حقيقة التواتر بين مبنى المشهور ونظرية الشهيد السيّد محمد باقر الصدر

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

ذكر الاُصوليّون الخبر المتواتر في كتبهم بشكل موجز اعتقاداً منهم بأنّه أوضح مصاديق الخبر القطعيّ المفيد للعلم بالصدور، فلا يبقى معه معنىً للبحث في حجّيته بعد أن كان قطعيّاً، والقطع حجّة بذاته، وإنّما تركّز البحث وتوسع في إثبات حجّية الخبر الظنّيّ الصدور (خبر الواحد) لأمرين:
الأوّل: قلّة الخبر القطعيّ الصدور.
الثاني: كون حجّية الخبر الظنّيّ من أهمّ المسائل الاُصوليّة لما يترتّب عليها من أثر وما تشغله من مجال واسع في دائرة الاستنباط الفقهي؛ إذ بإثباتها ينفتح باب العلميّ في الأحكام الشرعيّة وينسدّ باب الانسداد، قال السيّد الخوئيّ (رحمه‏ الله) في بحث حجّيّة خبر الواحد: «وليعلم أنّ هذا البحث من أهم المسائل الاُصوليّة؛ إذ العلم الضروريّ بالأحكام الشرعيّة غير حاصل إلا في الأحكام الكلّية الإجماليّة، كوجوب الصلاة والصوم وأمثالهما، والعلم غير الضروريّ بالأحكام ـ كالعلم الحاصل من الخبر المقطوع صدوره للتواتر أو للقرينة القطعيّة ـ قليل جدّاً، فغالب الأحكام وأجزاء العبادات وشرائطها إنّما يثبت بأخبار الآحاد، فالبحث عن حجّيتها من أهمّ المسائل الاُصوليّة، وبإثباتها ينفتح باب العلميّ في الأحكام الشرعيّة، وينسدّ باب الانسداد، وبعدمها ينسدّ باب العلميّ وينفتح باب الانسداد».
لذا بدلاً عن أن يستقلّ البحث عند الاُصولييّن في الخبر المتواتر تركّز البحث عندهم في إثبات حجّيّة خبر الواحد بالخصوص.
إلا أنّ الشهيد السيّد محمد باقر الصدر (قدس‏ سره) أفرد للتواتر بحثاً مستقلاً سواء في كتاب دروس في علم الاُصول، أو في ما كُتب بعنوان تقرير درسه؛ لما أسّسه في هذا البحث من تجديد في مجال الكشف عن حقيقة التواتر وكيفيّة إفادته العلم، وبيان العوامل المؤثّرة في تسريع أو إبطاء عمليّة إفادة ذلك، وعلى ضوء ذلك ذكر التقسيمات التي يمكن أن يكون عليها التواتر.
وفي هذه الدراسة نبيّن أوّلاً التعاريف التي ذكرت للتواتر وتحليلها، ثمّ بيان أقسام التواتر عند المشهور، بعد ذلك عرضنا حقيقة التواتر في نظرية السيد الشهيد الصدر (قدس‏ سره)، وفي نهاية البحث تعرّضنا إلى أقسام التواتر التي بينها الشهيد الصدر.
أوّلاً تعريف التواتر:
لغة ً: عُرّف التواتر بالتتابع. وقيل: هو تواتر الأشياء وبينها فجوات وفترات. وقال اللحيانيّ: تواترت الإبل والقطا: جاء بعضه في إثر بعض، ولم تجىء مصطفّةً. وأوتر بين أخباره وكتبه وواترها مواترةً ووتاراً: تابع، وبين كلّ كتابين فترة قليلة. والخبر المتواتر: أن يحدّثه واحد عن واحد، وكذا خبر الواحد مثل المتواتر .
فالمستفاد ممّا ذكر في تعريف التواتر: أنّه التتابع والتعاقب بين الأشياء وتراً وتراً بفاصل يسير. والخبر المتواتر: ما تتابعت نقوله وتعاقبت.
اصطلاحاً:
حُدّد التواتر في كتب الاُصول والدراية بتحديدات متقاربة معنىً وإن اختلفت لفظاً:
فهو في معالم الاُصول: «خبر جماعة يفيد بنفسه العلم بصدقه» .
وفي قوانين الاصول: «خبر جماعة يؤمن تواطؤهم على الكذب عادةً» .
وفي الوافية: «خبر جماعة بلغوا من الكثرة مبلغاً أحالت العادة تواطؤهم على الكذب» .
وفي إفاضة العوائد: «إخبار جماعة لا يجوز عند العقل تواطؤهم على الكذب عادةً» .
وفي أجود التقريرات: «أن يكون الخبر منقولاً بكثرة يمتنع معها تواطؤ الناقلين على الكذب» .
الملاحظة على هذه التعاريف:
والجدير بالملاحظة في هذه التعاريف أمران:
الأمر الأوّل: أخذهم العلم جزءاً في تعريف التواتر، كما ورد في تعريف صاحب المعالم (رحمه‏ الله)، وكذا استُظهِر من كلام صاحب الكفاية (رحمه‏ الله) في التنبيه الثالث من تنبيهات حجّية الإجماع المنقول، وهو نقل التواتر بخبر الواحد: «أنّه ينقدح ممّا ذكرنا في نقل الإجماع حال نقل التواتر، وأنّه من حيث المسبَّب وآثاره لابدّ في اعتباره من كون الإخبار به إخباراً على الإجمال بمقدار يوجب قطع المنقول اليه بما أخبر به لو علم به».
هذا، في حين أنّ العلم بمعنى القطع نتيجة للتواتر وليس جزءاً من حقيقته وفق التصوّر الأرسطيّ لفهم حقيقة التواتر والذي عليه المشهور، فقد أرجع المناطقة التواتر إلى قياس خفيّ وقول مؤلّف من قضايا متى سلّمت لزم عنها لذاتها قول آخر، وهو: أنّه خبر قوم يستحيل تواطؤهم على الكذب، وكلّ خبر كذلك فمدلوله واقع، فإذا تألّفت الحجّة من مقدّمتين يقينيّتين فلابدّ أن ينتجا قضية يقينية لذات القياس المؤلّف منهما، فيستحيل تخلّف النتيجة لاستحالة تخلّف المعلول عن علّته، فيعلم بها اضطراراً لذات المقدّمتين، وبيان هذا ما سيمرّ عليك قريباً، فانتظر.
فالعلم إذن نتيجة للتواتر وليس جزءاً من حقيقته، لذا يكون أخذه في التعريف موجباً لكون ثبوث العلم للتواتر ضرورياً، ويصبح قضية ضرورية بشرط المحمول؛ لصيرورته جزءاً في التعريف، شبه قولنا: (زيد القائم قائم)، والصحيح: أن ينصبّ التعريف ويتركّز التحديد المنطقيّ على ذات التواتر ببيان ماهيته دون قيد إيجابه العلم، ومن ثَمّ ينظر في أنّه هل يوجب العلم أو لا؟
إلا أن يعتذر لهم بدعوى: أنّ تقييد التواتر بكونه مفيداً للعلم في تعريفه لا يكون باعتبار أنّ هذه الصفة مأخوذة في مفهوم التواتر، بل من باب تعريف الشيء بخاصّته ولازمه.
الأمر الثاني: أخذهم قيد (عادةً) في التعريف؛ إذ قالوا: «يؤمن تواطؤهم على الكذب عادةً» كما في القوانين، وقريب منه ما في إفاضة العوائد، أو «أحالت العادة تواطؤهم على الكذب» كما في الوافية، وهو مخالف لما ذكره المناطقة في تعريف التواتر؛ إذ قالوا في تعريف المتواترات كما عن قطب الدين الرازيّ: «هي قضايا يحكم العقل بها بواسطة سماع من جمع كثير أحال العقل تواطؤهم على الكذب، كالحكم بوجود مكّة وبغداد. ومبلغ الشهادات غير منحصر في عدد، بل الحاكم بكمال العدد حصول اليقين».
وعلق العلامّة الدسوقيّ على قول الرازيّ: « هي قضايا يحكم العقل بها» بقوله: «مثل قولك مكّة موجودة أو بغداد موجودة، فهذه قضيّة يحكم العقل بمضمونها بواسطة سماع، فالحاكم هنا هو العقل والحسّ، وحينئذٍ فلابدّ من الاستناد إلى قياس خفيّ، بأن تقول: هذا خبر قوم يستحيل تواطؤهم على الكذب، وكلّ خبر قوم كذلك فمدلوله واقع، ينتج: هذا الخبر واقع» .
وعلّق الشريف الجرجانيّ على قول الرازيّ: «بواسطة سماع» بقوله: «ولابدّ مع ذلك من انضمام قياس خفيّ وهو: أنّه خبر قوم يستحيل تواطؤهم على الكذب، وكلّ خبر كذلك فمدلوله واقع، إلا أنّ العلم بهذا القياس حاصل بالضرورة، ولذا يفيد المتواتر العلم للبُله والصبيان».
وعلى ذلك لا ينسجم قيد (عادةً) مع ما ذكره المناطقة من تعريفهم للتواتر، سواء فُسّرت العادة بمعنى: أنّ التلازم بين التواتر وحصول اليقين بالقضية المتواترة من نوع التلازم العاديّ الذي يقصد به عدم استحالة الانفكاك عقلاً، وبتعبير آخر: أن الانفاك بين التواتر وحصول اليقين بالقضية المتواترة لا يستبطن وقوع المحال الذاتيّ.
أو فُسّرت بمعنى: أنّ التواتر يوجب اليقين بالقضيّة المتواترة في الظروف العاديّة للذهن، أي: حالات الاستقامة في التفكير، لا فيما إذا كان ذهن الفرد مبتلىً بشبهات أو نحوٍ من الشذوذ والوسوسة في التصديق والحكم.
أو فُسّرت بمعنى: الملازمة بين مثل المرؤوسين ورئيسهم؛ والتي يستدلّ بها عادةً في كتب الاُصول على حجّية الإجماع، والتي تجعل في مقابل الملازمة العقليّة والاتفاقيّة.
وإليك بسطاً لهذه التفاسير المحتملة لقيد (عادةً) مع مناقشتها:
التفاسير المحتملة لقيد (عادة) المأخوذ في التعريف:
التفسير الأول:
إنّهم أشاروا بقيد (عادةً) الى التفرقة بين أن تكون الملازمة بين (التواتر كصغرى البرهان) و(صدق القضيّة المتواترة كنتيجة) ملازمةً عقليّة توجب استحالة انفكاك أحد المتلازمين عن الآخر كما هو الحال في القياس حيث توجد ملازمة عقلية بين المقدّمات والنتيجة ولا يمكن التفكيك بين صدق كلّ منهما. وبين أن تكون الملازمةُ ملازمةً عاديّةً لا توجب استحالة انفكاك أحد المتلازمين عن الآخر، غاية الأمر: أنّ الانفاك لم يقع خارجاً وفعلاً.
وببيان آخر: أنّهم أشاروا بقيد (عادةً) الى أنّ إنكار التلازم بين (التواتر كصغرى البرهان) وبين (صدق القضيّة المتواترة كنتيجة) لا يستبطن استحالة ذاتيّة، وإنّما يستبطن استحالة عاديّة ووقوعيّة.
والمقصود بالاستحالة الذاتية هي استحالة وجود الممتنع الذي لو وقع ووجد لاستلزم وجوده اجتماع النقيضين، شبه استحالة وجود مثلث ذي أربعة أضلاع، أو وجود إنسان ليس بحيوان ناطق، فوجود مثلث بأربعة أضلاع يعني كونه مثلثاً فرضاً، وليس بمثلث، بل هو مربع؛ لأن ّله أربعة أضلاع، فهو مثلث وليس بمثلث معاً.
والمراد من الاستحالة العاديّة أو الوقوعيّة: امتناع وقوع ما لو وقع لكان وقوعه ووجوده غير مستلزم لوقوع المحال، وإنّما خلاف ما هو العادة والمألوف من نظام عالم الوجود، شبه استحالة طيران الحجر في الهواء بلا واسطة للطيران، فإنّه ممكن عقلاً لكنه لم يقع بحسب العادة في الخارج.وإلى هذا أشار الملا صالح المازندرانيّ في تعليقه على قيد (عادةً) المذكور في تعريف المعالم بقوله: «إشارةً إلى أنّ الامتناع مستند إلى العادة لا إلى العقل، إذ التجويز العقليّ بالتوافق على الكذب بمعنى إمكانه بحسب الذات واقع، إلا أنّ هذا لا ينافي امتناعه عادةً كما في سائر الممتنعات العاديّة» .
ونلاحظ على هذا التفسير:
أنّه دعوىً غير مبرهنة وليست واضحة، بل توجب سلب الوثوق عن الدليل ما دام لا ينتج نتيجة جازمة عقلاً بمعنى يستحيل نقيضها، ما لم يشيّدوا أساساً جديداً يقام على أساسه تصوير جديد لحقيقة التواتر، أو أن يتم إرجاعه الى نظرية السيّد الشهيد محمد باقر الصدر (رحمه‏ الله) التي سيرد بيانها، أو إلى ما ادّعاه المناطقة في تعريف التواتر، فإنّ ما هو المألوف لديهم من كيفيّة إنتاج القياس وإثباته للقضيّة المتواترة لا يتحمّل ما ذكره الاُصوليون من فرض إرادة التلازم العاديّ بين التواتر وحصول اليقين بالقضية المتواترة. فقد نقلنا عن المناطقة أنّهم أرجعوا التواتر الى قياس خفيّ كبراه ضرورية هي: أنّ الصدفة لا تكون أكثرية، وقد عرّفوا القياس من ناحية اُخرى بحسب ما قاله الكاتبيّ في شمسيّته بأنّه: «قول مؤلّف من قضايا متى سلّمت لزم عنها لذاتها قول آخر»
وشرحه القطب الرازيّ بقوله: «… إنّ القياسَ العمدةُ [هو] في استحصال المطالب التصديقيّة، وحدّه: أنّه قول مؤلّف من قضايا متى سلّمت لزم عنها لذاتها قول آخر، كقولنا: العالم متغيّر، وكلّ متغيّر حادث، فالعالم حادث، فإنّه قول مؤلّف من قضيّتين إذا سلّمتا لزم عنهما لذاتهما قول آخر، وهو: العالم حادث».
وقد نقل الشيخ المظفر تعريف البرهان عند المناطقة بقوله: «قياس مؤلّف من يقينيّات ينتج يقيناً بالذات اضطراراً». وأضاف: «فإذا تألّفت الحجّة من مقدّمتين يقينيّتين سمّيت برهاناً، ولابدّ أن ينتجا قضيّة يقينيّة لذات القياس المؤلّف منهما اضطراراّ عندما يكون تأليف القياس في صورته يقينيّاً أيضاً، كما كان في مادّته، فيستحيل حينئذٍ تخلّف النتيجة؛ لاستحالة تخلّف المعلول عن علّته، فيعلم بها اضطراراً لذات المقدّمتين بما لهما من هيئة التأليف على صورة قياس صحيح، وهذا معنى: أنّ نتيجة البرهان ضروريّة. ويعنون بالضرورة هنا معنىً آخر غير معنى الضرورة في الموجّهات»، بل بمعنى الواجب قبولها سواء كانت ضروريّة أو ممكنة بحسب الجهة.
فمن مجموع كلمات المناطقة نستخلص: أنّ هناك ترابطاً علّياً بين ذات مقدّمات القياس وذات النتيجة، وقد عبّر عن ذلك في تعريف الكاتبيّ والقطب الرازيّ باللزوم، والشيخ المظفر بـ (اضطراراً لذات المقدّمتين).
وعلى ذلك فلا مجال لفرض: أنّ التفكيك بين التواتر والعلم بالقضيّة المتواترة ممتنع بحسب العادة لا العقل، كما عليه التفسير الأوّل لقيد (عادةً).
ويؤيّد هذه النتيجة ـ من أنّ التفكيك بين التواتر والعلم بالقضيّة المتواترة ممتنع بحسب العقل لا العادة ـ أقوالُ العلماء في ماهية العلم الحاصل من التواتر، فهم يرون العلم الحاصل من التواتر من العلم الضروريّ الأوّليّ، وهو لا ينسجم مع احتمال الخلاف بأيّ مستوىً كان.
يقول العلامة الحلّيّ: «الحقّ: أنّ الخبر المتواتر يفيد العلم الضروريّ؛ لأنّ جزمنا بوقوع الحوادث العظام كوجود محمد (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) وكحصول البلدان الكبار لا يقصر عن العلم بأنّ الكلّ أعظم من الجزء، وغيره من الأوّليّات» .
ويقول صاحب الجواهر: «كما أنكّ عرفت في الأصول استفادة العلم الضروريّ من المتواتر الذي هو كعلم المشاهدة» أي: كالأوّليات… إلى غير ذلك من الكلمات.
التفسير الثاني:
أن يراد بقيد (عادةً) الإشارة الى أنّ المعتبر في إيجاب التواتر لليقين، أو قل: في التلازم بين التواتر وصدق القضيّة المتواترة وجود الظروف الذهنية العاديّة، أي: المألوفة التي يتّصف معها الذهن بالنوعيّ من حالة الاستقامة والاتّزان في التفكير والاستنتاج، وليس حالات الذهن الخاص المبتلى بالشذوذ والوسوسة الموجبة للتوقّف حتّى في البديهيّات، فإنّ الملازمة لا تصدق في هكذا ظروف ذهنية متطرّفة أومتسارعة في الحكم والتصديق، فالفرد العاديّ في ذهنه واتزانه الفكريّ لو حصل له نقل عدد كثير من الرواة لحصل له القطع بوقوع المخبر به من نفس الكثرة العدديّة، فيكون لإخبار هذا العدد ملازمة عادةً ونوعاً مع وقوع المخبر به، وهو ما قد يعبّر عنه بالملازمة العاديّة.
وفي جواب ذلك نقول: إنّ البحثَ في أصل إيجاب التواتر للعلم بالقضية المتواترة بحثٌ في ذات الملازمة العقليّة بين مفردات التواتر كقضايا وصغريات حسيّة جزئيّة وحقانيّة القضيّة المتواترة كنتيجة، أي: في أصل حكم العقل بهذه الملازمة. وأمّا البحث في الظروف الذهنيّة التي يراد لها أن تكون ظرفاً لهذه الملازمة، فهي شيء آخر يشكّل شرطاً من شروط هذه الملازمة، فلا ينبغي الخلط بينهما.
فأصل الملازمة هذه ـ أو قل: أصل إيجاب التواتر لليقين بالقضية المتواترة ـ عند المناطقة مسألة ضروريّة، وقد عدّت القضية المتواترة في كتاب البرهان واحدة من الضروريات الستّ التي ينتهي اليها كلّ قضايا البرهان، وقد نقلنا قول الشريف الجرجانيّ آنفاً: « إلا أنّ العلم بهذا القياس [ويعني به القياس الخفيّ الذي على أساسه يحصل اليقين بالقضية المتواترة] حاصل بالضرورة، ولذا يفيد المتواتر العلم للبُله والصبيان »، ولا علاقة للبحث في أصل هذه الملازمة كبروياً بالاُمور التي تشكّل ظرفاً لهذه الملازمة، فلا يصحّ أخذها قيداً في التعريف؛ لأنّها خارجة عن ماهية المعرَّف.هذا، وسنبيّن في محلّه أنّ سلامة الذهن أو سقمه من العوامل الذاتيّة المؤثّرة في تسارع حصول اليقين أو تباطئه بناءً على ما يقول به السيّد الشهيد الصدر (رحمه‏ الله).
التفسير الثالث:
أن يراد بقيد (عادةً) الإشارة الى أنّ الملازمة بين التواتر وإيجابه اليقين من نوع الملازمة العاديّة المتعارف لدى الاُصوليّين التمثيل لها ـ في مبحث حجّية الإجماع ـ بالملازمة الحاصلة بين اتّفاق المرؤوسين على رأي ورأي رئيسهم، مقابل الملازمة العقليّة والملازمة الاتّفاقيّة التي مثّلوا لها بالملازمة بين الخبر المستفيض وصدقه، قال المحقق رضا الهمدانيّ: «وبنى جلّ علمائنا المتأخرين على أنّ طريق استكشاف رأي الإمام (عليه ‏السلام) من الاجماعات المتحقّقة في هذه الأعصار منحصر في الحدس الناشىء من الملازمة العاديّة بين اتّفاق العلماء في جميع الأعصار وبين موافقة الامام (عليه ‏السلام)، ولذا اعتبروا في حجّيّة الإجماع اتّفاق كلّ العلماء في جميع الأعصار أو جلّهم على وجه يستلزم عادةً موافقة المعصوم» ، وقال السّيد الإمام الخمينيّ: «إنّ القوم ذكروا لاستكشاف قول الإمام (عليه ‏السلام) طرقاً أوجهها دعوى الملازمة العاديّة بين اتّفاق المرؤوسين على شيء ورضا الرئيس به، وهذا أمر قريب جدّاً » .
أقول: إنّ تقسيم الملازمة إلى العاديّة وقسيمتيها لا يصحّ أن يكون تقسيماً لذات الملازمة؛ فإنّها نحو واحد دائماً، وهي بملاك استحالة الانفكاك عقلاً الناشئة من مبدأ العلّية، بما يرجع الى العلاقة بين العلّة والمعلول، أوإلى معلولين لعلّة واحدة، أو من استحالة اجتماع أو ارتفاع النقيضين مثلاً. والاستحالة والإمكان مُدرَكان عقليّان، فالملازمات عقليّة دائماً، لكن حكم العقل يختلف.
فقد يكون حكماً مطلقاً غير مقيّد بظروف ما، كما لو كانت الملازمة صادقة بين حقيقة (أ) وحقيقة (ب) بلا إضافة أيّ عنصر وبغضّ النظر عن ظروفه وأحواله، كالملازمة بين النار والحرارة،وتسمّى بالملازمة العقليّة.وقد يكون حكم العقل مقيّداً بظروف متواجدة دائماً وغالباً للملزوم، كما لو كانت الملازمة بين (أ) و (ب) ضمن ظروف معيّنة تتواجد في عالمنا غالباً وعادةً، وتسمّى بالملازمة العاديّة، ومثّلوا لها باستلزام طول العمر بمقدار مئة سنة مثلاً للهرم والشيخوخة، والتي لا يستحيل فيها الانفكاك عقلاً بين هذين المتلازمين، لذا نجدهما قد انفكّا في كثير من المعمّرين في التاريخ، والملازمة ليست في الحقيقة بين ذات طول العمر بهذا المقدار والشيخوخة، وإنّما هي بين دوام العمر بهذا المقدار ضمن خصوصيّات معيّنة كالمناخ والغذاء والوضع الصحّي والنفسيّ الموجودة عادةً وبين الشيخوخة، فإذا تغيّرت تلك الظروف والخصوصيّات لاتتحقّق الملازمة.
وقد يحكم العقل بالملازمة بين (أ) ضمن ظروف معيّنة قد تحصل صدفةً واتفاقاً وقد لا تحصل ـ وليست دائمية الثبوت أوغالبية ـ وبين (ب)، وتسمّى بالملازمة الاتّفاقيّة، كما في استلزام الاستفاضة صدقَ الخبر المستفيض، فإنّها ضمن ظروف معيّنة كدرجة وثاقة الرواة ومجموعة القرائن، والتي قد توجد وقد لا توجد، فإذا وجدت استلزمت صدق الخبر المستفيض.
إذن إنّما يعقل التقسيم إذا كان مصبّ القسمة طرفي الملازمة لا الملازمة ذاتها، فإنّها عقليّة دائماً.
كيفيّة حصول العلم بالقضية المتواترة:
عرفنا أنّ مشهور الاُصوليين اكتفى بالقول بأنّ الخبر المتواتر من مصاديق الخبر القطعيّ، ولم يتعرّض بشكل مشروح لكيفية صيرورته علميّاً، ولعلّ ذلك لأجل الاعتماد على الوضوح الأولي البديهي في كون القضية المتواترة موجبة للعلم، و هيمنة اُسس المنطق الأرسطي على المنحى المنطقي العامّ في فهم حقيّة القضيّة المتواترة.
نعم، ثمّة بعض العبارات التي وردت في بيان كيفية حصول العلم من التواتر:
1ـ قال المحقّق الحلّي (رحمه‏ الله): «أنا إذا سمعنا بخبر عن واحد، فقد أفادنا ظنّاً، ثمّ كلّما تكرّر الإخبار بذلك قوي الظنّ حتّى يصير الاعتقاد علماً».
2ـ وقال الشيخ حسين بن عبد الصمد العامليّ: «فسبيله ـ أي: سبيل حصول العلم بالتواترـ أن نراقب أنفسنا، فإذا اُخبرنا بوجود شيء خبراً متوالياً، فإنّ قول الأوّل يحرّك الظنّ، وقول الثاني والثالث يؤكّده، وهلمّ جرّا، إلى أن يصير ضروريّاً».
وورد بعضها في مقام الاستدلال لحجّيّة الاجماع ممّا سمّوه بتراكم الظنون أو توارد الظنون:
3ـ قال الشيخ محمد تقي:«… وما اُورد عليه ـ من أنّ انضمام غير الحجّة إلى مثله لا يجعل غير الحجّة حجة ـ أوهن شيء؛ إذ من البيّن تقوية كلّ منهما بالآخر، فلا مانع من بلوغها بعد الانضمام إلى درجة الحجّيّة إذا قام الدليل عليه كذلك حسب ما فرض في المقام، فلا داعي إذن في التزام كون الحجّة هي الشهرة ويشير إليه أنّه قد ينتهي الأمر في انضمام الظنون بعضها إلى البعض بالوصول إلى حدّ القطع، فيكون حجّة قطعاً كما ترى في الخبر المتواتر؛ لحصول القطع هناك من تراكم الظنون الحاصل من الآحاد مع عدم بلوغ شيء من آحاده إلى درجة الحجّيّة مع ضعف راويه». وذكر الوحيد البهبهاني شبيه هذا القول في وجه حجيّة الإجماع .
ورفض المحقق النائيني أن تُجعل فكرة تراكم الظنون مدركاً لحجّية الإجماع، معلّلاً ذلك بعدم اندراجها تحت ضابط كلّيّ؛ لاختلاف مراتب الظنون والموارد والأشخاص .
فتطبيق فكرة تراكم الظنون على إجمالها على باب الإجماع من ناحية، ورفض ذلك من ناحية اُخرى، شاهد على عدم وضوح أبعاد وحدود الفكرة بالنحو الذي قال به الشهيد الصدر في فكرة تراكم القيم الاحتمالية التي طبّقها في باب التواتر والإجماع معاً، ولعلّ جريانها على ألسنتهم كان بوحي فطرتهم لبداهة أصل الفكرة.
ثانياً ـ أقسام التواتر لدى المشهور:
قسّم مشهور الاُصوليّين التواتر إلى ثلاثة أقسام: لفظيّ ومعنويّ وإجماليّ.
قال السيّد الخوئيّ: «إنّ التواتر على أقسام ثلاثة:
الأوّل:التواتر اللفظيّ: وهو اتّفاق جماعة امتنع اتّفاقهم على الكذب عادةً على نقل خبر بلفظه، كتواتر ألفاظ الكتاب الصادرة عن لسان النبيّ (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم).
الثاني:التواتر المعنويّ: وهو اتّفاقهم على نقل مضمون واحد مع الاختلاف في الألفاظ، سواء كانت دلالة الألفاظ على المضمون بالمطابقة أو بالتضمّن أو بالالتزام أو بالاختلاف، كالأخبار الحاكية لحالات أمير المؤمنين (عليه ‏السلام) في الحروب وقضاياه مع الأبطال، فإنّها متّفقة الدلالة على شجاعته (عليه ‏السلام).
الثالث:التواتر الإجماليّ: «وهو ورود عدّة من الروايات التي يعلم بصدور بعضها مع عدم اشتمالها على مضمون واحد» .
نعم، أنكر المحقق النائيني التواتر الإجمالي حيث قال: «أنّا لو وضعنا اليد على كلّ واحد من تلك الأخبار نراه محتملاً للصدق والكذب، فلا يكون هناك خبر مقطوع الصدور».
وردّه السيد الخوئي بقوله: إنّ احتمال الكذب في كلّ خبر بخصوصه غير قادح في التواتر الإجماليّ؛ لأنّ احتمال الصدق والكذب في كلّ خبر بخصوصه لا ينافي العلم الإجماليّ بصدور بعضها، وإلا لكان مانعاً عن التواتر المعنويّ واللفظيّ أيضاً؛ إذ كلّ خبر في نفسه محتمل للصدق والكذب.
وأضاف: التواتر الإجماليّ ممّا لا مجال لإنكاره؛ فإنّ كثرة الأخبار المختلفة ربما تصل الى حدّ يقطع بصدور بعضها وإن لم يتميّز بعينه، والوجدان أقوى شاهد وأوضح دليل عليه، فإنّا نعلم علماً وجدانياً بصدور جملة من الأخبار الموجودة في كتاب الوسائل ولا نحتمل كذب الجميع، وأوضح منه أنّا نعلم بصدق بعض الأخبار المتحقّقة في هذه البلدة في يوم وليلة، فضلاً عن الحكايات المسموعة في أيامٍ وليالٍ عديدة .
ومن المناسب تخصيص الكلام بالتواتر الإجماليّ لوقوع شيء من الغموض والخلاف فيه.
التواتر الإجمالي:
إنّ أثر التواتر الإجماليّ هو إيجاد العلم أو الاطمئنان بتنجيز التكليف إجمالاً في دائرة الأخبار المتواترة إجمالاً، أو الاستدلال به على حجيّة الخبر الظنّيّ الصدور على نحو الإجمال، مثلاً في دائرة تلك الأخبار المتواترة إجمالاً عند انسداد باب العلم والعلميّ بالأحكام الشرعية.
والتواتر الإجماليّ تارةً يقيّد بخلوّ الروايات المتواترة عن المحور المشترك ووحدة المصبّ، كما لو جمعنا عشوائياً مئة رواية مثلاً من أبواب شتًى من الكتب الأربعة بلا اشتراك فيما بينها في مضمون أصلاً، فمن الواضح أن كلّ واحد من تلك المدلولات لا يثبت بالتواتر، وإنّما يقع البحث في إثبات عدم كذب الجميع الملازم لثبوت بعضها على نحو الإجمال لكي تُرتّب عليه آثار العلم الإجماليّ.
وهذا القسم من التواتر غريب عن تصورات المشهور إذا لم يفترض ولو بالدقّة وجود الجامع بقدرٍ ما، ككون الأخبار من أخبار الأحكام، لكنّ الشهيد الصدر عدّ هذا اللون من التكثّر القسمَ الأوّلَ من تقسيمات التواتر وفق مبناه في تقسيم التواتر على أساس المضعّف الكمّيّ والمضعّف الكيفيّ الذي سنبيّنه في محلّه، إلا أنّه ناقش في اعتبار مثل هذه المجموعة من الأخبار تواتراً؛ لأنّها لا تؤدّي إلى حصول اليقين ولو إجمالاً، فلا منجّزية لمثل هذه الكثرة العددية وإن أورثت اطمئناناً، وقال: «هذا الاطمئنان وإن كان صحيحاً إلا أنّ حجّية الاطمئنان ‏الناشئ من مجرّد التكثّر العددي في مثل هذا المورد عهدة دعواها على مدّعيها» .
وقد يفترض وجود قدر مشترك بين الأخبار المتواترة يشكّل جامعاً بين مدلولاتها تشترك في إفادته مع تفاوت الأخبار المتواترة باللفظ والمعنى المدلول لكلّ خبر خبر، كأن يكون ذلك القدر المشترك مدلولاً تحليليّاً لكلّ خبر، إمّا على نسق المدلول الالتزاميّ أو التضمّنيّ بشرط عدم التطابق في تمام المضمون لكلّ خبر كي لا يدخل في قسم التواتر المعنويّ، فإنّ ميزة التواتر المعنويّ هي الاتّفاق في المضمون مع الاختلاف في الألفاظ التي حكت وأفادت ذلك المضمون.
وهذا النوع من التواتر وردت تسميته في كلمات الاُصوليين بالتواتر الإجماليّ في مقام الاستدلال على حجّيّة خبر الواحد استناداً إلى صدور عدد متواتر إجمالاً من الأخبار التي يدّعى دلالتها على قدر خاصّ مشترك بينها جميعاً، فيؤخذ بذلك القدر على أنّه المتيقّن من دلالتها، فتثبت حجّية الخبر بتلك الحدود.
و هذا ما يستفاد ممّا ذكره السيّد الخوئيّ (رحمه‏ الله) في استدلاله لحجّية خبر الثقة بقوله: «فتحصل أنّ التواتر الإجمالي في هذه الطوئف الأربع من الأخبار غير قابل للإنكار، ومقتضاه الالتزام بحجّيّة الأخصّ منها المشتمل على جميع الخصوصيّات المذكورة في هذه الأخبار، فيحكم بحجّيّة الخبر الواجد لجميع تلك الخصوصيّات باعتبار كونه القدر المتيقّن من هذه الأخبار الدالّة على الحجّية. وذكر المحقق النائيني أنّ الأخصّ منها هو ما دلّ على حجّية خبر الثقة، فبناءً على تحقّق التواتر الإجماليّ تثبت حجّية الخبر الموثوق به».
وأيضاً كلام الشيخ الأنصاري مشير إلى هذا المعنى من التواتر الإجماليّ، قال في رسائله: «… إلى غير ذلك من الأخبار التي يستفاد من مجموعها رضا الأئمّة (عليهم ‏السلام) بالعمل بالخبر وإن لم يفد القطع، وادّعى في الوسائل تواتر الأخبار بالعمل بخبر الثقة، إلا أنّ القدر المتيقّن منها هو خبر الثقة الذي يضعف فيه احتمال الكذب على وجه لا يعتني به العقلاء، ويقبّحون التوقّف فيه لأجل ذلك الاحتمال، كما دلّ عليه ألفاظ الثقة والمأمون والصادق وغيرها الواردة في الأخبار المتقدّمة» .
ويقول الشيخ الآخوند في حاشيته على الرسائل حول الاستدلال بالسنّة على حجّيّة خبر الواحد: «لا يقال: وجه الاستدلال بالأخبار مع عدم تواترها لفظاً ومعنىً؛ لوضوح اختلافها بألفاظها ومضامينها، وإن كان بينها قدر مشترك كما لا يخفى؛ ضرورة أنّ وجود القدر المشترك بينها لا يوجب تواتر الأخبار بالنسبة إليه ما لم يحرز أنّ المخبرين بصدد الإخبار عن معنىً واحد، وأنّ اختلافهم إنّما يكون في خصوصيّاته، كيف والأخبار الكثيرة المتفرّقة يكون بين مضامينها قدر مشترك لا محالة، ولا يفيد كثرتها القطع به أصلاً.
لأنّا نقول: وجه الاستدلال إنّما هو تواترها على نحو الإجمال، بمعنى: أنّ كثرتها يوجب القطع بصدور واحد منها، وهو كافٍ حجّةً على حجّية الخبر الواحد في الجملة في قبال نفي حجّيته مطلقاً، وقضيّته الاقتصار على اعتبار خصوص ما دلّ على اعتباره من أنحاء خبر الواحد مثل خبر العدل أو مطلق الثقة، أخصّ الطائفة التي علم بصدور واحد بينها مضموناً».
فالشيخ الآخوند يدفع إشكال: (أنّ وجود القدر المشترك بين الأخبار غير كافٍ لإثبات حجية الخبر بالتواتر) بوجود التواتر الإجمالي الذي يوجب العلم بصدور بعضها في الجملة في قبال نفي حجّيّتها مطلقاً برغم عدم إحراز أنّ المخبرين بصدد الإخبار عن معنىً واحد مشترك.
إذن قد نجد أكثر من تصوير للتواتر الإجمالي، بل نجد إرجاع التواتر الإجماليّ الى التواتر المعنويّ، كما قد يفهم ذلك من كلام الشيخ الآشتياني في كتابه بحر الفوائد حول الاستدلال بالسنّة على حجّية خبر الواحد، قال: «ثمّ إنّ قطعيّة كلّ واحد من الطوائف ـ كما هو الحقّ ـ ليست من جهة الاحتفاف بالقرينة، ولا من جهة التواتر اللفظيّ ضرورة انتفائه، بل من جهة التواتر الإجماليّ الراجع إلى التواتر المعنويّ، وتواتر القدر المشترك باعتبارٍ، فيؤخذ من كلّ واحد منها بما هو القدر المتيقّن الثابت من جميع أخبار كلّ طائفة، فيثبت المدّعى وهو حجّية خبر الواحد المجرّد إجمالاً في قبال النفي الكلّيّ والمنع المطلق».
هذا فضلاً عن مناقشة المحقّق النائيني في التواتر الإجماليّ، ولعلّ ذلك ناتج عن حداثة هذا الاصطلاح وتعدّد الأنظار فيه، فقد ذكر السيد المروّج في منتهى الدراية في شرح الكفاية: «التواتر الإجماليّ: وهو اصطلاح جديد من المصنّف ـ يعني: صاحب الكفايةـ ولم نعثر عليه في كتب الدراية».
وممّا يشهد لذلك أيضاً قول الفاضل التوني: «الخبر ينقسم الى متواتر وآحاد. والمتواتر هو خبر جماعة بلغوا من الكثرة مبلغاً أحالت العادة تواطؤهم على الكذب… والظاهر: قلّة الخبر المتواتر باللفظ في زماننا فنسكت عنه» والذي قد يُستظهر منه: أنّه لا يرى للتواتر إلا قسماً واحداً.
وممّا يشهد لذلك أيضاً ما ورد في كتاب دراسات في علم الدراية تلخيص مقباس الهداية: «أنّ المتواتر على قسمين: لفظيّ ومعنويّ. فالأول: ما إذا اتّحدت ألفاظ المخبرين في خبرهم، والثاني: ما إذا تعدّدت ألفاظهم، ولكن اشتمل كلّ منها على معنىً مشترك بينها بالتضمّن أوالالتزام» .
ثالثاً ـ حقيقة التواتر في نظريّة السيّد الشهيد الصدر (قدس‏ سره):
قسّم الشهيد الصدر ـ بحسب منهجة مبتكرة لمباحث علم الاُصول ـ البحث في وسائل إثبات صدور الدليل الشرعيّ (في مبحث إثبات صغرى الدليل الشرعيّ) إلى قسمين: وسائل إثبات تعبّديّ، وهي ما تفيد الظنّ بصدور الدليل من الشارع، كخبر الواحد. ووسائل إثبات وجدانيّ، وهي ما يوجب القطع بصدور الدليل من الشارع، وعدّ منها التواتر والإجماع والشهرة ـ في بعض الحالات ـ والسيرة المتشرّعية .
وقد برهن على أنّ التواتر والإجماع والشهرة ـ في بعض الحالات ـ والسيرة المتشرّعية إنّما توجب الإحراز اليقينيّ بصدور الدليل على أساس فكرة تراكم القيم الاحتماليّة في كلّ مفردة من مفردات الأخبار أو الفتاوى أو السلوك العمليّ لدى الفرد المتشرّع، فإنّ كلّ مفردة منها تشكّل كسراً معيّناً من قيمة الاحتمال تتضاءل درجته كلّما ازداد عدد المفردات بضرب القيمة الاحتمالية لخطأ كلّ منها بالاُخرى حتّى تصل قيمة احتمال عدم مطابقة جميع المفردات للواقع الى كسر ضئيل جدّاً يقرب من الصفر، فلا يستطيع أن يحتفظ به الذهن البشري بحسب تكوينه وخلقته، فيتحوّل ذلك الكسر الضئيل إلى يقين حسب نظرية التوالد الذاتيّ عند السيّد الشهيد (قدس‏ سره).
ولأجل بسط الفكرة والانتهاء الى هذه النتيجة في باب التواتر نبدأ من اُولى مقاطعها التي تشكّل الأوّليات اللازمة للبحث، وهي تقسيمات اليقين، ثمّ تقسيمات القضيّة التجريبيّة، وبعد ذلك حقانيّة القضيّة المتواترة في باب الأخبار.
تقسيمات اليقين:
ذكر السيّد الشهيد: أنّ اليقين ينقسم بلحاظ اعتماده على قضيّة سابقة أو عدمه إلى قسمين:
الأوّل: اليقين المستنتَج:وهو الحاصل على أساس اليقين بقضيّة أو قضايا سابقة، كاليقين بأنّ العالَم حادث، وأنّ الفلزّات تتمدّد بالحرارة، فإنّ هذه القضايا ليست معارف أوّليّة، بل معتمدة على اليقين بقضايا سابقة.
الثاني: اليقين الأوّليّ:وهو اليقين غير المعتمد على اليقين بقضيّة سابقة، مثل اليقين باستحالة اجتماع النقيضين.
ثمّ قسّم اليقين المستنتَج بلحاظ منشأ تكوّنه واستنتاجه إلى قسمين:
الأوّل: اليقين الموضوعيّ الاستنباطيّ:وهو ما كان مستنتجاً على أساس اليقين بقضية اُخرى تستلزم عقلاً أو تتضمّن القضيّة المتيقَّنة، ويكون الاستنتاج قائماً على أساس قياس من الأقيسة المتعارفة في المنطق الاُرسطيّ.
أو قل: هو اليقين الحاصل بالنتيجة بسبب تلازم ذات النتيجة وذات المقدّمات في قياس من الأقيسة المتعارفة في المنطق الأرسطيّ، كاليقين الحاصل بوجود النهار بسبب التلازم العقلي الحاصل بين ذات طلوع الشمس وذات وجود النهار، فإنّ العلم بوجود أحدهما يولّد العلم بوجود الآخر على أساس ذلك التلازم العقليّ بين ذات القضيّتين، أو اليقين الحاصل بالنتيجة بسبب أنّها مستبطنة في مقدّمات البرهان، مثل اليقين بقضية (العالّم حادث) الحاصلة من القياس التالي: العالَم متحرّك، وكلّ متحرّك حادث، فالعالم حادث؛ فإنّ النتيجة في القياس ـ سواءاً كانت مساوية أو أصغر من المقدّمات ـ تكون مستبطنة في المقدّمات دائماً.
أمّا المراد من الموضوعيّ فليس بمعنى ما تعورف في علم الاُصول من جريانه في موضوع الحكم، بل بمعنى اليقين الذي تشكّل وتكّون على أساس مبّررات منطقيّة، ووفق الحالة الاعتياديّة في عمل الذهن الذي يتّصف معها بالسلامة والاتّزان في الاستنتاج والحكم، في مقابل ما عرف بقطع القطّاع في علم الاُصول، وهو القطع الحاصل على أساس شذوذ في عمل الذهن في مجال الحكم والاستنتاج.
الثاني: اليقين الموضوعيّ الاستقرائيّ:وهو ما كان مستنتَجاً من مجموعة قضايا لا تتضمّن ولا تستلزم عقلاً القضيّة المتيقّنة، ولكن كلّ واحدة منها تشكّل قيمةً احتماليّةً بدرجةٍ ما لإثبات تلك القضيّة.
أو قل: اليقين الحاصل بالنتيجة لا على أساس التلازم بين ذات المقدّمات، ولا على أساس كون النتيجة مستبطنة في مقدّمات البرهان، كما في اليقين الاستنباطيّ، بل اليقين بالنتيجة الحاصل من التلازم بين ذات احتمال الصدق في المفردات التي تشكّل صغرى مقدّمات البرهان واليقين بالنتيجة، فالتلازم بين العلمين ـ لا المعلومين ـ هو أساس العلم بالنتيجة، كما في اليقين الحاصل بقضية (كلّ حديد يتمدّد بالحرارة)، فإنّه يقين حاصل من احتمال صدق علّية الحرارة لتمدّد هذا الحديد الذي تمدّد بالحرارة في تجربة خاصّة، وذاك الحديد الذي تمدّد بالحرارة في تجربة ثانية، وذاك الحديد الذي تمدّد بالحرارة في تجربة ثالثة، و… الى آخر مفردة من الحديد وجدناها بالتجربة والاستقراء تتمدّد بالحرارة، فإنّ هذا اليقين بأنّ كلّ حديد يتمدّد بالحرارة ناتج من تراكم القيم الاحتماليّة في المفردات التي وقعت مورداّ للتجربة والاستقراء، وكذا الحال في اليقين الحاصل في باب الأخبار المتواترة والإجماع والسيرة، فالعلم الحاصل في هذا المجال ناتج من تلازم الاحتمالات في المفردات التي وقعت تحت الاستقراء والعلم بالتجربة.
تقسيمات القضيّة التجريبيّة:
قسّم الشهيد الصدر القضية التجريبية المستدَلّ عليها بالاستقراء ـ مثل (الفلزّات تتمدّد بالحرارة) و (تواتر الأخبار بواقعة معيّنة يوجب العلم بصدقها) ـ إلى شكلين:
الشكل الاُوّل:ما يُراد بها إثبات علّية شيء موجود، أي: إثبات أصل العلّية لشيء يحتمل كونه علّة، ومثالها في باب القضايا التجريبيّة أن نشاهد اقتران حادثة معيّنة باُخرى في مرّات كثيرة، كما في اقتران تناول حبّة الاسبرين برفع الصداع عن المريض، فعندما نقوم بتجارب عديدة نعطي في كلّ مرّة منها للمريض حبّة الاسبرين نجد أنّه قد اقترن تناولها بشفائه من الصداع في كلّ مرّة من تلك المرّات، فإنّ هذه الاقترانات المتكرّرة لا تتضمّن ولا تستلزم أن تكون إحدى الحادثتين وهي تناول حبّة الاسبرين علّة للاُخرى وهي الشفاء من الصداع؛ إذ قد يكون اقترانهما صدفة، ويكون للحادثة الثانية وهي الشفاء من الصداع علّة غير منظورة كأن تكون هي شرب اللبن مثلاً الذي اقترن بتناول الاسبرين، لكن حيث إنّ من المحتمل أن لا يكون ذلك الاقتران بين تناول حبة الاسبرين والشفاء من الصداع صدفة في مرات عديدة فلابدّ من احتمال علّية تناول الاسبرين للشفاء في كلّ مرّة من تلك الاقترانات.
الشكل الثاني: ما يراد بها إثبات وجود صغرى العلّة بعد الفراغ عن علّيّتها فيما إذا كان أصل علّية شي‏ء معلوماً، وإنّما يُشكّ في وجود العلّة خارجاً، ومثاله: ما إذا رأينا أنّ مجموعة من كتب بحث ‏الوضوء موضوعة أمام اُستاذ، فاحتملنا أن يكون وجود تلك المجموعة من كتب بحث ‏الوضوء أمام الاُستاذ معلولاً لوجود بحث له في الوضوء الذي لا إشكال في كونه علّة لجمع ما يرتبط بالوضوء من الكتب الفقهيّة، واحتملنا أيضاً أن لا يكون كلّ كتاب منها معلولاً لوجود تلك العلّة وهي بحث الوضوء وإنّما قد وجد كلّ كتاب أمام الاُستاذ صدفةً لعامل آخر ليس هو وجود بحث له في الوضوء.
وبعبارة اُخرى: إنّنا نعلم بأن بحث الوضوء علّة لجمع ما يرتبط بالوضوء من الكتب الفقهيّة، لكن نشك في أنّ بحث الوضوء في هذا المورد الخاصّ بحدود هذا الاُستاذ هل هو علّة لتجمع هذه الكتب أمامه، أو أنّ كلّ منها وجد لعلّة خاصّة به لكنّ اقترانها وحصولها معاً أمام الاُستاذ كان لصدفة نسبيّة، بأن يكون أحدها قد وجد أمام الاُستاذ لإصلاح جلده مثلاً والآخر لإعارته لصديق، والثالث لأخذ ورقة منه، والرابع لأجل معرفة تاريخ طبعه مثلاً، وهكذا.
حقانيّة القضيّة التجريبيّة المستدَلّ عليها بالاستقراء وفق نظرية الاحتمال:
إنّ حقانيّة القضيّة التجريبيّة المستدَلّ عليها بالاستقراء وفق نظرية الاحتمال مبنيّة على أساس ‏حساب الاحتمالات الذي يؤدّي الى تضاؤل قيمة احتمال الافتراضات المخالفة تدريجاً بتكرّر التجربة، لعدم كونها احتمالات متلازمة، وإلى تصاعد قيمة الاحتمالات الموافقة بنفس الدرجة لكونها احتمالات متلازمة، فتتضاءل درجة احتمال الافتراضات المخالفة أكثر فأكثر بتكثّر مفردات التجربة الى أن تصل إلى اليقين بمقتضى ما تفضّل به اللّه سبحانه على الإنسان من الضابط الذاتيّ لانطفاء القيم الاحتماليّة والكسريّة الضعيفة جدّاً.
واليك شرح ذلك:
حقانيّة الشكل الأوّل من القضيّة التجريبيّة:
كان الشكل الأوّل من شكلي القضية التجريبية المستدَلّ عليها بالاستقراء هو ما يُراد به إثبات علّية شيء موجود، والذي مثّلناه باقتران تناول حبّة الاسبرين برفع الصداع عن المريض في مرات عديدة، فاحتملنا بذلك علّية تناول حبّة الاسبرين لرفع الصداع، ولإثبات هذا الاحتمال ونفي احتمال علّية شيء آخر غير منظور اقترن بتناول حبّة الاسبرين صدفةً نقول ابتداءً: إنّنا نفرض أنّ الاحتمال القبلي الأوّلي لعلّية الاسبرين في المرّة الاُولى من مرات التجربة ‏هو النصف فرضاً، والاحتمال القبلي لعلّيةٍ غير منظورة ـ كالنوم مثلاً، أو شرب اللبن‏ وجد صدفة مقترناً بتناول الاسبرين فرفع الصداع ـ نفترضه النصف الآخر من رقم اليقين الذي يساوي واحداً وينقسم بالتساوي على محتملاته، إلا أنّ احتمال علّية الاسبرين في المرّة الاُولى والثانية وباقي المرّات احتمالات متلازمة فيما بينها ثبوتاً وعدماً؛ إذ لوكانت طبيعة الاسبرين علّة للشفاء من الصداع فسوف تكون علّيته سارية وثابتة في تمام المرّات، فلا يكون احتمال المجموع أضعف من ‏احتمال كلّ مفردة من مفردات التجربة، وأمّا احتمالات علّية غيره في كلّ من تلك المرّات فليست بمتلازمة؛ لعدم وجود أمر مشترك معلوم غير الاسبرين، فيطبّق لتقدير قيمة احتمال علّية غير الاسبرين قانون ضرب القيم الاحتمالية في كلّ مفردة من مفردات التجربة، أي: ضرب: 50% (عليه ‏السلام)50% (عليه ‏السلام)50% (عليه ‏السلام)50% (عليه ‏السلام)… بعدد مفردات التجربة، فيصبح الناتج وهو القيمة الاحتمالية لعلّية غير الاسبرين في تلك المرات ضعيفاً؛ لأنّه ناتج ضرب الكسور بعضها ببعض، ويزداد ضعفاً كلّما ازداد العدد. وكلّما ضعف هذا الاحتمال قوي الاحتمال المقابل له، وهو علّية الاسبرين.
وسرّ النكتة المنطقيّة لهذا التوازن والتقابل بين القيمة الاحتماليّة لعلّية العلّة غير المنظورة في مفردات التجربة والقيمة الاحتمالية لعلّية الاسبرين مثلاً كشفه السيّد الشهيد الصدر في كتاب الاُسس المنطقيّة للاسقراء، حيث بيّن: أنّ منشأ الاحتمال ـ بحسب الحقيقة ـ هو العلم الإجماليّ ذو الأطراف المحصورة عقلاً .
فأمر وجود علّة غير منظورة في المثال سبّبت الشفاء من الصداع يدور بين أحد احتمالات أربعة لا خامس لها، وهي: إمّا أن تكون تلك العلّة غير المنظورة موجودةً في التجربتين ـ على فرض أنّنا كرّرنا التجربة مرّتين فقط ـ أو في الاُولى من التجربتين دون الثانية، أو عكس ذلك، أو غير موجودة فيهما معاً، وهذا حصر عقليّ يرجع إلى قسمة ثنائيّة دائرة بين النفي والإثبات، فيكون قيمة كلّ احتمال منها مساوياً للربع، لأنّها أربعة احتمالات، ورقم اليقين وهو واحد ينقسم على أطرافه متساوياً وهي أربعة حسب الفرض، وهذه الاحتمالات باستثناء الأوّل منها تكون لصالح علّية الاسبرين؛ لأنّ الاسبرين موجود في التجربتين معاً سواء فرضنا أنّ العلّة غير المنظورة للشفاء من الصداع وهي شرب اللبن ـ مثلاً الذي اقترن صدفة بتناول حبّة الاسبرين ـ موجودة في التجربة الاُولى من التجربتين دون الثانية، أو في الثانية دون الاُولى، أو لم تكن موجودة في التجربتين، وأمّا الاحتمال الأوّل وهو احتمال وجود العلّة غير المنظورة للشفاء من الصداع في التجربتين فهو احتمال حياديّ؛ إذ كما يحتمل أن تكون العلّة غير المنظورة للشفاء من الصداع وهي شرب اللبن مثلاً الذي اقترن صدفة بتناول حبّة الاسبرين في التجربتين كذلك يحتمل أن تكون العلّة غير المنظورة هي تناول حبّة الاسبرين لاغير في التجربتين، وهذا يعني: أنّ نصف الربع من قيمة اليقين ـ وهو الثُمن فقط ـ الخاصّ بهذا الاحتمال الأوّل لصالح العلّة الاُخرى وهي شرب اللبن مثلاً الذي اقترن صدفة بتناول حبّة الاسبرين، والباقي من قيمة اليقين وهو نصف الربع ـ أو قل: الثمن ـ من الاحتمال الأول و ثلاثة أرباع ـ أو قل: ستة أثمان ـ قيمة الاحتمالات الثلاثة الاُخرىـ ومجموعها يساوي سبعة أثمان ـ تكون لصالح علّية الاسبرين.
هذا في التجربتين، فإذا كرّرنا التجربة مرّة ثالثة صعدت القيمة الاحتمالية لعلّية الاسبرين في التجارب الثلاث إلى ( 15 ) من ( 16 ) وضعفت في مقابله القيمة الاحتماليّة لعلّية العلّة غير المنظورة إلى واحد من ( 16 )؛ لأنّنا نتعامل مع القيم الاحتمالية للعلّة غير المنظورة على أساس الضرب؛ لأنّها احتمالات غير متلازمة، لعدم وجود أمر مشترك معلوم بينها كما عرفت، بخلاف القيم الاحتمالية لعلّية الاسبرين في المرّات التي تكرّرت، فنضاعف الثُمن مرّتين، فيكون الناتج: واحد من ستة عشر، وكان قيمة احتمال الطرف المقابل هو باقي رقم اليقين وهو ( 15 ) من ( 16 )، فلو كرّرنا التجربة مرة رابعة فلابدّ من مضاعفة قيمة احتمال وجود علّة غير منظورة وهو ( 1 ) من ( 16 ) و لأصبح الناتج هو: ( 1 ) من ( 32 )، وقيمة احتمال علّية الاسبرين في كلّ هذه المرّات سيصعد إلى ( 31 ) من ( 32 )، وهكذا يتضاءل احتمال وجود علّة اُخرى غير الاسبرين بتكرّر التجربة، ويتصاعد في مقابله احتمال العكس، وهو علّية الاسبرين حتّى يحصل القطع بعلّيته عندما يصبح كسراً قريباً من الصفر، فلا يحتفظ الذهن به عادةً لضآلته وكون الذهن البشري مخلوقاً بشكل لا يحتفظ بالاحتمالات الضئيلة جدّاً، وذلك بحسب قواعد المنطق ‏الذاتي لحصول اليقين بعد طيّ مرحلة التوالد الموضوعي على أساس حساب الاحتمالات.
هذا كلّه فيما لو أردنا أن نثبت بالقضية التجريبيّة المستدلّ عليها بالاستقراء علّية شيء موجود، كعلّية تناول حبّة الاسبرين لرفع الصداع في المثال المتقدّم.
حقانيّة الشكل الثاني من القضيّة التجريبيّة:
أمّا لو أردنا أن نثبت بالقضية التجريبيّة المستدلّ عليها بالاستقراء وجود صغرى العلّة بعد الفراغ عن علّيتها، ومثّلنا له بما اذا أردنا معرفة أنّ وجود تلك المجموعة من كتب بحث ‏الوضوء أمام الاُستاذ هل هو معلول لوجود بحث له في الوضوء بعد الفراغ عن أصل علّيته لجمع ما يرتبط بالوضوء من الكتب الفقهيّة، أو هو معلول لعلل متعدّدة اقترن وجودها صدفة ؟ فنقول: إنّ الاحتمالات المفترضة لوجود العلل المتعدّدة (والمقابلة لعلّة وجود بحث له في الوضوء) احتمالات غير متلازمة، بخلاف احتمال وضع كلّ كتاب من تلك الكتب بنكتة واحدة، وهي وجود بحث في الوضوء للاُستاذ المذكور. ونفس الطريقة من الحساب التي مضت في الشكل الأوّل نستخدمها في الشكل الثاني فننتهي إلى إثبات وجود تلك العلّة، وهي وجود بحث للاُستاذ في الوضوء، ونفي وجود العلل الاُخرى التي فرض اقترانها من باب ‏الصدفة.
وقد أثبت السيّد الشهيد الصدر أنّ جميع الاستدلالات التجريبيّة ترجع إلى أحد هذين الشكلين، كما أثبت أنّ الشكل الثاني منه ينطبق على إثبات العلّة الاُولى للكون، وهوالصانع ـ ‏سبحانه وتعالى ـ بنفس الملاك المنطقيّ المنطبق في العلوم التجريبيّة الطبيعيّة بحيث يكون أساس العلم والإيمان باللّه من الناحية المنطقيّة واحداً.
حقانيّة القضيّة المتواترة في باب الأخبار في المنطق الأرسطيّ:
قد عُرّف التواتر كما مضى عن بعض الاُصوليين بأنّه إخبار جماعة بلغوا من الكثرة مبلغاً يمتنع معها تواطؤهم على الكذب.
ويرى المناطقة ـ كما مرّ عليك في قول الشريف الجرجانيّ ً: (إلا أنّ العلم بهذا القياس ] ويعني به القياس الخفيّ الذي على أساسه يحصل اليقين بالقضية المتواترة[ حاصل بالضرورة) ـ أنّ دليليّة التواتر وإيراث القضيّة المتواترة اليقين بالخبر المتواتر إنّما يرجع بالتدقيق والتحليل إلى قياس منطقيّ مكوّن من صغرى وكبرى: صغراه عبارة عن تحقّق القضيّة الخارجيّة وهي إخبار جماعة كثيرة بقضيّة معيّنة، وكبراه عبارة عن حكم عقليّ أوّليّ غير مستمدّ من تجربة سابقة، وهو استحالة تواطؤ ذلك العدد الكثير من المخبرين على الكذب صدفة، وبضمّ الكبرى إلى الصغرى يستنتج حقانيّة الخبر أو القضيّة المتواترة، ولأجل كون هذه الكبرى أوّليّة عقليّة غير مستمدّة من تجربة سابقة عدّ المنطق الأرسطيّ القضية المتواترة في كتاب البرهان واحدة من الضروريات الستّ التي تنتهي إليها كلّ قضايا البرهان، وهي: الأوّليّات والمشاهدات (المحسوسات) والتجريبيّات والمتواترات والحدسيّات والفطريّات.
وهذا التفسير المنطقيّ للقضيّة المتواترة في مجال نقل الأخبار يشابه التفسير المنطقيّ للقضيّة التجريبيّة، نحو قضية: (كلّ حديد يتمدّد بالحرارة) التي هي واحدة من تلك القضايا الستّ التي يراها من الضروريّات؛ ذلك لأنّه يرى أنّ علّية الحادثة الاُولى وهي وجود الحرارة في المثال للحادثة الثانية وهي وجود التمدّد في الحديد ـ التي قد ثبت بالتجربة الحسّية عن طريق اقتران الحادثة الثانية (وجود التمدّد في الحديد) بالحادثة الاُولى (وجود الحرارة) في مرّات عديدة من التجارب الحسّية المتكررة ـ مستنتجة من قياس منطقيّ متشكّل من مقدّمتين: إحداهما تشكل صغرى القياس، وهي اقتران الحادثة الثانية بالحادثة الاُولى في عدد كبير من المرات، أي: اقتران وجود التمدّد في الحديد بوجود الحرارة في تجارب متكررة ومتكثّرة. والاُخرى تشكّل كبرى القياس، وهي أنّ الاتّفاق لا يكون دائميّاً ولا أكثريّاً، بمعنى: امتناع أن تكون هذه الاقترانات المتكرّرة المتكثّرة في عدد من المرّات على أساس الاتّفاق والصدفة النسبيّة، وليس على أساس علاقة علّيّة بين الحادثتين كعلّية الحرارة للنار في المثال.
فالمنطق الأرسطيّ ينطلق من هذه الكبرى بوصفها مبداً عقليّاً قبليّاً للتأكيد على أنّ الصدفة النسبيّة لا تتكرّر باستمرار، ويستنتج منه رابطة السببيّة بين كلّ ظاهرتين يتكرّر اقترانهما باستمرار خلال تجارب عديدة، ولا يمكن في رأي المنطق الاُرسطيّ أن تكون هذه الكبرى ثابتة بالتجربة القبلية؛ لانّها تشكّل الكبرى لإثبات كلّ قضيّة تجريبيّة، فلا يعقل أن تكون هي بنفسها قضيّة تجريبيّة؛ إذ سيتوقّف إثبات القضيّة التجريبيّة عندئذٍ على نفسها، وهو محال.
اختيار نظرية الاحتمال في حقانيّة القضيّة المتواترة في باب الأخبار:
لو دقّقنا النظر في هذه الكبرى التي تعتمد عليها القضية المتواترة، وهي: (استحالة اتّفاق عدد كثير من المخبرين صدفةً على الكذب في نقل الخبر) وأخضعناها للتحليل لوجدناها ترجع بروحها إلى نفس الكبرى التي تعتمد عليها القضيّة التجريبيّة (وهي: أنّ الاتّفاق لا يكون دائميّاً ولا أكثريّاٌ)، ذلك لأنّ معنى اتّفاق عدد كثير من المخبرين صدفةً على الكذب في نقل الخبر: أنّ كذب المخبر الأوّل يعني افتراض مصلحة شخصيّة معيّنة دعته إلى الكذب وإخفاء الواقع، وقد اقترنت هذه المصلحة صدفة بمصلحة المخبر الثاني التي دعته إلى الكذب في نقل الخبر نفسه، وهتان المصلحتان قد اقترنتا صدفةً بمصلحة المخبر الثالث التي دعته إلى الكذب في نقل الخبر نفسه، وهذه المصالح للمخبريِن الثلاثة قد اقترنت صدفةً بمصلحة المخبر الرابع التي دعته إلى الكذب في نقل الخبر نفسه، وهكذا اقترنت المصالح المتعدّدة للمخبرين الكثيرين صدفةً ببعضها، والتي دعت كلّ مخبر منهم إلى الكذب في نقل الخبر ذاته على الرغم من اختلاف ظروفهم وتباين أحوالهم. وهذا يعني: تكرّر الصدفة مرّات عديدة، وهو منفيّ بالكبرى القائلة: إنّ الاتّفاق لا يكون دائميّاً ولا أكثريّاً.
وعلى أساس ذلك أرجع المنطق الأرسطيّ الاستدلال على القضيّة التجريبيّة والقضيّة المتواترة إلى القياس المكوّن من المقدّمتين اللتين ذكرناهما آنفاً، واعتقد بأنّ النتيجة المستدَلّة في الموضوعين ليست بأكبر من مقدّماتها، واليقين بها يقين ـ بحسب الاصطلاح الذي اختاره السيّد الشهيدـ موضوعيّ استنباطيّ مستنتج من أحد أشكال القياس.
وأمّا في ضوء دراسة السيد الشهيد المتقدّمة للقضية المتواترة في التجريبيّات فنقول: إنّ القضية المتواترة في باب الإخبارات الحسّيّة ترجع ـ بحسب الحقيقة ـ إلى الشكل الثاني من الشكلين المتقدّمين للقضيّة المتواترة، حيث إنّ فرضيّة صدق القضية ووقوع الحادثة المخبر عنها بالتواتر بنفسها علّة مشتركة للإخبار بحسب‏ طبع الإنسان، فافتراض وقوعها يشكّل وجود العلّة لتفسير كلّ تلك الإخبارات، وهذا بخلاف ما إذا افترضنا عدمها، وأنّ كلّ إخبار من تلك الإخبارات كان على أساس مصلحة معيّنة لصاحبه، فإنّ ‏حساب الاحتمالات يضعّف احتمال تلك الافتراضات؛ لعدم كونها احتمالات متلازمة حتّى تتضاءل درجتها جدّاً بتكثّر الأخبار وتواترها، وأمّا وصولها إلى اليقين فبمقتضى ما تفضّل به اللّه سبحانه على الإنسان من الضابط الذاتيّ لانطفاء القيم الاحتماليّة والكسريّة الضعيفة جدّاً، ولولا ذلك لما كان يمكنه أن يقطع بشي‏ء إطلاقاً.
وببيان آخر نقول: إنّ ضعف مخالفة الخبر المتواتر للواقع ينشأ من أمرين:
الأمر الأوّل:وهو ما سمّاه السيّد الشهيد بالمضعّف الكمّيّ، وهو التكثّر العدديّ للأخبار المؤدّي الى ضرب القيم الاحتماليّة للكذب بعضها في بعض على أساس حساب أصل قيمة الكذب في كلّ خبر؛ لأنّ نتيجة ضرب الكسور الضئيلة أصغر من نتيجة ضرب الكسور الكبيرة، فكلّما كانت قيمة احتمال الكذب في الخبر أضعف كان تحصيل العلم بتراكم القيم الاحتماليّة في كلّ خبر أسرع.
الأمر الثاني:وهو ما سمّاه السيد الشهيد بالمضعّف الكيفيّ، وهو المضعّف الناشىء من تماثل الصدف المتكررة ووحدة مصبّ الخطأ أو مصبّ داعي الكذب، فتجمّع دواعي الكذب أو أسباب الخطأ على نقطة واحدة أبعد من انقسامها على نقاط متعدّدة، فاتفاق آلاف الكذّابين في اختلاق قصص كاذبة تختلف قصّة كلّ منهم عن الآخر أمر لا غرابة فيه، بخلاف ما لو اتّفقت القصص جميعاً على بيان واقعة واحدة صدفة ودون اطّلاع بعضهم على ما اختلقه الآخر؛ إذيعدّ ذلك ـ مع ملاحظة ماهم عليه من اختلاف التفكير والأمزجة والمصالح والأماكن ودواعي الكذب ـ من أعجب الغرائب، فلا يحتمل في هكذا قصّة أنّها مختلقة.
إذن كلّما تقاربت الصدف في التماثل أكثر كان المضعّف الكيفيّ أقوى وأسرع تأثيراً في خلق العلم في النفس.
وعلى أساس حساب الاحتمالات هذا عدّ السيّد الشهيد البحث في الإجماع والسيرة المتشرعيّة وتواتر المخبرين من باب واحد ومبحث فارد؛ لأنّها جميعاً ترجع إلى القسم الثاني من القضايا المتواترة التي يراد بها إثبات وجود صغرى العلّة خارجاً بعد الفراغ عن أصل علّيتها ، وحصول العلم منها على أساس تراكم القيم الاحتمالية، وليس على أساس ملازمة عقليّة أو عاديّة أو اتّفاقيّة، كما قد يتصوّره البعض، فإنّ تواتر الأخبار بموت زيد مثلاً يورث القطع بموته، ولكن لا على أساس ملازمة بين إخبار هؤلاء وموت زيد؛ وذلك لأنّ خبر كلّ واحد من هؤلاء وحده نحتمل عدم اقترانه بالصدق ولم ندرك ملازمة بينه وبين موت زيد، والفرد المردّد لاوجود له، وجميع الأخبار ليس إلا نفس تلك الأفراد، ولم ندرك تمانعاً بين كذب البعض وكذب بعض آخر كي يصبح المجموع ملازماً للصدق، وعنوان اجتماع آلاف الأكاذيب ليس إلا أمراً انتزاعيّاً ينتزع من نفس جميع أفراد الكذب، فليس فيه محذور آخر غير محذور الجميع.
ولا يرد عليه النقض بمثل فتح الجيش للبلد حيث يقال: إنّ كلّ فرد منهم وحده غير قادر على فتح البلد ولكنّهم يفتحونه مجتمعين؛ ذلك لأنّ الملازمة في المثال هذا قائمة على أساس علّية عمل هؤلاء لفتح البلد، فمن المعقول أن يكون عمل كلّ واحد منهم يشكّل جزء العلّة، وعمل الجميع يشكل تمام العلّة، فلا يترتّب الفتح على عمل الفرد، بخلاف ما نحن فيه، فليس أخبار هؤلاء علّة لموت زيد كي يمكن التفرقة بين خبر الفرد وخبر الجميع بجزء العلّة وتمامها.
وعين هذا الكلام يأتي في أمثلة تذكر في باب الإجماع والسيرة المتشرّعيّة والشهرة.
وعلى هذا فلا توجد كبريات عقليّة أوّليّة في باب التواتر مثل (امتناع التواطؤ على الكذب) أو (امتناع غلبة الصدفة)، وإنّما هذه الكبريات بأنفسها قضايا تجريبية تثبت بالاستقراء والمشاهدات، أي إنّها قضايا غير أوّليّة بحيث لوقطعنا النظر عن العالم الخارجيّ ومقدار تكرّر الصدفة أوالتواطؤ على الكذب فيها لكنّا نحتمل عقلاً تكرّر الصدفة دائماً والتواطؤ على الكذب من جمع غفير، وإنّما ننفي ذلك بعد التجربة والمشاهدة لعالم الخارج، وليس حكم عقولنا في مثل هذه القضايا كحكمه باستحالة ‏اجتماع النقيضين. غاية الأمر أنّها أكبر من القضايا التجريبيّة الخاصّة في كلّ مورد مورد، فتكون محكومة للقوانين المنطقيّة التي تحكم على التجربة والاستقراء، وهي ‏قوانين حساب الاحتمال والتوالد الموضوعيّ أوّلاً، ثمّ قوانين المنطق الذاتيّ والتوالد غير الموضوعيّ ثانياً.
وقد برهن السيّد الشهيد على عدم كون هذه القضايا قبلية أوّلية ببراهين عديدة نقتصر هنا على واحد منها هو: أنّنا نجد أنّ مفردات كلّ قضية متواترة أو تجريبيّة كان احتمال‏ الصواب والمطابقة فيها أكبر كان حصول اليقين بالنتيجة فيها أسرع وأشدّ، ففرق مثلاً بين شهادة ألف ثقة بوقوع شي‏ء وشهادة ألف مجهول وجداناً، وهذا معناه: أنّ اليقين الحاصل من القضايا المذكورة يتأثّر بالقيم الاحتمالية لكلّ مفردة من مفرداتها، لا بقاعدة عقليّة قبليّة موضوعها كمّ معيّن.
ضابط التواتر:
اتّضح ممّا مضى: أنّ الكثرة العددية هي الضابط الأساس في حصول التواتر، بل هي جوهر التواتر وروحه، ولكنّه ليس بالامكان تحديد هذه الكثرة العدديّة التي يحصل بسببها اليقين في رقم معيّن كما حاول ذلك بعض الفقهاء، فادّعى: أنّه لو قلّ المخبرون عن ذلك العدد لم يتحقق التواتر؛ لأنّ حصول اليقين من التواتر يتأثر بعوامل موضوعيّة مختلفة وعوامل ذاتية كذلك أيضاً، سنوردها قريباً.
وقد اختلف هؤلاء الفقهاء في تحديد هذا العدد على أقوال منها:
1ـ أن يكون اثني عشر، عدد نقباء بني إسرائيل ؛ للآية:«وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً» .
2ـ أن يكون عشرين ؛ للآية:«إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ».
3ـ أن يكون سبعين، عدد ما اختار موسى (عليه ‏السلام) من قومه ؛ للآية:«وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا» .
4ـ أن يكون عددهم ثلاثمئة وثلاثة عشر، عدد أهل بدر .
5ـ أن يكون عددهم أكثر من أربعة لئلا تكون البيّنة في بعض الأبواب الفقهيّة التي ‏يُشترط فيها أربعة شهود تواتراً .
ووصف الشهيد الثاني (رحمه‏ الله) هذه الأقوال بقوله: «ولا يخفى ما في هذه الاختلافات من فنون الجزافات، وأيّ ارتباط لهذا العدد بالمراد ؟ وما الذي أخرجه من نظائره ممّا ذكر من ضروب الأعداد ؟» .
وقد أفاد الشهيد الثاني: أنّ الميزانَ إفادةُ العلم .
وهذا أيضاً ـ كما ترى ـ من تفسير الشي‏ء بنفسه كتفسير الماء بالماء.
وقد عرفت أنّ أساس إفادته للعلم ‏هوحساب الاحتمالات، وليس كمّاً عدديّاً معيّناً، وكأنّ اتّجاه التحديد هذا من وحي منطق أرسطو القائل بأنّ الاستدلال الاستقرائيّ قائم على أساس قضيّة عقليّة أوليّة قبليّة، هي وجود عدد يمتنع ‏تواطؤهم على الكذب، ممّا أوجب البحث عن تحديد ذلك العدد.
العوامل المؤثّرة في إفادة التواتر لليقين:
وبرغم أنّ الكثرة العددية هي الضابط الأساس في حصول اليقين من التواتر يمكن تحديد عوامل عديدة مؤثّرة في إفادة التواتر لليقين، وهي على قسمين:
1ـ عوامل موضوعيّة تتعلّق بالشهادات.
2ـ عوامل ذاتيّة ترتبط بتركيبة السامع الذهنيّة والنفسيّة.
1ـ العوامل الموضوعيّة:
وهذا القسم من العوامل المؤثّرة في تسارع حصول اليقين من التواتر يتعلّق بالشهادات، وأهمّها ما يلي:
1ـ درجة الوثاقة والتصديق في مفردات التواتر التي تتأثر بعوامل، كنوعيّة الشهود من حيث النباهة والوثاقة، فكلّما كانت شهادة كلّ مخبر ذات قيمة احتمالية أكبر ودرجة مطابقتها للواقع أعلى لشدّة نباهة الشاهد في القضيّة ووثاقته مثلاً كان حصول التواتر أسرع وبعدد أقلّ؛ لأنّ الاحتمالات إذا كانت أكبر كان تراكمها وبلوغها لليقين بحساب ‏الاحتمالات أسرع.
2 ـ درجة وضوح المدرك والمستند المدّعى للشهود الذي اعتمدوه في اطلاعهم على الواقعة، ففرق بين الشهادة بقضيّة حسيّة مباشرة كالإخبار بنزول المطر، وقضيّة ليست حسيّة وإنما لها مظاهر حسيّة كالعدالة التي يكون مدركها الحدس الحاصل من مجموعة سلوك وتصرّفات محسوسة، أو قضية حدسية واستنباطيّة محضة تقتنص من مجموعة قرائن وشواهد وأدلّة من قبيل إفتاء الفقيه بحكم على أساس إعماله لنظره؛ وذلك لأنّ نسبة وقوع الخطأ في مجال القضايا الحسّيّة أقلّ من نسبته في مجال القضايا الحدسيّة التي يتدخّل فيها النظر والاجتهاد، فيكون حصول اليقين من التواتر في المحسوسات أسرع منه في مجال الحدسيّات .
3ـ الاحتمال القبلي للقضية المتواترة، فكلّما كانت قيمة هذا الاحتمال القبلي أكبر كان حصول التواتر أسرع، والعكس بالعكس أيضاً، فمثلاً إذا كانت القضية المخبر بها غريبة وليست مألوفة، كما لو أخبروا بوجود دجاجة ذات أربع قوائم الذي ‏احتماله القبلي ضعيف جدّاً، كان حصول اليقين من التواتر أبطأ، بخلاف ما لو كانت القضية من الاُمور المعتادة والمألوفة والتي يكون الاحتمال القبلي فيها أكبر؛ فسيكون تراكم القيم الاحتمالية وبلوغها لليقين بحساب ‏الاحتمالات أسرع.
وليعلم بأنّ الاحتمال القبليّ قد يكون ضعيفاً على أساس حساب استقرائيّ في علل تلك القضيّة وأسباب وجودها في نفسها، كما في ‏المثال المتقدّم، وقد يكون ضعيفاً على أساس كثرة البدائل المحتملة لتلك القضيّة، لا لحساب الاحتمالات في الأسباب والعلل، كما إذا طرق بابك طارق مردّد بين آلاف من الناس لأنّهم ‏جميعاً يحتمل في حقّهم ذلك، فإنّ احتمال أن يكون الطارق زيداً مثلاً احتمال من مجموعة آلاف الاحتمالات؛ لأنّ له بدائل متعدّدة بعدد الآلاف.
4ـ تباين الشهود في أوضاعهم الحياتيّة والثقافيّة والاجتماعيّة، فإنّه كلّما كانوا متباينين فيها أكثر كان حصول التواتر أسرع؛ لأنّ ذلك يؤدّي إلى أن يكون احتمال وجود غرض ذاتيّ مشترك ومصلحة شخصيّة ‏للكذب أبعد وأضعف. وجوهر النكتة ما ذكرنا من أنّ هذا يكون مؤثراً على حساب الاحتمالات وسرعتها نفياً أو إثباتاً.
5ـ كيفيّة تلقّي القضيّة من قبل كلّ شاهد شاهد، إذ كلّما كانت القضيّة المتلقّاة لهم أقرب إلى الحسّ وأبعد عن الحدس والنظر كان حصول اليقين من التواتر أسرع، والعكس بالعكس أيضاً، فالتواتر في نزول المطر يحصل ‏بعدد أقلّ من الشهود من التواتر في عدالة زيد مثلاً، والسبب ما تقدم أيضاً من أنّ احتمال الخطأ والاشتباه في القضيّة الحسّيّة يكون أقلّ، فالتجميع في حساب الاحتمالات يكون من احتمالات أكبر قيمة.
2ـ العوامل الذاتيّة:
وهذا القسم من العوامل المؤثرة في تسارع حصول اليقين من التواتر يتعلّق بتركيبة السامع الذهنيّة والنفسيّة، وأهمّها ما يلي:
1ـ حالة الوسوسة والبطء الذاتيّ للذهن، فإنّ الناس يختلفون في سرعة حصول اليقين لهم وبطئه اختلافاً ذاتيّاً حتّى مع وحدة الدليل الموضوعيّ، فكلّما كانت الحالة الذهنيّة الذاتيّة للإنسان ‏أبطأ، كان حصول التواتر بالنسبة إليه أبطأ أيضاً، والعكس بالعكس أيضاً.
2ـ وجود الشبهة، أي: أن يكون الإنسان معتقداً بالخلاف بحيث أصبح له اُلفةٌ وعادةٌ ذهنيّةٌ بالخلاف، فإنّ هذه الشبهة قد تشكّل مانعاً ذاتياً تقف أمام سرعة حصول اليقين بالتواتر.
3ـ العاطفة، فإنّها أحياناً تحكم على الإنسان وعقله فيما إذا كانت القضيّة المتواترة على خلاف عاطفته وطبعه، فتكون حجاباً بينه وبين حصول اليقين، فيبطؤ حصوله.
التواتر مع الواسطة:
إذا كانت القضيّة الأصليّة المطلوب إثباتها ليست موضوعاً للإخبار المباشر في الشهادات المحسوسة، وإنّما منقولة بواسطة شهادات اُخرى في طبقة متقدّمة كما هو الغالب في الروايات، فقد اشترط الاُصوليون لإثبات التواتر في الطبقة المتأخّرة حصول التواتر في كلّ طبقة متأخّرة على كلّ نقل من نقول الطبقة المتقدّمة، فلو فرضنا أنّ أقلّ عدد يوجب التواتر هو مئة والناقلون المباشرون للقضية كانوا مئة، فقد اشترطوا في الطبقة الثانية أن يتواتر نقل كلّ واحد من مخبري الطبقة الاُولى بمئة نقل، وفي الطبقة الثالثة أن يتواتر نقل كلّ مخبر في الطبقة الثانية بمئة نقل، و هكذا الحال إلى أن ينتهي الأمر إلى الطبقة الأخيرة.
فمثلا إذا نقل الصحابة حديث الغديرعن النبي (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) بالتواتر فهذا التواتر لا يثبت في الطبقة الأخيرة إلا أن يُنقل كلام كلّ صحابيّ من قبل التابعين في الطبقة التالية لطبقة الصحابة وهي الطبقة الثانية بالتواتر، أي: بمئة نقل بحسب الفرض، ثم ينقل كلام كل واحد من التابعين بمئة نقل من قبل رواة الطبقة الثالثة ، ولا يكفي أن ينقل عن كلّ صحابيّ تلميذه التابعيّ مثلاً وإن كانوا بعدد التواتر الذي يمتنع تواطؤهم على الكذب؛ لإمكان خطأ نصف هؤلاء في النقل وخطأ النصف من الصحابة من دون لزوم نقض قانون الامتناع المذكور.
وهذا التصوير للتواتر مع الواسطة و إن كان صحيحاً، لكنّه سيكون حالة شبه مثالية خيالية لا يتّفق له مصداق فى باب الأحاديث والأخبار مع الواسطة.
والصحيح بحسب مبنى السيّد الشهيد (رحمه‏ الله) في إفادة التواتر لليقين عدم الحاجة الى ذلك؛ لأنّ ميزان كاشفيّة التواتر هوحساب الاحتمالات وتجميع القيم ‏الاحتماليّة لكلّ إخبار إخبار على مركز واحد، فبالإمكان أن نوجد صورة للتواتر غير المباشر بأن نأخذ كلّ خبر واحد من الأخبار الذي يحكي عن واقعة الغدير مثلاً بواسطة أو بوسائط، ونضيف قيمته الاحتمالية إلى الخبر الآخر الذي يحكي أيضاً عن واقعة الغدير بالواسطة أو الوسائط، وهكذا تتعاضد القيم الاحتماليّة ويتضاءل احتمال الكذب والخطأ في الجميع بالضرب إلى أن يحصل العلم بسبب ذوبان الاحتمال الضئيل في النّفس، غاية الأمر سوف يكون حصول العلم هنا أبطأ منه في الخبر بلا واسطة، لأنّ درجة الكاشفية عن صدور الحديث عن المعصوم لكلّ خبر مع الواسطة أقلّ من ‏الخبر بلا واسطة؛ لأنّها تحسب بضرب قيمة احتمال صدق المخبر الأوّل في قيمة احتمال صدق المخبر الثاني؛ ولهذا يكون حصول اليقين بحاجة إلى مقدار أكثر من المفردات‏ في الأخبار مع الواسطة.
رابعاً: أقسام التواتر:
ويمكن تقسيم الأخبار المتواترة بلحاظ المضعّف الكمّيّ ـ أي: العدديّ ـ والكيفيّ ـ أي: وجود وحدة مصبّ تشترك في الدلالة عليه ـ إلى خمسة أقسام:
القسم الأول:
أن لا يكون للأخبار المتكثّرة محور مشترك ووحدة مصبّ تشترك في الدلالة عليه بأن كان كلّ خبر منها يختصّ بدلالة على حدة، كما لو أخذنا عشوائيّاً مئة من الأخبار كالأحاديث المرويّة في الكتب الأربعة بلا اشتراك فيما بينها في مضمون أصلاً، فمن الواضح أنّ كلّ واحد من تلك المدلولات لا يثبت بالتواتر، وإنّما يقع البحث في إثبات عدم كذب الجميع الملازم لثبوت بعضها على نحو الإجمال لكي تُرتّب عليه آثار العلم الإجماليّ، فبرغم عدم وجود مدلول مشترك فيما بينها لكونها من مواضيع مختلفة ‏لا إشكال في أنّ احتمال صدق واحد منها على نحو الإجمال احتمال كبير جدّاً، واحتمال كذبها جميعاً صدفة احتمال ضعيف جدّاً بنفس ملاك حساب الاحتمالات بأن يفترض أنّ اختيارنا العشوائي صدفةً وقع على‏جملة من الأخبار كلّها كاذبة، فإنّ هذا بحساب الاحتمالات تكون قيمته الاحتمالية ضعيفة جدّاً، إلا أنّ هذا الضعف لا ينعدم ولا يبلغ درجة اليقين بالعدم وإن كان مقتضى مرحلة التوالد الذاتيّ ‏لمنطق الاستقراء ذلك؛ لما ذكره الشهيد في الاُسس المنطقية من أنه كلّما كان الاحتمال الضعيف ناشئاً من طرفيّة المحتمل للعلم الإجماليّ المردّد معلومة بين بدائل محتملة كثيرة جدّاً ـ وسمّى ذلك ‏بالمضعّف الكمّيّ؛ لأنه لا ينظر إلا إلى العدد والكمّ ـ فما دام ذلك العلم الإجماليّ موجوداً يستحيل انطفاء احتمال طرفيّة ما اختير عشوائياً لذلك العلم الإجماليّ.
والأمر في المقام كذلك؛ ‏لأننا نعلم إجمالاً بوجود مئة خبر كاذب في مجموع أحاديث الكتب الأربعة فرضاً ومعه احتمال أن تكون المئة التي أخذناها هي الكاذبة، فتكون أحد أطراف علمنا الإجماليّ المذكور، فإنّ كلّ واحدة من تلك المئات ـ وهي بالملايين بحساب التوافيق ـ يحتمل أن تكون هي الكاذبة، وما دام العلم الإجماليّ قائماً يستحيل زوال هذا الاحتمال في أيّ طرف، فإنّ زواله فيه مساوق مع زواله في الأطراف ‏الاُخرى، وهومساوق مع زوال العلم نفسه، وهوخلف، كما أنّ المضعّف الكمّي الآخر الموجود هنا ـ وهو احتمال كذب كلّ اُولئك المخبرين البعيد بحساب الاحتمال في نفس إخباراتهم ـ أيضاً موجود في كلّ مئة مئة يأخذها من الأخبار، فهو مضعف كمّي موجود فى تمام الأطراف، فيستحيل أن يوجب زوال الاحتمال؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح بلحاظ هذا الطرف ‏بالخصوص، وبلحاظ جميع الأطراف خُلف العلم الإجماليّ.
ولهذا لا يزول هذا الاحتمال إلا إذا وجد مضعّف له مخصوص به، وليس هو إلا ما اصطلحنا عليه بالمضعف الكيفيّ المخصوص بخصوص هذا الطرف، وذلك إنّما يكون فيما إذا كان هناك‏ مصبّ مشترك مثلاً ولو ضمناً لجميع الأخبار، فإنّ المضعّف حينئذٍ هو أنّه كيف اتّفقت مئة مصلحة للمختلفين على سنخ كذب واحد معيّن مع أنّ عوامل التباين فيهم أكثر من الاشتراك؟ !
وهذا بالتحليل يرجع إلى علم إجماليّ آخر بحسب حساب عوامل التباين والاتّفاق في حياة هؤلاء، وبمقتضاه يكون احتمال كذبهم جميعاً لمصلحة مشتركة أضعف بكثير من احتمال كذب أيّة مئة اُخرى من الأخبار ليس بينها قدر مشترك، وهذا أساس عامّ لحصول اليقين فى تمام موارد حساب الاحتمالات التى ترجع إلى علوم إجماليّة منقسمة على أطرافها، فمثلاّ في مثال قرص الاسبرين يعلم إجمالاً بعلّيته أو علّية غيره في رفع الصداع، وهو علم إجماليّ بين النقضين، إلا أنّ أحد طرفيه ‏وهو علّية غيره له مضعّف كيفيّ خاصّ به هو ملاحظة العلم الاجمالي في التجارب العديدة وما يقتضيه من الحساب لقيمة احتمال علّية غير قرص الاسبرين.
وبهذا يظهر الوجه الفنّيّ في عدم اعتبار مثل هذه المجموعة من الأخبار بالتواتر؛ لأنّها لا تؤدّي إلى حصول اليقين ولو إجمالاً، وبذلك تندفع شبهة منجّزية مثل هذه الكثرة العدديّة فيما إذا كان‏ مجموع الأخبار المئة إلزاميّة مثلاً في موضوعات مختلفة، فإنّها لا تشكّل علماً إجمالياً بجامع الإلزام ليكون حجّة، وأمّا حصول الاطمئنان فهو وإن كان صحيحاً إلا أنّ حجّيّة مثل هذا الاطمئنان ‏الناشئ من مجرّد المضعّف الكمّيّ الذي لا يبلغ اليقين عهدة دعواها على مدّعيها.
وقد اتضح من مجموع ما تقدّم أنّ التواتر لا يكفي فيه مجّرد المضعّف الكمي، بل لابدّ أيضاً من المضعّف الكيفيّ على ما يظهر من شرح الحالات القادمة، كما أنّه لابدّ وأن يعلم بأنّ ‏المضعّف الكيفيّ قيمته الاحتماليّة أكبر بكثير من المضعّف الكمّيّ، بمعنى: أنّه بإضافة عدد واحد على المخبرين يتضاعف المضعّف الكمّيّ إلى مستوى ضعف ما كان عليه سابقاً؛ حيث إنّ كلّ ‏الصور السابقة تضرب في تقديرين، إلا أنّ المضعّف الكيفيّ يتضاعف إلى مستوى أكثر من الضعف بكثير لأنّ هذا من إجراء حساب الاحتمالات والعلم الاجماليّ في عوامل الاتّفاق والتباين ‏الموجودة بين هذا المخبر والسابقين، وهي كثيرة، أي: أكثر من عاملين، كما هوواضح .
القسم الثاني:
أن يكون للأخبار المتكثّرة محور مشترك ومصبّ واحد تشترك في الدلالة عليه، على أن يكون هذا المصبّ المشترك مدلولاً تحليلياً لكلّ خبر على نسق المدلول التضمّنيّ، أو على نسق المدلول الالتزاميّ، كما لو وردت أخبار كثيرة تتحدّث بمدلولها المطابقيّ عن حروب ومعارك أمير المؤمنين (عليه ‏السلام)، ويكون لها جميعاً مدلول تحليليّ التزاميّ واحد يشكّل المصبّ المشترك، وهو شجاعة أمير المؤمنين (عليه ‏السلام)، أو كالإخبارات المتكثّرة المتغايرة التي تتحدّث بمدلولها المطابقيّ عن أحوال حاتم الطائيّ، ولكنّها تتضمّن جميعاً مظاهر من كرم حاتم مثلاً، مع فرض أنّ المخبرين لو كانت لهم مصلحة وغرض يحرّكهم نحو الكذب وخلق هذه الأخبار لكان هو المدلول المطابقي للخبر، وليس مدلوله التحليليّ .
وهذا القسم أقوى وأسرع في إيجاد اليقين من القسم الأوّل، وذلك علىأساس ما يتمتّع به من المضعّف الكيفيّ، وهو تقارب هذه الأخبار في مصبّ داعي الكذب المحتمل؛ لأنّ هذه الأخبار وإن كانت متفرّقة لكن يوجد في مداليلها المطابقية تقارب بدليل اشتراكها في مدلول تحليليّ واحد، فهذه الوحدة النسبيّة والتقارب في مصبّ دواعي الكذب المحتمل يشكّلان مضعّفاً كيفياً لصالح هذا القسم في تسارع حصول اليقين منه.
القسم الثالث:
أن يكون للأخبار المتكثّرة محور مشترك ومصبّ واحد تشترك في الدلالة عليه كالذي قلناه في القسم السابق، لكن نفترض: أنّ مركز داعي الكذب المحتمل هو المدلول التحليليّ، بأن نفترض أنّ داعي الكذب هو خلق شجاعة عالية أو مستوىً راقٍ من الكرم مثلاً في الشخص الذي تتحدّث عنه تلك الأخبار المتكثّرة.
وهذا هو الغالب في الأخبار التي تشترك في هكذا مصبّ، فإنّ مصلحة الكذّابين غالباً هو خلق هذا الجامع.
وهذا القسم من التكثّر أقوى وأسرع تأثيراً في حصول القطع من القسم السابق؛ لأقوائيّة المضعّف الكيفيّ فيه لأجل الوحدة الحقيقيّة الموجودة في مصبّ داعي الكذب المحتمل في الأخبار، وهو المدلول التحليلي، بينما في القسم السابق لم تكن وحدة حقيقية في المصبّ، وإنّما كان تقارب المداليل المطابقيّة لا غير .
القسم الرابع:
أنّ تتطابق الأخبار المتكثّرة حتّى في المدلول المطابقيّ، كما لو نقلت واقعة واحدة من معارك أمير المؤمنين (عليه ‏السلام) بنقول كثيرة، كواقعة قتله لمرحب مثلاً والدالّة على شجاعته (عليه ‏السلام) بالمدلول التحليليّ الالتزاميّ، وفرضنا أنّ مركز داعي الكذب المحتمل للمخبرين الذين نقلوا تلك الواقعة هو المدلول المطابقي للقضيّة، لا المدلول التحليليّ وهو الشجاعة مثلاً.
وهذا أقوى و أسرع تأثيراً في حصول اليقين من القسم الثالث؛ و ذلك لأنّ مصبّ داعي الكذب المحتمل وإن كان واحداً في القسم الثالث كما هو واحد في القسم الرابع، ولكنّ القسمين يختلفان في مصبّ آخر وهو مصبّ الاشتباه والخطأ المحتمل في النقل، وهو غير مصبّ الكذب المحتمل.
توضيح ذلك: أنّه إذا اُريد إثبات صحّة خبر ما فلابدّ من استبعاد أمرين: احتمال كذب المخبر، واحتمال اشتباهه وخطئه في نقل الخبر.
والقسم الثالث والقسم الرابع من حيث دفع احتمال الكذب سيّان؛ لوجود مصبّ واحد للكذب المحتمل فيهما، لكن ليسا كذلك في دفع احتمال الاشتباه؛ لأنّ في القسم الثالث لو فرض خطأ الناقلين فمركز الأخطاء المحتملة ليس واحداً؛ إذ المفروض تعدّد القصص المنقولة، فتكون كلّ قصّة مركزاً للخطأ، بينما في القسم الرابع لو فرض الخطأ في النقل لكان مركز الأخطاء واحداً؛ إذ كلّهم نقلوا قصّة واحدة فقط، وتوحّد مركز الأخطاء المفترضة يوجب دفع احتمال الخطأ والاشتباه من الكلّ في النقل، وتسارع حصول اليقين.
وبهذا اتّضح السرّ في أقوائيّة التواتر المعنويّ في القسم الرابع من التواتر الإجماليّ؛ لاختصاصه بمضعّف كيفيّ آخر، وهو وحدة مصبّ الأخطاء المفترضة.
القسم الخامس:
عين القسم الرابع، إلاّ أنّنا نفرض أنّ مصبّ داعي الكذب المحتمل لنقل قصّة قتل أمير المؤمنين (عليه ‏السلام) لمرحب مثلاً بتلك النقول المتكثّرة هو المدلول التحليليّ، أي: الشجاعة في المثال، لا المطابقيّ، والمدلول التحليليّ في هكذا أخبار هو المحرّك نحو الكذب، وهو الواقع غالباً.
وحصول العلم هنا أسرع منه في القسم الرابع؛ لاشتراكه معه في المضعّفات السابقة، واختصاصه بمضعّف كيفيّ آخر، و هو أنّه بعد أن فرض أنّ مركز داعي الكذب على فرض ثبوته هو المدلول التحليليّ لا المطابقيّ، فتطابقهم على مدلول مطابقيّ واحد ـ على تقدير الكذب ـ يشكّل غرابة اُخرى؛ إذ هو يعني وحدة في مركز تخيلاتهم و تبادر أفكارهم على شكل الصدفة والاتّفاق، و هذه الوحدة تشكّل مضعّفاً كيفيّاً جديداً وضيقاً أكثر في مركز الصدف يوجب أقوائيةً في دفع احتمال الخلاف.
و هذا هو السرّ في أنّ التواتر اللفظيّ أقوى من التواتر المعنويّ؛ لأنّ مصبّ داعي الكذب هو المعنى، فالتوافق على اللفظ المنقول وحدة وخصوصيّة إضافيّة على وحدة مصبّ داعي الكذب المحتمل.

الشيخ حامد الظاهري
مجلة فقه أهل البيت (ع) / 49