منهج الكتابة عند الشهيد الصدر (قدس سره)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
السلام عليكم أيُّها الاخوة جميعاً ورحمة الله وبركاته
الكتابة عند الشهيد الصدر كانت بوحي من المسؤولية وقد انعكست هذه المسؤولية على عدة أبعاد:
البعد الأول: هو اختيار الكتب والمواضيع التي ألّف بها الشهيد الصدر، فلم يكن اختياره اعتباطاً حيث ان الشهيد الصدر المجتهد (الذي كان الفقه ينصاع بين يديه كالعجينة التي تنصاع بين يدي الخباز) كما سمعت ذلك النص منه حرفياً، إذ كان في مقام التحدث عن مستواه الحوزوي في مقابل فقدان الاهتمام بالعلوم الاخرى اذ يعتبر الشهيد الصدر مقصراً في العلوم الاخرى إذ يقول ـ انا عندما بلغت السن الثامنة عشرة من عمري كان الفقه في يديَّ ينصاع كالعجينة التي تنصاع بين يدي الخباز في الوقت الذي لا أعرف الكثير من تفسير الآيات القرآنية ومن علوم القرآن ـ اذن ليس اعتباطاً ان يكون هذا المجتهد المتبحر (الذي كان الفقه ينصاع بين يديه كالعجينة التي تنصاع بين يدي الخباز) ان يؤلف فلسفتنا في ذلك الوقت ويمثل هذا الاسلوب الحديث، ويصرّح الشهيد الصدر عند اختياره لهذا الكتاب أو لهذا الموضوع بالتصريح التالي يقول ـ غزى العالم الإسلامي منذ ان سقطت الدولة الاسلامية صريعة بأيدي المستعمرين سيل جارف من الثقافات الغربية القائمة على أسسهم الحضارية ومفاهيمهم عن الكون والحياة فكانت تمد الاستعمار امداداً فكرياً ـ.
ويتحدث الشهيد الصدر عن سبب اختياره للكتاب فلسفتنا ولهذا الموضوع يقول: وفدت بعد ذلك الى أراضي الاسلام السليبة امواجٌ اخرى من تيارات… وقام الصراع بين تلك المفاهيم الواردة.
اذن مسألة صراع بين الاسلام والحضارات الاخرى هي التي جعلت الشهيد الصدر يحس بمسؤوليته في ان يكتب للاُمة كتاباً يعالج فيه تلك المسألة، ليتاح للاُمة ان تعلن كلمة الله في المعترك وتنادي بها وتدعوا العالم اليها كما فعلت في فجر تاريخها العظيم.
اذن الشهيد الصدر يتحدث عن سبب اختياره لهذا الكتاب بهذه المقدمة التي أوجزناها بمثل هذه الجمل اليسيرة.
وهكذا عندما ألّف كتاب اقتصادنا فكان من المقرر ان يؤلف الشهيد الصدر كتاب مجتمعنا كما يتحدث هو بنفسه يقول ـ وكنا نقدر ان يكون مجتمعنا (كتاب مجتمعنا) هو الدراسة الثانية في بحوثنا نتناول فيها أفكار الاسلام عن الانسان وحياته الاجتماعية وطريقته في تحليل المركب الاجتماعي وتفسيره لنهده بعد ذلك الى المرحلة الثالثة الى مرحلة النظم الاسلامية ولكن شاءت رغبة القراء الملحة ان نؤجل مجتمعنا ونبدأ باصدار اقتصادنا ـ فاذن كانت تأليفاته مواكبة للحاجة لم تكن افرازات ثقافة مستوردها ومتلقيها أو مكتسبها وانما كان يرى ماهي رغبة القراء وما هي حاجة الامة وما هو الاولى فيما يكتبه ويخطه يمينه ويقول: شاءت رغبة القراء الملحة ان نؤجل مجتمعنا ونبدأ باصدار اقتصادنا «بناءاً على الحكاية مجتمعنا واقتصادنا أي كتاب» عجلة منهم للاطلاع على دراسة مفصلة للاقتصاد الاسلامي، واضيف الى هذا الموقف أيضاً نص للشهيد الصدر أيضاً كان يقول عندما يسأل لماذا لم تؤلف لحد الآن كتاب مجتمعنا؟ يقول ـ إنّ المجتمع لا يتحمل كتاب مجتمعنا أو مجتمعنا لا يتحمل كتاب مجتمعنا ـ وأنا سمعتُ مقابلة شخصية اجريتها مع الشيخ الوائلي «حفظه الله» يقول: سألت الشهيد الصدر عن سبب تأخير كتاب مجتمعنا فقال لي أنا منشغل الآن بانشاء مجتمعنا بشكل حي في المجتمع ليس المهم فقط كتاب مجتمعنا.
هذا البحث يجرنا الى موضوع آخر وهو ان الشهيد الصدر كان يتحمل مسؤولية ليس فقط بالكتابة وإنّما في الاعمال بحيث اذا كان العمل والجهاد أهم من الكتابة فان الشهيد الصدر ينصرف إلى ذلك المجال الذي يبني مجتمعنا بشكل حي ليس فقط تأليف كتاب مجتمعنا كما انصرف أيضاً الى الجهاد والى الشهادة والى المرجعية بعد ذلك أصبح جندي لدى المرجعية في مرحلة من المراحل عندما تأسست الدولة الاسلامية، هذا بحث آخر في أبعاد شخصيته الاخرى. لكن باعتبار ان بحثنا هو المنهج للكتابة عند الشهيد الصدر.
اذن كانت اختيارات الشهيد الصدر في الكتابة هي اختيارات هادفة وواعية وبوحي من المسؤولية ولذلك عندما ألف المدرسة الاسلامية قال ـ عندما صدرت الحلقة الاولى من أبحاثنا فلسفتنا واقتصادنا شعرنا بحاجة الاُمّة الى حلقة وسيطة بين هذين المرحلتين وألفنا كتاب المدرسة الاسلامية بجزئيها ـ فاذن حتى المدرسة الاسلامية عندما ألفها يذكر في المقدمة سبب التأليف انه من وحي الحاجة، اذن لازلنا في موضوع تحديد ان الكتابة عند الشهيد الصدر تعني المسؤولية. هذا البعد الاول باختصار.
البعد الثاني: اختياره للاساليب المناسبة:
يعني هذا البعد العنوان الكبير والهدفية أو المبدئية عند الشهيد الصدر جعلت أو فرضت عليه ان يختار اسلوباً معيناً في الكتابة هذا الاسلوب المعين قد يكون يتحاشى التفصيلات العلمية أو التعقيد العلمي واحياناً يلجأ إلى التبسيط بالعبارة حتى ولو على حساب سمعة الباحث أو على حساب سمعة البحث، لانه في اجواء الحوزة قد يكون الميل الى التعديل في العبارة أو اختيار المصطلحات لكن الشهيد الصدر كان يراعى القارىء يرعى الاُمّة في نوع كتاباته وهذا ما تجسد في جميع كتاباته واخذ نموذج واحد أفقط وهو الفتاوى الواضحة باعتبار الرسائل العلمية كانت دارجة على شيء مألوف وتفريعات مثبته من القدم وجرى ديدن العلماء ان يعلقوا على هذه المسائل الموجودة وكان أي تغيير في الفتاوى والرسائل العملية بعد خرق عام، الشهيد الصدر برر هذا الخرق برسالته العملية الفتاوى الواضحة وقال في مقدمة التفاوى صفحة (95) ـ توجد على الرسائل العملية ملاحظتان تستدعيان التغيير والتطوير (هذا السبب في احساسه بمسؤولية الاُمّة ليس مسألة من رغبته أو مسألة اعتباطية وانما الملاحظة الاولى) ان هذه الرسائل تخلوا غالباً من المنهجية الفنية في تقسيم الاحكام وعرضها وتصنيف المسائل الفقهية على الابواب المختلفة (والملاحظة الثانية هي) ان الرسائل العملية لم تعد تدريجياً بوضعها التأريخي المألوف لم تعد كافية لاداء مهمتها بسبب تطور اللغة والحياة لذلك ان الرسالة العملية تعبر عن مسائل شرعية لوقائع من الحياة والاحكام الشرعية بصيغتها العامة وان كانت ثابتة ولكن أساليب (هذا وقع وهم يقول لا يصح فالاسلام اسلام ليس فيه فتاوى واضحة غامضة) التعبير تختلف وتطور من عصر إلى آخر ووقائع الحياة تتجه وتتغير وهذا التطور الشامل في مناهج التعبير وواقع الحياة يفرض وجوده على الرسالة العملية بشكل وآخر ـ فاذن الاسلوب الذي كان تدرج عليه الشهيد الصدر كان اسلوباً نابعاً من المسؤولية كما أسلفنا.
البعد الثالث: الذي انعكاسه من اسلوب الشهيد الصدر في تأليفاته هو:
اختياره للادلة العلمية والامثلة الدقيقة التي كان يحتاجها العصر بحيث الذي يقرأ في كتب الشهيد الصدر (فلسفتنا، واقتصادنا، والكتب الاخر) وخصوصاً في كتاب الاسس المنطقية للاستقراء يحس انه امام شخص ليس فقط عالم دين ومفكر اسلامي وانما هو شخص عنده ثقافة حديثة ومطلع على العلوم وهذا يزيد من ثقة القارىء واقتناعه بما يورده الشهيد الصدر من أمثلة وأدلة ولذلك احتوت كتب الشهيد الصدر على معلومات في الكيمياء والفيزياء والطبيعة والرياضيات بشكل دقيق ولم يسجل الباحثون الاختصاصيون أو الاختصائيون مفارقات وخلل في هذه الامثلة التي أوردها الشهيد الصدر في كتبه.
البعد الرابع: التي أود الحديث عنه بشكل أكثر مفصل.
هو ان الشهيد الصدر كلما يطلق قاعدة أو ينتهج اسلوباً كانت عنده تغطية فكرية له أو اذا صح التعبير كانت عنده قاعدة فكرية ينطلق منها.
فالشهيد الصدر عندما يقول كلمة كانت تنبع هذه الكلمة من اصالة فكرية موجودة في نفسه، كيف؟ نحن هنا في هذا البحث بعيدين عن مسألة المدح وانما نحن امام قضية علمية دقيقة، مثلاً الشهيد الصدر هذه الفكرة وهي ان الكلمة يجب ان تكون صادرة من القلب وان تكون نابعة من العقل والايمان والوجدان، هذه نفس القاعدة الذي أنا أدعيها أيضاً الشهيد الصدر يبحثها بشكل مفصل ويقول قوله فيها ماذا يقول الشهيد الصدر في مسألة الكتابة والالقاء والخطابة وما شابه ذلك؟
يقول عندما يستدل بالآية الكريمة ( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام واذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد) سورة البقرة.
الشهيد يقول عن رب العزة ـ يريد ان يقول بان الانسان اذا لم ينفذ بعملية التغير الى قلبه أعماق روحه اذا لم يبن نفسه بناءاً صالحاً لا يمكنه ان يطرح الكلمات الصالحة انما يمكن ان تتحول إلى بناء صالح في المجتمع اذا نبعت عن قلب يعمر قلبك القيم التي تدل عليها تلك الكلمات والا فتبقى الكلمات مجرد ألفاظ جوفاء دون ان يكون لها مضمون ومحتوى فمسألة القلب هي التي تعطي للكلمات معناها وللشعارات أبعادها ولعملية التغيير البناء الخارجي أهدافها ومسارها إلى هنا عرفنا ان الاساس في حركة التأريخ (ليس فقط في حركة الانسان في الكتابة أو في التبليغ أو فيما يقول وانما في حركة التأريخ هو المحتوى الداخلي للانسان يرسم التأريخ، الانسان ليس بألفاظه وبقلمه وانما بالمحتوى الداخلي الذي يكون القلم معبراً عن ذلك المحتوى) هو المحتوى الداخلي للانسان وهذا المحتوى الداخلي بشكل القاعدة ـ فكان فعلاً الشهيد الصدر فيما يكتب له قاعدة ورصيد في نفسه وفي فكره وفي المحتوى الداخلي إلى ان صار هذا الهيكل الموجود أمامنا هو التعبير عن المشروع الداخلي عند الشهيد الصدر بينما كثير من المفكرين والكاتبين لديه اختصاص معين في جامعة معينة ويكتب في ذلك الاختصاص ليس مهم عنده المجتمع شيء ولذلك يرد على هذا الدليل يجيب هذه اللفظة يعمل هذا العمل الفلاني الذي يناقض كتابه ليس مهم، الشهيد ما كان يلجأ الى هذا الاسلوب وانما كان متميز في اختياراته وانعكس هذا حتى على نوع اختياره للرأي الكلامي، وللرأي الفلسفي المعين مثلاً عندما تجد في باب العقائد توجد مدارس معينة في المعرفة أو في نفس علم الكلام توجد اراء معينة في صفات الله وأمثالها، كان الشهيد الصدر في اختياراته معبراً عن القاعدة الفكرية العامة الذي كان قد أخذها من القرآن والاسلام مثلاً يقول الشهيد الصدر في صفات الله – قلنا في صفات الله واخلاق الله علمنا الاسلام على ان لا نتعامل مع هاك حقائق عينيه ميتافيزيقيه ـ قد البعض يقول هناك أشياء لم نفهمها العدل، الرحمة، الامور الاخرى، أشياء لا يمكن للعقل ان يدركها، عدل الله ما هو عدل الله؟ هذا المعنى بفضل النظر عن مناقشته أو الحكم بانه صحيح أو غير صحيح نحن ليس في مقام تحليل هذا الموقف عقائدياً لان هذا له مجالاته الخاصة ولكن اقول ان الشهيد الصدر كان يبرز جانب ايجابي في هذا الموضوع يقول ليس ـ حقائق عينيه ميتافيزيقيه – ؟؟؟
العواطف موقفاً ايجابياً في توجيه الحياة العملية والسلوك العام.
ويوجد حديث مفصل جداً للشهيد الصدر حول العواطف يقول ـ في العقيدة الاسلامية ينبغي ان تكون في نظر الاسلام ينبوعاً لا عمق العواطف في نفس المسلم كعاطفة الحب العميق ولرسوله ولرسالته التي تسمو على كل عاطفة وتهون في سبيلها كل العلائق، علائق الابوة، والنبوة، والاخوة، والزوجية، والعشيرة، وعلائق المال والتجارة، والمسكن، ويقوم على أساسها التقرير العاطفي بكل موقف ولكل واقعة يشير إلى الآية الكريمة: ( ان كان آبائكم أو ابنائكم…) ـ التي تتحدث انه الله سبحانه وتعالى يجب ان يكون هو الاول في الحب والعاطفة.
ولذلك عندما يجسد هذا المفهوم، هذا المرتكز الفكري للشهيد الصدر عن العاطفة يجسده في تقيمه لشخصية أمير المؤمنين(عليه السلام) عندما كان يمجد بأمير المؤمنين ماذا كان يقول عن علي ابن أبي طالب، لم يكن يتصدره فرد خيالي وينظر له نظره ميتافيزيقية وانما كان يقول عن علي(عليه السلام)حب الله هو الذي جعل علياً يقف مواقف الشجاعة، وهذه ليست مسألة تربيته أو دخل دورة(عليه السلام) وأصبح شجاعاً، كلا، انما حب الله هو الدور وهو المربي هو الذي جعل علياً يقف مواقف الشجاعة، مواقف البطولة، هذه الشجاعة شجاعة علي ليست شجاعة الاسود، انما هي شجاعة الايمان وحب الله، لماذا؟ لان هذه الشجاعة لم تكن فقط شجاعة البراز في ميدان الحرب بل كانت احياناً شجاعة الرفض، احياناً شجاعة الصبر علي بن أبي طالب(عليه السلام) ضرب المثل في ميدان المبارزة في ميدان الحرب، شد حزامه وهو ناهز الستين من عمره الشريف وهجم على الخوارج وحده فقاتل أربعة آلاف انسان هذه قمة الشجاعة، ومرد الشجاعة إلى العاطفة التي هي مردها واساسها حب الله سبحانه وتعالى اذن الشهيد كان في اختياراته للكتابة كان نابع من المسؤولية ولذلك برزنا المسؤولية بشكل نقاط أربعة بل كانت جميع شخصيته تتسم بالمسؤولية اختياره للمشاريع ابتداءً من كتاباته وانتهاءاً باستشهاده(قدس سره) وبالبيانات التي يجب ان تلقى بعد استشهاده كل الاختيارات هذه كانت نابعة من المسؤولية ومن الاحساس بالواجب.
والحمد لله رب العالمين
الشيخ عبدالحليم الزهيري