مسألة العلاقة بين السيد الشهيد والامام الخميني الكبير رضوان اللّه تعالى عليهما، انعكاس ناصع للنظرة العقيدية والسياسية التي حكمت كلا العملاقين، وطرحت لنا النموذج الاسلامي الفريد لوحدة الرسالة والمسيرة في حركة المرجعية الرشيدة، وبذلك عبّرت عن حقيقة رؤيتهما للاسلام، والثورة والحياة. ولدى تتبعنا لحركة هذه العلاقة نكتشف أنها كانت تسير منذ البدء في اطار حركة الثورة والجهاد والمساعي الدؤوبة لاعادة الدور الحضاري للاسلام، ومن هذه الحقيقة ابتدأت وفي اجوائها تطورت ونمت تنشد الكمال حيث نشد الاسلام غاياته واهدافه. فهي لم تكن علاقة استاذ بتلميذه، وليست هي ايضاً محكومة بقواعد اكاديمية أو حوزوية كما هو شأن الطلبة مع بعضهم، ومعنى عدم كونها كذلك أنها خارجة عن اطار السياقات الطبيعية والتأريخية التي تحكم كثيراً من افراد البشر في علاقاتهم مع بعضهم وجدانياً أو رحمياً أو حيوياً، فليس بين السيد الشهيد والامام الخميني من عوامل الربط والارتباط، ما يكون خاضعاً بحكم العلاقة إلى عمليات البلورة والتطور التي يخضع لها عادة احد طرفي العلاقة من قبل الطرف الآخر، لتنتهي إلى الذروة والاندكاك بشخصية الطرف المؤثر واهدافه ومناهجه.
فحينما ننظر إلى الامام نجد أن كثيراً من مريديه والمتأثرين بشخصيته هم من ابناء وطنه، وينطقون بلغته ويحظرون درسه وينهلون من مناهجه وسيرته ويخضعون لتربيته، فهم اذن صنائعه الذين توهجت في نفوسهم الثورة والمعرفة فأمست كالمرآة التي تعكس ضوء الشمس الساقط عليها.
وبنظرة سريعة إلى رجالات الامام والثورة الذين تشربت نفوسهم بحبه وافكاره، والذين تساموا في حركة الثورة والجهاد، فذهبوا إلى بارئهم شهداء من أمثال الشيخ المطهري والشيخ المفتح والسيد البهشتي وغيرهم، تتضح لنا تلك الحقيقة، حقيقة أنهم كانوا في دائرة الجذب المستمر والعطاء الدائم للقائد الامام، فهم اذن طلبته ومريدوه وأبناؤه، وبالتالي هم يداه التي يبطش بها ومفاصله التي تتحرك وتحرك الاحداث والثورة. إنهم عشقوا الامام في سياق حركة المعرفة والجهاد والمعاشرة والدرس واللسان والوطن، فتوهجت نفوسهم المستعدة للطهر بالعشق والعرفان والثورة، ولكن واحدة من هذه العوامل لم تكن لتحكم في ما بين السيد الشهيد والامام الراحل، ولم يكن بد من البحث عن جدلية هذه العلاقة من خلال الاجابة على سؤال، هو ومن اين ابتدأت هذه العلاقة وماهي حركيتها التطورية وفي اي موقع استقرت؟ ولعل في الاجابة على سؤال كهذا تتضح لدينا عمق النظرة وتكامليتها لدى طرفي العلاقة. وتنكشف لنا أيضاً أن العلاقة بين العظماء تبدأ في الوهلة الاولى من الذروة وتستمر على الذروة إلى النهاية، وهي بهذا تتحرك من اعلى إلى اعلى وليس في كينونتها نسغ تصاعدي من إسفل إلى اعلى كما هو شأن الآخرين في علاقاتهم مع بعضهم.
عوامل تركّز العلاقة بين المرجعين
ويمكن حصرها في عاملين اثنين يرجع لهما الفضل في تركيز وتنمية هذه العلاقة بين السيد الشهيد الصدر والامام الخميني رضوان اللّه عليهما، احدهما كامن في شخصيتهما والآخر في الواقع.
العامل الاول: نظرتهما إلى حركة الاسلام في واقع الحياة واخلاصهما للرسالة:
تميزا السيد الشهيد والامام الراحل ومنذ مطلع عمريهما باستيعاب حركي ومعمق للاسلام، فلم يروا فيه إلاّ حقيقة للحياة تنظمها وتحدد مسارها واهدافها وتشبع حاجاتها، وهما عندما رأيا الاسلام من واقع هذه النظرة الواعية والمتحركة، تلمّسا في اطارها كل الطرق والوسائل التي من شإنها أن تعيد ذلك الدور الحضاري للرسالة، وكان أول الغيث اغناؤهما المكتبة الاسلامية بالنتاجات النظرية والمعرفية التي اعتبرت في وقتها شيئاً جديداً، فكتابا اقتصادنا وفلسفتنا للسيد الشهيد وكتاب الحكومة الاسلامية للامام الراحل، بالاضافة إلى رسائلهما العملية، كل ذلك كان يعتبر بمثابة الثورة على الواقع الفكري الراكد الذي كان لا يرتضي اية محاولة من هذا القبيل، تهدف إلى اعطاء الصورة الحقيقية للدين من خلال فكرة الدمج بين الدين والسياسة، أو تتلمس الحلول والرؤى الدينية للقضايا الحيوية المعاصرة والملحة، ذلك بالاضافة إلى تحركهما السياسي والثوري باتجاه تحطيم الاركان الجاهلية للمجتمع الجاهلي وانظمته المتحكمة، والعمل على إقامة الحكم الاسلامي على انقاض ذلك الكيان. وفي هذا الاتجاه قاد الامام الراحل حركة سياسية مريرة ضد نظام الشاه المقبور في ايران، ومثل ذلك فعله السيد الشهيد مع نظام الحكم القائم في بغداد.
انتهت الحركتان إلى تحقيق نتائج باهرة في سياق الاهداف الكبيرة للاسلام. ولعل المعلم المهم الذي تميزا به وميّز إلى حد بعيد المفردات التفصيلية لنظريتهما السياسية، واسبغ عليهما الطابع الخاص الذي ميزهما، هو انتقاؤهما للمفردات التي يتعاملون معها في اطار الاهداف والغايات التي يؤمنون بها ويعملون من اجلها، وفي اطار عالمية النظرة التي ينبثقون منها عقائدياً، ولم تنقصهم في تنفيذ غاياتهم الجدارة النفسية اللازمة والارادة الصلبة والتفاني المخلص في جنب الاهداف والرسالة التي يجاهدون من اجلها. فمثلاً بارزاً على ذلك مواقف الشهيد الصدر(رضي الله عنه)ونظرته إلى إمام الامة الراحل والثورة الاسلامية المباركة. تلك المواقف التي أثبتت قدرة السيد الشهيد في وعيه لاهداف الاسلام وذوبانه الكامل في رسالة التوحيد، فهو في هذا المجال لم يتأخر لحظة في الاعلان عن ولائه لمرجعية الامام وقيادته الحكيمة، ولم يدخر وسعاً في تأييده ومبايعته ومساندته للثورة الاسلامية، ولم يشعر بأدنى فاصلة تحول بينه وبين أن يرى وحدة الثورة والجهاد والاهداف الاسلامية. لقد اعلن السيد الشهيد قراره الاول والاخير في التنازل عن كيانه ومرجعيته، ودعا مقلديه وطلبته ومريديه للذوبان الكامل في قيادة الامام ومرجعيته المتفانية في الاسلام، ولم يمر ذلك الامر من دون ثمن باهض دفعه السيد الشهيد في نفسه واهله واصحابه وكيانه حتى انتهى الامر بعد طول معاناة وصير إلى وقوعه ضحية بيد الجلادين البعثيين، حيث نال على ايديهم وسام الشهادة الشريف ثمناً لمواقفه المسبقة من الامام والثورة والاسلام، بعد أن رفض بإباء كل المحاولات الدنيئة الرامية إلى اغرائه أو استدراجه وسحب تأييده للامام والثورة الاسلامية المباركة. ولعل قولاً واحداً يثبت حقيقة ذوبان الامام الراحل والسيد الشهيد قاله سيدنا الصدر، وهو «ذوبوا في مرجعية الامام بقدر ما ذاب هو في الاسلام»، فهو من جانب عبّر عن محتوى السيد الشهيد واخلاصه للرسالة وللامام الخميني الكبير، ومن جانب آخر كان شهادة مسبقة منه دلت على نفس الحقيقة المذكورة آنفاً لدى امام الامة الراحل. لقد شكلت خاصية الذوبان الكامل في رسالة التوحيد لدى سيدنا الشهيد وامامنا الراحل نقطة الالتقاء والذروة، وهي ذاتها لحظة الفناء في الحق تعالى.
العامل الثاني: ركود الواقع وتخلف النظرة للدين والسياسة:
لقد ابتلي الواقع العام للامة الاسلامية بالركود والجمود وضعف الارادة، وهيمنة حالات الاحباط واليأس على النفوس منذ عهود الهيمنة الاستعمارية وانحسار المد الاسلامي بعد أن فقد المسلمون آخر موقع لهم في الدولة العثمانية، وبعد أن ذهبت البلاد الاسلامية وشعوبها نهباً وضحية للخطط والمطامع الاستعمارية. وكانت الخطط الاستعمارية تهدف فيما تهدف اليه الى نزع الهوية الاسلامية من ابناء الامة، وتشكيكهم في قدرتهم على النهوض من خلال غزو الامة وادامة هذا الغزو سياسياً وفكرياً واقتصادياً. وقد استطاعوا من جراء ذلك تركيز فكرة الفصل بين الدين والسياسة، بعد أن نجحوا في اقصاء الاسلام عن واقع الحياة ومعتركها الاجتماعي، وقد تطور الموقف إلى حالات اسوأ عندما استطاع المستعمر وادواته العاملة تركيز فكرة عدم جدوى طرق المجالات التي من شأنها أن توحد النظرة للدين والسياسة أو التي تسيس الدين، وقد تسربت هذه النظرة وللأسف الشديد إلى قطعات خاصة في الامة، شملت بعض أوساط رجال الحوزة التقليديين[1]، وبعض الطبقات المثقفة التي راحت تعتبر تدخل الدين في السياسة أو في واقع الحياة الاجتماعية شيئاً غير مألوف؛ إذ إن الدين في نظر هؤلاء منحصر بالطقوس والعبادات واحكامها لا يتجاوزها ابداً إلى غيرها من المواقع الممنوعة. لكن ذلك لم يمنع بعض احرار الامة وفطاحل الرسالة من أن يعبروا عن نظرتهم الصحيحة للدين والحياة والسياسة رغم مجافاة الواقع لهم ومحاربته اياهم؛ اذ قد يرمون بالكفر أو الانحراف والبدعة في الدين جراء نهضتهم تلك. فالنظرة السائدة التي كادت تطبق على الواقع هي أن لا دخل للدين في السياسة والحكم ومستلزمات الواقع المعاصر، وليس للعالم من حق في الولوج في هذه المجالات لأنها في نظر بعض أولئك المتخلفين من مختصات الامام المعصوم(عليه السلام). وغاية الامر والوجوب تقتضي مجرد الانتظار والتقية حتى يظهر المعصوم الغائب، ولربما تطرف بعضهم خطلاً في الرؤية والحكم إلى جواز السكوت على اشاعة الفحشاء والظلم في بلاد اللّه وعباده؛ لأنهما يعدان من معجلات الظهور للامام المنتظر الذي لا يظهر إلاّ بعد أن تملأ الارض جوراً وظلماً فيأتي ليملأها قسطاً وعدلاً، فالسكوت على تدهور الواقع ومداراته مطلوب بحكم التقية في الدين والامل في قرب الظهور، على حسب زعم وتصور أولئك المتخلفين. هذا الواقع المتخلف والراكد شكل سبباً اساسياً في حركة السيد الشهيد الصدر والامام الخميني الكبير، اذ إن تشخيصهما لطبيعته دفعهما للعمل والجهاد باتجاه تغيير ملامحه من خلال الثورة على الاسس التي استند اليها وانبثق منها، وفي محاولة اعادة النظرة الصحيحة والارادة القوية لابناء الامة الاسلامية، مما ساهم هذا الواقع في التقريب بين السيد الشهيد والسيد الامام على مستوى النظرة والعمل والجهاد، اذ كانا يعتبران معاً ثورة على ذلك الواقع وحركة جديدة تتّجه على نحو مغاير لحركة الواقع، وعلى بعض المتطفلين في الحوزة العلمية ممن لا يرتضون رؤية اية حركة ناهضة تحاول كسر الجمود وبعث الرسالة في الحياة، مما جعلهما حينها شبه معزولين في ذلك المعترك المزدوج الاتجاه، و لم تفت في عضديهما تلك العزلة المصطنعة والوجوم المفتعل، بل على العكس ساهم ذلك السكون في اعطائهما زخماً هائلاً لادامة الحركة والثورة والعلاقة المقدسة فيما بينهما، وفي هذا الصدد لابد من ذكر بعض المشاهدات الدالة على الضيق الذي كانا يعانيانه من جهالات هذا الواقع وتجنياته عليهما، فلقد روى احد أبرز المقربين للسيد الشهيد الصدر، أن السيد الامام الخميني حينما كان مقيماً في النجف الاشرف كان يعاني بشدة من حنق وجهالة الجاهلين عليه من الطلبة الايرانيين وغيرهم، اذ كانوا يشيعون ضده أنه متأثر بالشيوعيين، في محاولة لكسر هيبته ومصادرة جهاده لصالح الاطراف المنحرفة. لا لشيء إلاّ لأنه ثار في وجه حكومة الشاه العميل، وإن عملاً مثل هذا لن يكون ـ بنظر اولئك ـ إلاّ بسبب تأثر الامام بالشيوعيين المحيطين به، اذ كان اولئك يضيق استيعابهم عن معرفة خلفيات ومحتوى اية حركة مضادة للشاه الاميركي، ولم يتصوروها إلاّ من خلال كونها تابعة للمحور الآخر وهو المحور الشيوعي، وفي نظرهم تنعدم الدواعي لرجل الدين في أن يمارس عملاً مثل هذا، لا سيما وأن شاه ايران كان شيعياً كما يدعون، وإن كنا لا نشك في أن مثل هذه الترهات كان يقف وراءها جهاز الامن «السافاك» الايراني ابتداءً واستمراراً، والهدف واضح من ذلك. ولعل إِشاعة كهذه قد يكتب لها أن تنمو وتمتد في المناخ المناسب لها، وفعلاً شقّت لها طريقاً باعتبارها كانت تتحرك في اجوائها المناسبة. وفي هذا المناخ المتلبد بالجهل وفي زحمة المؤامرة المحوكة ضد الامام الخميني(قدس سره)، ما كان من السيد الشهيد الصدر(قدس سره)إلاّ أن اتخذ موقفاً مشرفاً وشجاعاً ردَّ به عملياً على هذه الاشاعات، واكد موقفه الداعم والمؤيد لحركة الامام وشخصيته ومرجعيته ـ وسوف نذكر ذلك في تفاصيل موضوعنا هذا ـ في الوقت الذي لم يكن السيد الشهيد معفىً كذلك من جهالات ذلك الواقع، ولربما اتهموه ايضاً بالتأثر بمحور استعماري آخر[2]، ذلك غير التهم والأباطيل الاخرى التي كانت تنال السيد الشهيد ويعاني منها اشد المعاناة، حتى اضطرته مرةً إلى ترك صلاة الجماعة وتعطيل درسه العلمي وتوجيه الدعوة إلى طلابه لحظور درس من يشاؤون من الاساتذة، ولولا توسط بعض الصالحين من العلماء لما استأنف السيد الشهيد درسه.
هذا الواقع الشاذ عن خط فقهاء اهل البيت المجاهدين الذي كان لا يتحمل أن يرى مرجعاً متألقاً يتدخل في شؤون السياسة، أو يقود حركة ثورية شعبية جماهيرية، هذا الواقع كان عاملاً آخراً ومهماً في توكيد علاقة السيد الشهيد بالسيد الامام؛ إذ شعرا معه بأنهما يتحركان باتجاه واحد لهدف واحد متّخذين تياراً مضاداً واحداً، وكان شعورهما بالمسؤولية يحتم عليهما الاستمرار بالحركة وادامة زخمها معاً اذا اقتضى الامر، أو أن يستمر كلّ على إنفراد، أو يتعامل أحدهما بالإيثار إذا اقتضى أن يذوب في كيان الطرف الآخر ذوباناً تاماً، وهذا ما فعله سيدنا الصدر(رضي الله عنه) بُعيد انتصار الثورة، فتسامى في عالم القيم والاهداف معلناً وفاءه للرسالة والثورة والامام.
الشهيد الصدر ومرجعية الامام الخميني
لقد شخص السيد الشهيد مبكراً مكامن القوة في مرجعية الامام الخميني(قدس سره) وميزها عما سواها من المرجعيات الدينية آنذاك، وآمن بها وبقدراتها الفذّة وذاب من ثم في وجودها العظيم لا سيما بعد نجاح الثورة الاسلامية وتحقق أمنية السيد الشهيد حيث أقيمت للأسلام دولة وحكومة، وحينها بلغ العشق والذوبان ذروته عندما آثر الموت على الحياة دون أن ينصاع قيد شعره لرغبات طغاة العراق الذين ارادوا زعزعة علاقته بالامام والثورة، فقد أبى إلاّ أن يعلن استعداده للموت والشهادة أبيّاً شامخاً، معلناً سبب موته ومصراً عليه وعاشقاً له دونما ذرة من ضعف أو وهن أو تنازل: «إني كل ما كنت أطمح إليه في الحياة واسعى له فيها هو أن تقوم حكومة للاسلام في الأرض، والآن بعد أن اقيمت في ايران بقيادة السيد الامام فإن الموت والحياة عندي سواء؛ لأن الحلم الذي كنت احلم به واتمنى تحقيقه قد تحقق والحمد للّه»[3].
من حديقة عشق الصدر الشهيد للخميني الكبير نقتطف بعض الزنابق الحزينة فهي دلائل الحب والخير والاستقامة، وهي ذاتها مؤشر على رجل عاش ومات مظلوماً:
1ـ يذكر آية اللّه السيد كاظم الحائري في كتابه مباحث الاصول: «حدثني الاستاذ(رحمه الله) ذات يوم فقال: إنني أتصور أن الأمة مبتلاة اليوم بالمرض الذي كانت مبتلاة به في زمن الحسين(عليه السلام)، وهو مرض فقدان الارادة، فالأمة تعرف حزب البعث والرجال الحاكمين في العراق، ولا تشك في فجورهم وفسقهم وطغيانهم وكفرهم وظلمهم للعباد، ولكنها فقدت قوة الارادة التي بها يجب أن تصول وتجاهد في سبيل اللّه إلى أن تسقط هذه الزمرة الكافرة من منصب الحكم، وترفع كابوس هذا الظلم من نفسها. وعلينا أن نعالج هذا المرض كي تدب حياة الارادة في عراق هذه الأمة الميتة، وذلك بما عالج الامام الحسين(عليه السلام) مرض فقدان الارادة في نفوس الأمة وقتئذ، وهو التضحية الكبيرة التي هزّ بها المشاعر واعاد بها الحياة إلى الأمة ، إلى أن انتهى الأمر بهذا السبب إلى سقوط دولة بني أمية، فعلينا أن نضحي بنفوسنا في سبيل اللّه ونبذل دماءنا بكل سخاء في سبيل نصرة الدين الحنيف. والخطة التي ارى ضرورة تطبيقها اليوم هي أن اجمع ثلة من طلابي، وهم صفوة اصحابي الذين يؤمنون بما اقول ويستعدون للفداء، ونذهب جميعاً إلى الصحن الشريف متحالفين فيما بيننا على ألاّ نخرج من الصحن احياء. وأنا أتقدم خطيباً فيما بينهم ضد الحكم القائم ويدعمني الثلة الطيبة الملتفة من حولي ونثور بوجه الظالم والطغيان، فسيجابهنا جمع من الزمرة الطاغية ونحن نعارضهم (ولعله قال ونحمل السلاح)، إلى أن يضطروا إلى قتلنا جميعاً في الصحن الشريف، وسأستثني قلة من اصحابي عن الاشتراك في هذه المعركة كي يبقوا احياء من بعدي، ويستثمروا الجو الذي سيحصل نتيجة لهذه التضحية والفداء. قال (رحمه الله): أن هذا العمل مشروط في رأيي بشرطين:
الشرط الأول: بأن يوجد في الحوزة العلمية مستوى من التقبل لعمل من هذا القبيل، أما لو أطبقت الحوزة العلمية على بطلان هذا العمل وكونه عملاً جنونياً أو مخالفاً لتقية واجبة، فسوف يفقد هذا العمل أثره في نفوس الأمة ولا يعطي ثماره المطلوبة.
والشرط الثاني: أن يوافق أحد المراجع الكبار مسبقاً على هذا العمل كي يكتسب العمل في ذهن الأمة الشرعية الكاملة، فلابد من الفحص عن مدى تواجد هذين الشرطين.
أما عن الشرط الأول فصمم الاستاذ(رحمه الله) على أن يبعث رسولاً إلى احد علماء الحوزة العلمية لجس النبض، ليعرض عليه هذه الفكرة ويستفسره عن مدى صحتها، وبهذا الاسلوب سيتعرف على رأي عالم من العلماء كنموذج لرأي يتواجد في الحوزة العلمية. وقد اختار(رحمه الله) بهذا الصدد ارسال سماحة الشيخ محمد مهدي الآصفي (حفظه اللّه) إلى احد العلماء، وأرسله بالفعل إلى احدهم كي يعرض الفكرة عليه ويعرف رأيه، ثم عاد الشيخ إلى بيت استاذنا الشهيد واخبر الاستاذ بأنه ذهب إلى ذلك العالم في مجلسه، ولكنه لم يعرض عليه الفكرة وكان السبب في ذلك أنه حينما دخل المجلس رأى أن هذا الشخص مع الملتفين حوله قد سادهم جو من الرعب والانهيار الكامل نتيجة قيام الحكومة البعثية بتسفير طلبة الحوزة العلمية، ولا توجد أرضية لعرض مثل هذه الفكرة عليه اطلاقاً.
وأما عن الشرط الثاني فرأى استاذنا الشهيد(رحمه الله) أن المرجع الذي يُترقب بشأنه أن يوافق على فكرة من هذا القبيل هو الامام الخميني (دام ظله)[4]، الذي كان يعيش وقتئذ في النجف الاشرف، فلا يصح أن يكون هذا العمل من دون استشارته، فذهب هو ـ رضوان اللّه عليه ـ إلى بيت السيد الامام وعرض عليه الفكرة مستفسراً عن مدى صحتها، فبدأ على وجه الامام(قدس سره) التألم واجاب على السؤال بكلمة (لا أدري)، وكانت هذه الكلمة تعني أن السيد الامام (دام ظله) كان يحتمل أن تكون الخسارة التي ستوجه إلى الأمة من جراء فقد هذا الوجود العظيم اكبر مما قد يترتب على هذا العمل من الفائدة، وبهذا وذاك يتبين أن الشرطين مفقودان، فعدل استاذنا الشهيد(رحمه الله) عن فكرته وكان تاريخ هذه القصة بحدود سنة 1390 أو 1391 هـ. ق »[5].
ويتضح من هذه الواقعة أن شهيدنا الصدر(رحمه الله) كان يرى في الامام الخميني منذ ذلك الحين المرجع الكبير والقيادة الحكيمة والوعي الرسالي الصحيح، وأن اختيار السيد الشهيد للسيد الامام وتمييزه له عن باقي المراجع في مسألة حساسة وخطيرة تتعلق بحياته ومستقبل التحرك الاسلامي في العراق. لم يكن ذلك اعتباطاً بقدر ما كان مستنداً إلى حقائق صارخة، وليست صفة المرجعية وحدها كانت الدافع الذي شد السيد الشهيد إلى الامام، وإلاّ فالمراجع كثيرون، لكن السيد الشهيد كان يرى في الامام ذلك القائد الثائر الذي استوعب الشريعة، وآمن بحقيقة أن الدين والسياسة والجهاد هي شيء واحد لا يمكن الفصل بينها، ويتعاظم هذا الموقف لدى المتطلعين اذا عرفوا أن السيد الشهيد، إذ كان يرى في الامام هذه الحقيقة، لم يكن في وقتها الامام معروفاً لدى الامة كما هو عليه بعد انتصار الثورة الاسلامية، بل على العكس كان الامام يعاني بمرارة من سوء فهم الآخرين له ممن تضيق عقولهم ونفوسهم عن تقبل فكره وجهاده؛ اذ إن التيار الذي كان سائداً في بعض اوساط الحوزة العلمية في النجف الاشرف هو أن لا تدخل للدين في السياسة، ومن يتدخل يلق آثاماً واتهاماً قد يناله في شخصه واستقامته، وفي هذا الجو المتلبد بالجهل استطاع رجال أمن الشاه (السافاك) اشاعة المزيد من التهم ضد الامام لاضعاف دوره واتهامه في نواياه وخططه السياسية. في ذلك الوقت وفي اشتداد الازمة ضد الامام وفي مجتمع النجف، وبالخصوص من الطلبة الايرانيين الذين اختلفوا بالاصل مع الامام، كان للسيد الشهيد موقف مشرف آخر هدف من ورائه الى دعم مرجعية الامام واعلان التأييد المطلق لها، وردَّ بشكل غير مباشر على جميع التهم والاشاعات المغرضة التي كان يرددها الجّهال والمنحرفين.
2ـ روى لنا اثنان من طلبة السيد الشهيد أن السيد الصدر(رضي الله عنه)حال احساسه بذلك الامر (أي الاشاعة اعلاه)، أوعز لاثنين من افاضل طلبته الذين يحضرون بحثه الخارج بترك درسه والالتحاق بدرس السيد الامام، لغرض أن يثبت تأييده وتنزيهه لمرجعية السيد الامام، وفعلاً نفّذ كل منهما أمر السيد الشهيد وقضيا فترة من الزمن وهما يحضران دروس وبحوث السيد الامام لذلك الغرض المنشود[6].
لقد كان السيد الشهيد(رضي الله عنه) يرى في امام الامة الخميني الكبير الامل والقدوة، من خلال معرفته لطبيعة الامام وشخصيته وافكاره ومناهجه، فليس صعباً ازاء ذلك أن يستبق السيد الشهيد الزمن ليعلن أو يؤشر إلى مكامن القوة والنبوغ، وإلى المستقبل الذي ينتظر هذا الرجل العظيم في هذا المجال.
ولطاما اشاد به وأشار إلى ذلك مراراً أمام طلابه ومريديه متوقعاً القيادة الرشيدة لمرجعيته الثائرة، ومتوقعاً مستقبل الاسلام والامة على يده.
يروي احد طلبة ومريدي السيد الصدر(رضي الله عنه) ممن كان يحضر درسه في النجف الاشرف قائلاً: عندما كان يحدثنا السيد الشهيد عن فكرة المرجعية الموضوعية وجهازها البنيوي واهدافها المستقبلية، ويؤكد لنا على حقيقة إيجادها كمشروع قيادي متقدم للحوزة وللامة وذلك قبل انتصار الثورة الاسلامية بعشر سنوات تقريباً، انبرى ذات مرة للقول إن مشروع المرجعية الموضوعية لا تحسبوه غاية بذاته وإنما هو وسيلة إذ لو انبثقت مرجعية أخرى في الامة وكان لها من الدور والتأثير اكثر مما للمرجعية الموضوعية، فعليكم أن تلتفوا حول تلك المرجعية وأن تتخلوا عن الفكرة السالفة الذكر، واستشهد بمثل على ذلك واشار بصراحة إلى مرجعية الامام الخميني وقال: يجب عليكم ألاّ تتعاملوا مع هذه المرجعية ـ وقصد مرجعيته ـ بروح عاطفية وشخصية وألاّ تجعلوا إرتباطكم بي حاجزاً عن الموضوعية، بل يجب أن يكون المقياس هو مصلحة الاسلام، فايّ مرجعية اخرى استطاعت أن تخدم الاسلام وتحقق له اهدافه يجب أن تقفوا معها، وتدافعوا عنها، وتذوبوا فيها، فلو أن مرجعية الامام الخميني مثلاً حققت ذلك، فلا يجوز أن يحول ارتباطكم بي عن الذوبان في مرجعيته[7].
وهكذا ومرة اخرى يؤكد السيد الشهيد على مرجعية الامام، لأنه يرى فيها الامل والقدوة والمستقبل، ومهما يكن من أمر فإن السيد الشهيد بما يملك من نظرة ثاقبة للامور استطاع في وقت مبكر أن يشخص مكامن القوة في مرجعية الامام، ويتخذ إزاءها المواقف المشرفة قبل بزوغ نجم الامام وانتصار الثورة، أما في مرحلة الارهاصات الاخيرة وبُعيد الانتصار وقيام الدولة الاسلامية، فإن مواقف السيد الشهيد تبلورت بالشكل الذي جعله ذائباً بتمام المعنى في قيادة الامام ومرجعيته الرشيدة، ومتنازلاً عن جميع كيانه، حيث أن السيد الشهيد شعر منذ الوهلة الاولى للانتصار بأن امنيته التي جاهد من اجلها قد تحققت، ولاجل ذلك لم يتأخر لحظة واحدة في الاعلان عن تأييده الكامل للثورة، وفي مبايعته الامام والاشادة بالشعب الايراني المسلم رغم الصعوبات السياسية المحدقة به. لقد شعر السيد الصدر بأن أمامه مسؤولية مزدوجة تجاه الثورة الاسلامية المنتصرة بقيادة الامام الخميني في ايران، ومسؤوليته تجاه مستقبل الثورة الاسلامية في العراق، التي بدأت تتأكد جذوتها وتسرع الخطى بُعيد الانتصار الاسلامي في ايران.
وهو إزاء هاتين الحقيقتين لم يقف مكتوف الايدي ولم يتجزأ في نظرته واهتماماته، ولم يدخر وسعاً إزاء احدى هاتين الحقيقتين، بل على العكس راح يمارس دوره الجهادي ويعيش القضية بكل ابعادها غير عابئ بالحدود الجغرافية أو العرقية، فالثورة عنده ذات معنىً عالمي تماماً كالاسلام رسالة للناس جميعاً.
ونظرة اولية لمواقف السيد الشهيد في كلا المجالين والثورتين تكشف لنا هذهِ الحقيقة، حقيقة عالمية النظرة وسعة الافق والاهداف التي يؤمن بها؛ فمساهمات السيد الشهيد في هذا المجال، سواء فيما يخص الثورة الاسلامية في ايران أو في العراق، تتشابه إلى حد بعيد، ولربما تترجح الكفة في عطائه وتضحياته لصالح الثورة الاسلامية في ايران. وسيبدو ذلك جلياً بعد استعراضنا لمواقفه تجاه الامام الخميني والثورة والجمهورية الاسلامية في ايران، وما تحمل بسبب ذلك من متاعب ومشاكل انتهت بإعدامه على ايدي السلطة الجائرة في العراق. وهو لم يفاجأ بنتيجة ذلك، بل كان متوقعاً وقاصداً ذلك ايضاً، مما يكشف لنا بعداً جديداً في عظمة هذا الرجل والمدى الذي انتهى اليه من نكران الذات والاخلاص للرسالة.
وفي هذا المجال له مواقف اخرى يضيق المقام عن ذكرها لكثرتها.
3ـ من رسالة بعثها السيد الشهيد لاحد العلماء في ايران عام 1963م، تحدث في مقطع منها عن الامام والثورة يقول فيها:
«وأما بالنسبة إلى ايران فلا يزال الوضع كما كان وآقاى[8] خميني مبعد في تركيا من قبل عملاء اميركا في ايران، وقد استطاع آقاى خميني في هذه المرة أن يقطع لسان الشاه الذي يتهم المعارضة باستمرار بالرجعية والتأخر؛ لأن خوض معركة ضد اعطاء امتيازات جديدة للاميركان المستعمرين لا يمكن لانسان في العالم أن يصف ذلك بالرجعية والتأخر»[9].
4ـ من مواقف الشهيد الصدر(قدس سره) في إسناد وتأييد مرجعية وقيادة الامام الخميني الكبير(قدس سره)، وذلك عندما تصاعد الحصار، وتضاعفت المضايقة للسيد الامام من قبل حكومة البعث في العراق قبل انتصار الثورة الاسلامية، قرر السيد الامام مغادرة العراق، فبادر الشهيد السيد الصدر(قدس سره) لزيارة بيت السيد الامام وتوديعه، ورغم أن اللقاء لم يتم بينهما ولم يتم التوديع؛ حيث إن الامام كان قد غادر النجف في ساعة مبكّرة من صباح ذلك اليوم إلى الكويت، إلاّ إن الشهيد السيد الصدر دخل المنزل وجلس مع بعض من كان فيه من المرتبطين بالسيد الامام معلناً تاييده ومساندته، وكان هذا منه رغم تطويق قوات الأمن العراقي للمنزل ومراقبة من يتردّد عليه، وقد اعتبرت السلطة هذا الموقف من السيد الشهيد من المواقف التي ادانته بها في الاعتقال الذي تعرّض له في انتفاضة رجب عام 1979م. ولم يكتف السيد الشهيد بذلك بل عطّل ابحاثه في ذلك اليوم، وقال:«إنّ رحيل السيد الخميني من النجف خسارة كبيرة»[10].
5ـ قبيل انتصار الثورة الاسلامية وعندما كان الامام الخميني مقيماً في نوفل لوشاتو، بعث السيد الشهيد برسالة مطولة إليه عبّر فيها عن رؤيته وتأييده للثورة وللامام وللشعب الايراني المجاهد. نقتطف منها بعض المقاطع: «فإننا في النجف الاشرف اذ نعيش مع الشعب الايراني بكل قلوبنا ونشاركه آلامه وآماله، نؤمن بأن تاريخ هذا الشعب العظيم اثبت أنه كان ولا يزال أبيّاً شجاعاً وقادراً على التضحية والصمود من اجل القضية التي يؤمن بها ويجد فيها هدفه وكرامته»[11].
وعن علاقة الشعب بالمرجعية أردف قائلاً: «لأن الاسلام وبزخم المرجعية التي بناها الاسلام وبالخميني القائد، استطاع أن يكسر أثقل القيود ويحطم عن معصميه تلك السلاسل الهائلة، فلم يعد الاسلام هو الرسالة فحسب، بل هو ايضاً المنقذ والقوة الوحيدة في الميدان التي استطاعت أن تكتب النصر لهذا الشعب العظيم… ومن تلك الحقائق الثابتة أن الشعب الايراني كان يحقق نجاحه في نضاله بقدر التحامه مع قيادته الروحية ومرجعيته الدينية الرشيدة… فالمرجعية الرشيدة والقيادة الروحية هي الحصن الواقي من كثير من الوان الضياع والانحراف»[12].
ثم ينتقل السيد الشهيد في رسالته إلى الجانب الفكري والمفاهيمي للثورة، محاولاً أن يضع الاسس الفكرية والعقائدية والغائية لحركة الثورة والجماهير، فهو بهذا الصدد يقول مخاطباً الجماهير: «أنها مدعوة اليوم اكثر من اي وقت مضى إلى أن تنظر بعين إلى الحاجات الفعلية لمسيرتها، وتنظر بعين إلى حاجاتها المستقبلية؛ وذلك بأن تحدد معالم النظرة التفصيلية من الآن فيما يتصل بإيديولوجيتها ورسالتها الاسلامية الشريفة… وقد أثبت ذلك أن الاسلام له رسالته واصالته في المبارزة، وأن الاسلام الذي يقاوم الماركسية هو نفسه الاسلام الذي يقاوم كل الوان الظلم والطغيان»[13]، ثم يردف موضحاً الفارق بين طرح الاسلام مجرد شعار وشكل وبين أن يطرح كمضامين واخلاقيات وواقعيات، فيقول: «لأن بناء ايران اسلامياً ليس مجرد تغيير في الشكل والاسماء، بل هو اضافة إلى ذلك تطهير للمستوى من كل الجذور الفاسدة وملء المضمون ملئاً جديداً حياً تتدفق فيه القيم القرآنية الاسلامية في مختلف مجالات الحياة»[14].
6ـ لقد انطلق الشهيد السيد الصدر(قدس سره) في تأييد الثورة الاسلامية في ايران وقيادة الامام الخميني الكبير(قدس سره) من منطلق التكليف الشرعي، وكان يعتبره جهاداً لابد من بذل ما يمكن من التضحيات في سبيل أدائه لو استلزم ذلك وفي معرض ردّه على بعض المترددين والمتحفظين في اداء هذه المهمة الرسالية كان يقول: «إنّ هؤلاء الذين يطلبون منّي أن أتريث، وأن أتّخذ موقفاً من الثورة الاسلاميّة لا يثير السلطة الحاكمة في العراق حفاظاً على حياتي ومرجعيتي، لا يعرفون من الامور إلاّ ظواهرها. إن الواجب على هذه المرجعية وعلى النجف كلّها أن تتّخذ الموقف المناسب والمطلوب تجاه الثورة الاسلامية في ايران… ما هو هدف المرجعيّات على طول التاريخ ؟ أليس هو إقامة حكم اللّه عزّ وجلّ على الارض ؟ وها هي مرجعيّة الإمام الخميني قد حقّقت ذلك، فهل من المنطقي أن أقف موقف المتفرّج، ولا أتّخذ الموقف الصحيح والمناسب حتّى لو كلّفني ذلك حياتي وكلّ ما أملك؟!»[15].
7ـ لقد كان الشهيد السيد الصدر(قدس سره) يعيش ويراقب ويتابع اوضاع الثورة الاسلامية في ايران بكل وجوده وامكاناته، ويفكر بكل ما يراه صالحاً لمستقبل الثورة واستقرار نظامها الاسلامي، فعندما رأى أن هناك قوىً بدأت بالبروز بعد انتصار الثورة الاسلامية على سطح الساحة السياسية في ايران، وشخّص أن طريقة تعامل هذه القوى مع نهج الثورة والامام يؤشر إلى خطورتهم الكبيرة على مستقبل الثورة والنظام الاسلامي، كان يقترح في تلك المرحلة على الثورة مقترحات يرى أنها من اساليب تجاوز هذا الخطر ودفعه، منها أن تُطرح رسالة السيد الامام (توضيح المسائل) بين المسلمين الايرانيين ليتخذوا منها شعاراً يطالبون بتطبيقها في حياتهم العملية، ومن خلال ذلك ستنفرز القوى المنحرفة وتنعزل عن الساحة الاسلامية؛ لأن المنافقين لن يطالبوا بتطبيق رسالة الامام الفقهية لأنها في الحقيقة ترجمة تفصيلية لاحكام القرآن الكريم وشريعة الاسلام المقدسة.
ولقد وجدنا أن ما تنبأ به السيد الشهيد الصدر وحذّر منه قد تحقق مصداقه في حركات المنافقين، ومن ابرزها حركة مجاهدي خلق المنحرفة[16].
8ـ ومن جوانب اهتمام الشهيد الصدر الاساسية بالثورة الاسلامية في ايران، وحرصه على مستقبلها المشرق قوله: «إنّ القادة الكرام في ايران مشغولون بالكثير من المشاكل والقضايا التي تتعلّق بحفظ الامن واستتبابه، وتركيز قواعد الثورة، وممّا لاشك فيه أن ملء الجوانب الفكرية لا يتيسّر لهم في الوقت الحاضر، فالواجب أن نمدّ يد العون والمساندة لهم، ولو بجهد بسيط». وعلى ضوء ذلك بادر إلى كتابة سلسلة «الاسلام يقود الحياة» تضمنت مبادئ واوليات عامة في فقه النظام الاسلامي بجوانبه الاجتماعية والاقتصادية ونظام الحكم؛ وبعد طباعة هذه السلسلة في بيروت كلّف احد تلامذته المخلصين[17] في لبنان بإيصالها إلى المسؤولين في الجمهورية الاسلامية في ايران، فقام بالمهمة وقدّم نسخة منها إلى مكتب الامام الراحل(قدس سره)، ونسخة إلى الشهيد السيد البهشتي وإلى عدد من المسؤولين في اجهزة الدولة العليا في ذلك الوقت. كما طلب السيد الشهيد ترجمة هذه السلسلة إلى اللغة الفارسية لتعميم الاستفادة منها في الاوساط الايرانية[18].
9ـ على أثر خبر انتشر في الوسط الايراني مفاده أن السيد الشهيد الصدر عازم على ترك العراق، ارسل السيد الامام(رضي الله عنه)برقية طالب فيها السيد الشهيد(رضي الله عنه) بعدم الهجرة، وعلى اثرها بعث السيد الشهيد برقية جوابية ضمّنها تأييده للثورة ومبايعته للامام: «بسم اللّه الرحمن الرحيم. سماحة آية اللّه العظمى الامام المجاهد السيد روح اللّه الخميني دام ظله، تلقيت برقيتكم الكريمة التي جسدت ابوتكم ورعايتكم الروحية للنجف الاشرف الذي لا يزال منذ فارقكم يعيش انتصاراتكم العظيمة. وإني استمد من توجيهكم الشريف نفحة روحية كما اشعر بعمق المسؤولية في الحفاظ على الكيان العلمي للنجف الاشرف، واود أن اعبر لكم بهذه المناسبة عن تحيات الملايين من المسلمين والمؤمنين في عراقنا العزيز الذي وجد في نور الاسلام الذي اشرق من جديد على يدكم ضوءاً هادراً للعالم كله، وطاقة روحية لضرب المستعمر الكافر والاستعمار الاميركي خاصة، ولتحرير العالم من كل اشكاله الاجرامية وفي مقدمتها جريمة اغتصاب أرضنا المقدسة فلسطين. ونسأل المولى سبحانه وتعالى أن يمتعنا بدوام وجودكم الغالي. والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته . الخامس من رجب 1399 هـ. ق. النجف الاشرف محمد باقر الصدر».
10ـ على أثر مواقف السيد الشهيد من الامام والثورة الاسلامية تعرّض لحملة مضايقات من السلطة البعثية، وكان من جملتها احتجازه في داره. ولمّا تناهى هذا الخبر إلى الامام بعث برقية يستفسر بها عن احواله ويطمئن بها على اوضاعه، ولما كان السيد الشهيد لا يستطيع الرد على برقية الامام ببرقية جوابية نتيجة لظروفه القاهرة، استعاض عنها بمكالمة هاتفية هي الاخرى ضمّنها مواقفه ورؤاه البطولية الملتزمة: «استمعت إلى برقيتكم التي عبرت عن تفقدكم الابوي لي. وإني إذ لا يتاح لي الجواب على البرقية لأني مودع في زاوية البيت ولا يمكن أن أرى احداً أو يراني أحد، لا يسعني إلاّ أن اسأل المولى سبحانه وتعالى أن يديم ظلكم مناراً للاسلام ويحفظ الدين الحنيف بمرجعيتكم القائدة، واسأله تعالى أن يتقبل منّا العناء في سبيله وأن يوفقنا للحفاظ على عقيدة الأمة الاسلامية العظيمة. وليس لحياة أي انسان إلاّ بمقدار ما يعطي لأمته من وجوده وحياته وفكره، وقد اعطيتم للمسلمين من وجودكم وحياتكم وفكركم ما سيظل على مدى التاريخ مثلاً عظيماً لكل المجاهدين»[19].
11ـ بعث السيد الشهيد برسالة إلى طلابه المقيمين في ايران والذين هاجروا من العراق، ضمّنها من المبادئ والافكار ما يكون دليلاً مستقلاً على عظمة السيد الشهيد وتفانيه واخلاصه لمبادئه ونكرانه لذاته: «بسم اللّه الرحمن الرحيم. اولادي واعزائي حفظكم اللّه بعينه التي لا تنام، السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته. اكتب إليكم في هذه اللحظات العظيمة التي حقق فيها الاسلام نصراً حاسماً وفريداً في تاريخنا الحديث على يد الشعب الايراني المسلم، وبقيادة الامام الخميني (دام ظله) وتعاضد سائر القوى الخيّرة والعلماء الاعلام، وإذا بالحلم يصبح حقيقة وإذا بالأمل يتحقق، وإذا بالافكار تنطلق بركاناً على الظالمين، لتتجسد وتقيم دولة الحق والاسلام على الأرض. وإذا بالاسلام الذي حبسه الظالمون والمستعمرون في قمقم، يكسر القمقم بسواعد ايرانية فتية لا ترهب الموت، ولم يثن عزيمتها إرهاب الطواغيت، ثم ينطلق من القمقم ليزلزل الأرض تحت اقدام كل الظالمين، ويبعث في نفوس المسلمين جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها روحاً جديدة وأملاً جديداً.
إن الواجب على كل واحد منكم، وعلى كل فرد قدّر له حظه السعيد أن يعيش في كنف هذه التجربة الاسلامية الرائدة، أن يبذل كل طاقاته وكل ما لديه من امكانات ومقومات، ويضع ذلك كله في خدمة التجربة، فلا توقف في البذل والبناء يُشاد لأجل الاسلام، ولا حدّ للبذل والقضية ترتفع رايتها بقوة الاسلام، وعملية البناء الجديد بحاجة إلى طاقات كل فرد مهما كانت ضئيلة. ويجب أن يكون واضحاً ايضاً أن مرجعية السيد الخميني ـ التي جسدت أمل الاسلام في ايران اليوم ـ لابد من الالتفاف حولها والاخلاص لها، وحماية مصالحها، والذوبان في وجودها العظيم بقدر ذوبانها في هدفها العظيم، وليس المرجعية الصالحة شخصاً، وإنما هي هدف وطريق، وكل مرجعية حققت ذلك الهدف والطريق فهي المرجعية الصالحة التي يجب العمل لها بكل اخلاص. والميدان المرجعي أو الساحة المرجعية في ايران يجب الابتعاد بها عن أي شيء من شأنه أن يضعف أو لا يساهم في الحفاظ على المرجعية الرشيدة القائدة. أخذ اللّه بيدكم واقر عيونكم بفرحة النصر، وحفظكم سنداً وذخراً. والسلام عليكم يا أحبتي ورحمة اللّه وبركاته. التوقيع: أبوكم»[20].
12ـ برقية بعثها السيد الشهيد(رضي الله عنه) إلى الشعب العربي في ايران يحثّهم فيها على التقيد بقيادة الامام الحكيمة، ويوضح لهم فيها طبيعة المجتمع المسلم وما يتطلبه من تلاحم وتفاني من اجل بناء مجتمع المتقين: «بسم اللّه الرحمن الرحيم. شعبنا العربي المسلم في ايران المجاهد، السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته. وبعد، فإني اخاطبكم باسم الاسلام، وادعوكم وسائر شعوب ايران العظيمة لتجسيد روح الاخوة الاسلامية، التي ضربت في التاريخ مثلاً اعلى في التعاضد والتلاحم في مجتمع المتقين، الذي لا فضل لمسلم على مسلم إلاّ بالتقوى، مجتمع عمّار بن ياسر وسلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي، مجتمع القلوب العامرة بالذكر والايمان، المتجاوزة كل حدود الارض المفتوحة باسم السماء ورسالة السماء. فلتتوحد القلوب ولتنصهر كل العلاقات في إطار القيادة الحكيمة للامام الخميني، وفي طريق بناء المجتمع الاسلامي الذي يحمل مشعل القرآن الكريم إلى العالم كله. والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته. محمد باقر الصدر. النجف الاشرف 16 رجب»[21].
13ـ روى احد مرافقي السيد الشهيد المقربين لديه، وهو آخر من لازم الشهيد الصدر في بيته حتى آخر فترة الاحتجاز المفروضة من قبل السلطة الحاكمة في بغداد، قال: «قال لي السيد الشهيد يوماً: لو أن السيد الخميني أمرني أن اسكن في قرية من قرى ايران أخدم فيها الاسلام، لما تردّدت في ذلك. إن السيد الخميني حقق ما كنت أسعى إلى تحقيقه»[22].
والسيد الشهيد يقصد بهذا القول استعداده الكامل لتفنيذ اوامر وتوجيهات الامام، ولا يضيره طبيعة المهمة المسندة إليه في ذلك المجال، ويقصد ايضاً أن يعبر عن درجة تفانيه واخلاصه ونكرانه لذاته بل تنازله عن منزلته الرفيعة ومرجعيته الرشيدة في مقابل مرجعية الامام وقيادته الحكيمة، لدرجة أنه يرضى بأن يكون مجرد مبلغ ووكيل للامام ولو كان ذلك في قرية من قرى ايران.
14ـ بعث الطاغية صدام الشيخ عيسى الخاقاني بمعية ضابط المخابرات الذي عرّف نفسه بابو علي لغرض مفاوضة السيد الشهيد، فقال الشيخ عيسى الخاقاني للسيد الشهيد: «إن السلطة تريد أن تفك الحجز عنك، إلاّ إن لديها شروطاً، بمعنى أنها تريد منك أن توافق على الشرط الأول، وإلاّ فعلى الشرط الثاني، وإلاّ فعلى الشرط الثالث، وهكذا، أما عدم الاستجابة لأي واحد من تلك الشروط فيعني الاعدام. واللّه إني سمعت صداماً يقول: إذا لم يستجب محمد باقر الصدر لشرط من هذه الشروط فسوف اعدمه.
والشروط هي: الشرط الأول: أن يتخلى عن تأييد ودعم الثورة الاسلامية في ايران وعن تأييده للسيد الخميني، عندئذ التفت السيد إلى الشيخ الخاقاني وقاله له: «إذا لم أستجب» ؟ قال الشيخ عيسى: «كما قلت لك سيدنا ـ واللّه ـ لقد سمعت من لسان صدام أنه قال: سوف أعدمه»، فقال له(رضي الله عنه): «أخبر صداماً أني بانتظار تنفيذ وعده»، ثم قال للخاقاني: «إني كل ما كنت اطمح إليه في الحياة واسعى له فيها هو أن تقوم حكومة للاسلام في الارض، والآن بعد أن أُقيمت في ايران بقيادة السيد الامام فإن الموت والحياة عندي سواء؛ لأن الحلم الذي كنت احلم به واتمنى تحقيقه قد تحقق والحمد للّه»، ثم التفت(رضي الله عنه)إلى ضابط مخابرات القصر الجمهوري التكريتي وقال له: «يا أبا علي، أخبر صداماً أنه في أيّ وقت يريد اعدامي فليفعل»[23]. بعبارة واحدة يمكن أن نجد في معانيها ودلالاتها شخصية هذا الرجل العظيم، ونجد فيها ايضاً نقطة الذروة التي ابتدأ منها وانتهى إليها في تعاطيه مع الرسالة ومستقبلها، وفي تعاطيه مع إمام الامة وقيادته الحكيمة. ولسنا مضطرين لتحميلها شيئاً آخر سوى أنها مدويّة بمظلومية هذا الرجل، ولا عجب فلقد تواصل مع سيرة اجداده في تضحياتهم ومظلوميتهم، فكان لهم امتداداً حقيقياً تتجسّد فيه كل سماتهم.
الشيخ فؤاد كاظم المقدادي
[1] وامثال هؤلاء طالما ابتليت بهم الحوزات العلمية والمرجعيات العليا في كافة ادوارها وعلى طول تاريخها الجهادي الرائد
[2] راجع كتاب الشهيد الصدر سنوات المحنة وأيام الحصار للشيخ محمد رضا النعماني: 249.
[3] كلام قاله السيد الشهيد لمبعوث صدام الشيخ عيسى الخاقاني الذي أتى لمفاوضته نقلناه من كتاب مباحث الاصول لآية اللّه السيد كاظم الحائري 1: 162.
[4] سجّلت هذه الذكريات في حياة الامام الخميني.
[5] م. ن 1: 162
[6] بتفصيل آخر راجع كتاب «الشهيد الصدر سنوات المحنة وأيام الحصار» للشيخ محمد رضا النعماني: 249 ـ 250.
[7] الراوية السيد عبد الهادي الشاهرودي، راجع كتاب الشهيد الصدر سنوات المحنة وأيام الحصار للشيخ محمد رضا النعماني: 163
[8] هكذا وردت في نص الرسالة ويُقصد بها (السيد).
[9] الشاهد الشهيد: 51 ـ 52. الشاهد الشهيد: 51 ـ 52.
[10] راجع كتاب الشهيد الصدر سنوات المحنة وأيام الحصار للشيخ محمد رضا النعماني: 250
[11] مباحث الاصول 1: 142.
[12] مباحث الاصول 1: 142.
[13] م. ن: 143.
[14] م. ن: 144.
[15] راجع كتاب الشهيد الصدر سنوات المحنة وأيام الحصار للشيخ محمد رضا النعماني: 259 ـ 260.
[16] م. ن: 145
[17] راجع كتاب الشهيد الصدر سنوات المحنة وأيام الحصار للشيخ محمد رضا النعماني: 248.
[18] هو السيد محمد الغروي
[19] الشاهد الشهيد: 65.
[20] مباحث الاصول 1: 145 ـ 146
[21] م. ن: 147.
[22] الرواية هو الشيخ محمد رضا النعماني في كتابه الشهيد الصدر سنوات المحنة وأيام الحصار: 164.
[23] مباحث الاصول 1: 162 ـ 163.