الأساس الثالث لمبدأ (ولاية الفقيه) هو التمسّك بالنص الدالّ على ولاية الفقيه مباشرة: وهنا نكتفي ببحث رواية واحدة، وهي التوقيع المروي عن إسحاق بن يعقوب قال: (سألت محمد بن عثمان العمريّ أن يوصل لي كتاباً قد سألتُ فيه عن مسائل أشكَلَتْ عليّ فورد التوقيع بخطِّ مولانا صاحب الزّمان ـ عليه السلام ـ: أما ما سألت عنه أرشدك الله وثبّتك… ـ إلى أن قال ـ: وأمّا الحوادث الواقعة فأرْجعوا فيها إلى رُواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة الله)[1].
سند الحديث:
وسند الحديث إلى الكليني يشبه أن يكون قطعياً ـ كما وضحناه في كتاب أساس الحكومة الإسلامية وفي بحثنا في الأصول في حجية خبر الواحد ـ لأنّ الشيخ (ره) يرويه عن جماعة فيهم المُفيد، عن جماعة فيهم جعفر بن محمد بن قولولية وأبو غالب الزراري، عن الكليني، ورواه أيضاً الصدوق عن محمد بن محمد بن عصام، عن الكليني.
وعيب السند عبارة عن الراوي المباشر، وهو إسحاق بن يعقوب الذي لم يترجم في كتب الرجال، ولكنه شخص حدّث الكليني بورود توقيع إليه من صاحب الزمان ـ عجّل الله فرجه ـ، وافتراء توقيع على الإِمام ـ في ظرف غيبة الإمام وفي ظرف تكون للتوقيع قيمتُه الخاصّة؛ بحيث لا يرد إلا للثقات الخواصّ، وقُدسيّتُه في النفوس ـ لا يكون إلا من قِبَلِ خبيث رذيل، فهذا الشخص أمره دائر بين أن يكون في منتهى درجات الوثاقة أو يكون من الخبثاء والسفلة، ولا يُحتمل عادةً كونُه متوسّطاً بين الأمرين، ولو كان الثاني هو الواقع لما أمكن عادة خفاء ذلك على الكليني مع ما هو عليه من ضبط ودقة بحيث يحتمل صدقه في نقل ورود التوقيع خاصّة، وهو معاصر للغيبة الصغرى ولعصر التوقيعات.
ولك أن تبرز أُسلوباً آخر لتصحيح الحديث: وهو أنّ كذب إسحاق بن يعقوب لو فرض فإمّا أن يفرض في أصل التوقيع، أو في بعض خصوصياته: فإن فرض في أصل التوقيع فهو مما لا يخفى على مثل الكليني الدقيق في ضبط الأحاديث المعاصر للتوقيعات، ولا اقل من أنه كان يرتاب في صحّة هذا النقل إلى حدّ يردعه عن أن يرويه، وإن فُرض في بعض خصوصياته، فالتحريف في بعض خصوصيات التوقيع بعد ثبوت صدق أصل التوقيع لو احتمل بشأن الخواصّ الذين لم يكن تصدر التواقيع إلا إليهم إنما يكون لأحد سببين: إما لمصلحة شخصية كبيرة في هذا التحريف دعت الراوي إلى تحريفه، وإما لتساهل في النقل بعد عدم الضبط الدقيق، والأوّل لا يتصوّر في المقام لعدم تصوّر أيّ مصلحة شخصية في التحريف في ما نحن فيه لهذا الراوي، والثاني إن كان يحتمل في النقول الشفهية لا يحتمل عادة في التوقيعات المرويّة عن الإمام صاحب الزمان في عصر يعتزّ بالتوقيع فيه ويحتفظ به.
ولك أن تقول ـ بغضّ النظر عن وثاقة إسحاق بن يعقوب وعدم وثاقته- : رجوع هذا التوقيع إلى عصر الكليني مقطوع به؛ لما عرفت من أنّ راويه هو الطوسي، عن جماعة منهم المفيد، عن جماعة منهم جعفر بن محمد ابن قولويه وأبو غالب الزراري، عن الكليني، واحتمال تسرُّب توقيع كذب إلى مثل الكليني في عصر الغيبة الصغرى وفي عصر التوقيعات، ونقل الكليني إياه بعيد جداً، فليس حديث كاذب منقول عن إمام حاضر في الحالات الاعتيادية وانطلاؤه على بعض الشيعة بعيداً، لكن انطلاء توقيع كاذب عن الإِمام الغائب في ظرف تتلهّف الشيعة لرؤية توقيع إمامهم، وتهتمّ بطبيعة الحال بفهم صدق التوقيع وكذبه، وعدم انكشاف أمره على مثل الكليني بعيد، وافتراض أن النّاقل يدّعي أنّ التوقيع ورد عليه بخط الإمام صاحب الزمان ومع ذلك لا يطالبه الكليني بإراءته للخطّ مع افتراض عدم وضوح صدق الراوي لدى الكليني بعيد جداً.
أمّا عدم نقل الكليني في الكافي لهذا التوقيع المهمّ فليس موهناً له؛ لأن الكافي كُتب لعامّة الناس، فوجود مثل هذا التوقيع فيه الذي يشخّص بالاسم إنساناً ورد له التوقيع وهو اسحاق بن يعقوب غير صحيح؛ لأنّه قد يصبح ولو تحت تعذيب الأعداء سبباً لمعرفة نائب الإمام الذي ورد عن طريقه التوقيع، ومن المعلوم أنّ النيابة وقتئذ كانت سريّة عن الأعداء، على أنّ من المحتمل وصول هذا التوقيع إليه بعد تأليف الكافي. هذا حال سند الحديث.
دلالة الحديث:
وأما دلالة الحديث: فعمدة ما يمكن أن يذكر كمناقشة في دلالته أمران:
الأوّل ـ أن اللام في قوله: (أمّا الحوادث الواقعة) لم يثبت أن يكون لام جنس، فمن المحتمل أن يكون لام عهد إشارة إلى حوادث ذكرها إسحاق بن يعقوب للإمام في كتابه الذي أرسله إليه، وعلى هذا التقدير فقوله: (أرجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنّهُم حجّتي عليكم) يكون إرجاعاً إليهم في تلك الحوادث المعهودة بين السائل وبين الإمام ـ عليه السلام ـ، ونحن لا نعلمها، ولا نستطيع أن نتمسك بإطلاقها لإثبات الولاية المطلقة للفقيه في جميع الحوادث.
والجواب: أنه حتى لو فرض اللام للعهد فهذا إنما يضرّ بالتمسّك بإطلاق كلمة (الحوادث)، ولا يضر بالتمسك بإطلاق كلمة (فإنّهم حجّتي عليكم)، فمقتضى إطلاق ذلك هي الوكالة المطلقة في كل ما للإِمام ولو بقرينة ظرف صدور الحديث، وهو ظرف غيبة الموكّل التي قد تطول مئات السنين، فلولا هذا الظرف لكان هنا مجال لأن يدّعي أحد أنّ عهدية اللام في الحوادث تصلح للقرينية لصرف إطلاق الحجّية أو الوكالة إلى تلك الحوادث، ولكن هذا الظرف المخصوص يمنع عن هذا الصرف، فهذا مثاله مثال من أوشك على سفرٍ طويل الأمد ـ قد يطول عشرات السنين ـ وفي هذهِ الفترة سيكون بعيداً عن أملاكه الكثيرة، فسأله أحد عمّن يرجع إليه بشأن بيته الفلاني الذي هو تحت يد السائل بالأُجرة أو العارية مثلاً، فقال له: ارجع إلى فلان، فإنه وكيلي. فالمفهوم من هذا الكلام ليست هي الوكالة بشأن ذاك البيت فحسب، وإنّما هي الوكالة بشأن جميع أملاكه. هذا مضافاً إلى أنه لا ينبغي الإِشكال في ظهور قوله: (فإنّهم حجتي عليكم) في القضية الحقيقية؛ إذ لو كانت ناظرة إلى بعض حوادث معينة كقضية خارجية فحسب فعادة كان يُعيَّن لها وكيل خاص ولا يُعطى الأمر بيد كلّي الرّواة، وإذا كانت القضية حقيقية قلنا عند ذلك: إنه إن كان المذكور في رسالة إسحاق بن يعقوب حوادث معينة شخصية فحتى لو كان اللام للعهد بقي قوله: فإنّهم حجّتي عليكم على اطلاقه ولا يحمل على معنى فإنهم حجتي عليكم في تلك الحوادث لمنافاة ذلك للظهور في القضية الحقيقية وإن كان المذكور في رسالة إسحاق بن يعقوب فئة خاصة من الحوادث ولكن بنحو القضية الحقيقية، فكون اللام لام عهد بعيد لأنه لو كان لام عهد كان المناسب إدخاله على عنوان تلك الفئة من الحوادث، لا على عنوان الحوادث.
والثاني ـ أنّ كلمة (رواة حديثنا) تصرف الكلام إلى أنّ الرجوع إنما هو إلى الرواة بما هم رواة، وذلك من قبيل الأمر بالرجوع إلى الأطباء مثلاً، فإنه يفهم من ذلك الرجوع إليهم بما هم أطباء، ولا يفهم منه ولاية الأطبّاء في كل شيء.
وهذا الإِشكال يمكن تقريبه بأحد وجهين:
الوجه الأول ـ أن يُقصد به إنكار دلالة الحديث على ولاية الفقيه نهائياً، وذلك بأن يقال: إن الرجوع إلى الرواة بما هم رواة إنما يعني أخذ الروايات عنهم، أو اخذ الفتاوى مستنتجة من الروايات، فهي تؤخذ عن الرواة بما هم رواة. أما الأحكام الولائية فهي مخلوقة لنفس الحاكم، وليست مستنبطة من الروايات حتى يفهم من هذا التعبير الرجوعُ فيها إلى الرواة ويكون الرجوع إليهم فيها رجوعَاً إلى الرواة بما هم رواة، فالحديث أجنبي عن الأحكام الولائية نهائياً.
وهذا التقريب يَرِدُ عليه: أنّه لا ينسجم مع تعبير (فإنّه حجّتي عليكم) فمن يكون مرجعاً لأخذ الأحكام عن طريق الروايات أو الفتاوى فقد يصدق عليه أنّه حجّة الله لأنه طريق بين العبد وبين أحكام الله الفقهية ولكنّ المنصرف من قول الإِمام ـ عليهم السلام ـ : (فإنّهم حجّتي عليكم) المقابل بقوله: (وأنا حجّة الله) هو الوكالة عنه ـ عليه السلام ـ أي أنّهم وسائط بين الناس وبين الإِمام ـ عليه السلام ـ لا بينهم وبين الأحكام الفقهية فحسب التي لم يكن الإِمام ـ عليهم السلام ـ إلا مبلّغاً لها، فكلّما جعل الله تعالى الإِمام حجّة فيها على العباد جعل الإِمام الرواة الفقهاء حججاً له ووكلاء عنه عليهم، وهذا يعطي معنى الولاية.
وبكلمة أُخرى: إنّ قوله: (حجّتي عليكم) يعني جعل الحجّيّة من قبل الإِمام فيما كان للإِمام من اختيارات، أمّا حجّيّة نقل الرواية أو الفتوى فهي حجّية من قبل الله في فهم أحكام الله في عرض حجّيّة البيّنة في الموضوعات مثلاً، وليست حجّيّة مجعولة من قبل الإِمام.
مع الأستاذ الشهيد (رحمه الله):
الوجه الثاني ـ أن يقصد به تحديد منطقة ولاية الفقيه وتضييق دائرة الأحكام الولائية التي تنفذ من قبل الفقيه لا إنكارها على الإِطلاق، وهذا ما قد يظهر من كلمات أُستاذنا الشهيد (رض) في حلقات (الإِسلام يقود الحياة) التي كتبها في أواخر أيام حياته الشريفة[2].
وتوضيح الفكرة أنّ المواضيع التي يمارس وليّ الأمر فيها صلاحيّته تنقسم إلى قسمين:
القسم الأوّل ـ موارد تعيين الموضع الخارجي البحت، ثمّ تحديد الموقف يتبع ما تمّ من تشخيص الموضوع من قبيل معرفة أنّ مصلحة المجتمع الإِسلامي اليوم هل تقتضي الجهاد بالسلاح أو التقيّة أو السكوت، أو معرفة أنّ هلال ذي الحجّة أو العيد أو الصيام ثابت، أوْلا، أو معرفة موضوع الحدّ الشرعي الذي يجب إجراؤه من قبيل ثبوت الزنا أو شرب الخمر أو غير ذلك، وما إلى ذلك مما يرجع إلى تشخيص المواضيع البحتة، وأما الحكم على كلّ تقدير من تلك التقادير فهو محدّد ضمن الأحكام الثابتة في الفقه فيَدُ الوليّ لا تمتدّ إلى جوانب الأحكام مباشرة لتغيّرها وإنما يحدّدها الوليّ ويشخّصها بتشخيص موضوعاتها.
والقسم الثاني ـ موارد ملء منطقة الفراغ التي تركت من ِقبَل الشريعة لوليّ الأمر؛ لاختلاف الموقف منها باختلاف الزمان والمكان والظروف: كفرض الزكاة على غير الأعيان الزكوية التسع كما صدر من أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ بالنسبة للخيل، وكالمنع عن الاحتكار الوارد في عهد الإِمام عليّ ـ عليه السلام ـ إلى مالك الأشتر، وما إلى ذلك.
وملء منطقة الفارغ ليس أمراً تكون يد الولي طليقة فيه كي يملأها بالشكل الذي يترجّح لديه على الإِطلاق، بل يجب أن يكون هذا الملء لمنطقة الفراغ بوضع عناصر متحرّكة في إطار العناصر الثابتة التي تستنبط من الكتاب والسنة.
هذا، وتوجد في تلك العناصر الثابتة مؤشرات إلى اتجاه العناصر المتحركة: من قبيل الهدف المنصوص لحكم ثابت كقوله تعالى ـ تعليلاً لجعل الفيء لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ـ: (كَيْ لا يَكونَ دُولَةً بينَ الأغنياءِ منكُمْ)[3]. فهذا يدلّ على أنّ التوازن وانتشار المال بصورة تشبع كلّ الحاجات المشروعة وعدم تركّزه في عددٍ محدود من أفراده هدف من أهداف التشريع الإِسلامي فعلى أساسه يضع وليّ الأمر كلّ الصيغ التشريعية الممكنة التي تحافظ على التوازن الاجتماعي في توزيع المال، وتحول دون تركّزه في أيدي أفراد محدودين، وكما ورد في نصوص الزكاة من التصريح بأنّ الزكاة ليست لسد حاجة الفقير الضرورية فحسب، بل لإعطائه المال بالقدر الذي يلحقه بالناس في مستواه المعيشي [4]، وهذا يعني أن توفير مستوىً معيشي موحّد أو متقارب لكلّ أفراد المجتمع هدف إسلامي لابدّ لوليّ الأمر من السعي في سبيل تحقيقه.
ومن قبيل القيم الاجتماعية التي أكّد الإِسلام على الاهتمام بها كالمساواة والأخوّة والعدالة والقسط ونحو ذلك، فهذه القيم تشكّل أساساً لاستيحاء صيغة تشريعيّة متطوّرة ومتحركة وفقاً للمستجدّات والمتغيّرات تكفل تحقيق تلك القيم.
وكذلك مفاهيم وتفاسير محدّدة أُعطيت في النصوص الإِسلامية لظواهر اجتماعية أو اقتصادية معيّنة، فهذه المفاهيم بدورها تلقي ضوءاً على العناصر المتحركة كمفهوم الإِمام أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ عن الفقر فيما روي عنه: (ما جاع فقير إلا بما متّع به غنيّ)[5] ، وكذكره للتاجر في سياق ذوي الصناعات، وبيان أنه لا قوام للحياة الاقتصادية إلا بهما[6] مما يعني أنه ـ عليه السلام ـ كان يجد في التاجر منتجاً كالصانع، وهو مفهوم يختلف تماماً عن المفهوم الرأسمالي للتجارة.
ومن قبيل الأهداف التي حدّدت في الشريعة لوليّ الأمر كما ورد عن الإِمام موسى بن جعفر ـ عليه السلام ـ : (إنّ على الوالي في حالة عدم كفاية الزكاة أن يموّن الفقراء من عنده بقدر سعتهم حتى يستغنوا)[7].
ومن قبيل اتجاه التشريع المستكشف من مجموعة من الأحكام، ومثّل لذلك في الحلقة الثانية من حلقات (الإِسلام يقود الحياة) بمجموعة من الأحكام استظهر منها اتجاه الشريعة الإِسلامية إلى استئصال الكسب الذي لا يقوم على أساس العمل.
ومن قبيل اتجاه العناصر المتحركة على يد النبيّ أو الوصيّ حينما مارسوا بما هم حكّام وقادة وضع العناصر المتحركة وذكر أُستاذنا الشهيد لذلك عدة أمثلة في الحلقة الثانية: من قبيل ما أشرنا إليه من المنع عن الاحتكار في عهد الإِمام علي ـ عليه السلام ـ إلى مالك الأشتر ووضعه ـ عليه السلام ـ للزكاة على الخيل، وأضاف (ره) إلى ذلك التمثيل بمنع النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ في فترة معيّنة من إجارة الأرض ونهيه ـ صلّى الله عليه وآله ـ عن منع فضل الماء والكلاء، وقال (ره): (إنّ ممارستهم ـ عليهم السلام ـ لوضع العناصر المتحرّكة في شؤون الحياة الاقتصادية تحمل بدون شكّ الروح العامّة للاقتصاد الإِسلامي، وتعبّر عن تطلّعاته في واقع الحياة)[8].
وعلى أيّة حال فملء منطقة الفراغ من قبل ولي الأمر ليس على أساس تشخيصه لمصلحة الأُمّة فحسب، بل يكون أيضاً مشروطاً بالتقيّد بإطار العناصر الثابتة بما فيها من مؤشّرات منتشرة ضمن الكتاب والسنّة توضّح اتّجاه العناصر المتحرّكة واستنباط تلك العناصر المتحرّكة كاستنباط العناصر الثابتة إنّما هو شأن الفقيه، وليس شأن كلّ أحد.
وقولُ الإِمام صاحب الزمان ـ عجّل الله فرجه ـ: (أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا) ظاهر في الإِرجاع إلى الرواة بما هم رواة[9]، وذلك من قبيل الإِرجاع إلى الطبيب الظاهر في الإِرجاع إليه بما هو طبيب، وهذا يعني الإِرجاع إلى الفقهاء في القسم الثاني فحسب ـ دون القسم الأوّل ـ لأنّ القسم الثاني هو الذي يكون فهم الحكم فيه بحاجة إلى الاستنباط من الروايات؛ لأن الهدف فيه هو ملء منطقة الفراغ بالعناصر المتحركة، وهي كالعناصر الثابتة يتوقّف فهمها على مراجعة المصادر التشريعية من الكتاب والسنة؛ كي لا نتورط في مخالفة العناصر الثابتة، وأما القسم الأوّل فليس عدا تشخيص الموضوع الخارجي بحتاً، ولا علاقة له بالروايات، فلا يفهم من إرجاع الحوادث الواقعة إلى الرواة الإِرجاع إليهم في هذا القسم.
وهذا الوجه لا يرد عليه ما أوردناه على الوجه الأوّل من مخالفته لما هو المفهوم من قوله: (فإنّهم حجّتي عليكم)؛ إذ لم يكن الهدف من هذا الوجه نفي الولاية تماماً عن الرواة وحصر مسؤولياتهم في نقل الروايات وإصدار الفتاوى حتى يقال: إنّ هذا لا يصدق عليه أنّه حجّة الإِمام، ولابد لصدق هذا العنوان من نيابتهم عنه فيما بيده من الولاية، بل قد أُقِرّت في هذا الوجه نيابة الرواة عن الإِمام فيما بيده من الولاية، ولكن في دائرة محدودة، وهي الدائرة التي يكون للروايات دخل فيها، وهي دائرة ملء منطقة الفراغ، وهذا كافٍ في صدق عنوان حجّة الإِمام.
ثم القسم الأول ـ وهو تعيين الموضوع الخارجي البحث الذي ذكر أُستاذنا الشهيد (ره): أنّه ليس من الضروري الرجوع فيه إلى الفقيه؛ لأنّ الحديث أرجع الأُمة في الحوادث الواقعة إلى الرواة بما هم رواة؛ أي أرجع الأُمة إليهم فيما يكون لتخصّصهم الروائي دخل فيه، ولا دخل للتخصّص الروائي في القسم الأوّل ـ قد اعترف أُستاذنا الشهيد (ره) بأنّ الولاية فيه قبل قيام الحكم الإِسلامي للفقيه فهو ـ رحمه الله ـ يفصّل في الحقيقة بين ما قبل بلوغ الأمّة مستوى القدرة على إدارة أُمورها عن طريق وليّ منتخب وما بعد بلوغها هذا المستوى، فبعد بلوغها هذا المستوى تلي أمرها بنفسها عن طريق وليّها المنتخب، وقبل بلوغها هذا المستوى تكون الولاية في تشخيص تلك الموضوعات بيد الفقيه.
والتخريج الفقهي لهذا التفصيل هو أنّ أمر الموضوعات الخارجية التي لابدّ من مراعاتها، ونقطع بعدم رضا الشارع بتفويت المصالح المرتبطة بها يعود إلى الفقيه على أساس مبدأ الأمور الحسبية، والتي لابدّ من الاقتصار في ولاية أمرها على القدر المتيقّن، والقدر المتيقن هو الفقيه؛ إذ لا يحتمل اشتراط عدم الفقاهة في من يلي تلك الأمور في حين أنّه يحتمل اشتراط الفقاهة فيه هذا فيما قبل تشكيل الحكم الإِسلامي بانتخاب الوليّ، أما إذا وصلت الأمة إلى مستوى الحكم، وانتخبت وليّها، فعندئذٍ لا تصل النوبة إلى ضرورة الرجوع إلى الفقيه بعنوان القدر المتيقّن ممن يلي الأمور الحسبية، وذلك لأن الولي قد تعيّن بالدليل الدالّ على نفوذ انتخاب الأمة، والدليل مطلق؛ أي لم يقيّد بكون المنتخب فقيهاً، فلا حاجة إلى الاقتصار على القدر المتيقّن بانتخاب الفقيه.
أمّا ما هو دليله (ره) على نفوذ هذا الانتخاب؟ فهذا ما سنذكره ـ إن شاء الله ـ فيما سيأتي من بحث المسألة الثانية. هذا كلّه في القسم الأوّل، وهو القسم الذي لا دخْلَ للتخصّص الروائي في دركه، وهي الموضوعات البحتة.
وأما القسم الثاني: وهو ملء منطقة الفراغ، والذي يكون للتخصّص الروائي دخل فيه بالبيان الذي مضى، فهذا هو القسم الذي أرجع التوقيعُ الشريف الأمّةَ فيه إلى الرواة بما هم رواة، وفي هذا القسم هل هناك تفصيل أيضاً بين ما قبل بلوغ الأمّة مستوى الحكم وانتخابها لولي أمرها، وما بعد بلوغها لهذه المرحلة، أولاً؟ عبائر أُستاذنا الشهيد (ره) في حلقات (الإِسلام يقود الحياة) غير واضحة في هذهِ النقطة، ولا ندري هل أن الغموض في ذلك غموض في التعبير أو غموض ثبوتي في أصل تصوّر المطلب في ذهنه الشريف؟ وعلى أية حال فيمكن أن يطرح في المقام احتمالان:
الاحتمال الأوّل ـ أن يكون المقصود أنّ المرجع في هذا القسم هو الفقيه من دون فرق بين ما قبل استلام الأمّة للحكم وما بعد استلامها له، والتخريج الفقهي لذلك هو التمسّك بالإِطلاق لحديث الإِرجاع إلى الرواة بما هم رواة، فما دام التخصّص الروائي دخيلاً في تحديد الحكم في هذا القسم فقد دلّ الحديث على ضرورة الرجوع فيه إلى الرواة بما هم رواة، والمقصود بذلك الفقهاء. نعم لابدّ للفقهاء من الاستشارة في القضايا الاقتصادية ـ مثلاً ـ مع المتخصّصين في الاقتصاد؛ كي يحصل التوصّل إلى رأي يضمن المصلحة الاقتصادية والمطابقة للعناصر الفقهية في وقت واحد كما أشار أُستاذنا الشهيد (ره) إلى هذهِ النكتة في الحلقة الثانية من تلك الحلقات[10]. وعلى أية حال فحديث الإِرجاع إلى الرواة لم يفصِّل بين ما قبل استلام الأُمّة للحكم وما بعد استلامها فالنتيجة هي أنّ الولاية في هذا القسم بيد الفقيه على كلّ حال.
وهذا الاحتمال هو الظاهر من عبائر أُستاذنا الشهيد (ره) في الحلقة الثانية من تلك الحلقات[11]، وكذلك في الحلقة الرابعة منها[12] بغض النظر عن تعبير ركّز عليه في الحلقة الرابعة ستأتي الإِشارة إِليه.
وعلى الأُمّة أن تشخّص من هو أهل للمرجعية في العناصر المتحرّكة والثابتة بإحراز العدالة وأيّ شرط آخر يفترض فقهياً، وذلك بأساليب الإِحراز المبحوث عنها في محلّها، ولعلّ هذا هو مقصود أُستاذنا الشهيد (ره) بقوله: (والمرجع الشهيد معين من قبل الله تعالى بالصفات والخصائص أي بالشروط العامّة… ومعيّن من قبل الأُمّة بالشخص؛ إذ تقع على الأُمّة مسؤولية الاختيار الواعي له)[13].
الاحتمال الثاني ـ ما هو المستوحى من تعبير أُستاذنا الشهيد (ره) في الحلقة الرابعة بخطّ الخلافة وخطّ الشهادة، وأنهما يفترقان بعد إقامة الأُمة للحكم، ويجتمعان قبل ذلك فإنّ المناسب لإِطلاق هاتين الكلمتين هو افتراض أنّه حتى في القسم الثاني، وهو ملء منطقة الفراغ تكون الولاية للأمّة لدى بلوغها مستوى استلام زمام الحكم لا للفقيه، وتسند إلى من انتخبته الأُمّة ولو لم يكن فقيهاً، وإنما شأن الفقيه هو الشهادة بموافقة ما مُلئ به الفراغ لاتجاه العناصر المتحركة في الفقه وعدم خروجها عن دائرة العناصر الثابتة.
وهذا الاحتمال بالإِمكان أن يُخرّج فنّيّياً بتخريجين:
التخريج الأوّل ـ أن يقال ـ بعد أن فرضنا تسليم وجود دليل على أنّ الأمّة تنتخب وليّ أمرها بنفسها، وأن ذاك الدليل مطلق يعطيها حق انتخاب من أرادته ولو لم يكن فقيهاًـ: إنّ ملء منطقة الفراغ قبل بلوغ الأُمّة مستوى استلام زمام الحكم إنّما كان من شأن الفقيه لدليلين:
أحدهما ـ قاعدة إسناد ولاية الأمور الحسبية إلى القدر والثاني ـ رواية (أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا) فإنّ هذه الرواية أرجعت الولاية في الأمور التي يؤثّر في فهمها التخصّص الروائي إلى الرواة ـ بما هم رواة ـ، والمفروض أنّ القسم الثاني من هذا القبيل، فهو راجع إلى الرواة ـ أي الفقهاء ـ وأمّا بعد بلوغ الأمّة مستوى استلام زمام الحكم فكلا هذين الدليلين يسقطان في المقام:
أما دليل الأمور الحسبية: فواضح لأنّ ضرورة الإِسناد إلى القدر المتيقن فرع عدم الإِطلاق في حين أن إطلاق دليل الانتخاب يعطي حق الولاية حسب الفرض لمن انتخبته الأمّة ولو كان غير فقيه، فلا تصل النوبة إلى التمسّك بكون الفقيه هو القدر المتيقن ممّن يلي الأمور.
وأما الدليل الثاني: وهو حديث إرجاع الأُمور إلى الرواة ـ بما هم رواة ـ فهو مقيّد بالارتكاز العقلائي والمناسبات بمقدار قصور المُوَلّى عليه، ولذا لا نفهم من أيّ دليل تفترض دلالته على ولاية الفقيه ولايته في القضايا الفردية على إنسان بالغ عاقل غير غائب ولا قاصر في أُمور لا تمسّ الآخرين بسوء، فإنّ هذا الإِنسان هو وليّ أمر نفسه في هذه الأُمور، وليس بحاجة إلى من يرجع إليه: كي يشملها إطلاق دليل ولاية الفقيه. هذا حال ولاية الفقيه بالنسبة للفرد في القضايا الفردية، وكذلك الحال في ولايته بالنسبة للمجتمع في القضايا الاجتماعية، فهي منصرفة إلى فرض قصور المجتمع وعدم قدرته على أن يلي الأمور الاجتماعية بنفسه أما إذا بلغ إلى مستوى استلام زمام الحكم بانتخاب وليّ يلي الأُمور ـ بعد فرض ثبوت دليل مطلق على الانتخاب ـ فهو غير قاصر في أُموره إلا بقدر تشخيص أنّ الحكم الفلاني هل هو مطابق للعناصر الفقهية وليس فيه خروج عن دائرة أحكام الفقه، أولا? إذن فهذا الحديث لا يثبت تدخّل الفقيه إلا بهذا المقدار في حين أنه قبل بلوغه هذا المستوى كان قاصراً عن ملء منطقة الفراغ حتى بإشراف فقيه على عدم مخالفة ما يملأ به الفراغ الموازين الفقه. فالنتيجة هي أنه قبل بلوغ الأُمّة مستوى القدرة على تعيين الوليّ يكون ملء منطقة الفراغ بيد الفقيه مباشرة بحكم هذا الحديث وبحكم قاعدة رجوع ولاية الأُمور الحسبية إلى القدر المتيقَّن ـ وهو الفقيه ـ فالفقيه هو يضع مباشرة الحكم الذي يملأ به الفراغ بقدر حاجة الأُمّة ويعمل في سبيل رفع الأُمّة بالتدريج إلى مستوى استلام زمام الحكم، أما بعد بلوغ الأُمّة هذا المستوى فليس الفقيه هو الذي يضع مباشرة الحكم الذي يملأ به الفراغ، بل الأُمّة هي التي تضع ـ عن طريق ممثّلها المنتخب أو ممثّليها المنتخبين ـ الحكم الذي تملأ به الفراغ بشرط إشراف الفقيه على هذا الملء؛ كي لا يخرج عن دائرة العناصر الثابتة في الفقه.
وهناك فرق كبير بين الأُسلوبين كما هو واضح، فمثلاً لو كانت هناك صيغتان لملء منطقة الفراغ في قضية ما ـ كلتاهما مطابقتان حسب رأي الفقيه للعناصر الفقهية وغير خارجتين عن دائرة العناصر الثابتة وعمّا تدلّ عليها من اتجاهات العناصر المتحرّكةـ لم يجز للفقيه فرض إحدى الصيغتين بالخصوص على الأُمّة، بل الأُمّة هي التي تختار إحدى الصيغتين عن طريق منتَخَبها أو منتَخَبيها ما دام الفقيه معترفاً بعدم منافاة تلك الصيغة للمقاييس الفقهية؛ في حين أنه لو لم تكن الأُمّة بالغة هذا المستوى، ولم يكن لها وليّ منتخب فالفقيه هو الذي يفرض عليها مباشرة إحدى الصيغتين.
ويرد على هذا التخريج: أنّ قياسَ المجتمع البالغ إلى مستوى استلام زمام الحكم بالفرد البالغ العاقل ـ الذي لا يشمل دليلُ ولاية الفقيه أو أيّ ولاية عامّة غير ولاية المعصوم تصرفاته الشخصية التي لا تمسّ مصالح الآخرين ـ قياسٌ مع الفارق، فإنّ السبب في انصراف إطلاق دليل الولاية عن الثاني هو أن الثاني ليس بحاجة إلى إعمال ولاية عليه؛ لأنه بنفسه كامل، والمرتكز عقلائياً: أنّ الولايات ـ غير ولاية المعصوم ـ إنّما تجعل لتدارك نقص المولّى عليه، وأمّا الأوّل ـ وهو المجتمع ـ فهو بحاجة إلى إعمال ولاية عليه، ولذا يفترض أنه ينتخب من يعمل الولاية عليه، فلو تمّ دليل على نفوذ الانتخاب ـ وثبوت الولاية لمن انتخبه المجتمع ولياً عليه ـ فهذا الدليل في عرض دليل ولاية الفقيه، ولا مبرّر لافتراض كون الأول نافياً لموضوع الثاني. نعم لو كانت ولاية الشخص المنتخب ارتكازية واضحة في ذهن كلّ إنسان ـ سنخ ارتكازية ولاية الأب على الطفل الواضحة لدى جميع الناس ـ كان هذا قرينة كالمتصل لنفي إطلاق دليل ولاية الفقيه؛ لأن وضوح عدم الحاجة عندئذٍ إلى ولاية الفقيه في الارتكاز العقلائي يبطل إطلاقه، ولذا لا نفهم من دليل ولاية الفقيه ثبوت الولاية له على الطفل في عرض ولاية أبيه الكفوء المتصدّي بالفعل لإِدارة أُموره بأحسن وجه، ولكن لا ارتكازية واضحة وشاملة في الأذهان لولاية المنتخب.
التخريج الثاني:ـ أن يقال: إن الإِرجاع إلى الرواة ـ بما هم رواة ـ لا يعطي أكثر من الإِرجاع إليهم في معرفة الأحكام الأوليّة، وكذلك معرفة مطابقة الأحكام التي تملأ بها منطقة الفراغ للشريعة وعدم مخالفتها للثوابت وللمؤشّرات العامّة، فإن هذا هو مقدار دخل تخصّصهم الروائي في الأمر أمّا نفس الملء فلا يثبت بهذا الحديث كونه للفقيه، فهو يبقى للأُمّة لدى بلوغها مستوى استلام زمام الحكم فهي تملأ منطقة الفراغ عن طريق ممثّلها المنتَخَب أو ممثليها المنتَخَبين على شرط شهادة الفقيه بعدم تعارض ما ملئ به الفراغ مع الشريعة نعم قبل بلوغها هذا المستوى يتصدّى الفقيه لذلك وفق قواعد الأمور الحسبية وكونِهِ هو القدر المتيقّن ممّن له التصدّي لهذهِ الأُمور.
إلا أن هذا التخريج لو كان مقصوداً فهو في واقعه رجوع إلى الوجه السابق، وهو إنكار ولاية الفقيه رأساً وحصر الرجوع إليه في أخذ الفتوى غاية ما هناك أنّ دائرة الفتوى واسعة تشمل كل العناصر الثابتة بما فيها من مؤشّرات اتجاه العناصر المتحركة.
وقد مضى الإِيراد على ذاك الوجه بأنّ حصر عمل الفقيه في استكشاف أحكام الشريعة ـ دون ولايةِ وضعِ الأحكام ولو بقدر ملء منطقة الفراغ ـ إن كفى في صدق عنوان حجّة الله عليه؛ لأنّه أصبح وسيطاً بين الناس وبين الله في إبلاغ الأحكام، فهو لا يكفي في صدق عنوان (حجّتي عليكم) لأنه لم يصبح نائباً عن الإمام ولو في بعض ماله من الولاية.
وقد اتّضح بهذا العرض أنّ الاحتمال الثاني لو كان مقصوداً فهو بكلا تخريجيه لا يخلو من نقاش.
ولنعد الآن إلى الاحتمال الأوّل، وهو التفصيل بين موارد تشخيص الموضوع واتّخاذ الموقف وفق ذاك التشخيص وموارد ملء منطقة الفراغ: بأنّ الأوّل يكون للأُمّة بعد بلوغها مستوى استلام الحكم، وذلك لافتراض دلالة الدليل على نفوذ الانتخاب، والثاني يكون للفقيه حتى بعد بلوغ الأُمّة مستوى الانتخاب بدليل قوله: (فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا) الدالّ على الرجوع إلى الرواة ـ بما هم رواة ـ، والرجوع إلى الرواة ـ بما هم رواة ـ لا يكون إلا في القسم الثاني لعدم تأثير التخصّص الروائي في القسم الأول وكذلك قوله: (فإنّهم حجّتي عليكم) يكون ضمير الغيبة فيه راجعاً إلى الرواة، فهو يدلّ على كون الرواة ـ بما هم رواة ـ حجّة للإِمام ـ عليه السلام ـ على الناس، وهذا لا يكون إلا في القسم الثاني.
وقد تقول: إنّ هذا الدليل الدالّ على ولاية الفقيه في ملء منطقة الفراغ يعارض عند بلوغ الأُمّة مستوى الانتخاب دليل الانتخاب كما مضى فلماذا يقدّم على دليل الانتخاب؟!
ويمكن الجواب على ذلك بوجهين:
الأوّل ـ أن يقال: إنّ دليل ولاية الفقيه يقدّم في هذه الحالة على دليل الانتخاب؛ للآية التي تقيِّد خيرة المؤمنين في شيءٍ بما إذا لم يقض الله ورسوله فيه. قال الله تعالى: (وَمَا كان لمؤمنٍ وَلا مُؤمِنة إذا قَضى الله وَرسولُه أمراً أن يكون لُهُم الخيرة من أمرهم)[14].
إلا أنه يرد على هذا الوجه أن تقيّد انتخاب الناس وخيرتهم بعدم قضاء الله ورسوله وإن كان واضحاً حتى مع الإِغماض عن هذه الآية المباركة، لكن دليل انتخاب القائد لو تمّ إطلاقه يدلّ على عدم قضاء الله ورسوله بولاية الفقيه؛ لأنّ التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية للمخصّص ـ الذي يكون أمر تشخيصه بيد المولى ـ جائز.
والثاني ـ أن يقال: إن مقتضى الجمع العرفي بين دليل الانتخاب لو تمّ ودليل ولاية الفقيه هو ضرورة إيقاع الانتخاب على أحد الفقهاء.
وعلى أية حال فإن كان هذا الاحتمال هو مقصود أُستاذنا الشهيد (ره) ورد عليه: أنّ كون تخصّص الرواة مؤثراً في القسم الثاني فحسب ـ دون القسم الأوّل ـ غير صحيح، وذلك لأنّ شأن وليّ الأمر في القسم الأول ليس تشخيص الموضوع الخارجي فحسب، بل تشخيصه ثم تحديد الموقف باتجاهه ـ كما أشرنا إليه ـ ففي موضوع إجراء الحدود ـ مثلاً ـ يشخّص الموضوع أوّلاً من صدور الزنا أو الشرب أو غير ذلك، ثم يجري الحدّ، وفي موضوع الهلال يشخّص وجود الهلال أو عدمه، ثم يفرض على الأُمّة الحكم وفق ما شخصه، وفي باب الجهاد يشخص مصلحة الأُمّة ومصلحة الإِسلام، ثم يأمر بالجهاد، أو ينهى عنه، وفي باب أخذ الحقوق الشرعية وصرفها يشخّص موضوع الأخذ وموضوع الصرف، ثم يأخذ، ويصرف في محلّها الشرعي، وما إلى ذلك من موارد القسم الأوّل ـ ولا نمثّل لذلك بالقضاء لأنه على أيّ حال للفقيه بنصّ خاصّ كمقبولة عمر بن حنظلة[15]، فلا حاجة للبحث فيه ـ وإذا كان شأن وليّ الأمر في هذا القسم هو اتخاذ الموقف العملي لا تشخيص الموضوع فحسب، فمن الواضح أن اتخاذ الموقف العملي ليس مرتبطاً بتشخيص الموضوع الخارجي فقط، بل هو مرتبط به وبتشخيص الأحكام الثابتة في الشريعة التي يختلف الفقهاء فيها أو لا تكون ضرورية عادة، ويندر باب لا يوجد في أحكامه خلاف وتكون أحكامه على تقدير ثبوت الموضوع بديهيّة كما في مسألة الهلال، فالخلاف في باب الحدود وفي مصارف الحقوق الشرعية وفي أحكام الجهاد وجواز الجهاد الابتدائي ـ مثلاً ـ وعدمه وغير ذلك كثير، وعدم بداهة كثير من جزئيات هذه الأحكام واضح. إذن فاتّخاذ الموقف العملي في هذا القسم حاله حال القسم الثاني ـ وهو ملء منطقة الفراغ ـ في الحاجة إلى التخصّص الروائي غالباً فلو قيل: إن فهم الجانب المرتبط بالروايات يمكن تأمينه عن طريق التقليد فنفس الكلام يأتي في القسم الثاني، ولو قيل: إنّه لابدّ أن يكون نفس الحاكم متخصّصاً في الروايات لقوله: (فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا) لوجب القول بذلك ـ أيضاً ـ في كلا القسمين.
بل قد يتفق أنّ أصل إثبات الموضوع الخارجي أيضاً بحاجة إلى تخصّص روائي؛ لأن الإِثبات ليس دائماً وجدانياً، بل قد يكون شرعياً يقع الخلاف فيه كالخلاف في شرائط البينة التي تثبت الموضوع، أو الخلاف في معنى العدالة التي هي شرط في البينة، وما إلى ذلك.
إذن فلا فرق بين القسمين في كون الرجوع في ذلك إلى الرواة رجوعاً فيه إلى الرواة بما هم رواة.
نعم قد يتّفق في بعض الموارد من القسم الأوّل أن لا يكون الرجوع فيه إليهم رجوعاً إلى الرواة بما هم رواة، وذلك فيما إذا لم يكن تشخيص الموقف مبتنياً إلا على أساس تشخيص الموضوع بمشخّص ضروري في الفقه وتطبيق حكم ضروري في الفقه على ذاك الموضوع، كما لو ثبت الهلال ببيّنة، وكانت حجّيّتها بشأن الهلال ضرورية في الفقه، وحكم الهلال من الإِفطار أو الصوم أو الحجّ أيضاً ضروري في الفقه، فلا يكون الرجوع في مثل ذلك إلى الرواة رجوعاً فيه إليهم بما هم رواة، فلو افترضنا أننا احتملنا فقهياً التفصيل بين موارد القسم الأوّل ـ بثبوت الولاية للفقيه في غير مثل هذا المورد، وعدم ثبوتها في مثل هذا المورد ـ لم يكن للتوقيع الشريف إطلاق لمثل هذا المورد وينحصر الأمر عندئذٍ في مثل ذلك بالرجوع إلى قانون الأمور الحسبية، وفي خصوص الهلال يمكن الرجوع إلى النصّ الدالّ على أن ذاك إلى الإمام[16] بعد فرض شمول كلمة الإِمام لمطلق الوليّ الذي ثبتت ولايته في باقي الموارد.
هذا كله هو شرح محتملات من كلمات أُستاذنا الشهيد (ره) في حلقات (الإِسلام يقود الحياة) حول الموضوع بعد إرجاعها إلى جذورها الفقهية مع مناقشتها.
ولكن بما أنّ أُستاذنا الشهيد (ره) لم يكن في تلك الحلقات بصدد البحث الفقهي الاستدلالي، وكان بصدد إعطاء المفاهيم بمستوى عامّة الناس، فهو لم يبحث الجذور الفقهية للتفصيل بين ما قبل استلام الأُمّة لزمام الحكم وما بعد استلامها، واكتفى بذكر تقريب تثقيفي يناسب الفهم العام وهو أنّ خطّ الخلافة وخطّ الشهادة يندمجان لدى وجود المعصوم في شخص المعصوم؛ لأنه مأمون عن الخطأ والزلل، فهو القادر على تولّي كلا الخطين في وقت واحد، أما لدى فقدان المعصوم فيفترق أحد الخطّين عن الآخر لدى بلوغ الأُمّة مستوى استلام زمام الحكم، فيُسنَد خطّ الخلافة إلى الأُمّة وخطّ الشهادة إلى المرجع أي أنّ الأُمّة هي التي تمارس الولاية، والمرجع هو الذي يشهد بعدم خروج هذهِ الممارسة من دائرة المقاييس الفقهية، والسبب في هذا الافتراق هو أن المرجع ليس معصوماً عن الخطأ فلا يصح حصر الخطّين فيه أما قبل بلوغ الأُمّة مستوى استلام زمام الحكم فبما أنّ الأُمّة لا زالت محكومة للطاغوت ومقصيّة عن حقّها في الخلافة العامّة فخطّ الخلافة أيضاً يمارسه المرجع إلى جانب خطّ الشهادة، ويندمج الخطّان عندئذٍ في شخص المرجع، وليس هذا الاندماج متوقّفاً على العصمة؛ لأن خطّ الخلافة في هذهِ الحالة لا يتمثّل عملياً إلا في نطاق ضيّق، وضمن حدود تصرّفات الأشخاص، وما دام صاحب الحقّ في الخلافة العامّة قاصراً عن ممارسة حقّه نتيجة لنظام جبّار، فيتولّى المرجع رعاية هذا الحقّ في الحدود الممكنة، ويكون مسؤولاً عن تربية هذا القاصر وقيادة الأُمّة لاجتياز هذا القصور وتسلم حقّها في الخلافة العامّة[17].
أقول: إنّ مناقشة هذا البحث فقهياً إنّما يمكن بعد إرجاعها إلى جذورها الفقهية، وهو ما صنعناه آنفاً.
يبقى في المقام بحثان آخران حول كلام أُستاذنا الشهيد (ره): الأوّل ـ البحث عن ثبوت دليل مطلق على انتخاب الوليّ يشمل حتى انتخاب غير الفقيه وعدمه، وهذا ما نؤجّله إلى ما سيأتي ـ إن شاء الله ـ من بحث المسألة الثانية، وسيتّضح ـ إن شاء الله ـ عدم وجود دليل من هذا القبيل.
والثاني ـ البحث عمّا أفاده (ره) في المقام من المؤشّرات في الفقه إلى اتّجاه العناصر المتحركة الاقتصادية في الإِسلام. وأكثر جوانب هذا البحث أجنبيّ عن المقام إلا أننا نشير إلى بعض نكات مختصرة:
الأولى ـ في خصوص إحدى المؤشّرات التي ذكرها أُستاذنا الشهيد (ره): وهي استكشاف اتجاه التشريع من تجميع عدّة أحكام منصوصة في الكتاب والسنة متّجهة نحو هدف مشترك نقول: لو كان مقصوده (قده) استظهار التأشير إلى العنصر المتحرك لا القطع بذلك ورد عليه ما نقّحناه في بعض أبحاثنا من عدم حجّية الاستظهار الناتج من تجميع عدد من الأحكام. نعم لو وصل الأمر إلى مستوى القطع بالنتيجة فلا كلام لنا في ذلك.
الثانية ـ بخصوص إحدى المؤشّرات التي ذكرها أُستاذنا الشهيد (ره): وهي الهدف المنصوص لحكم ثابت كقوله تعالى: (كَيْ لا يَكونَ دُولَةً بَيْنَ الأغنياءِ مِنْكُم): نقول: إنّ الاستفادة من ذلك في المقام تتوقّف على أمرين:
الأوّل ـ استظاهر العلّيّة من ذكر ذاك الهدف، لا مجرّد الحكمة التي لا يمكن القياس عليها لعدم الاطّراد والانعكاس.
والثاني ـ أن لا تستظهر من الدليل العليّة لما حكم به بحيث يكون من حقّ المستنبط أن يتعدّى من مورده إلى سائر الموارد ابتداءً، ومن دون حاجة إلى المرور بقناة إعمال وليّ الأمر ولايته، وإلا لخرج عن مورد بحثنا.
فإن تمّ الأمر الأوّل أمكن إثبات الأمر الثاني بأن يقال: إنّ تلك العلّة ـ وهي (أن لا يكونَ دُولَةً بَين الأغنياءِ) مثلاً ـ بما أنّها لم تكن تنضبط من دون إعمال الوليّ ولايته؛ لأنّ اختلاف الزمان والمكان يؤثّر في كفاية الحكم المنصوص لتحقيق تلك الغاية وعدم كفايته، وهي غاية عدم كون المال دُولَةً بين الأغنياء مثلاً، والتوسّع إنما يكون في فرض عدم الكفاية، وليس من المعقول جعل تشخيص الكفاية وعدمها ـ وكذلك تشخيص مقدار الحاجة إلى التوسّع الذي قد يختلف من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان ـ بيد كلّ أحد بل المفروض أن كون بيد وليّ الأمر، وبما أن التوسّع قد يمكن بعدة وجوه يكفي بعضها لحصول الغاية المنشودة ولا مبرّر للجمع بين جميع تلك الوجوه لأنّه يؤدّي إلى أزيد من المقدار المطلوب، فكلّ هذا يصلح نكتة في أن لا نفهم من هذا التعليل أو من هذا الملاك للحكم حكماً ثابتاً أوسع مما نصّ عليه بحيث يتعدّى بسببه كل مستنبط إلى غير مورد النص فنحمله على التعليل لاتّجاه العناصر المتحرّكة التي يكون أمر تحريكها بيد الوليّ.
إلا أنّ الشأن بعد كلّ هذا في استظاهر الأمر الأوّل، وهو العلّيّة وعدم الحمل على مجرّد الحكمة التي ليس أمر تأثيرها طرداً وعكساً بيدنا، وذلك لأنّ نفس النكات التي شرحناها الآن ـ لعدم ـ فهم العلّية للحكم بالشكل الذي يتعدّى منه المستنبِط إلى غير مورده ـ توجب احتمال الحمل على الحكمة التي لا اطّراد لها ولا انعكاس، ولا تعيُّن للحمل على التأشير إلى اتجاه العناصر المتحرّكة.
على أنه بغضّ النظر عن تلك النكات نقول: إنّ مجرّد تحدّد هدف التشريع بدليل لفظي لا يعني ظهوره في العلّية المؤشّرة إلى عنصر متحرّك يكون أمر تطبيقه بيد الولي، وذلك لانسجامه أيضاً مع الحكمة التي يكون أمر تطبيقها في الاستنتاج بيد الشارع العالم بموانعها ومزاحماتها.
نعم نستظهر العلّية للحكم الثابت بالمعنى الموجب لتعدّي المستنبِط، لا بمعنى الاتّجاه إلى العناصر المتحرّكة التي يكون أمرها بيد الوليّ من التعليل اللفظي بمثل (لا تشرب الخمر لأنه مسكر)، لا بمثل (كيْ لا يكون دُولَةً بينَ الأغنياء منكُمْ) والمقياس في ذلك الذي شرحناه في بعض أبحاثنا هو: أن التعليل الموجب للتعدّي هو التعليل بمثل صفة مشتركة بين موضوع الحكم والمتعدّى إليه لاستظهار العرف أن تلك الصفة هي الموضوع، وليس المتعدى منه، وذلك كما في مثل: لا تأكل الرّمان لأنه حامض؛ حيث نتعدى إلى كل حامض، لا التعليل بنتيجة من نتائج العمل بالحكم؛ كأن يقول: صوموا لكي تصحّوا، فلا يثبت بذلك وجوب كلّ ما يؤثّر في صحة البدن، فإنّ التعدّي لم يكن بمجرّد نكتة معرفة ملاك الحكم وببرهان عقلي مثلاً، وهو البرهان القائل بأن الحكم لا ينفكّ عن ملاكه بعد أن كانت الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد، فإن هذا البرهان مردود باحتمال أنّ المَولى لم يهتّم بذاك الملاك إلا بمقدار الحكم المعلّل ولو لمانع في غير مورد الحكم، أو لأن المقدار الذي يستحصل من الملاك بامتثال الحكم المعلّل كان هو المقدار المطلوب، وإنما نتعدّى في مورد التعليل بمثل الصفة المشتركة بين الموضوع وشيءٍ آخر لاستظهار العرف أنّ ذكر ذاك التعليل في الحقيقة صَرْفٌ لموضوعية الموضوع إلى تلك الصفة المشتركة.
وعلى أية حال فلو وصلنا في مورد ما من ذكر هدف الحكم في النصّ التشريعي إلى القطع بأنّ هذا هدف يكون على الوليّ أو للوليّ متابعته في أحكامه الولائية فلا بحث لنا عندئذٍ في ذلك.
ولعلّ مقصوده (ره) من ذكر هذا المؤشّر وأغلب المؤشّرات الأخرى أن تكون بمجموعها مورثة للقطع بالروح العامّة للاقتصاد الإِسلامي وتطلّعاته في واقع الحياة، لا الاستفادة من كلّ مؤشِّر من تلك المؤشّرات على حدة، وإلا فأغلبها قابلة للنقاش، ولا تخرج الاستفادة العملية منها عن الاعتماد على الظنّ والاستحسان.
الثالثة ـ نحن حملنا كلام أُستاذنا الشهيد (ره) حتى الآن على إرادة أنه متى ما اكتشفنا مؤشّراً في العناصر الثابتة في الشريعة إلى العنصر المتحرّك فلا بدّ من تقيّد الولي في حكمه بالخطّ الذي يؤشِّر إليه ذاك المؤشِّر ويتحرّك في حكمه نحو ذاك الهدف الذي اكتشفناه، أمّا إذا لم نكتشف في مورد مّا شيئاً من هذا القبيل فوليّ الأمر هو الذي يضع اتجاه العناصر المتحرّكة وفق ما يراه من المصلحة مقيَّداً بعدم الخروج عن إطار العناصر الثابتة.
أما لو كان مقصوده (ره) أنّ وليّ الأمر يجب أن يلتزم في كلّ مورد يريد ملء منطقة الفراغ بمؤشّرات ثابتة تحدد له اتجاه عناصر متحرّكة، وتكشف له عن هدف أرادت الشريعة تحقيقه، ففي كلّ مورد لم يكتشف مؤشِراً من هذا القبيل يعجز عن ملء منطقة الفراغ بالولاية، فيرد عليه: أنّه لا دليل على هذا التقييد، وإنما الوليّ يجب عليه أن يتقيّد في ملء منطقة الفراغ بعدم الخروج عن إطار الالزامات الأوّلية؛ بمعنى أنّ تغيير الحكم الأوّلي بالحكم الولائي إنما يجوز فيما إذا لم يكن الحكم الأوّلي إلزامياً، وإلا لم يجز تبديله من غير أن يتبدّل موضعه ولو على اساس التزاحم، فإنّ تبديله من دون ذلك معناه الخروج عن النظام الإِلزامي الذي وضعه الإسلام، في حين أن دليل الولاية الموضوعة في شريعةٍ سوف لن يشمل إطلاقه الخروج عن نظام تلك الشريعة الإِلزامي، وكذلك لو فرض الحكم الأولي ترخيصياً، لكن ثبت بدليل خاصّ أنّ الشريعة لا ترضى بتبدّل ذاك الترخيص إلى الإِلزام لمجرّد مصلحة ثانوية ما لم تصل إلى مستوى وجوب مزاحم راجح على مصلحة الترخيص، فذلك يخرج بالتخصيص عن إطلاق دليل الولاية. وهذا القيد لا يعني أكثر من عدم جواز الخروج عن دائرة العناصر الثابتة في الفقه وهذا لا يختصّ بالقسم الثاني، وهو ملء منطقة الفراغ، بل يشمل حتى القسم الأوّل، وهو تحديد الموقف وفق ما يشخّصه من موضوع خارجي، أمّا التقيّد بأكثر من ذلك وهو افتراض عناصر متحركة أُشير إليها بمؤشّرات في الفقه لابد من التقيد بها، فهذا بحاجة إلى دليل مقيّد لأنّ دليل الولاية مطلق من هذه الناحية فمقتضى إطلاق قوله تعالى: (النَّبيُّ أولى بالمؤمنين من أنفُسِهِم)[18]. هو الولاية المطلقة للنبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ في دائرة المباحات، ثم مقتضى إطلاق قول النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ: (من كنتُ مولاهُ فهذا عليٌّ مولاه)[19] أن يكون ما للنّبيّ من الولاية للإِمام، ثم مقتضى إطلاق قول الإمام ـ عليه السلام ـ: (فإنّهم حجّتي عليكم) أن يكون ما للإِمام من الولاية للفقيه ولنفترض أنّ هذا الإِطلاق مقيّد بقيدين:
أحدهما: أن يلتزم الوليّ بما يرى فيه مصلحة المولّى عليه، وهذا هو مفهوم من جميع أدلّة الولاية غير ولاية المعصوم وغير المالكية بالنسبة للمماليك، فإنّ المنصرف منها بمناسبات الحكم والموضوع لحاظ مصالح المولّى عليه.
وثانيهما: التقييد بالقسم الأوّل ـ وهو ملء منطقة الفراغ ـ بقرينة الاستظهار من كلمة الرواة حيث فرض ظهورها في إرادة الرواة بما هم رواة.
أمّا تقييد الولاية بقيد آخر، وهو انتظار كشف مؤشّرات في الشريعة تؤشّر إلى عناصر متحركة لولاها لما أمكن إعمال الولاية بملء منطقة الفراغ بمجرّد ملاحظة عدم الخروج من دائرة الإِلزاميات فهذا بحاجة إلى دليل مفقود، وما أفاده أُستاذنا الشهيد (ره) من المؤشّرات لو تمّت لا تصلح دليلاً على ذلك؛ بل لابدّ من أن تثبت في المرتبة السابقة ضرورة التقيّد بمؤشّرات من هذا القبيل كي يكون هذا تقييداً لإطلاق دليل الولاية، أو أن يدّعى عدم تمامية الإطلاق في ذاته فعندئذٍ نضطرّ إلى كشف تلك المؤشّرات لكي نتقيّد بها، وقد أشرنا إلى تمامية الإطلاق، ولم نعثر على مقيّد له.
هذا تمام الكلام في المسألة الاُولى وهي أصل مسألة ولاية الفقيه.
من نتائج البحث:
ومن النتائج التي توصّلنا إليها في هذا البحث ما يلي:
1ـ أن مسألة دخول السلطة في الحكم في حاقّ الشريعة الإِسلامية وتشابكها مع أحكام الفقه الإِسلامي أو ضرورة إقامة الدولة لا تنتهي إلى نتيجة ولاية الفقيه إلا بضمّ ذلك إلى دعوى القدر المتيقّن ممّن له حقّ التولّي في الأُمور الحسبيّة، أمّا الدليل اللفظي على شرط الفقاهة فغير موجود عدا ما تفترض دلالته بنفسه على مبدأ ولاية الفقيه.
2ـ إنّ حديث (أمّا لحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنّهم حجّتي عليكم) دلالته على ولاية الفقيه تامّة في كلا القسمين، أعني ملء منطقة الفراغ، واتخاذ الموقف على أساس تشخيص الموضوع، إلا في موارد نادرة. ولو لم نحتمل الفرق فقهيّاً بلحاظ تلك الموارد النادرة تمت الدلالة ولو بالإلتزام في تلك الموارد أيضاً.
3ـ سيتّضح في المسألة الثانية أنّه لا يوجد دليل مطلق على الانتخاب يشمل انتخاب غير الفقيه كي يعارض به التوقيع الشريف الدال على ولاية الفقيه. أمّا لو فرض وجود دليل من هذا القبيل فمقتضى الجمع بينه وبين التوقيع وجوب كون المنتخب الولي منحصراً في دائرة الفقهاء.
السيد كاظم الحائري
[1] الوسائل ج18، باب 11 من صفات القاضي، حديث9. وكمال الدين باب 45 التوقيعات ـ التوقيع الرابع ـ صفحة 484، ط دار الكتب الإسلامية بطهران. وكتاب الغيبة للطوسي ـ رحمه الله ـ صفحة 177، ط مطبعة النعمان في النجف الأشرف.
[2] راجع الحلقة الأولى من تلك الحلقات صفحة 32 ـ 33 والحلقة الثانية منها صفحة 27 ـ 44 والحلقة الرابعة منها صفحة 28 إلى آخر الحلقة.
[3] سورة 59 الحشر الآية 7.
[4] راجع الوسائل جزء 6 باب 8 من المستحقين للزكاة حديث 4.
[5] راجع النهج، الحكمة رقم 320، صفحة 1232 ـ بحسب طبعة الفيض ـ والوارد في هذه الطبعة: (ما جاع فقير إلا بما متع غنيّ).
[6] النهج، عهد الإِمام ـ عليه السلام ـ إلى مالك الأشتر صفحة 1008 ـ بحسب طبعة الفيض ـ والنصّ ما يلي: (ثمّ استوصِ بالتجّار وذوي الصناعات، وأوص بهم خيراً: المقيم منهم والمضطرب بماله والمترفّق ببدنه فإنّهم موادّ المنافع وأسباب المرافق وجلاّبها من المباعد والمطارح في برّك وبحرك وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها، ولا يجترئون عليها…).
[7] راجع الوسائل جزء 6، باب 28 من المستحقين للزكاة، حديث 3.
[8] راجع الحلقة الثانية من (الإِسلام يقود الحياة) صفحة 38 ـ 43.
[9] الإِشارة إلى هذا الاستظهار وردت في الحلقة الأولى من حلقات (الإِسلام يقود الحياة) صفحة 33.
[10] صفحة 29.
[11] صفحة 27 ـ 44.
[12] الحلقة الرابعة من (الإِسلام يقود الحياة) صفحة 52.
[13] المتيقّن ـ وهو الفقيه ـ لما مضى من احتمال اشتراط عدم الفقاهة غير موجود، ولكن احتمال اشتراط الفقاهة موجود.
[14] سورة 33 الأحزاب الآية 36.
[15] الوسائل جزء 18، باب 11 من صفات القاضي، حديث1.
[16] راجع الوسائل جزء 7، باب 6 من أحكام شهر رمضان، حديث1. وجزء 5، باب 9 من أبواب صلاة العيد، حديث 1، صفحة 104.
[17] راجع الحلقة الرابعة من حلقات (الإِسلام يقود الحياة) صفحة 51 ـ 53.
[18] سورة 33 الأحزاب الآية 6.
[19] راجع البحار جزء 21، صفحة 387، وجزء 37، صفحة 111 و112 و115 و132 و138 و139 و141 و142. وغيرها.