معالم من المنهج الحضاري للشهيد الصدر

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

اذا ما أردنا ان نفي صنّاع التأريخ حقهم من التقدير، فلابدّ من اطلالة ـ ولو سريعة ـ على البيئة السياسية التي ترعرعوا فيها، ولابدّ من نظرة ـ سريعة ايضا ً ـ على المناخ الفكري الذي تنفس فيه اولئك الأفذاذ. كل ذلك لنقف على مدى الأبعاد العميقة التي يحفرها صانعو التأريخ في مسار حركة التأريخ، وما يتركونه من بصمات واضحة على ذلك المسار.

والشهيد الصدر اسم مميز في زمن ندرت فيه الاسماء البارزة ذات القوة الدافعة في صناعة التأريخ المتناهي، وسط تزاحم الاسماء التي اعطت التاريخ انتفاخا ً في حجمه انتفاخ الورم في الجسم، وليس من المغالاة ان نقول بأن الشهيد الصدر هو أبرز القوى الكامنة في دورة حياة التأريخ[1]

لقد أبصر الشهيد النور في مطلع الثلاثينات من القرن الماضي، وكان العراق موطن الشهيد ـ شأنه شأن كل الوطن الاسلامي ـ يعيش حالة مروعة من الانكفاء والانحسار في الوعي، في الوقت الذي كان يشهد فيه أوج تصاعد حالة التغريب الثقافي والعلمنة السياسية. وحتى بقايا صيحات الوعي كادت ان تضيع بين زحام الهجمة الصليبية العنيفة، والتي أعانها بل وجنّد نفسه لها العديد من أبناء المسلمين أنفسهم!!

«لم نعد بحاجة الى دين اصحاب العمائم»[2]بهذه العبارة ـ التي قالها « يوسف عز الدين ابراهيم » وزير المعارف العراقي يومئذ ـ يكون قد اختصر لنا وبشكل مكثف  طبيعة التوجه الذي أخذ يزحف الى كل مناحي الحياة.

وليس أدل على عمق حالة الاستلاب الفكري، في الشارع العراقي، من شيوع المظاهر الغربية بكل انماطها وافرازاتها. وبديهي ان الذين يستغنون عن دين اهل العمائم سيبدلونه بـ (دين) اهل القبعات من ذوي العيون الزرق!!

وبهذا الصدد يقول الكاتب الانجليزي «روم لانداو» الذي قام بزيارة الى العراق سنة 1937 ـ ضمن رحلة له شملت العديد من أقاليم الوطن الاسلامي ـ : «رأيت في مقاهي ومحلات تجارية متعددة في بغداد والموصل وأماكن اخرى صورا ً لموسوليني وهتلر، بل وحتى لينين» ثم راح يتساءل: «هل من المحتمل ان تؤثر مذاهب الغرب وايديولوجياته الجديدة على مستقبل الشرق الادنى؟».[3]

في مثل تلك الأجواء المكفهرة. ولد الشهيد الصدر, ليرى غربة الاسلام في معاقله التقليدية، فيما كان المستعمر الكافر وأدواته المحلية هم الذين يمسكون بزمام الامور، محاصرين الاسلام من الجهات الاربع.

وفي الوقت الذي كان فيه الشهيد منكبا ً على التعمّق في امهات الاحكام الاسلامية الشائكة، ومتوغلا ً الى حد بعيد في معضلات المسائل العلمية.. نراه لم يكن بعيدا ً عن هموم وأجواء عصره، فهو ليس أسير الماضي، بل كان من طراز اولئك الذين استوعبوا حقائق التاريخ، فنظروا الى الواقع على انه امتداد للماضي. ولهذا نجده لم يرضَ لنفسه ابدا ً ان يحصر فكره واهتماماته في اجواء العلوم الدينية وأروقة الحوزة العلمية، بل كان على اتصال حيوي متفحص لما يجري على ساحة العالم الاسلامي.. ولذا فليس غريبا ً ان ينقل الينا بعض تلامذته ان السيد الشهيد كان يتابع الكتب الاسلامية الحديثة في الاربعينات، وكذلك بعض الصحف والمجلات كجريدة الساعة وغيرها.[4]

وقيل: انه تعرّض ذات يوم ـ وكان في مطلع شبابه ـ الى موقف حاول فيه بعض انصاف المثقفين، ممن يلوكون ثقافة الغرب ويرطنون بمصطلحاتها، ان ينالوا من السيد الشهيد ـ باعتباره كان يرتدي زي علماء الدين ـ فما كان منه الا ان خاض معهم حواراً هادئا ً، وأخذ يتحدث لهم عن المسألة التي أثاروها بشكل معمق أثار استغرابهم، وقد تصوروا ان رجل الاسلام بعيد كل البعد عن هذه الاجواء.. واسقط ما في ايديهم.

كان الشهيد في ريعان شبابه، حينما قامت حركة عام 1958 في العراق، وفي اثرها هبّت رياح حمراء تحمل في الثنايا مدا ً الحاديا ً اقلق الضمائر الحرة، وهدد القيم والمثل، وكان المد كاسحا ً ومسيطرا ً حتى على الشارع العام، والى الحد الذي تخرج فيه مظاهرة نسائية في شارع الرشيد ـ قلب بغداد ـ تهتف وبلا حياء معهود عن المرأة العراقية:«ماكو مهر بس هالشهر!» بمعنى لا وجود للمهر بعد الآن، وتطلعت العيون الى بطل تاريخي ينبري لمهمة التصدي، وهي بلا ريب مهمة ثقيلة وتنوء عن حملها الجبال.. فكيف بشاب يبلغ من العمر السادسة والعشرين ؟!

لم يقف الشيوعيون في العراق عند حدودهم، بل اندفعوا برعونة في اهانة الاسلام وعلمائه البررة، وفي هذه الاجواء الضاغطة ظهر الشهيد الصدر لاداء دوره المطلوب.. فكانت مبادراته المتعددة للوقوف بوجه الزحف الاحمر، وكان قائدا ً يقاتل على اكثر من جبهة.. وكلها تصب في ذات الهدف الكبير.

فمن جهة كان المحور الاساس للحركة الاسلامية، ومن جهة اخرى كان يقوم بدور فعال في نشاطات جماعة العلماء، وخاصة في مجال التوعية الاسلامية من خلال منبرها الرائد «مجلة الاضواء» ومن جهة ثالثة كان يتحف المكتبة الاسلامية بسفريه الخالدين«فلسفتنا» و«اقتصادنا»، حيث صارت هذه الكتب المادة الاساسية لابناء الاسلام الغيارى على دينهم, والتي كانوا يتدرعون بها لمواجهة الفكر المادي وايقافه عند حده، بل لإلحاق الهزيمة النكراء به.. وهو في اوج تألقه الاقليمي والاممي!!

ان ما قام به السيد محمد باقر الصدر كان بمثابة انقلاب نوعي في محيطه الذي ألف التقليدية، وآثر الانكفاء على الذات، بعيدا ًعن هموم الامة والتحديات الخطيرة التي شرعت تطرق الابواب بعنف، بما فيها ابواب قلاع الحواضر الدينية وحصونها!!

باختصار: كان السيد الشهيد الصدر صاحب مشروع حضاري فذ، واي حديث عن السيد الصدر ـ رضوان الله عليه ـ يجرنا بالضرورة الى التوقف قليلا ً امام دوره الحضاري الذي قام به خير قيام.

وليس من المبالغة في شيء اذا ما قلنا بأن السيد الشهيد هو من طراز اولئك القادة الحضاريين, والذين لا يجود الزمان بمثلهم كل حين، فكثيرا ً ما نسمع بقادة سياسيين، او فكريين، او عسكريين… وهم يكادون يملأون صفحات التاريخ، بل ويتزاحمون فيه .. اما القادة التاريخيون فهم نادرون ندرة الكبريت الأحمر!

وقد يعترض البعض على هذا الأمر، بدعوى ان السيد الشهيد ـ حاله كحال مراجع الدين ـ يمثل حلقة من هذا العقد الممتد لحراس الشريعة والذين سهروا على حمل الامانة الثقيلة طيلة القرون العجاف.

والجواب على مثل هذا الاعتراض، الذي يبدو وجيها، هو نعم.. ولكن!

نعم، فالسيد الشهيد هو حلقة في هذا المسار الشامخ.. ولكنه حلقة نوعية.. انه منار، ومعلم بارز من محطات التاريخ ومنعطفاته. لقد كان صاحب مدرسة فكرية اصيلة، ورائد منهج حضاري متميز، وهذا ما يفتقده العديدون.

المعروف عن السيد الشهيد انه بلغ درجة الاجتهاد، ولم يكتمل له من العمر عشرون عاماً، كانت علامات النبوغ ابرز مافيه. تخطى المراحل الدراسية بعبقرية منقطعة النظير، ودخل عامه السادس والعشرين والعراق على اعتاب موجة سياسية عاتية، استهدفت استئصال شأفة الاسلام.. فماذا فعل ابن الستة والعشرين عاما ً؟

وضع منهجا ً شاملا ً لبناء الامة الاسلامية، يكون انشاء الدولة الاسلامية فصلا ً من فصوله، وتكون الدولة الاسلامية التي تحكم العالم كله خاتمة المطاف، وضمن هذا المخطط تحرك السيد الشهيد في اكثر من مسار.[5]

ولعل ابرز ما يتميز به منهجه الفكري هو المواجهة الحضارية، بكل ما يتسم به من معالم الاصالة، والعمق، والوضوح، والشمول والهجومية، والحركية.[6]

فحتى تلك الفترة ( نهاية الخمسينات ) كانت الحالة الطاغية على طبيعة الفكر الاسلامي هي الطابع الدفاعي, ولو القينا نظرة فاحصة على مجمل النتاج الفكري الحديث لرأينا هذه الحقيقة واضحة جلية، ومن البديهي ان تعجز هذه الحالة الدفاعية عن مواجهة التيارات الفكرية، التي كانت تزخر بها الساحة الاسلامية عموما ً، والعراقية بشكل خاص.

وإزاء تلك الرياح الالحادية التي تتمشدق بالعلمية والاممية والتقدمية، لم يعد من المنطقي ان يواجهها الفكر الاسلامي بتبيان موقف الاسلام من الرق او المرأة.. والاصرار على مواصلة الحديث عن « الشبهات حول الاسلام » وردها فقط، والاكتفاء بهذا القدر ـ على اهميته ـ.

لقد كانت المرحلة بحاجة الى من يواجهها بمنطق الهجوم لا الدفاع، ويقارعها بلغة المتحدي لا المحامي، والهجوم خير وسيلة للدفاع . وليس بوسع احد يومئذ ان ينبري لهذه المهمة الخطيرة غير السيد الشهيد الصدر. فكانت نقلة حضارية نوعية في مسار الفكر الاسلامي وضع بها حدا ً لمرحلة الدفاع، وليبدأ معها مرحلة الهجوم.

لم يعد سرا ً ان المسلمين في الوقت الراهن ـ ومنذ بداية مرحلة الانحطاط الفكري ـ يعانون من أزمة خطيرة في المنهج، واذا ما اريد لهذا الفكر ان يتجاوز السلبيات التي يعاني منها، والتي اخذت تتراكم بمرور الوقت فتزيد من قيوده واغلاله، وتُعتّم عليه الافق، فلا يكاد يرى الطريق الذي يتوجب ان يقطعه وصولا ً الى الاهداف.. لابدّ ان تأخذ «  قضية المنهج » مكانة متقدمّة في سلم الأولويات، كما يقول الدكتور عماد الدين خليل.

ان حيثيات الصراع الراهن مع الحضارة الغربية تتطلب ـ فيما تتطلب ـ ان يكون لنا منهج عمل فكري، يمكّننا من خلال النظم الصارمة التي لزمنا بها، من الاخذ بتلابيب القدرة على الفاعلية، والتحقق بالزيادة، والكشف والابتكار، والاضافة والاغناء.

ان نكون ـ باختصار ـ اندادا ً للفكر الغربي، قديرين على ان ندخل معه في حوار يومي. وان نتفوق عليه، والذي يعوزنا هو المنهج.. هو طرائق العمل الاستراتيجي المبرمج المنظم المرسوم.[7]

ولعل السيد الشهيد الصدر اول من تنبّه الى خطورة قضية المنهج في عصرنا الحديث، واشار اليها في مقدمته للطبعة الثانية من كتاب « اقتصادنا » حينما تطرق الى التبعية، في العالم الاسلامي، لتجربة الانسان الاوربي، والتي عبرت عن نفسها بأشكال ثلاثة مترتبة زمنياً؛ وهي: التبعية السياسية؛ التي تمثلت في ممارسة الشعوب الاوربية الراقية اقتصاديا ً حكم الشعوب المتخلفة، بصورة مباشرة. والتبعية الاقتصادية؛ التي عبّرت عن نفسها في فسح المجال للاقتصاد الاوربي، لكي يلعب على مسرح تلك البلاد باشكال مختلفة. والتبعية في المنهج؛ التي مارستها تجارب عديدة في داخل العالم الاسلامي، والتي حاولت ان تستقل سياسيا ً، وتتخلص من السيطرة الاقتصادية، ولكنها وجدت نفسها مدعوة لاختيار نفس المنهج الذي سلكه الانسان الاوربي، في بنائه الشامخ لاقتصاده الحديث.[8]

وفي ضوء هذا التحليل العميق، والوقوف على اصل المشكلة، وحقيقة الازمة.. راح السيد الشهيد يطرح مشروعه الحضاري البديل. انه لم يطرح الاسلام كمبدأ في مصاف المبادئ الاخرى، او مدرسة في مصاف المدارس الاخرى « كالرأسمالية والماركسية » بل طرحه كمنهج صاحب احقية يستمدها من افضليته الموضوعية والمصدرية، وعلى هذا الاساس هاجم المدارس الفكرية الاجتماعية الاخرى، ولم يقف منها موقف المقارنة السليمة التي عقدها مفكرون آخرون، كما انه لم يقف عند حد العلم فقط، بل كان دائما ً يوحى من خلال الفكرة ان العلم للعمل، والمعرفة للتطبيق، ولا خير في علم لا يورث عملا ً.[9]

وهكذا أرسى السيد الشهيد معالم الفكر الاسلامي المعاصر بطابعه الحضاري، وقد شهد بهذه الحقيقة المنصفون، ولعل في مقدمتهم الكاتب الفلسطيني اكرم  زعيتر، حينما عبر عن هذا المعنى عقيب صدور كتاب «  فلسفتنا »:  « انني اعتقد ان المادية الديالكتيكية الماركسية لم تجابَه بمناقشات فلسفية واعية فاهمة، ولم تقرَع بردود علمية من قبل كتّاب العرب المتفلسفين، كما جوبهت وكما قورعت بهذا الكتاب »، ثم اضاف: « أجل انه لم ينازلها فلسفيا ً منازل عربي أو مسلم عنيد، حسب اطلاعي، مثل محمد باقر الصدر».

وفي هذا الاتجاه يصف المفكر الاسلامي الراحل « محمد المبارك » كتاب « اقتصادنا »  بأنه اول محاولة علمية فريدة من نوعها لاستخراج نظرية الاسلام الاقتصادية من احكام الشريعة الاسلامية، من  خلال استعراضها تقصيليا ً، بطريقة جمع فيها بين الاصالة الفقهية، ومفاهيم علم الاقتصاد ومصطلحاته.

وقد اعتبر يومها المرحوم المبارك محاولة السيد الشهيد تلك بأنها محاولة جريئة من هذا النوع خطت خطوات عظيمة، وكانت دراسة علمية رائدة وتمنى على الفقهاء الراسخين والمفكرين الاسلاميين المساهمة في بحثها، باعتبارها مشروعا ً ناضجا ً، يقدمه مفكر وفقيه كبير من علماء الاسلام المعاصرين.

ومتى ما ألممنا باطروحات السيد الشهيد المختلفة، تتوضح لنا بشكل أدق، معالم منهجه الحضاري الفريد، وتبرز لنا طبيعة ذلك المنهج العملاق.

ليس من السهل ابدا ً « الحديث عن دور السيد الصدر العلمي في ميادين الفقه، والاصول، والفلسفة والمنطق، والاقتصاد، والاجتماع،  والسياسة… وغيرها، بل والأهم من ذلك كله ضرورة ان يكون من يتناولها بمستوى المهمة: ايمانا ً بالمبدأ، واختصاصا ً بعلومه، ونضالا ً من اجله، وثقافة موسوعية بأهم مناحي حياته » على حد تعبير الاستاذ عبد الحسين البقال [10]

وفي هذه العجالة، ونحن نعيش الظلال الحزينة لذكرى استشهاده المفجع، حريّ بنا ان نحيل القارئ الكريم الى اطروحات المنهج الصدري المتمثلة في نتاجه الفكري الذي يزخر بالعطاء والعمق والأصالة والتجديد.[11]

ان هذا النتاج الفكري الضخم، بكل ابعاده المعروفة من، عمق، واصالة، وشمولية، وحيوية، وتجديد.. لم يكتف المرجع الشهيد بخزنه في طيات الكتب او حصره بمجموعة من طلابه ومريديه… وانما أطلقه من قمقمه الى الهواء الطلق حيث جعل الاسلام فعلا ً متحركا ً في واقع الحياة, لا طقوسا ً منحسرة في الزوايا، وبهذا حقق المرجع الشهيد قفزة كبرى في الوعي، والانتماء، والتحول، وبذلك استحق ان يتبوأ مكانه السامي في المسيرة الاسلامية، وهذا هو الامام الراحل الخميني الكبير(رض) يصفه بأنه كان من مفاخر الحوزات العلمية ومراجع الدين.

ويحق للدكتور سليمان دينا ـ استاذ الفلسفة في جامعة القاهرة ـ كما يحق لغيره ان يفتخر بالسيد الشهيد، حين قال في أوائل عام 1967: «  يحلو لي ان اشير الى مفخرة من مفاخر المسلمين، يحق لنا ان نعتز بها ونفاخر، تلكم هي كتب السيد محمد باقر الصدر،  التي ما أظن ان الزمان قد جاء بمثلها، في مثل هذه الظروف، التي وجدت فيها … »[12]

وهكذا يتبيّن لنا ان المرجع الشهيد كان مفصلا ً يتحرك، في اكثر من اتجاه؛ فقد تحرك رضوان الله عليه على صعيد الحوزة العلمية، فرسم خطا ً جديدا ً في المرجعية، وعلى صعيد الامة فأسس الحركة الاسلامية، وعلى الصعيد الفكري فقام برسم معالم الفكر الاسلامي الحديث، وهكذا.[13]

ومنذ الشرارات الاولى للثورة الاسلامية، كان واضحا ً ان الدور المستقبلي لآية الله الصدر يزداد خطورة، من خلال اندكاكه الكامل في عمق هذه التجربة, ومساهماته الفذة في التنظير لها، عبر وضع الاطر التنظيمية المناسبة, وعبر مواقفه التي اختصرها في مقولته لمريديه: « ذوبوا في الامام الخميني كما ذاب هو في الاسلام » وهذا هو ما ارعب الاستعمار الذي عمل المستحيل ومنذ البداية لاجهاض التجربة وتفريغها من محتواها الاسلامي الاصيل، تمهيدا ً لسحب البساط من تحت ارجل الاسلاميين.. وبالتالي لضرب الاسلام ضربة قاصمة، باعتباره المشروع الحضاري الوحيد الذي يمثل تحديّا ً حقيقياً وخطرا ً داهما ً.

ولتلافي الخطر القادم، نشطت المختبرات السياسية للاستكبار العالمي، لايقاف التداعي الذي تعرضت اليه مصالحهم، في اهم المناطق حيوية واستراتيجية، ولهذا رأينا كيف قُرعت نواقيس الخطر منذ البداية.

وعلى طريقة الوقاية خير من العلاج، تقرر في اكثر من مركز من مراكز القرارات الدولية المعنية بشؤون المنطقة التخلص من السيد الشهيد وذلك لدافعين مهمين:

الاول: على الصعيد الاسلامي، لأجل ان يقلل الاستعمار من احتمالات نجاح التجربة الحضارية الاسلامية الجديدة، ويزيد من احتمالات فشلها، لابد من قتل آية الله السيد محمد باقر الصدر…

الثاني: على صعيد الساحة العراقية، فان قيام دولة للاسلام بجوار العراق يعطي اول ما يعطى الدعم المعنوي والامداد الروحي، ووجود السيد الشهيد على رأس التحرك الاسلامي في العراق ـ والذي تم الاعداد له فكريا ً وحركيا ً منذ سنوات طويلة ـ يعني ان فرصة فريدة ستتوفر لتعبئة جماهير الشعب العراقي باتجاه المطالبة بتحكيم الاسلام… وهذا ما يعني الكارثة المدمرة للمستعمر الكافر ومصالحه التقليدية في المنطقة.

ولما كانت اللعبة الدولية لا تريد الاسلام ان يتحرك على الواقع، اسرعت في اسكات هذا الصوت، وخنق هذا الاشعاع في محاولة لطمس معالم المسيرة، واخلائها من قادتها وربابنتها وحملة مشاعلها.

وتأسيسا ً على ذلك يتأكد لنا ان التخلص من السيد الشهيد لم يكن محليا ً او حتى اقليميا ً.. انه قرار دولي، اسندت مهمة تنفيذه الى واحد من اهم نواطير الغرب ـ حاكم بغداد ـ والذي لقي القرار تجاوبا ً ملحا ً في نفسه ورغبة جامحة في تنفيذه، لما يمثله السيد الشهيد من تحدٍّ خطير للدوائر المعادية للاسلام، التي ظنّت أنها تنفّست الصعداء، حين أقدم تلامذتها بتصفيته جسديا ً، متجاهلين أن
« الصدر » فكر ضارب الجذور، وتيار عصيّ على الاستئصال.

 *باحث وصحفي اسلامي.

جلال الانصاري*

 

[1] الشهيد الصدر: نبوغ في الشرع الاسلامي، كراس صدر في ذكراه السابعة، بيروت 1407هـ، ص 2.

[2] للمزيد راجع مجلة المستقبل التي نشرت حلقة عن مشاهدات الكاتب عن العراق، العدد (481)، 10 آيار (مايو) 1986م، ثم أصدرها رياض نجيب الريس في كتاب تحت عنوان « شخصيات عربية من التاريخ »، لندن، 1987م، ص 93.

[3] المرجع السابق:94.

[4] غالب حسن، الشهيد الصدر رائد الثورة الاسـلامية في العراق ـ طهران، 1980، ص9

[5] انظر كتاب: « استشهاد الامام محمد باقر الصدر من منظور حضاري » من منشورات حزب الدعوة الاسلامية ـ مكتب لبنان الاعلامي، بيروت 1981، ص 31.

[6] للمزيد انظر المصدر السابق، وكذلك « كتاب الشهيد الصدر رائد الثورة الاسلامية في العراق» لغالب حسن، وكتاب « الشهيد الصدر الفيلسوف الفقيه» لعبد الحسين البقال.

[7] تراجع مقالة « لماذا المنهج ؟»  للدكتور عماد الدين خليل، مجلة الامة «القطرية»، العدد الخامس والعشرون، محرم 1403 ـ تشرين الثاني «نوفمبر» 1982، ص 8.

[8] راجع مقدمة الطبعة الثانية لكتاب اقتصادنا، بيروت 1977، ص: ب ـ ج.

[9] استشهاد الامام محمد باقر الصدر من منظور حضاري، ص 31 ـ 32.

[10] عبد الحسين البقال، الشهيد الصدر الفيلسوف الفقيه، طهران، 1401هـ ، ص11.

[11] اضافة الى سِفريه؛ فلسفتنا واقتصادنا، هناك العديد من الاطروحات الصدرية المتميزة مثل؛ الأسس المنطقية للاستقراء، البنك اللاربوي في الاسلام، الفتاوى الواضحة (وهو رسالته العملية)، دروس في علم الاصول، غاية الفكر في علم الاصول، المعالم الجديدة للأصول، الاسلام يقود الحياة. ناهيك عن دراساته القيّمة الاخرى، منها: بحث حول الولاية، بحث حول المهدي، التفسير الموضوعي، المدرسة الاسلامية، فدك في التاريخ… الخ.

[12] انظر المقدمة التي كتبها د. سليمان دينا لكتاب «الشيعة وفنون الاسلام» للسيد حسن الصـدر، مطبوعات النجاح بالقاهرة، ط 4، 1976م،ص7.

[13] استشهاد الامام محمد باقر الصدر، المرجع السابق، ص 35.