الحلقة الأولى
الفطرة التي فطر الله الناس عليها هي الاساس في بداية المسيرة البشرية لاقامة مجتمع التوحيد، وكان الانسان يمارس خلافة الله على الارض وفقاً لفطرته هذه، وكان خط الشهادة الالهية قائماً الى جانب خط الخلافة ممثلاً في الانبياء ودورهم هو هداية البشرية وتوجيهها والرقابة عليها، وكان الايمان بالله الواحد ورفض ألوان الشرك والطاغوت ووحدة الهدف والمصلحة والمسير معالم لهذه الفطرة الانسانية، حتى اذا نمّت الخبرة امكانات الافراد ووسعت قدراتهم، برزت في المجتمع الوان التفاوت بين المواهب والقابليات، ونجم عن ذلك اختلاف في مواقعهم على الساحة الاجتماعية، مما اتاح لهم فرص استغلال بعضهم البعض وانقسم المجتمع بسبب ذلك الى اقوياء وضعفاء ومتوسطين، وبالتالي الى مستغلِين ومستضعفين، وفقدت الجماعة البشرية بذلك وحدتها الفطرية.
فلم يعد بعد هذا الخلاف والتنافس والاستعلاء «في المنطق الربّاني» للاقوياء المستغلين موقعاً في الخلافة العامة، لأنّ الخلافة امانة ومن خان الامانة لم يعد اميناً، ولذلك لابدّ من بداية مرحلة جديدة تعيد للبشرية مهمتها في ترتيب الامور على نهجها الصالح المطابق لمسؤولية تحمل الامانة الالهية في الاستخلاف، قال تعالى في هذا الصدد (كان الناس امّة واحدة فبعث الله النبيّين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) البقرة 213.
ولابدّ في ظلّ ظروف الانحراف من ثورة تعيد المسيرة الى طريقها الصالح وتبني المجتمع الموحد من جديد على اساس اعمق وأوعى من الفطرة وتهيئ الجماعة لاستئناف دورها الرباني في خلافة الله على الارض، ولمّا كانت ارضية الثورة متوفرة ومشاعر المستضعفين ملتهبة بسبب ما وقع عليهم من ظلم المستغلين وحرمانهم ايّاهم من حقوقهم، كان لابدّ للانبياء اذاً من استثمار هذه الحالة وتطويرها على نحو يتمثل هذا الاحساس برغبة عارمة في استعادة القيم الموضوعية المهدورة للعدل والحق والقسط والايمان بعبودية الانسان لربّه ورفضه كلّ الوان العبوديات الاخرى، مما يستوجب ذلك كلّه تربية للمحتوى الداخلي للناس الثائرين على انفسهم واعدادهم اعداداً روحياً ونفسياً من خلال التعبئة والممارسة الثوريتين.. تطهرهم من مشاعر الاستغلال وتستأصل من نفوسهم الحرص المسعور على طيبات هذه الحياة الزائلة..
الحلقة الثانية
اكدنا فيما سبق انه لابدّ من ثورة على خط الانحراف وقلنا انّ هذه الثورة تستكمل ابعادها اذا تمّ اعداد الناس اعداداً روحياً من خلال التعبئة والممارسة الثوريتين.. هذا الاعداد لايمكن ان يبدأ من داخل الجماعة التي انحرفت مسيرتها وتمزّقت وحدتها، بل لابدّ من طرف آخر خارج عنها يؤثر فيها، ولا يكون ذلك الاّ عن طريق الوحي والنبوة…
ومن هنا تتركز دعوة الانبياء على مهمة الجهادين الاكبر والاصغر، الجهاد الاكبر من اجل ان يكون المستضعفون ائمة فيعملوا على ازالة المستغلين والظالمين عن مواقعهم والجهاد الاصغر من اجل ان ينتصروا على شهواتهم ويبنوا انفسهم بناءً صالحاً..
وعلى هذا الاساس فانّ الثورة الحقيقية لايمكن ان تنفصل بحال عن الوحي والنبوة ومالهما من امتدادات في حياة الانسان، كما انّ النبوة والرسالة الربانية لا تنفصل بحال عن الثورة الاجتماعية على الاستغلال والترف والطغيان، قال تعالى (وما ارسلنا في قرية من نذير الاّ قال مترفوها انّا بما ارسلتم به كافرون) سبأ 34، هذه الثورة التي يقوم بها الانبياء (ع) تفرض وبشكل طبيعي تسلّم شخص النبي الرسول الخلافة العامة بيده، لكي يحقق للثورة اهدافها على الاستغلال والطغيان ويبني القاعدة الثورية الصالحة المؤهلة لاستنزال نصر الله تعالى ووراثة خلافته على الارض من جديد، وبذلك يتحمل شخص النبي الرسول مهمتي خط الخلافة والشهادة معاً بحكم الضرورة الموضوعية، فيكون هو الشهيد والمشهود عليه في وقت واحد، مما استوجب عليه ذلك ان يكون معصوماً كما اوجب عليه في نفس الوقت تهيئة الامة لتولي عملية الاستخلاف بنفسها، بعد انجاز الثورة ونجاحها، فأُمر بمشاورة الجماعة واشعارهم بمسؤولياتهم من خلال التشاور، قال تعالى (وشاورهم في الامر فاذا عزمت فتوكّل على الله) آل عمران 159.
كما انّ بيعة الانبياء والرسل وأوصيائهم من قبل الامة تعتبر تأكيداً على شخصية الامة واشعاراً لها بخلافتها العامة وبأنها بالبيعة تحدد مصيرها وانّ الانسان حينما يبايع يساهم في البناء ويكون مسؤولاً عن الحفاظ عليه والدفاع دونه.
عماد حسن