في وقت كنت معينا بنظريات الادب وفلسفة الجمال إعترضي اشكالات خطيرة على صعيد تأسيس الاصول الاساسية لفلسفة الجمال الاسلامي، وعلى صعيد ارساء الاسس العريضة لنظرية الادب الاسلامي، وازاء هذه المشكلة الخطيرة رجوت أحد اصدقائي اثناء زيارته العراق أن يتصل بالشهيد الصدر ويسأل سماحته عن امكانية تحديد بعض الخطوط العريضة لهذه القضية الجوهرية ـ فلسفة الجمال الاسلامي ـ وكان رد الشهيد الصدر كما اخبرني صديقي أن هذه القضية من مسؤوليتكم وعليكم أن تضطلعوا بادائها.
وقد لفت انتباهي وانا افكر في اختيار موضوع للعدد الخاص بالشهيد الصدر في مجلة (رسالتنا) أن عثرت على مبحث مقتضب من كتاب (اقتصادنا) بعنوان (الذوق الفني والماركسية) وهو عرض قصير يطرح فيه الشهيد الصدر مجموعة من التساؤلات والطروحات، يعمد فيها الى دحض التصور الماركسي حول الفن والذوق الفني، واذا كان السيد الشهيد قد نبه الى جانب من هذا الموضوع، ولانه القى عبء المسؤولية على المختصين في المجال الفني، رأيت ضرورة معالجة هذا الموضوع اكراما للذكرى والتزاما بالمسؤولية.
يرتكز (الذوق الفني) في ابرز جوانبه الى عنصر ثابت فطري كائن في الذات الانسانية المدركة، ويرتكز في جانب آخر الى طبيعة الواقع الاجتماعي الذي يعيشه الانسان، ورغم أن (الذوق الفني) يمتاز بخصوصية الفردية التي ترجع الى هذه المعطيات الكائنة في الذات فانه من جانب آخر يمثل (نمطا عاما) في المجتمع، ويترك بصماته الواضحة على جوانب الذوق الفردي.
أن العلاقة بين الذوق الفردي والذوق العام علاقة تفاعل مستمر لا تنفي اسسه الفطرية الثابتة، وأنما تعمقها بمقدار الوعي الفكري في الواقع الاجتماعي، وما دام (للذوق) عنصره الثابت، فأن له عنصره المتغير الذي يتحكم فيه الواقع الاجتماعي، يرتكز (الذوق) والحالة هذه، الى بعد ادراكي فطري ثابت، ويواكبه بعد متغير ينمو عمقا وتشعبا بمقدار عمق وعي الفرد والمجتمع.
والذوق بهذا المفهوم يحل اشكالية اعجاب أو نفور المتلقي ـ قارئا كان أو ناقدا ـ في النتاجات الفنية قديمة وحديثة، فلو تأملنا الآثار اليونانية القديمة او طالعنا نصا مسرحيا لسوفكليس، أو قصيدة شعرية لامرىء القيس أو الملتقي أو السياب، أو حين نتأمل لوحة لميكائيل انجلو أو دافنشي لوجدنا اعجابا أو نفورا من هذه النتاجات الفنية لان اول ما يعمله المتلقي هو الحكم الانطباعي الاولي الذي يجعله يحكم بـ (جمال) هذا النتاج أو (قبحه)، ويرجع هذا الحكم الى استاجات انطباعية خاصة لا تنفصل عن التركيب الفردي للمتلقي، ولا تنفصل عن تأثيرات الواقع الاجتماعي، وأهم من ذلك انها لا تنفصل عن موقف المتلقي الفكري الذي يصدر منه.
ويرتكز الانطباع في ابرز مقوماته الى الذوق الذي يعد مقدمة أولية للتحليل النقدي، ليذهب بعدها الناقد الفني مفتشا عن عناصر القوة والابداع عبر محاور (التفسير والتحليل والتقويم) محاولا الكشف عن التشكيلات الجمالية والمعرفية التي ينطوي عليها النتاج الفني.
أن (الذوق) عنصر مشترك لدى النوع الانساني، ولكنه يختلف عمقا تبعا لتغاير الناس، وتبعا لتغاير الخصائص الفردية التي يتميزون بها، ولكنه ـ أي الذوق ـ يعتبر احد ابرز العناصر المشتركة لدى الانسان في القديم الحديث، ويقودنا، بالتالي، الى أن هناك تجارب انسانية عامة متماثلة، ما دام الانسان يعالج موضوعات متكررة، يختلف تفسيرها في ضوء التصورات المتغايرة، فالانسان قديمه وحديثه يحاول أن يطرح تفسيرا للوجود والولادة والحياة والموت ويقف امام هذه خائفاً مرة ومفسرا مرة اخرى، وتتكرر التجربة الانسانية، وتظهر واضحة في النتاجات الفنية عموما والادبية خصوصا، ونجد في النتاجات القديمة تصورات عميقة لهذه التجربة، تجعلنا نعجب اشد الاعجاب بها.. فما زالت مسرحية (اوديب ملكا) لسوفكليس مجالا ثراً للتأثير في الانسان الحديث، رغم انها كتبت قبل الميلاد بعدة قرون، ويؤكد هذا المضمون الشهيد الصدر لانه يرى «أن الفن القديم باياته الرائعة، لا يزال يتحف الانسان وهو في عصر الذرة بما كان يتحفه به قبل آلاف السنين»[1].
ولا يمكن دراسة مفهوم (الذوق) لدى الماركسية الا بأدراك تفسيرها للعلاقة بين المادة والفكر، لان ـ الماركسية تعتبر الفن، وعملية التذوق، جزء من الوعي الفكري ـ وتتحدد العلاقة بين المادة والفكر في ضوء مقولة ماركس الشهيرة «أن البشر، خلال النتاج المادي لحياتهم يدخلون في علاقات محدودة لا بد منها، مستقلة عن ارادتهم هي علاقات الانتاج، التي تستجيب لمرحلة محددة من تطور قوى انتاجهم المادية، ويؤسس مجموع هذه العلاقات البنية الاقتصادية للمجتمع أي الاساس الحقيقي الذي تقوم عليه البنية الفوقية … أن نمط الحياة المادية يحدد عملية الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية عموما»[2].
وفي ضوء هذا التصور تحتل العلاقات الانتاجة (الاساس) او (البنية التحتية) ويمثل الوعي، ومنه الفن والادب والذوق الفني، (البنية الفوقية) التي ترتكز على هذا (الاساس)، ويعمد الماركسيون الى اخضاع الفن والادب الى قوانين التطور الاجتماعي ومستوياته الطبقية، التي تحدد ـ بالتالي ـ طراز عيشها وأسايبها في التفكير ومصالحها الخاصة ونوعية أهدافها. أما كيف تؤثر البنية التحتية في البناء الفوقي الذي يمثل الفن أحد ابعده، ويجيب جان فريفيل أجابة سطحية لا تفسر لنا الكيفية التي تؤثر فيها البنية التحتية بالفن والذوق الفني، اذ يقول: «تتعرض البنية الفوقية الجمالية لتأثير العامل الاقتصادي بصورة غير مباشرة، وعلى نحو بالغ التعقيد»[3]دون تحديد هذه الصورة اللامباشرة، والطريقة البالغة التعقيد!!.
ويصدر الماركسيون ـ في ضوء هذا ـ احكاما على الطبقات الاجتماعية، وعلى نتاجاتها الفكرية والادبية، فالطبقة الاقطاعية ـ مثلاً ـ لا يمكن أن تنتج لا أدبا رجعيا لا يتسم بالجودة، كما أن الموضوعات التي يعالجها هذا الادب أنما هو افراز طبيعي لافكار هذه الطبقة، كما أن «أدب عصر الرأسمالية الحديثة بعكس… الديالكتيك المعطى تاريخياً للعلاقة بين الفرد والمجتمع… أن اغتراب الانسان وعزلته… هي المواضيع الكبيرة التي يتجه اليها باستمرار الادب البرجوازي الحديث»[4].
وفي ضوء هذا ترفض جماليات الفكر الماركسي النتاجات الفنية السابقة، لانه غير متطور وليس مزدهرا، ولان الفن لا يمكنه أن يتطور خصوصا في الظروف المعاصرة ـ كما يقول لينين ـ«الا بأن يربط نفسه لأكثر الحركات تقدمية، وبأن يربط نفسه ـ فوق كل شيء ـ بنضال الطبقة العاملة (البروليتاريا) وايديولوجيتها»[5]. ولكن الماركسية رغم كل هذا لا تستطيع أن تحل اشكالية تذوق النتاجات الفنية القديمة وأعجاب الانسان الحديث بها.. ويتساءل الشهيد الصدر حول هذا الموضوع.
«لماذا نعجب بالصورة ونستذوقها؟؟ فهل قوى الانتاج أو المصلحة الطبقية هي التي تخلق في نفوسنا هذا الاعجاب، وهذا الذوق الفني، أو هو شعور وجداني، وذوق ينبع من صميم النفس، وليس مستورداً من وسائل الانتاج وظروفها الطبقية… وبقدرة أي قادر استطاع الذوق الفني أن يتحرر من قيود المادية التاريخية ويخلد في وعي الانسان؟![6]
أن ماركس يجيب عن اعجاب المتلقي بالنتاجات الفنية القديمة، «زاعما أن الانسان الحديث، يلتذ بروعة الفن القديم بوصفه ممثلا لطفولة النوع البشري، كما يلذ لكل انسان أن يستعرض احوال طفولته البريئة الخالية من التعقيد»[7] وبهذا الشكل من السذاجة في التفسير يبرر فيلسوف القكر العلمي!! اعجاب الانسان الحديث بالنتاجات الفنية القديمة ـ وخصوصاً اليونانية ـ غير أن الشهيد الصدر يحسم الموضوع، بقوله: «أن المسألة الذوق مسألة الاعجاب بصور الطفولة، وانما هي مسألة الذوق الفني الاصيل العام الذي يجعل عصر الرق وانسان عصر الحرية يشعران بشعور واحد»[8].
سامي عبد العزيز
[1] الشهيد محمد باقر الصدر، اقتصادنا، دار التعارف للمطبوعات، بيروت 1981، ص 152
[2] كارل ماركس، في الادب والفن، دار التقدم، موسكو 1976 ص 41.
[3] مقال جان فريفيل، «بليخانوف ومشكلات الفن» المنشور في مقدمة كتاب «الفن والتصور المادي للتاريخ» لجورج بليخانوف ص12.
[4] هورست ريديكر، الانعكاس والفعل، دار الفارابي، بيروت 1977 ص 121.
[5] الموسوعة الفلسفية، وضع لجنة من العلماء والاكاديمين السوفياتيين، ص48.
[6] اقتصادنا، ص 152.
[7] المصدر السابق ص 153
[8] المصدر السابق ص 153.