن تحصيل الإجماع على القرار لما كان أمراً غير ممكن التحقق عادة، فإذا أردنا التقيد بالإجماع، فإن ذلك يعني أن يصبح مضمون الآية لغواً، لعدم تحقق مصداق له في الخارج.
لأننا بهذا الفهم يمكن أن نحمل الآية على الأمور الأخرى غير الولاية، من مختلف قضايا وأشكال أمور الجماعات الإسلامية، ودوائر التشاور، ومن المعقول أن يكون القرار إجماعياً في كثير من هذه الحالات[5]. وإن كان في حالة معينة لا يمكن أن يكون إجماعياً، وهي حالة انتخاب الولي، ولكن ذلك لا يضر بفهم الآية لأنه لا يؤدي إلى تخصيص الأكثر، أو أن لا يكون له مصداق[6].
الثانية: ان الأمر الذي تتناوله الآية، وتمدح المؤمنين على التشاور فيه ليس هو أصل الحكم والولاية، وإنما هي أمور أخرى، وذلك بقرينة أن الحكم الذي كان يمارسه النبي (ص) في زمن نزول الآية لم يكن قائماً بالأصل على الشورى، والظاهر من مجموع الأوصاف التي وردت في سياق هذا الوصف في الآيات الكريمة، أنها أوصاف فعلية وعملية والمسلمون مدعوون للعمل بها فعلاً.
وهذا لا ينسجم مع ما يقرره القرآن الكريم من أن الولاية ـ في وقت نزول الآية ـ للرسول وحده. (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم…)[7].
بل ان هذه الآية نزلت في مكة ولم يكن للمسلمين مجتمع قائم وإنما كانوا يعيشون ضمن المجتمع المكي الكافر فلابد أن يكون المقصود أو القدر المتيقن منها القضايا ذات الطابع الشخصي أو العادي أو تكون منسوخة بالآيات الدالة على لزوم إطاعة الرسول وأولي الأمر المنصوبين من قبله.
لماذا لم يثقف الرسول الأمة على الشورى؟
بالإضافة إلى ذلك نجد أن نظرية الشورى تواجه ظاهرة قد لا يمكن تفسيرها بسهولة وهي ظاهرة أن النبي (ص) لم يوضح للامة الخصائص العامة التي يجب على الأمة الالتزام بها في الشورى بل بقيت قضية الشورى كمفهوم عام يعتريه بعض الغموض وتبيان هذه الخصائص أمر ضروري لاختلاف أشكال الشورى اختلافاً بيناً يؤثر في النتائج وكيفية إدارة الأمور.
وهذه الخصائص هي مثل:
1ـ النسبة المطلوبة في الشورى: النسبية، أو المطلقة، أو أكثرية الثلثين، أو غير ذلك.
2ـ ومن هم الذين يشتركون في الشورى الرجال والنساء، أو الرجال وحدهم.
3ـ حدود الأعمار التي تشترك فيها.
4ـ وعندما يتعارض الكم مع الكيف بأن يكون أهل الحل والعقد في مقابل الجمهور، أو الفقهاء في مقابل العامة وسواء الناس، وهكذا?.
وترك الأمة بدون توضيح هذه الخصائص العامة يجعلها تعيش في متاهة الاحتمالات والفروض، وقد يؤدي إلى افتراض أن الإسلام لم يعالج مشكلة أساسية في حياة الناس، وهذا على خلاف الفكرة العقائدية التي يلتزم بها كل المسلمين من إكمال الدين وإتمام النعمة[8] (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)[9].
احتمالان في تفسير المشكلة
والواقع أن هذه الظاهرة جديرة بالملاحظة في مقابل نظرية الولاية على أساس الشورى وتحتاج إلى دراسة مستوعبة.
وبصددها ادعوا إلى دراسة الاحتمالين التاليين: ـ
الاحتمال الأول: أن النبي (ص) قد اعتمد على الحالة السائدة في مركز الدولة الإسلامية، في الاعتماد على الشورى، لأن العرب في مكة والمدينة كانوا يمارسون الشورى في إدارة أمورهم، وكانت لديهم منتديات لهذه الشورى ـ كما يحدثنا التاريخ ـ من قبيل (دار الندوة) في مكة، والاجتماع الذي كان يعقده رؤساء القبائل في البيت الحرام، وكانت مجموعة من القضايا المهمة تدار بهذه الطريقة، كما حصل في قضية حلف الفضول، وقضية بناء الكعبة، ووضع الحجر الأسود، وقضية المقاطعة في شعب أبي طالب، وقضية محاولة اغتيال النبي (ص) في داره التي ادت إلى هجرة النبي (ص)… إلى غير ذلك من القضايا التي يجدها الباحث في طيات التاريخ في ذلك العصر.
ومن المعقول أن النبي (ص) كان يمارس ذلك عملياً في مواجهة الأحداث المختلفة كما تشير إلى ذلك بعض الحوادث، مثل ما وقع في الاعداد لمعركة أحد واتخاذ القرار بالخروج إلى خارج المدينة، وهكذا الاعداد لمعركة الأحزاب.
وهذا ينسجم أيضاً مع التوجيه القرآني في قوله تعالى (فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر) إذ لابد أن نفترض أن النبي كان يتشاور مع أصحابه في الأمور المهمة، وبطريقة خاصة، كما يمارس العفو والاستغفار لهم، وهذه الممارسة لابد وأن يكون لها دور في التثقيف على طبيعة الأسلوب الذي وضعه الإسلام لممارسة الشورى.
ولعل مبادرة الصحابة إلى الشورى في سقيفة بني ساعدة عند وفاة النبي (ص) واتخاذ القرار في أمر الخلافة فيها أحد الشواهد على هذه الحقيقة.
ولعل ذلك يفسر لنا بعض الشيء ـ بناء على اتجاه النص ـ قبول الجماهير لقرار السقيفة، بالرغم من وجود النص، فإن هذا الاتجاه الذي يرى الولاية بالنص، لابد له أن يفسر ظاهرة قبول المسلمين بالخلافة على أساس قرار السقيفة مع وجود النص من النبي (ص)، حيث يمكن أن يقال بأن هذا القبول العام، كان باعتبار أن قرار السقيفة كان ينسجم مع نوع الممارسة العامة السابقة التي كانت تعيشها الجماهير في زمن الرسول (ص) أو في الجاهلية. الأمر الذي أدى إلى تجاهل النص أو تفسيره أو اتخاذ الموقف السياسي في مواجهته تأثراً بالجذور السياسية والاجتماعية التي كانت تحكم المجتمع حينذاك.
وتوجد إشارات في كلمات الإمام علي (ع) تشير إلى وجود هذا التوجه والتصور في الشورى لدى الأمة في زمن خلافة عثمان ـ على الأقل ـ حيث ورد في نهج البلاغة تفسير انتخابه للخلافة بأنها كانت وفق الشورى التي تم العمل بها في زمن أبي بكر وعمر وعثمان: (أنه بايعني القوم الذي بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضى…)[10].
وهذه الشورى هي شورى أهل الحل والعقد باصطلاح الفقه السني حيث يكون القرار بيد هذه الفئة من الناس التي يفرزها المجتمع الإسلامي من خلال مختلف الممارسات والعلاقات السياسية والاجتماعية والعلمية[11].
ولكن تبقى هناك ملاحظة وهي أن الرسول (ص) وإن كان قد مارس الشورى في حياته، إلا أنه لم يمارسها في أصل الولاية بل أكدَّ القرآن الكريم الطاعة المطلقة للرسول وأولي الأمر، وإنما مارسها في المجالات الأخرى التي ترتبط ببعض الفعاليات وعلى مستوى الاستشارة كما يفهم من آية (وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله). وهذه الملاحظة بنفسها تمثل إشكالاً آخر في دلالة آية الشورى (وأمرهم شورى بينهم) على طبيعة الحكم، إذ كيف يمكن أن يوصف المؤمنون بأن إدارتهم لولاية الأمر بينهم على شكل الشورى ولكن النبي لا يلتزم بذلك؟!
كما تبقى ملاحظة أن المسلمين لو كانوا قد عرفوا الموقف تجاه الشورى في ذلك العصر فلماذا يختلفوا في ثلاثة عقود على طريقة الإنتخاب كما أشرنا إلى ذلك، وتدل عليه نصوص صدرت عن الخليفة أبي بكر والخليفة عمر بتبرير الطريقة التي اختاروها.
الاحتمال الثاني: إن الإسلام ترك ذلك إلى الأئمة من أهل البيت (ع) أو إلى الأمة باعتباره منطقة فراغ تختلف في طريقة معالجتها الظروف والأوضاع النفسية والاجتماعية والمستوى الثقافي وغير ذلك من الخصوصيات، وأريد للأمة أن تمارس ألوان مختلفة من التجربة. سواء بشكل مباشر بناء على الاتجاه الأول في تفسير الأساس للولاية أو تحت إشراف ولي الأمر ـ الذي هو الإمام أو الفقيه ـ بناء على الاتجاه الثاني.
وقد اكتفى الشارع المقدس بتحديد المواصفات العامة للمستشارين، التي تمثل الجانب المهم في شكل الشورى ومنهجها، كما وردت روايات في هذا المضمون سوف نذكرها عندما نتناول هذا الموضوع في الفصل الثاني.
ويتضح هذا الاحتمال بملاحظة التجارب التي خاضها الإنسان في المناطق التي اعتمدت على فكرة الشورى ـ كما هو الحال في العالم الغربي ـ، وانتهت به إلى أساليب ومناهج جيدة وإن كانت تختلف ـ بشكل أساسي ـ عن الشورى في الإسلام من حيث المحتوى الأخلاقي لها والشروط العامة للمستشارين والإطار العام للشورى الذي مثل القيم والمثل المتجسدة في الأحكام الإسلامية. فكان هذا الاختلاف سبباً طبيعياً لعدم أداء هذه الأساليب لدورها الصحيح في معالجة المشاكل التي يواجهها الحكم في العالم الغربي.
ولكن هذا الاحتمال لا يمكن قبوله بسهولة خصوصاً إذا لاحظنا أن الإسلام لم يؤكد على أصل فكرة الشورى فضلاً عن التفاصيل إلا بالقدر الذي يرتبط بالاستشارة والمشورة.
2ـ الولاية للشورى تحت إشراف الفقيه
النظرية الثانية: هي التي تقول بأن الولاية في هذا العصر هي للأمة ولكن تحت إشراف الفقيه الجامع للشرائط ونظارته، بحيث تشمل هذه النظارة والرقابة مختلف المجالات العقائدية، والتشريعية، والسياسية، والاجتماعية.
كما أن للفقيه والمرجع دور في هذه الولاية، باعتباره جزاءاً من الأمة وهو عادة من أوعى أفرادها وأكثرها عطاء ونزاهة وله رأيه من قضاياها الزمنية بقدر ما له من وجود في الأمة وامتداد اجتماعي وسياسي في صفوفها.
وفي الحالات الاستثنائية التي تكون فيها الأمة تحت حكم الطاغوت وسلطته وهيمنته، يصبح المجتهد المطلق العادل الكفوء هو الذي يتولى عن الأمة دورها في الولاية العامة لعجزها عن ممارسة هذا الدور بسبب الطغيان[12].
والأسس التي تعتمد عليها هذه النظرية هي كالتالي:
1ـ إن الولاية بالأصل هي لله سبحانه وتعالى.
2 ـ إن الله سبحانه جعل الإنسان خليفة عنه في الأرض كما تؤكد علي ذلك مجموعة من الآيات الكريمة، وهذه الخلافة تعني في جملة ما تعنيه (الحكم بين الناس)، ولذا صح تفريع هذا الحكم على الخلافة في القرآن في قوله تعالى (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله…)[13].
فمفهوم الإسلام عن الخلافة ـ بشموله وإطلاقه ـ هو أن الله سبحانه أناب الجماعة البشرية في الحكم وقيادة الكون اجتماعياً وطبيعياً، وعلى هذا الأساس تقوم نظرية حكم الناس لأنفسهم وشرعية ممارسة الجماعة البشرية حكم نفسها[14].
ولكن الخلافة من ناحية أخرى تمثل الأمانة التي أشار إليها القرآن الكريم (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبينَ أن يحملنَها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً)[15].
وعندما تكون الخلافة أمانة ومسؤولية، فهي من جانب تعني: أن الجماعة غير مخولة أن تحكم بهواها وباجتهادها المنفصل عن التوجيه الإلهي، وإنما يجب أن تحكم بالحق تؤدي إلى الله تعالى أمانته بتطبيق أحكامه. وهي من جانب آخر تعني: أن الإنسان كائن (حر) يختلف عن السماوات والأرض، لأن الإنسان مسؤول ويتعرض للحساب والثواب والعقاب، وبدون الاختيار والحرية لا معنى للمسؤولية.
وهنا يصبح الإنسان بحاجة إلى رعاية خاصة، لأن الأمانة وضرورة الالتزام بالحق من ناحية، مع الحرية من ناحية أخرى، قد يكون هو الذي أثار المخاوف عند الملائكة من مصير خلافة الإنسان الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء كما ورد في القرآن الكريم.
وقد أثبت الله للملائكة قدرة هذا الإنسان على التربية والتعليم من خلال تعليم آدم الأسماء، وبالتالي فهو على استعداد للاستفادة من قانون تكامله بواسطة خط آخر يجب أن يسير إلى جانب خط الخلافة، وهو خط الشهادة الذي يمثل الإشراف والقيادة الربانية والتوجيه الرباني[16]، الذي يقوم به الأنبياء والربانيون والأحبار (إنا أنزلنا التوراة فيها هدىً ونورٌ يحكم بها النّبيّون الذين أسلموا للذين هادوا والرَّبّانيّون والأحبار بما استُحِفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء)[17].
3 ـ وفي عصر المعصومين يندمج خط الشهادة وخط الخلافة في شخص واحد وهو النبي أو الإمام، لأن النبوة والإمامة تجمع كلا الخطين، ضمن تسلسل تأريخي وتطور للمجتمع الذي كان يقوم بالاصل على الفطرة ثم يتعرض للانحراف أو الطغيان، ويحتاج حينئذٍ إلى الثورة الحقيقية التي يقودها الأنبياء. (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[18].
وخلافة الجماعة البشرية في مرحلة التغيير الثوري الذي يمارسه النبي باسم السماء وإن كانت ثابتة مبدئياً من الناحية النظرية إلا أنها من الناحية الفعلية ليست موجودة بالمعنى الكامل. والنبي هو الخليفة الحقيقي من الناحية الفعلية، وهو المسؤول عن الارتفاع إلى مستوى دور الجماعة في الخلافة [19].
ـــــــــــــــ
[86]
4 ـ واما في عصر الغيبة الكبرى فقد بدأت مرحلة جديدة، يتميز فيها خط الشهادة عن خط الخلافة، بعد أن كانا مندمجين في شخص النبي أو الإمام، لأن الاندماج لا يكون إلا في حالة وجود فرد معصوم.
محتوى خط الشهادة
أما خط الشهادة فيتحمل مسؤوليته المرجع: (المجتهد المطلق العادل الكفؤ)، ويتحمل المسؤوليات الثلاث التالية التي تمثل مسؤوليات خط الشهادة.
أ ـ المحافظة على الشريعة والرسالة والدفاع عنها، ورد كيد الطامعين وشبهات الكافرين والفاسقين.
ب ـ بيان أحكام الإسلام ومفاهيمه، ويكون اجتهاده هو المقياس الموضوعي للأمة من الناحية الإسلامية، وتشمل العناصر الثابتة من التشريع والمتحركة زمنياً باعتباره الممثل الأعلى للعقيدة الإسلامية.
ج ـ الإشراف والرقابة على مسيرة الأمة والتدخل لإعادة الأمور إلى نصابها عند الانحراف عن طريقها الصحيح إسلامياً، وتزعزع المبادئ العامة لخلافة الإنسان على الأرض.
وأما خط الخلافة فالأمة إذا كانت محكومة للطاغوت فهذا يمارسه (المرجع) أيضاً، لأنه في هذه الحالة لا يتمثل خط الخلافة عملياً إلا في نطاق ضيق وضمن حدود تصرفات الأشخاص، وما دام صاحب الحق في الخلافة العامة قاصراً عن ممارسة حقه نتيجة لوجود الطاغوت فيتولى المرجع رعاية هذا الحق في الحدود الممكنة.
وأما إذا كانت الأمة قد حررت نفسها، فينتقل هذا الخط إليها لتمارس القيادة السياسية والاجتماعية في الإطار التشريعي للقاعدتين القرآنيتين التاليتين:
(وأمرهم شورى بينهم)[20].
(والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)[21].
فإن الآية الأولى تعطي الأمة صلاحية ممارسة أمورها عن طريق الشورى ما لم يرد نص خاص على خلاف ذلك.
والآية الثانية تتحدث عن الولاية وان كل مؤمن هو ولي الآخرين. ويراد من هذه الولاية تولي أمور المؤمنين بقرينة تفريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليها، والنص ظاهر في سريان الولاية بين كل المؤمنين والمؤمنات بصورة متساوية.
وينتهج عن ذلك الأخذ بمبدأ الشورى وبرأي الأكثرية عند الاختلاف[22].
الفقيه يشرف على ولاية الأمة
ولكن هذه الولاية للأمة مقيدة بشكل محدود بالإشراف والرقابة على التطبيق الذي يمارسه المرجع، لما ورد من نص يدل على ذلك وهو قول إمام العصر: (وأما الحوادث الواقعة فأرجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله)[23].
فإن هذا النص يدل على أن رواة الأحاديث (المجتهدين) هم المرجع في كل الحوادث الواقعة بالقدر الذي يتصل بضمان تطبيق الشريعة على الحياة، لأن الرجوع إليهم بما هم رواة أحاديث وحملة للشريعة يعطيهم الولاية من هذه الزاوية.
وهذا ينتج أن الأمة لها (الخلافة العامة التنفيذية والتشريعية) على أساس قاعدة الشورى التي تمنحها حق ممارسة أموها بنفسها بهذه الطريقة، ولكن ضمن إطار الإشراف والرقابة الدستورية من المجتهد الجامع للشرائط، وهذا الحق هو حق استخلاف ورعاية مستمد من مصدر السلطات الحقيقي الذي هو الله سبحانه وتعالى.
ويمكن أن نحدد دور المرجع بالمهمات الدستورية التالية: الإشراف، الرقابة، الفُتْيا، القضاء، القيادة العليا والتمثيل للدولة، مراقبة المظالم والحقوق، توكيل رئيس الدولة المنتخب من الأمة من أجل اسباغ المزيد من القدسية والشرعية، لأن المرجع ـ بالإضافة إلى دوره الشرعي ـ جزء مهم من الأمة وله عمق في وجودها الاجتماعي والسياسي[24].
وهذه النظرية تحدث عنها سيدنا الأستاذ العظيم السيد الشهيد الصدر في كتابه (الإسلام يقود الحياة) كما أشرنا إلى ذلك وتبناها تقريباً دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
تساؤلات حول هذه النظرية
وبالرغم من أن النظرية التي قدمها أستاذنا (الشهيد) تمثل نظرية متكاملة، وتصوراً شاملاً لخلافة الإنسان وشهادة الأنبياء، إلا أنها قد تواجه بعض التساؤلات على مستوى الاستدلال الفقهي:
فالسؤال الأول: أن المنطلق النظري لفكرة توحيد خط الخلافة والشهادة في الأنبياء لا زال قائماً في جميع أدوار الإنسان، ولذا فإن المجتهد العادل يمكن أن يكون له نفس الدور، ويشهد على ذلك (الآية 44 من سورة المائدة) التي استشهد بها على الفكرة والتي قرنت الأحبار ـ وهم العلماء ـ بالأنبياء والربانيين، وجعلت مهمتهم الحكم بما أنزل الله تعالى. ويؤكد ذلك ما ورد في التأكيد على دور العلماء في خلافة النبي، أو وراثة الأنبياء وبشكل مطلق. كما يمكن أن يؤكد هذه الفكرة النظرية هو أن حالة الغيبة الكبرى حالة استثنائية لوجود الإمام الغائب واقعياً. وهذا يعني أن أصل النظرية هو استمرار توحيد الخط، فلماذا لا يفرض هذا الاستمرار في عصر الغيبة ولكن على مستوى (أقل) يناسب عصر الغيبة وهو مستوى العلماء العدول غير المعصومين؟
والسؤال الثاني على مستوى الاستنتاج الفقهي: كيف أمكن استفادة الولاية من قوله تعالى (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) لمجرد ذكر صفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد وصفهم بأنهم (أولياء بعض) مع أن هذه الصفة لم تأت على شكل التفريع ـ كما ذكر (قدس سره) ـ، وإنما جاءت صفة مستقلة، خصوصاً وأنها لم تكن الصفة الوحيدة التي ذكرت في هذه الآية بل جاءت بعدها (يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة) والأوضح من ذلك أن صفة الإطاعة لله ولرسوله. كانت إحدى الصفات الأخرى، فهل أن المقصود أيضاً أن تكون الاطاعة لله تعالى ولرسوله فرع أن يكون كل واحد ولياً للأخر؟
الولاء في القرآن الكريم
ومن خلال مراجعة الآيات القرآنية التي تحدثت عن ولاية المؤمن لأخيه المؤمن، أو لله تعالى وغير ذلك من الموارد، يفهم أن المقصود من (الولاء) هنا الولاء السياسي والنصرة أي الوقوف إلى جانبه عملياً وسياسياً.
نعم قد يفهم من قوله تعالى: في سورة الأنفال: (وما لهم ألا يعذّبُهم الله وهم يصدّون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءَهُ أن أولياءه إلا المُتَّقون ولكن أكثرهم لا يعلمون)[25].
وكذلك من قوله تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون)[26].
إن المقصود من (الولاء) هنا الولاية ـ أي تولي الأمر ـ ولكن لا يبعد أن يكون المقصود هنا أيضاً الحق السياسي أو الانتماء السياسي الذي يستحقه المسلمون المتقون لهذا البيت، وذلك في مقابل الحق، أو الانتماء على أساس المكاسب المادية، وفي الآية الأخرى أن الولاء السياسي للإنسان المؤمن والانتماء والالتزام يجب أن يكون لله وللرسول، وللذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، ويكون فهم الولاية من هاتين الآيتين وغيرهما مما يشبه معناه معناهما بالكناية والالتزام[27].
ويمكن فهم هذا المعنى بالمقارنة مع الآيات الأخرى التي استخدمت فيها كلمة الولاء في القرآن الكريم: (لا يتّخذِ المؤمنون الكافرين أولياءَ من دون المؤمنين ومَنْ يَفعلْ ذلك فليس من الله في شيءٍ إلا أن تتَّقوا منهم تُقاةً ويحذركُم الله نفسَه وإلى الله المصير)[28].
(ودّوا لو تكفرون كما كفوا فتكونون سواءً فلا تتَّخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن توَلَّوا فخُذُوهم واقتُلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليّاً ولا نصيراً)[29].
(الذين يتَّخِذون الكافرين أولياءَ من دون المؤمنين اَيبتَغون عندَهُم العزَّة فإنَّ العزة لله جميعاً)[30].
(يا أيُّها الذين آمنوا لا تتَّخذوا اليهود والنَّصارى أولياءَ بعضهم أولياءُ بعض ومن يتولَّهم منكم فإنَّه منهم انَّ الله لا يهدي القوم الظالمين)[31].
(إنَّ الذين آمنوا وهاجَروا وجاهَدوا بأموالِهم وأنفُسِهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضُهم أولياءُ بعضٍ والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لَكُم من ولايتهم من شيءٍ حتّى يهاجروا وأن استنصروكم في الدين فعليكُم النصر إلا على قومٍ بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير* والذين كفروا بعضُهم أولياءُ بعض ألا تَفعلوه تكن فتنَة في الأرض وفسادٌ كبير)[32].
(وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله ومن يُضلِلِ اللهُ فما لهُ من سبيل)[33].
والسؤال الثالث: أنه كيف يمكن معالجة الملاحظات التي أثرناها حول الاستدلال بآية الشورى؟. إن الملاحظتين اللتين أشرنا إليهما حول الاستدلال بآية الشورى على النظرية الأولى تأتي أيضاً بالنسبة إلى الاستدلال بهذه الآية على هذه النظرية.
بالإضافة إلى أن الملاحظة الثانية تأتي على الآية الثانية لأن هذه الأوصاف كانت ثابتة للمؤمنين في زمن النبي (ص) والأئمة (عليهم السلام)، والولاية بمعناها الشامل هي للنبي والإمام بالخصوص فما هو دور هذه الولاية للمؤمنين؟.
بل إن المسلمين ـ في نظر الاتجاه الذي يؤمن بالنص ـ ما زالوا منذ الغيبة الصغرى محكومين في أكثر الأدوار من قبل (الطواغيت) فالمجتهد هو الولي في مجال خط الشهادة بناء على هذا التفسير. فلا يبقى مجال لتطبيق هذه الآيات الكريمة بعد أن فقدت الأمة قدراتها على الاختيار بسبب الطغاة.
والسؤال الرابع: ان التوقيع المروي عن إمام العصر (وأما الحوادث الواقعة فأرجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله) كيف يمكن حصر الأمر بالرجوع فيه في خصوص القضايا ذات العلاقة بالشريعة؟
مع أن الحوادث الواقعة، وكذا الأمر بالرجوع، وكذلك جعل الحجية لهم، جاءت مطلقة شاملة. ومجرد عنوان رواة أحاديثنا ـ الذي يكون في المرجع ـ لا يعني التقييد والتحديد في القضايا التي يرجع فيها بعد وجود الإطلاق، وإنما غاية ما يعنيه هو تفسير الأمر بالرجوع وبيان لعلَّة الحجية، باعتبار أن هؤلاء يمثلون امتداداً للأئمة (عليهم السلام) لأنهم يحملون أحاديثهم وعلومهم. خصوصاً مع اقتران حجية رواة الأحاديث بحجية الإمام نفسه في الرواية وهي حجية مطلقة.
نعم قد يكون المقصود من آية (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياءُ بعض) بعد استفادة الولاية منها إثبات الوان مختلفة من الولاية، وتكون الولاية العامة التي ثبتت للنبي والإمام استثناء من هذه الألوان باعتبار النص الذي يقول (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم)[34].
وتكون هناك ولاية للمؤمنين بعضهم على بعض في مختلف القضايا الجزئية. ويكون هذا الاستثناء من قبيل استثناء ولاية الأب على ابنه وولي اليتيم عليه…
ولعل هذا مما يقصد الإشارة إليه سيدنا الشهيد عندما قال (ما لم يرد نص خاص على خلاف ذلك)، بالإضافة إلى قيد الاشراف والرقابة الذي استفيد من التوقيع الشريف. وهذا الاستدراك وإن ذكره بصدد آية الشورى إلا أنه يشمل هذه الآية أيضاً.
وإذا تمّ هذا الفهم في آية الشورى، والولاية[35] فمن المحتمل حينئذٍ بملاحظة العلاقة بين هاتين الآيتين وحديث (وأما الحوادث الواقعة فأرجعوا فيها إلى رواة حديثنا) أن يكون هذا الحديث بصدد تشخيص شرط جديد في الولي الذي يتولى شؤون المسلمين، ويكون الحجة عليهم، بالإضافة إلى الإيمان والعدالة، وهو شرط الفقاهة، ولكن ذلك لا يعني أن المؤمنين ليست لهم الولاية، بل يمارسون هذه الولاية من خلال قناة معيّنة لا بشكل مطلق.
فالجمع بين هذه النصوص ينتهي بنا إلى أن المؤمنين أولياء أنفسهم، ويمارسون هذه الولاية عن طريق الشورى بانتخابهم الفقيه العادل الكفوء، وهذا معنى الرجوع إليه.
وبذلك يصبح المؤمنون هم الذين ينتخبون هذا الفقيه، ويمارسون ولايتهم عن طريقه، إذ لا يمكن لهؤلاء المسلمين أن يمارس كل أفرادهم هذه الولاية بشكل مباشر، بل لابد أن ينتخبوا شخصاً أو أشخاصاً لهذه الممارسة، وهذا الانتخاب يتمّ عن طريق التشاور، ولابد لهذا الشخص أو الأشخاص أن يكونوا فقهاء عدولاً أكفاء.
ويتضح ذلك بشكل أكثر إذا افترضنا وجو منهج للعقلاء في الاختيار هو الشورى، ويكون دور هذا الحديث هو إضافة شرط آخر في الولي، وهو أن يكون فقيهاً وعالماً.
وهذا الشرط كما قلنا سابقاً ينسجم مع طبيعة الولي الذي كان يتولى أمر المسلمين، وهو النبي (ص) والإمام (ع).
وبذلك تصبح الشورى لها دور في تعيين الولي بين أفراد الأمة، ولكن بمواصفات خاصة، والأمة بهذا الانتخاب تمارس دورها في الخلافة عن طريق تعيين هذا الولي، الذي تكون له الولاية المطلقة في الأمة.
3ـ الولاية للفقيه ودور الشورى تشخيص
الفقيه الولي
النظرية الثالثة: هي النظرية التي ترى أن الولاية للفقيه العادل الكفوء، وليس للشورى دور في منح هذه الولاية وإعطائها للفقيه، بل هي حقّ شرعي له، منحه الشارع المقدس إيّاه، وأن هذه الولاية شاملة بحيث أن الفقيه العادل يتولى من أُمور المجتمع ما كان يتولاه النبي (ص) منه، ويجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا.
ويتبنى النظرية مجموعة من فقهائنا الأعلام، منهم: إمام الأمة السيد الخميني (رحمه الله).
وقد اتّبع الفقهاء مجموعة طرق وأساليب لإثبات هذه النظرية، وبعض هذه الطرق يمكن اعتماده حتى إذا لم نلتزم باتجاه النص على الأئمة بعد النبي (ص).
ونكتفي هنا بالإشارة إلى طريقين، ذكرهما الإمام الخميني في بعض كتبه:
الطريق الأول: دليل طبيعة الأشياء
إنّ طبيعة الأشياء والقضايا البدهية المسلمة في الإسلام، ومفاهيمه.
وأهدافه تفرض أن يكون (الفقيه) الجامع للشرائط هو (الولي)[36] والمكلّف من قبل الله بإقامة الحكم الإسلامي، وتطبيق أحكام الإسلام، وإدارة شؤونهم. ويتضح ذلك بملاحظة النقاط التالية: ـ
الأولى: أن وجود الحكم الإسلامي ضرورة من ضرورات المجتمع الإسلامي التي لا يمكن التنازل عنها، لأن المسلمين بحاجة إلى (ولاية) لإدارة شؤونهم الحياتية وحفظ كيانهم وعزتهم، والدفاع عن الإسلام في مواجهة الطامعين، أو المنحرفين، أو المتسلطين.
الثانية: أن طبيعة الحكم الإسلامي هو الحكم الذي يستمد شرعيته ووجوده من القوانين الربانية، والوحي الإلهي، وأن الأصالة فيه لله تعالى (إن الحكم إلا لله) لا للفرد، وأن الولي هو الذي يكون قادراً على التعبير عن هذا الأصل.
وبهذا يختلف أساساً عن منهج (الاستبداد) الذي يقوم على أساس رأي الفرد وميوله النفسية، وأحاسيسه وتوجهاته الخاصة.
ويختلف أيضاً عن منهج (الديمقراطية الغربية) التي تمنح الأمة الفرد سلطة مطلقة، تؤدي في أفضل حالاتها إلى تحكم الأكثرية في الأقلية، بموجب القوانين البشرية.
وأيضاً تختلف عن منهج (الاشتراكية) التي تعتقد بأصالة المجتمع والجماعة.
بل الحكم في الدولة الإسلامية، لله تعالى، ولا يجوز لأي أحد أن يخرج عن إطار هذا الحكم الإلهي حتى في الطاعة لولي الأمر (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) فهي حكومة الشريعة والقانون والإنسان الصالح الملتزم بهما.
نعم لولي الأمر في الحكومة الإسلامية أن يعمل في الموضوعات، وفي منطقة الفراغ على وفق المصالح العامة للمسلمين أنفسهم والذين يقوم الولي بإدارة شؤونهم، وليس من حقه أن يتجاوز هذه المصلحة، أو على الأقل أن لا يتخذ موقفاً أو يعمل عملاً يكون فيه فساد وضرر بالجماعة المسلمة، ولكن يجب أن يتم ذلك أيضاً ضمن الإطار العام للحكم الشرعي وفي حدود الأهداف العامة له وبالتشاور مع الأمة.
الثالثة: ان الحكومة الإسلامية لما كانت الممارسة والقرارات فيها لابد وأن تكون ضمن (القانون الإلهي) و(المصلحة الإسلامية)، فمن الطبيعي أن نشترط في الولي الشروط التالية كضمان للانسجام مع هذين الإطارين:
الأول: العلم بالقانون الإلهي الذي نعبر عنه بالفقاهة والاجتهاد.
الثاني: العدالة العالية والمواصفات النفسية والروحية، التي تجعل الولي ملتزماً بتطبيق القانون، وملتزماً بمراعاة المصلحة الإسلامية ومصالح المسلمين المولّى عليهم.
الثالث: الكفاءة والخبرة التي تهيء له القدرة على إدراك المصلحة والعمل بشؤونها حتى يتقيد بها[37].
ومن هنا يمكن أن يكون هذا الشرط الثالث ضمن الشروط الأول والثاني إذا أردنا أن نفهم العلم بمعناه الواسع الشامل لشؤون الدين والدنيا والعدالة بمعناها الواسع الذي يشمل جميع الصفات الروحية من الشجاعة والصبر وقوة الإرادة[38]…
نقد دليل طبيعة الأشياء
وقد يلاحظ على هذه الطريقة من الاستدلال بالملاحظتين التاليتين:
الأولى: إن هذا المقدار من القرائن والنقاط إذا كان يثبت الولاية للفقيه فهو لا يثبتها إلا بالقدر الذي تفرضه الضرورات في المجتمع الإسلامي، وأما تلك القضايا التي يواجهها المجتمع والتي لا تكون ضرورة من ضرورات الدفاع عن الدين، وإنما هي للمزيد من التكامل والإصلاح وتحسين أمور الناس والتي قد تتعارض مع بعض الأحكام الأولية، كاستملاك بعض الدور مثلاً لفتح أحد الشوارع، أو اغراق منطقة من البلاد من أجل صنع سدّ للماء يستفاد منه في إرواء أراضٍ أوسع، وما أشبه ذلك، فنحتاج إلى إثبات الولاية فيها إلى دليل آخر ـ.
إلا إذا كان المدعي ـ كما قد يستفاد ذلك من ثنايا استعراض بعض المقدمات ـ هو أن الولاية إذا ثبتت للفقيه في الجملة فلابد أن تثبت بهذه الدائرة الواسعة قطعاً لعدم احتمال الفرق في الولاية بين هذه الموارد المختلفة.
الثانية: ان هذا المقدار من الاستدلال لا يثبت الولاية للفقيه مباشرة ومع عزل رأي الأمة وقرارها عن قضية اختيار الفقيه إذ من المحتمل أن يكون الولي هو الفقيه العادل الذي تختاره الأمة لهذه المهمة بحيث يكون اختيار الأمة ـ عند الإمكان ـ هو الأصل والأساس لولايته، وتكون الفقاهة شرطاً في صحة ولايته، وهذا التصور لا يتعارض مع أية نقطة من النقاط السابقة.
الطريق الثاني: دليل النصوص الإسلامية
ويمكن استفادة ولاية الفقيه وتعينه للحكم من خلال ملاحظة مجموعة من النصوص والروايات المختلفة التي يستفاد منها أن العلماء هم ورثة الأنبياء أو الحكام المنصوبون من قبل الله تعالى على الناس، وأن الفقهاء ورواة الحديث يجب الرجوع إليهم في القضايا المستجدة التي يواجهها الإنسان في حياته الاجتماعية، لأنهم الحجة في ذلك، شأنهم شأن (الإمام المعصوم) الذي هو الحجة من قبل الله في ذلك.
ونستعرض مجموعة من هذه الروايات: ـ
1ـ (عن أبي عبد الله عليه السلام: أن العلماء ورثة الأنبياء، وذلك أن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما أورثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ خطاً وافراً…)[39].
ورواه أبو داود والترمذي والبخاري[40].
2ـ (عن أمير المؤمنين (ع): قال رسول الله (ص): اللهم ارحم خلفائي ـ ثلاث مرات ـ قيل: يا رسول الله ومن خلفاؤك؟. قال: الذين يأتون بعدي ويروون عني حديثي وسنتي) وفي بعض الروايات (فيعلمونها الناس من بعدي)[41].
ويمكن التمسك بإطلاق (خلفائي)، حيث يدعي بأن الجواب عن السؤال في الرواية إنما هو بصدد بيان العنوان الذي يعرف به هؤلاء الخلفاء فهو من قبيل العنوان المعرف.
3ـ (عن أبي عبد الله (ع) قال: قال رسول الله (ص): الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا. قيل: يا رسول الله وما دخولهم في الدنيا؟. قال: اتباع السلطان فإذا فعلوا ذلك فأحذروهم على دينكم)[42].
4ـ (عن أبي الحسن موسى بن جعفر (ع): إذا مات المؤمن بكت عليه الملائكة وبقاع الأرض التي كان يعبد الله عليها، وأبواب السماء التي كان يصعد فيها باعماله، وثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء، لأن المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام كحصن سور المدينة لها)[43].
5ـ (عن أبي عبد الله الحسين (ع) قال ـ وهو يروي عن أمير المؤمنين (ع): مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه)[44].
6ـ (عن أمير المؤمنين (ع) قال: العلماء حكام على الناس)[45].
حيث يستفاد من هذه النصوص جعل الولاية من خلال التعبير (بالحكام) و(مجاري الأمور) و(حصون الإسلام) و(أمناء الرسل) فأن هذه العناوين إنما تصدق على الحاكم أو تشمل باطلاقها الحاكم كاظهر المصاديق.
7ـ (عن عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن رجلين عن
أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة أيحل ذلك?. قال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتاً وإن كان حقاً ثابتاً له لأنه أخذه بحكم الطاغوت وما أمر الله أن يكفر به قال الله تعالى (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به).
قلت: فكيف يضعان؟ قال: ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد، والراد علينا كالراد على الله، وهو على حد الشرك بالله.
قلت فإن كان كل رجل اختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما واختلفا فيما حكما، وكلاهما اختلفا في حديثكم. قال: الحكم ما حكم به أعدلهما وافقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر[46].
حيث يتمسك بإطلاق (فإني جعلته عليكم حاكماً)، فهو وإن كان وارداً في باب القضاء وهو أخص من الولاية المطلقة، إلا أنه لما كان باسلوب بيان العلة لوجوب قبوله حكماً، وقد جاءت العلة مطلقة، فيشمل هذا البيان بقية موارد الولاية، لأن الحكم يتبع علته في سعة دائرته وضيقها.
8ـ عن حماد عن أبي عبد الله (ع) قال: سمعته يقول: (ما من شيء إلا وفيه كتاب أو سنة)[47].
9ـ عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (ع) قال: خطب رسول الله (ص) في حجة الوداع فقال: (يا أيها الناس والله ما من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أمرتكم به، وما من شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلا وقد نهيتكم عنه)[48].
فإن هذين الحديثين فيهما بينا واضح لتناول الشريعة الإسلامية لقضية الحكم الإسلامي، لأن قضية الحكم هي من أهم القضايا، فلا يمكن افتراض عدم وجود حكم شرعي فيه. وإذا كان الإسلام قد تناول هذا الموضوع فلابد أن يكون هو (الشورى) أو (ولاية الفقيه)، فإذا لم نستفد من أدلة الشورى ما يبين لنا هذا الموضوع فيتعين أن يكون الشارع قد بينه في أدلة ولاية الفقيه وهي الأخبار التي أشرنا إليها.
10ـ عن اسحاق بن يعقوب قال: سألت محمد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت علي فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان (عج): (أما ما سألت عنه أرشدك الله وثبتك ـ إلى أن قال: ـ وأما الحوادث الواقعة فأرجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله)[49].
حيث يستفاد من المقارنة في الحجية في هذا النص بين حجية الإمام وحجية رواة الحديث (الولاية للفقهاء)، لوضوح أن للإمام حجية على مستوى الولاية أيضاً فتكون حجية رواة الحديث حجية شاملة للولاية.
11ـ (عن عبد الله بن جعفر الحميري قال: اجتمعت أنا والشيخ أبو عمرو ـ يعني عثمان بن سعيد العَمْري رحمه الله ـ عند أحمد بن اسحاق فغمزني أحمد بن إسحاق أن أسأله عن (الخَلَف)[50]. فقلت له: يا أبا عمرو إني أريد أن أسألك عنه، فإن اعتقادي وديني أن الأرض لا تخلو من حجة إلا إذا كان قبل يوم القيامة بأربعين يوماً، فإذا كان ذلك رفعت (أو وقعت خ ل) الحجة، وأغلق باب التوبة، فلم يك ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، فأولئك أشرار من خلق الله عز وجل وهم الذين تقوم عليهم القيامة، ولكن أحببت أن ازداد يقيناً، وإن إبراهيم (ع) سأل ربه عز وجل أن يريه كيف يحيي الموتى? قال: أو لم تؤمن، قال: بلى، ولكن ليطمئن قلبي، وقد أخبرني أبو علي أحمد بن اسحاق عن أبي الحسن (ع)[51] قال: سألته وقلت: من أعامل? أو عمن آخذ? وقول من أقبل? فقال له: العمري ثقتي فما أدى إليك عني فعنّي يؤدي وما قال لك عني فعني يقول، فاسمع له وأطع فإنه الثقة المأمون، وأخبرني أبو علي أنه سأل أبا محمد (ع) عن مثل ذلك فقال له: العمري وابنه ثقتان فما اديا إليك عني فعني يؤديان، وما قالا لك عني فعني يقولان، فاسمع لهما واطعهما فإنهما الثقتان المأمونان، فهذا قول إمامين قد مضيا فيك. قال: فخر أبو عمرو ساجداً وبكى… الحديث)[52].
حيث يستفاد من هذه الرواية وجوب السماع والطاعة للعالم الثقة المأمون لأنه فرَّع وجوب السماع والطاعة على ذلك.
كما علل أيضاً وجوب الطاعة والسماع بالوثاقة والأداء عن الإمام في الفقرة الثانية.
12ـ عن الإمام الرضا (ع) قوله: (لو لم يجعل لهم إماماً قيماً حافظاً مستودعاً لدرست الصلة…)[53].
13ـ عن أبي عبد الله (ع) قال: (قال أمير المؤمنين (ع) لشريح: يا شريح، قد جلست مجلساً لا يجلسه (ما جلسه) إلا نبي أو وصي، أو شقي)[54].
14ـ عن سليمان بن خالد عن أبي عبد الله (ع) قال: (اتقوا الحكومة فإن الحكومة إنما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين، لنبي (كنبي) أو وصي نبي)[55].
حيث يفهم من هاتين الروايتين أن منصب القضاء إنما هو للحاكم والوالي الشرعي وهو (النبي والوصي)، فإذا استفدنا من الروايات أن الفقيه له صلاحية القضاء، أمكن أن نستفيد من الملازمة أن له منصب الحكم، وهذا ما دلت عليه رواية عمر بن حنظلة السابقة وكذلك رواية أبي خديجة التالية.
15ـ عن أبي الجهم عن أبي خديجة قال: (بعثني أبو عبد الله (ع) إلى أحد أصحابنا فقال: قل لهم: إياكم إذا وقعت بينكم الخصومة أو تداري في شيء من الأخذ والعطاء أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفساق، إجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا فإني قد جلته عليكم قاضياً، وإياكم أن يخاصم بعضكم بعضا إلى السلطان الجائر)[56].
16ـ عن الإمام الباقر (ع) تعقيباً على الآية الكريمة (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم)[57] أنه قال: إنها نزلت في الإمرة يعني الامارة.
17ـ في جامع الأخبار عن النبي (ص) قال: (افتخر يوم القيامة بعلماء أمتي وعلماء أمتي كسائر الأنبياء قبلي)[58].
18ـ صحيحة زرارة عن أبي جعفر (ع) قال: بني الإسلام على خمسة أشياء، على الصلاة والزكاة والحج والصوم ولولاية. قال زرارة فقلت: وأي شيء من ذلك أفضل? فقال الولاية أفضل لأنها مفتاحهن والوالي هو الدليل عليهن…)[59].
فإن هذه الروايات تشير إلى أن العلماء لهم هذا الدور خصوصاً الرواية الأخيرة.
حيث أن الظاهر من قوله (والوالي هو الدليل عليهن) أنه في مقام تشخيص الوالي وتعيينه(3) بعد بيان فضل الولاية وتعريفها بأنها مفتاحهن. وهذا العنوان ظاهر في (الفقيه) العالم الذي يهدي إلى هذه الأركان ويدل الناس عليها كما يفهم من مجمل الأحاديث الأخرى الواردة في دور العالم. ولعل هذه الرواية من أفضل الروايات دلالة على ولاية الفقيه كما أنها صحيحة السند.
النظرية من خلال الاستدلال بالنصوص
ويمكن تقريب الاستدلال بهذه الروايات بأساليب عديدة:
وليس الظاهر من هذا التعبير هو بيان مسؤولية الوالي وإلا لجاء التعبير بطريقة أخرى كما ورد في القرآن الكريم: 0الذين أن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتو الزكاة…) فيكون التعبير ـ مثلاً ـ والوالي المقيم لهن أو غير ذلك، فإن ظاهر الدلالة هي لبيان المعرفة بهن وكأنه قال والوالي هو العارف بهن أو العالم بهن أو الهادي لهن.
الأول: هو ملاحظة المفاد المشترك لهذه الروايات والمدلول العام لها الذي تكاد أن تجمع عليه وهو: أن الفقهاء لهم دور في الأمة يشبه إلى حد كبير دور الأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، ويتحملون نفس المسؤوليات التي يتحملها هؤلاء. يضاف إلى ذلك أن مهمة الحكم بين الناس وادارة شؤونهم وتوجيههم وحل الاختلافات بينهم هو من المهمات الأساسية لهؤلاء الأنبياء، التي ذكرها الشارع المقدس من خلال القرآن الكريم وغيره، بحيث يفهم عرفاً إيكال هذه المهمة لهؤلاء الفقهاء عندما يفترض أنهم يمثلون امتداداً لهؤلاء الأنبياء في الأمة.
ولعل هذا الأسلوب هو الذي يمكن أن يفهم من مجموع الاستعراض الذي ذكره الإمام الخميني في كتاب (الحكومة الإسلامية) لهذه الروايات[60]. ولعل مقصوده ذلك.
الثاني: فهم هذه الولاية من خلال بعض النصوص المذكورة والتي يمكن الاعتماد عليها سواء في سندها أو دلالتها، كما يدعى ذلك بشكل خاص بالنسبة إلى حديث رقم (2)، (3) و(4) و(5) و(6) و(7) و(10) و(11) و(17) و(18). وبالخصوص بالنسبة إلى التوقيع المعروف عن الإمام الحجة المهدي المنتظر (عجل الله فرجه) حيث استدل به مجموعة من الفقهاء بشكل خاص[61].
وكذلك بالنسبة إلى صحيحة زرارة كما ذكرنا. وقد أشرنا إلى بعض وجوه الاستدلال بهذه الروايات عند استعراضها.
الثالث: ان وجود الولاية والدولة أمر ضروري لا يمكن التنازل عنه، ولا يوجد لدينا ما يمكن أن يكون مؤشراً على منهج خاص للإسلام في الولاية غير هذه الروايات، الأمر الذي يعني أن الإسلام وضع الولاية للفقهاء، وبيَّن المعصومون ذلك، إلا أنه لم يصل إلينا بشكله الكامل بسبب الفاصل الزمني. ولا خيار آخر لعدم وجود ما يشير إلى المنهج الآخر[62]. كما أشرنا إلى ذلك في التعليق على الحديث (8) و(9).
الرابع: إن هذه الروايات تثبت مرتبة من الولاية للفقهاء والعلماء بالمقدار الذي يصحح إطلاق عنوان (أولي الأمر) عليهم، فيكونوا موضوعاً لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)[63] فتكون الولاية مطلقة وشاملة بموجب هذا الأمر الإلهي[64].
تقييم هذه الأساليب
وهذه النظرية صحيحة إذا لم يتم شيء من الأدلة التي يستند إليها مذهب الشورى[65]، وإلا فمن الممكن الجمع بين أدلة الشورى وهذا الدليل وتكون النتيجة أن الأمة تتعامل بالشورى في أمر الولاية، ولكن لا يجوز أن تسند الولاية لغير الفقيه العادل الكفوء الذي هو أيضاً جزء من الأمة.
وقد يقال: ان مقتضى الجمع بين المدلول الإجمالي لهذه الروايات ـ أي الروايات التي استعرضناها وما يفهم منها حسب الأسلوب الأول من الاستدلال والظاهر لم يتم شيء من أدلة الشورى لما ذكرناه من المناقشة فيها، إلا أن يتمسك بالأصل الأولي، وهو أن الأصل ولاية الإنسان على نفسه، وهذا ينتهي بنا إلى الشورى ما لم يقم دليل على خلاف ذلك.
ـ وبين مدلول آية الشورى وغيرها هو أن الولي هو الفقيه الجامع للشرائط بنصب وتعيين من الشارع المقدس ولكن عندما يتعدد الفقيه أو يشتبه الحال في الجامع لهذه الشروط، أو الواجد للأقوى منها فإن اختيار الأمة وآراءها يمكن أن يكون طريقاً للكشف عن الخصائص والمواصفات الموضوعية التي هي الأساس في تعيين الولي، فيكون الانتخاب طريقاً للكشف عن الحجة والولي لا طريقاً لتعيينه شأنه في ذلك شأن (البينة) الشرعية التي تكون بمثابة الكاشف عن الواقع وحجة على تشخيصه لا أنها هي المعينة للواقع.
وقد يلاحظ على الأسلوب الثالث من الاستدلال: بأن أدلة الشورى يمكن أن تكون أيضاً مؤشراً إلى منهج آخر، وهو منهج الشورى، فلا ينحصر هذا المؤشر بخصوص روايات الولاية حتى تكون هي النظرية الوحيدة.
ونلاحظ على الأسلوب الرابع: أن آية (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)[66]. لا يمكن أن يستند إليها في إثبات الإطلاق والشمول في الولاية، لان المقصود من أولي الأمر هنا ليس هو ولي الأمر العرفي، أو من تثبت ولايته في الجملة، وإنما المقصود به ولي الأمر الشرعي الذي تثبت ولايته بالدليل قبل وجوب الإطاعة[67]. ويكون وجوب الطاعة هنا إرشادياً إلى حكم العقل بوجوب الطاعة كما هو الحال في حكم العقل بوجوب طاعة الله تعالى[68].
السيد محمد باقر الحكيم
[1] يمكن أن يتبنى هذا الرأي علماء الجمهور والإمامية معاً، أما علماء الجمهور فباعتبار أن الاتجاه العقائدي لديهم يقوم على أساس هذه النظرية، وأما علماء الأمامية فهم أولئك الذين لم يثبت لديهم ما يدل على نصب الفقيه الجامع للشروط الخاصة للولاية بل تكون الفقاهة ـ مثلاً ـ شرطاً في الولي مثل الذكورة والعقل فيرجع إلى الأصول العامة في التشريع التي سوف نشير إليها.
[2] الشورى:38.
[3] تحف العقول/36
[4] شوری:38
[5] لقد كنت أول من نبه السيد الشهيد (رحمه الله) لهذه الملاحظة، وكان يرفضها ثم أخذ بها بعد ذلك.
[6] ويؤيد هذا الفهم بعض الروايات التي يذكرها المفسرون بصدد تفسير هذه الآية، راجع الدر المنثور للسيوطي، ونور الثقلين للحويزي.
[7] النساء: 59.
[8] لتوضيح هذه الإشكال راجع أساس الحكومة الإسلامية: 81 ـ 97.
[9] المائدة: 3.
[10] نهج البلاغة، قسم الرسائل، الكتاب السادس. ومن الطبيعي أننا لا ندعي أن الإمام علي (عليه السلام) كان يرى أن الخلافة بالشورى، وإنما يُفهم من هذا النص أن الشورى التي كانت أسلوباً للقرار إنما هي هذا النوع من الشورى، وهناك نصوص أخرى توضح هاتين الحقيقتين.
[11] لا يبعد أن استاذنا العظيم الشهيد الصدر يميل إلى هذا التفسير، كما قد يُفهم ذلك منه في كتاب (لمحة تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية) ص16.
[12] الإسلام يقود الحياة (فصل خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء) ص: 170.
[13] ص:26.
[14] الإسلام يقود الحياة ص:134. وهذه الولاية تمثل الأصل في الولاية ما لم يوجد دليل يدل على الولاية بشكل آخر، وهذا الأصل هو الذي أشرنا إليه في حديث الشهيد الصدر عند مناقشته لدلالة آية الشورى على الولاية.
[15] الأحزاب: 72.
[16] الإسلام يقود الحياة ص: 138.
[17] المائدة: 44.
[18] البقرة: 213.
[19] الإسلام يقود الحياة ص: 160 ـ 162.
[20] الشورى: 38.
[21] التوبة: 71.
[22] الإسلام يقود الحياة ص: 169 ـ 171.
[23] وسائل الشيعة 18/ 101 (باب 11 من أبواب صفات القاضي) حديث9.
[24] الإسلام يقود الحياة ص: 11 ـ 16
[25] الأنفال: 34.
[26] المائدة: 55.
[27] ذكر المفسرون أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب (عليه السلام) لأنه هو المؤمن الذي أعطى الزكاة وهو راكع، حيث تصدّق على فقير دخل المسجد وهو في حال الصلاة، فتصدق عليه بخاتمه. وعندما يكون الإنسان المؤمن هو محور النصرة والالتزام السياسي في الموقف العملي من جميع المؤمنين، فلابد أن يكون هذا الإنسان هو الولي لشؤونهم بطبيعة الحال، حيث يتابعونه في حركته وموافقه، وهو مفهوم يشبه مفهوم الإمامة
[28] آل عمران: 28.
[29] النساء: 89.
[30] النساء: 139
[31] المائدة: 51.
[32] الأنفال: 72 ـ 73
[33] الشورى: 46
[34] الأحزاب: 6.
[35] ولكن ذكرنا أن هذا الفهم على خلاف الظاهر من استعمال كلمة (الأولياء) في القرآن الكريم، بالإضافة إلى أن قرينة الحال ـ وهي عدم الانطباق في عصور متمادية ـ تنافي هذا الفهم.
[36] فضلنا استخدم كلمة (الولي) لنبتعد عن المصطلحات التي لها إيحاء مذهبي مثل (الخليفة) و(الإمام) ولأنه مصطلح إسلامي وقرآني أيضاً.
[37] راجع الملحق رقم (1) في آخر الكتاب.
[38] انظر المصادر التالية في النقاط التي ذكرناها: كتاب البيع للإمام الخميني2: 461 ـ 467. والإسلام يقود الحياة (قسم لمحة فقهية تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية) ص17. والحكومة الإسلامية للإمام الخميني 37 ـ 48.
[39] وسائل الشيعة 18/ 531.
[40] جامع الأصول 1/ 63.
[41] وسائل الشيعة 18/ 65 ـ 66
[42] أُصول الكافي 1/ 46
[43] أُصول الكافي 1/ 38
[44] مستدرك الوسائل (باب 11 من أبواب صفات القاضي)، وتحف العقول: 237.
[45] مستدرك الوسائل (باب 11 من أبواب صفات القاضي)، وتحف العقول: 732.
[46] أصول الكافي 1 / 67، ووسائل الشيعة 18/ 19 (باب 11 من أبواب صفات القاضي) حديث 4
[47] أصول الكافي 1/ 59 (باب الرد على الكتاب والسنة) حديث 4.
[48] أصول الكافي 2/ 74 (باب الطاعة والتقوى) حديث 2.
[49] وسائل الشيعة 18/ 101 (باب 11 من أبواب صفات القاضي) حديث 9.
[50] (الخَلف) مصطلح كان يستخدمه أتباع أهل البيت (عليهم السلام) في عصر الغيبة الصغرى للإشارة إلى الإمام (المهدي). واستمر استخدامه بعد ذلك أيضاً، وهذه الرواية صدرت في عصر الغيبة الصغرى. وعثمان بين سعيد هو أول النواب الأربعة في هذا العصر.
[51] هو الإمام العاشر: علي بن محمد الهادي، وابنه أبو محمد هو الإمام الحادي عشر والد الإمام الحجة (سلام الله عليهم)
[52] أُصول الكافي 1/ 330 (باب تسمية من رآه عليه السلام) حديث 1
[53] علل الشرائع 1/ 172 حديث 9.
[54] وسائل الشيعة 18/ (باب3) حديث 2.
[55] وسائل الشيعة 18/ (باب2) حديث3.
[56] وسائل الشيعة 18/ 100 حديث6
[57] الأحزاب: 6.
[58] عوائد النراقي نقلاً عن جامع الأخبار: 186 حديث 6
[59] الكافي 2 / 18 حديث 12.
[60] الحكومة الإسلامية: 56 ـ 76
[61] الحكومة الإسلامية: 76 ـ 80، وأساس الحكومة الإسلامية: 154 ـ 159، وقد سبق أن ذكرنا أن السيد الشهيد الصدر يستند إلى التوقيع في استفادة ولاية الفقيه لكن في حدود خاصة
[62] أساس الحكومة الإسلامية: 160 ـ 163
[63] النساء: 59.
[64] أساس الحكومة الإسلامية: 160 ـ 163
[66] النساء: 59
[67] ذكر هذه الملاحظة سيدنا الشهيد الصدر (رض) في بعض مكاتباته الخاصة بعد أن ذكرت له الاستدلال على الولاية بهذا الأسلوب، قبل نحو خمساً وعشرين عاماً.
[68] راجع الملحق رقم 2.