حظّيت مسألة الوحدة الاسلامية والتقريب بين المذاهب، وكذلك بين التكوينات القومية والاثنية التي يتألف منها المجتمع الأسلامي باهتمامات علماء الدين الاصلاحيين والمفكرين والكتاب المسلمين، عبر مختلف مراحل التاريخ الاسلامي، وخاصة في القرن الأخير (الرابع عشر الهجري والعشرين الميلادي) الذي شهد، لا سيما في عقوده الأخيرة، جهوداً وأعمالاً كبيرة على هذا الصعيد تمثلت في قيام هيئات ومؤسسات، أو عقد مؤتمرات، سعت وتسعي، لتحقيق هذا الهدف، وذلك إضافة للدعوات والمساعي التقريبية والتوحيدية التي دعا اليها، أو قام بها، علماء مصلحون ومفكرون وكتاب مسلمون، في أواخر القرن الماضي، والنصف الأول من القرن الأخير مثل، السيد جمال الدين الأفغاني والامام محمد عبده، وعدد من كبار علماء الأزهر الشريف، كالشيخ عبد المجيد سليم، الشيخ محمد أبو زهره، والشيخ محمد شلتوت، الذي أصدر فتواه المعروفة «بجواز التعبّد بمذهب الامامية الاثني عشرية كسائر المذاهب السنّية» وكذلك مثل السيد محسن الأمين والسيد عبد الحسين شرف الدين في لبنان، والسيد هبة الدين الشـهرسـتاني والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء والشيخ محمد رضا المظفر والشيخ عبد الكريم الزنجاني في العراق وغيرهم.
لكن، وعلى الرغم من هذه الجهود والمساعي والمحاولات التي بذلت من أجل التقريب، فان النتائج لم تكن كبيرة، بل ان الحلول التي توصّلَ اليها العلماء والمفكرون الاصلاحيون الذين أبدوا اهتماماً بهذه المسألة، كانت مختلفة في حد ذاتها أشد الاختلاف، كما يرى الشيخ محمد مهدي الآصفي[1].
ففي دراسة له حول الشيخ محمد رضا المظفر وموقفه من المسألة «الطائفية» أو الاختلافات المذهبية وسبل معالجتها، يشير الى أن هنالك سبيلين: الأول: من يؤمن بأن علاج المشكلة ينحصر في المقاومة السلبية للمذاهب الاسلامية المنحرفة عن الخط الاسلامي، ولا تفيد أي تقيّة أو أي مداراة في علاج المشكلة، وهذا لا ينهض بشيء غير توسعة شقة الانشطار وتجديد حدة الخلاف بين صفوف المسلمين. أما الثاني: فهو من يؤمن، قبال الطائفة الأولي، أن علاج المشكلة يتم عن طريق الاغفال والاهمال وتناسي المسلمين ما بينهم من الخلاف ويتنازل كل واحد منهم للآخرين عما يعتقده، وهذا الشيء، قد أثبتت التجارب بأنه لا يمكن تحقيقه. وقد توصل الشيخ الآصفي في دراسته هذه الى أن طريقة الشيخ المظفر التي كان يؤمن بها ويعمل لها كانت شيئاً بين هذا وذاك، لا يتسم بالسلبية التي لا تعرف الرفق والأناة، ولا يتسم بالاهمال الذي يفقد أي كيان فكري، لذلك كان يؤمن بجدوى البحث والنقاش على أن يجري في جو طليق لا يعكر صفوه التعصب والتقليد، ولا يتسم بطابع السلب والعداء[2].
«وثمة رؤية أخرى لمعالجة هذه المسألة، وهي الرؤية التي تدعو الى اسلام بلا مذاهب» كما يعتقد مثلاً، العلاّمة السيد علي الأمين. ففي الندوة التي عقدت في دمشق في ربيع سنة 9991 حول «التقريب بين المذاهب» تقدم السيد الأمين بدراسة تعالج هذه المسألة بعنوان «أبعاد الحوار الفقهي عن مسائل التاريخ» جاء فيها قوله: «إن الولادة المتأخرة للمذاهب ـ التي اكتملت بعد وفاة الامام أحمد بن حنبل في سنة 142 هجرية ـ هي موضع وفاق بما في ذلك مذهب الامام جعفر الصادق، بالمعنى المذهبي، ولاشك ان الذي كان موجوداً قبل هذه المذاهب هو الاسلام بدون مذاهب، وهذا ما نريد أن نرجع اليه ونعتمد عليه ومن هنا نقول: إن المذاهب ليست قدراً لا يمكن تجاوزه، إنها مناهج في الاستدلال وطرق الاستنباط للوصول الى حكم الله تعالي[3].
وإزاء هذه الأهمية التاريخية والراهنة، التي انطوت وتنطوي عليها مسألة التقريب بين المذاهب والوحدة الاسلامية وتعدد الرؤى حولها، وحول سبل ومناهج معالجتها يطرح السؤال: ما هي إذن رؤية الامام الشهيد محمد باقر الصدر لهذه المسألة وموقفه منها؟ وما هو المنهج الذي استند اليه لمعالجتها؟ إن ما يُضفي على هذا السؤال أهمية ومشروعية اكبر، هو الموقع والمكانة الرفيعان اللذان كان يتبوءَهما الشهيد الصدر، كفقيه ومفكر اسلامي كبير وغزير الانتاج، ولأنه معني مباشرة بإبداء رؤيته حول هذه المسألة وسبل حلها.
للاجابة عن هذا السؤال، لابد من الانطلاق من مواقف الصدر الاكثر اقتراباً وتعاملاً مع هذه المسألة والتي عبّرت عنها، الى حد كبير، النداءات الثلاثة التي وجهها «الى الشعب العراقي» خلال شهري رجب وشعبان عام 9931 هجرية، وذلك عندما كان النظام الحاكم في بغداد قد فرض عليه الحصار الأمني والاقامة الجبرية في بيته بمدينة النجف الاشرف.
لقد شكلت تلك النداءات الثلاثة، آنذاك، نقطة تحوّل وانعطاف كبير، على الصعيد السياسي، في مسار الصراع والمواجهة بين النظام الحاكم في بغداد من جهة، وبين الشعب العراقي بوجه عام والحركة الاسلامية بوجه خاص، من جهة ثانية، وكانت تلك النداءات بمثابة خطاب سياسي مباشر، عبّر فيه الشهيد الصدر عن موقفه الحازم والصريح تجاه النظام، من خلال طرحه لجملة من المطالب السياسية والدينية والاجتماعية على النظام، إضافة لطرحه شعارات تعبوية لاستنهاض الشعب ودعوته لاسقاط هذا النظام[4]. لقد كان ذلك أحد وجهي المعنى الذي انطوت عليه تلك النداءات، أما الوجه الآخر، المهم والملفت، فهو اتسام مخاطبة الشهيد الصدر العراقيين بلهجة، أو لغة، لم يستخدمها ولم يتحدث بها من قبل، حيث انطوت على دلالات مهمة وذات مغزى فكري وتاريخي كبير.
فعندما لجأ النظام لاستخدام وممارسة سلاح الطائفية والعنصرية بشكل سافر، في محاولة منه لتفريق صفوف العراقيين لاضعاف مقاومتهم له، أدرك الشهيد الصدر خطورة ذلك فعَمِدَ، بعد التقاطه لمغزى وأبعاد ما يسعى النظام لتحقيقه من وراء ذلك، الى مخاطبة العراقيين بـ «الشعب العراقي العزيز» تارة، ووفقاً لانتماءاته المذهبية والقومية والمناطقية تارة أخري، هادفاً من وراء ذلك، الى نزع هذا السلاح من يد النظام وافشال فعله وتأثيره. ففي النداء الثالث قال الصدر مخاطباً الشعب العراقي: «أخاطبك بكل فئاتك وطوائفك، بعربك واكرادك، بسنتك وشيعتك، لأن المحنة لا تخص مذهباً دون آخر، ولا قومية دون أخرى (إن المحنة هي محنة كل الشعب العراقي) فأنا معك يا أخي وولدي السني بقدر ما أنا معك يا أخي وولدي الشيعي، وأنا معكما بقدر ما أنتم مع الاسلام». وبهدف توضيح السبب الذي دعاه لمثل هذا النسق من لغة المخاطبة قال: «إن الطاغوت وأولياءه يحاولون ان يوحوا الى ابنائنا البررة من السنة، أن المسألة مسألة شيعة وسنة ليفصلوا السنة عن معركتهم الحقيقية ضد العدو المشترك، وأريد أن أقولها لكم يا أبناء علي والحسين، ويا ابناء ابي بكر وعمر، أن المعركة ليست بين الشيعة والحكم السني، فالحكم السني الذي مثله الخلفاء الراشدون، والذي كان يقوم على أساس الاسلام والعدل، حَمِلَ علي السيف للدفاع عنه، إذْ حارب جندياً في حروب الردة تحت لواء الخليفة الأول ابو بكر إن الحكم السني لا يعني حكم شخص ولد من أبوين سنيين، بل يعني حكم أبي بكر وعمر الذي تحداه طواغيت الحكم في العراق اليوم في كل تصرفاتهم وهم ينتهكون حرمتهم للاسلام، وحرمة علي وعمر معاً »[5]
إن أي قراءة أو تحليل لمفردات النداء الثالث، الذي عمدنا لايراد فقرات مطوّلة منه لأهميتها، اضافة الى لغة المخاطبة التي عمد الشهيد الصدر الى استخدامها، تشير بوضوح الى أنها تمثل دعوة عملية للتقريب المذهبي، سياسياً، اكثر مما هي دعوة تنظيرية، أو وعظّية ـ أخلاقية لنبذ الخلاف والفرقة والتعصب، أي أنها بمثابة خطاب سياسي تقريبي يستجيب لضرورات سياسية كانت قائمة آنذاك لكنها تعكس، في الوقت نفسه، نهجاً فكرياً توحيدياً في تعامله مع القضايا والهموم الاسلامية، ومنها مسألة التقريب فما هي، إذن، مصادر ومقومات هذا المنهج التوحيدي للشهيد الصدر، وما هو موقعه بين المناهج، أو السُبل، التي تعالج هذه المسألة؟
الواقع، أن هذا النسق من لغة الخطاب التقريبي السياسي العملي، الذي عبّر عنه الشهيد الصدر في لحظة مواجهته لظرف سياسي محدد السمات والمظاهر والأهداف، انما هو مشتق من، ويعبّر عن منهج توحيدي اسلامي عام وشامل، وهو منهج له مصدران رئيسيان: الأول: النظرة الشمولية التي فَهمَ الشهيد الصدر وتَمثَل، من خلالها، الاسلام. أما المصدر الثاني: فهو قراءة الصدر لتأريخ الاسلام قراءة توحيدية ومتمثلة لمغزى ودلالات أحداثه وتطوراته، ومنها مسألة الوحدة والتقريب بين المذاهب.
وفيما يتعلق بالمصدر الأول، أي النظرة الشمولية العامة التي نظر بها الشهيد الصدر للاسلام، فقد نشأت وتبلورت لديه بشكل مبكر، وأصبحت إحدى الخصائص المميزة لفكره، والتي انعكست، أو جرى التعبير عنها، في كتاباته ودراساته المبكرة، حيث مكنت هذه النظرة «الشمولية الشهيد الصدر من الاطلال» عبرها، على كل القضايا التي عالجها في كتاباته.
وبهدف التعرف على البدايات الأولى لتشكل هذه النظرة وتطورها لابد من العودة، كنقطة انطلاق، الى المقالات الافتتاحية الخمس لمجلة «أضواء» التي كان يكتبها الشهيد الصدر بعنوان «رسالتنا» في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، وذلك فضلاً عن الموضوعات الأخرى للمجلة التي كان يشرف عليها الصدر نفسه، والذي كان فكره وقلمه يُمثلان، آنذاك، وفقاً لتوصيف العلامة السيد محمد حسين فضل الله «النقلة المتقدمة لحركة الاتجاه الاسلامي الرائد»[6]. ففي قراءته لهذه المقالات وتحليله لمدلولاتها وما تمثله في فكر الشهيد الصدر، يقول السيد فضل الله في تقديمه لها: «إن على الدارسين الذين يريدون أن يدرسوا بدايات فكر السيد الصدر أن يدققوا في هذه الحلقات الخمس من «رسالتنا» ليعرفوا اتجاه فكره في تلك المرحلة ودوره في قيادة الحركة الاسلامية في العراق من خلال الخطوط العريضة للتحرك الاسلامي»[7].
وفي إحدى هذه المقالات بعنوان «رسالتنا يجب ان تكون قاعدة للوحدة» كتب الشهيد الصدر: «أن الوحدة التي دعا اليها الاسلام هي الوحدة المسايرة لواقع الكائن الانساني، أنها الوحدة التي تترك للفرد مجاله وشخصيته وتهيئ له جميع مسائل النمو والابداع والتفتح وتوازن بين طاقته وهي الوحدة الراسخة مهما تنوعت مصالح الأفراد والاحزاب والطبقات لأنها وحدة تقوم على أصل ثابت عند الجميع ومشترك بين الجميع»[8]. وإذْ تشير هذه الرؤية للوحدة الى نظرة ذات أفق واسع وبعيد المدي، حيث ترى فيها الإطار الموحد لجملة من مصالح الأفراد والجماعات والطبقات، فإن هذه الرؤية ذاتها هي التي بلورت وصاغت، تالياً، منهجه التوحيدي، الذي درس وتناول، في ضوئه، القضايا الفكرية والسياسية والفلسفية والاقتصادية، والتي كان كتابا «اقتصادنا» و «فلسفتنا» بخاصة، المثال الأبرز على كتابتهما بمنهج توحيدي اسلامي عام، وليس بمنهج مذهبي، أو فئوي ضيق يفتقد الى النظرة الشمولية الأوسع.
إن المنهج التوحيدي الاسلامي لدى الشهيد الصدر قد حظي، وما يزال، باهتمام ودراسة الكثير من الكتاب والباحثين الاسلاميين، نظراً لما يتميز به من خصائص وسمات تميزه عن مناهج علماء دين ومفكرين اصلاحيين آخرين. وكمثال، يمكن الاشارة الى احدى الدراسات بعنوان «مدخل الامام الصدر لفهم الاسلام» حيث حدد الكاتب محمد عبد الجبار أربعة مداخل لذلك، تأتي في مقدمتها النظرة الشمولية للاسلام، حيث يرى الكاتب أن الشهيد الصدر قد تعامل مع الاسلام باعتباره كياناً واحداً متكاملاً تلتقي فيه العقيدة مع الأحكام والقيم الاخلاقية مع المنهج» وان هذه النظرة الشمولية تجلّت في المنهج الذي اتبعه الصدر في كتاب «اقتصادنا» وفي التفسير الموضوعي للقرآن، وفي فهم العلاقات الرابطة بين قطاعات الاسلام المختلفة في العقيدة والعبادة والسياسة والاقتصاد والاجتماع والأخلاق»[9].
أما الباحث عبدالجبار الرفاعي فقد توصل في دراسة له حول المنهج التوحيدي للشهيد الصدر الى «أن أعماله تعبير عن محاولات منهجية لتأصيل نظرية اسلامية في كل حقل من حقول المعرفة الاسلامية وان الهم الأساسي الذي يضطلع به مشروع الشهيد الصدر هو الحرص على اكتشاف (أو صياغة) نظريات الاسلام في التاريخ والاقتصاد والسياسة والمجتمع الخ»[10]
وفي مقدمة تحقيقه لكتاب «موجز أصول الدين» للشهيد الصدر يخلص الباحث الرفاعي من دراسته وتحليله لفكره ومؤلفاته الى «أن الرؤية التوحيدية في فكر الشهيد الصدر تستند الى مجموعة أصول مركزية يؤدي بعضها للبعض الآخر، وتتواشج مع أبعاد اخرى تنبثق عنها أو تلتقي بها في منظومة واحدة بحيث يكون التوحيد هو المنبع الوحيد الذي تتفرع عنه تلك الأصول وتتجسد فيه تلك الأبعاد»[11].
من ذلك نخلص الى القول: إن النظرة الشمولية للاسلام لدى الشهيد الصدر التي تشكلت ونمت منذ نهاية الخمسينيات قد شكلت الاساس لصياغة المنهج التوحيدي الذي عكسته مؤلفاته الأولي، والذي تطور وترسخ بعد ذلك، ليصبح الأداة الأساسية للشهيد الصدر في رؤية الأحداث والظواهر والقضايا الاسلامية، ومنها الوحدة الاسلامية والتقريب.
أما المصدر الرئيسي الثاني الذي نهل منه الشهيد الصدر نظرته الشمولية للاسلام وصاغ في ضوئها منهجه التوحيدي فهو قراءته للتاريخ الاسلامي وفهمه له وتمثله لأحداثه ومساره، كتأريخ للاجتماع الاسلامي المتنوع والمتعدد، والمختلف والمتصارع حتى لو كان في الاطار الاسلامي الواحد.
أفرد الشهيد الصدر لدراساته وبحوثه كتباً ومؤلفات مستقلة، الاّ أنه لم يفرد كتاباً أو بحثاً مستقلاً يتناول تاريخ الاجتماع الاسلامي، وخاصة تأريخ الخلافات والصراعات المذهبية والسياسية التي أخذت تظهر بعد وفاة الرسول صلى الله عليه واله وسلم وبدء عهد الخلافة الراشدة والتي أخذ نطاقها يتسع في المراحل التاريخية اللاحقة وحتى الآن، وذلك كيما نتمكن من معرفة رؤية الصدر ومنهجه في معالجتها، عبر نصه التاريخي، مباشرة.
ومع ذلك، فان استحضاراً مكثفاً لأهم وقائع ذلك التاريخ ومظاهر الخلافات المذهبية والسياسية والتعرف على رؤية ومنهج أئمة أهل البيت، ثم منهج الفقهاء والمفكرين المصلحين لمعالجتها، سيمكننا ـ عبر المقارنة ـ من التعرّف على مدى مطابقة، أو عدم مطابقة، رؤية ومنهج الشهيد الصدر لتلك الرؤية وذلك المنهج.
واذا ما حددنا نقطة الانطلاق ببدء عهد الخلافة الراشدة، أثر وفاة الرسول صلى الله عليه واله وسلم يمكن القول: إن الحدث الخلافي الأبرز والأول في التاريخ الاسلامي هو انعقاد اجتماع «السقيفة» لأخذ البيعة لأبي بكر خليفة للمسلمين
مثل هذا الحدث الخلافي بداية الانقسام والانشطار في صفوف المسلمين، حيث مثل التيار أو الاتجاه الأول أنصار ومؤيدو اجتماع «سقيفة بني ساعدة» ومبايعة أبي بكر خليفة، والتيار أو الاتجاه الثاني من أنصار ومؤيدي الامام علي بن ابي طالب عليه السلام الذي لم يحضر اجتماع السقيفة أصلاً، ويرى هذا التيار او الاتجاه أحقية الامام علي بالخلافة لامتلاكه صفات تؤهله اكثر من غيره لهذا المنصب، ومن ثم الاستناد بشكل أساسي الى واقعة «غدير خم» التي بويع فيها الامام علي عليه السلام ولياً وخليفةً وأميراً للمؤمنين بحضور الرسول صلى الله عليه واله وسلم وشهادته.
لقد أدت تداعيات «السقيفة» وأخذ البيعة بالخلافة لأبي بكر، الى استمرار دوافع وأسباب الانقسام باستخلافه من بعده لعمر بن الخطاب، ثم من الشورى عند البيعة لعثمان بن عفان من بعده. أما مبايعة علي بعد مقتل عثمان، فقد حولت «فتنة» مقتله الانقسام الى صراع دموي باندلاع معركة الجمل، ثم تأجج هذا الصراع وترسخ الخلاف والانقسام باندلاع معركة صفين، بعد تمرد معاوية في دمشق على خلافة علي التي اتخذت من الكوفة مركزاً لها، ومحاربته.
لقد تواصل وتعمق الخلاف والانقسام داخل الاجتماع الاسلامي سياسياً وفكرياً وأمنياً، حتى برزت المذاهب الاسلامية التي استكملت نشوءها وتبلورها منتصف القرن الثالث الهجري لتضفي على هذا الخلاف (السياسي) أبعاداً مذهبية وفقهية. وخلال القرون التالية من التاريخ الاسلامي تواصلت تلك الخلافات والصراعات السياسية والمذهبية، التي كانت تشتد ثم تنحسر، وكان ابرز مظاهرها اضطهاد الحكام والولاة لأئمة أهل البيت عليهم السلام وانصارهم بخاصة وللفرق الاسلامية الشيعية بعامة، حيث كانت تستعر خلالها الخلافات والسجالات وتأليف ونشر مئات الكتب والرسائل التي تتحدث عن الخلافة والامامة والغدير والوحدة، وقد صاحب ذلك أعمال عنف ومعارك بين الجماعات أضعفت الاجتماع الاسلامي فماذا ترتب على ذلك من نتائج فقهية وسياسية وكيف تمت معالجة ذلك؟
إن احدى الدراسات المهمة، التي تناولت بالبحث والتدقيق خلافات وانقسامات الاجتماع الاسلامي بعد وفاة الرسول بخطوطها الرئيسية العامة وبينت موقف الامام علي وأئمة أهل البيت من هذه الخلافات وسبل معالجتها، هي الدراسة التي قدمها العلامة الشيخ محمد مهدي شمس الدين في مهرجان الامام علي عليه السلام الذي عقد في لندن يوم 91 ذي الحجة 0141 هجرية الموافق 21 تموز 0991 ميلادية، بمناسبة مرور أربعة عشر قرناً على يوم الغدير.
يلخص الشيخ شمس الدين، بادئ ذي بدء، وبايجاز شديد، مشكلة الانقسام وما كان عليه الاجتماع الاسلامي في عهد الخلافة الراشدة بالقول: «إن ثمة تنافياً بالتناقض في بعض التفاصيل، وبالتضاد في بعض التفاصيل، بين الشيعة والسنة في مسألة الخلافة والامامة والغدير وقد ترتبت على هذا التنافي خلافات أخرى في العقائد، وفي الفقه، وفي النظرية السياسية، وانعكس هذا الخلاف في الواقع التاريخي، صراعاً فكرياً وسياسياً واجتماعياً ترك آثاره الدامية في التاريخ على جسم الأمة الاسلامية». وفي توضيحه لأحد الأسباب الرئيسية لاستمرار الانقسام والاختلاف يضيف الشيخ شمس الدين: «وَنظَّرَ علم الكلام الشيعي، وفي الفقه التقليدي للانقسام عن السنة، وفي علم الكلام الأشعري، وفي فقه المذاهب السنّية نظّر للانقسام عن الشيعة لقد نظّر للانقسام الأعظم الذي حدث في الأمة منذ صفين، ولا يزال قائماً حتى الآن بين الشيعة والسنة» وذلك رغم «وجود مقدس يلتقي عليه المسلمون جميعاً ولم يتأثر موقفهم منه بنزاعهم وخلافهم في الامامة وهو وحدة الامة الاسلامية التي تعني التكوين البشري العقيدي على اساس الاسلام». ويضيف شمس الدين «ان العقيدة بوحدة الأمة الاسلامية انعكست على مستوى الشريعة في الفقه، فالمسلم عند الشيعة والسنة، بصرف النظر عن انتمائه الكلامي، له احكام توحده مع سائر المسلمين في جميع قضايا الحياة العامة وبعض الخاصة»[12]
وفي متابعته وتحليله للخلافات بين الشيعة والسنة يشير الشيخ شمس الدين الى مسألة في غاية الأهمية لرؤية التاريخ لدى بعض الشيعة وبعض السنة فيقول: «إن اللازم الأعظم لعقيدة الشيعة الامامية في الامامة كما عرضها علم الكلام القائم الآن، هو بطلان التاريخ الذي وقع خارج شرعية الامامة منذ ابي بكر والى آخر سلطان أو خليفة خارج هذه الشرعية، واذا كان من شرعية لبعض فصوله، فإنما حصلت بإجازة وامضاء الامام المعصوم علي بن ابي طالب عليه السلام على رأي كثيرين من علماء الشيعة يذهبون اليه»[13]. ويضيف الشيخ شمس الدين موضحاً. «أما اللازم الأعظم في المقابل لعقيدة أهل السنة في الخلافة والامامة، كما عرضها علم الكلام الأشعري التقليدي وعلم الفقه التقليدي في المذاهب السنّية فهو صحة وحقانية واسلامية التأريخ الذي وقع منذ وفاة الرسول محمد صلى الله عليه واله وسلم وصحبه الذين اتبعوه باحسان والى آخر خليفة عباسي شكلي في مصر، أو الى آخر سلطان أو خليفة عثماني على رأي شائع أيضاً بين الاسلاميين » وهنا يستنتج بأن «هذا اللازم في مقابل اللازم الشيعي يقتضي خروج الشيعة عن الشرعية السياسية للأمة وخروجهم عن وحدة الأمة»[14]. وفي ضوء ذلك يصدر الشيخ شمس الدين حكمه بالقول: «لقد انتهك المقدس والضروري، وهو وحدة الأمة الاسلامية، من قبل أهل السنة والشيعة معاً، ويؤدي توالد النتائج من الأصل الكلامي عند كل واحد من الفريقين الى هذا المحذور» ثم يخلص الى القول: «لقد فشل أسلوب علم الكلام حتى الآن في حل هذا التعارض الخطر، وأكتفي بأن اقول فشل، حتى لا أقول إنه أحد أسباب هزائمنا بسبب بعض مقولاته ومنها مقولة التكفير»[15]. وهنا يطرح السؤال: ما هو الحل، إذن، لهذا الاشكال الخطير والمعقد الذي هدد ويهدد الاجتماع الاسلامي، ليصون وحدته من الانقسام والاحتراب والتفتت؟ عن ذلك يجيب الشيخ شمس الدين في بحثه بالقول: «ان الحل موجود، ولكننا ـ شيعة وسنة ـ غفلنا عنه وتجاوزناه نحن أصحاب وتلاميذ الغدير، نحن طلاب مدرسة الغدير، ولهذه المدرسة أساتذة هم علي بن ابي طالب وأبناؤه الأحد عشر المعصومون عليهم السلام الذين واجهوا هذه المشكلة باعتبارهم الأمناء على الاسلام والأمة، لا باعتبارهم سياسيين» ويضيف: «لقد واجه الامام علي هذه المشكلة على مساحة حياته كلها، واجهها في السقيفة وواجهها عند استخلاف ابي بكر لعمر وواجهها في الشورى عند البيعة لعثمان، وواجهها حين انثال عليه الناس ليبايعوه، وحاول أن يبتعد ولكنه استجاب لارادة الأمة » وهكذا «عالج الأئمة هذه الاشكالية بين المقدّسين، هذا التعارض بين الامامة وبين وحدة الأمة، بين الحق والواجب » وفي ضوء ذلك يخلص الشيخ شمس الدين الى القول: بأن «المشكلة في قضيتي الوحدة والامامة المعصومة لم تولد من التعارض بينهما، وإنما ولدت المشكلة من التعارض بين الامامة والدولة، وبين الوحدة والدولة، والتعارض لم يكن عند أئمة أهل البيت المعصومين عليهم السلام بين المقدسين، وإنما كان بين المقدس والنسبي، وقد واجه الامام علي هذا التعارض بين وحدة الأمة والمتغيّر السياسي ـ الدولة المتغير السياسي حينما جاءه ابو سفيان والعباس بن عبد المطلب، يعرضان عليه البيعة بالخلافة، ورفض العرض، وتخلّى عن الفرصة، إيثاراً للمقدس: وحدة الأمة، على السياسي المتغيّر ـ الحكم ـ الدولة، وواجه هذا التعارض بين وحدة الأمة وبين السياسي حين استخلف عمر، وواجه هذا التعارض بين وحدة الامة وبين السياسي في الشورى أي أن الامام عليّاً عليه السلام كان دائماً يخدم المقدس ويلتزم وحدة الأمة ويضحي بالسياسي لمصلحة وحدة الأمة ولمصلحة الاسلام»[16]. وهكذا، فإن أئمة أهل البيت المعصومين عليهم السلام بينوا كل شيء، بينوا المقدس، بينوا أن الامامة لابد من أن تكون للمعصوم، ولابد من أن تكون بالنص، وان الامامة استمرار للنبوة، وان الامامة ضمانة سلامة التشريع من التحريف وسوء التأويل، لكنهم حينما واجهوا مسألة الحكم الذي يهدد وحدة الأمة وقال لسان حالهم جميعاً: «لأسلّمن ما سلمت أمور المسلمين في ـ المقدس ووحدة الأمة ـ ولم يكن فيها جور الاّ عليَّ خاصة» في السياسي والنسبي الدولة. وبناء على هذه الرؤية يؤكد الشيخ شمس الدين بأن هذا الموقف استمر (وهذا الكلام اقوله لمراجع وعلماء الشيعة) منذ السقيفة الى حين الغيبة الكبرى للامام الثاني عشر عليه السلام ثم ماذا بعد الغيبة الكبري؟ يسأل شمس الدين ويجيب: «الأئمة صححوا التاريخ منذ بدأ، لا يوجد تاريخ باطل، و «ولاة الجور» هم ولاة الجور، ليست لهم شرعية، ولكن الأمة بقيت واحدة، وما أنجز في التاريخ من قبل الأمة لا تتأثر شرعيته بوجود ولاةپجور، لأن (الامامة المعصومة) موجودة، ظاهرة، ساهرة، حارسة». ثم يؤكد الشيخ شمس الدين، «بأن علم الكلام يقتضي بطلان التاريخ وانقسام الأمة وخروج فريق منها عن الاسلام وسيرة الأئمة المعصومين صححت التاريخ وحفظت الاسلام وحفظت المقدس: وحدة الأمة»[17].
أن هذه القراءة المتفحصة لاشكالية انقسام الاجتماع الاسلامي والخلاف بين الشيعة والسنة الذي شغل التاريخ الاسلامي منذ العهد الراشدي، ثم قراءة رؤية اهل البيت لهذه الاشكالية وكيفية معالجتها، أدت بالشيخ شمس الدين الى التوجه بـ «الالتماس من سادتي واخواني العلماء ومن المشتغلين بعلم الحديث ومن المفكرين أن يعيدوا النظر بعمق في النصوص التاريخية والتشريعية الواردة في المسألة السياسية ليروا، كما رأيت، وارجو أن اكون قد أصبت». وفي ضوء ذلك يقول: «أقترح ان نعود في حل هذه المشكلة الى طريقة العلاج التي اتبعها علي وأهل بيته المعصومون عليهم السلام في التعامل مع وحدة الأمة، بالنسبة الى الامامة على معتقد الشيعة، وفي التعامل مع قضية الخلافة بالنسبة الى معتقد السنة، على ضوء وحدة الأمة، التي هي القضية الكبري، في مقابل قضية الدولة الحكم السياسي »[18].
لقد عَمدتُ الى ايراد فقرات طويلة من هذه الدراسة ـ القراءة التاريخية للشيخ محمد مهدي شمس الدين الذي هو، كالشهيد محمد باقر الصدر، فقيه ومفكر اسلامي كبير ويمتلك مثله، المنهج التوحيدي الاسلامي ذاته في رؤيته وتحليله للقضايا والأحداث والظواهر. ولذلك يمكن القول: بأن الشهيد الصدر كان قرأ وفهم وتمثل، اشكالية الانقسام والخلاف المذهبي في تأريخ الاجتماع الاسلامي، دون أن تسمح له الظروف أو الوقت لكتابة نصّ لها، بقراءة ورؤيةٍ مشابهة، وربما متطابقة الى حد كثير، مع قراءة ورؤية الشيخ شمس الدين، بخطوطها الرئيسية، وربما في بعض تفاصيلها.
لا يستند هذا الاستنتاج الى افتراض غير واقعي، إنما هو استنتاج يجد أسسه وأصوله في المنهج التوحيدي للشهيد الصدر وفي نظرته الشمولية للاسلام، واللذين أشرنا اليهما في سياق هذا البحث، وجرى التعبير عنهما بمصدرين رئيسيين وهما: كتاباته وبحوثه ونظرته الشمولية للاسلام، ثم نداءاته الثلاثة، وخاصة النداء الثالث، وذلك فضلاً عن التعبير عن هذه الرؤية والمنهج في بعض مؤلفاته مثل كتاب «المحنة»[19] وكتاب «بحث حول الولاية».
وبناء على ذلك الاستنتاج الذي يفترض قراءة الشهيد الصدر وفهمه وتمثله لاشكالية الانقسام والخلاف المذهبي في تاريخ الاجتماع الاسلامي، دون كتابة نص بذلك، يمكن القول أيضاً: بأن الصدر فعل الشيء ذاته، دون أن يتسنى له كتابة نص، وذلك بقراءته لجهود التقريب بين المذاهب وتحقيق الوحدة بين المذاهب والجماعات الاسلامية المختلفة، التي قام بها فقهاء وعلماء دين مصلحون عرب وغير عرب مثل الأفغاني ومحمد عبده وعلماء دين آخرون من مصر ولبنان والهند وايران. أما الجهود والدعوات التوحيدية التقريبية لعلماء دين مصلحين عراقيين مثل: السيد هبة الدين الشهرستاني، والشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء والشيخ عبد الكريم الزنجاني والشيخ محمد رضا المظفر وغيرهم، فيمكن الافتراض أنها حظيت باهتمام اكبر لدى الشهيد الصدر، وفِهم وتَمثل اكبر لدلالاتها وأبعادها ولتأثره بها، بالتالي، لتكون أحد المصادر المهمة في صياغة منهجه التوحيدي التقريبي[20]
وفي ضوء ذلك كله، نعود الى طرح السؤال الذي يطرحه كثيرون حول السبب بعدم افراد الشهيد الصدر، أو تخصيصه، كتاباً أو بحثاً مستقلاً يتناول فيه مسألة التقريب بين المذاهب والوحدة الاسلامية، كما تناولها وعبر عن رؤيته ومنهجه في معالجتها فقهاء ومفكرون مصلحون آخرون؟[21]
ربما سُئِل الشهيد الصدر، أو لم يُسأل، في حياته مثل هذا السؤال. ونظراً لعدم وجود جواب عن ذلك ـ في حدود اطلاعي ـ فيمكن افتراض اكثر من سبب، أو مبرر، لذلك. فقد يكون السبب، أن هذه المسألة لم تكن مطروحة بقوة في حياته، مما يستوجب أن يفرد لها بحثاً مستقلاً، وربما كان سيقوم بذلك حين أراد النظام تسعير الخلاف المذهبي، فكانت النداءات، لا سيما النداء الثالث، بمثابة مقدمة لذلك. وربما كان الصدر يعد لمثل هذا البحث قبل النداءات الثلاثة، لكن مساحة الوقت الضيقة لديه لم تساعده في انجاز ذلك وربما تكون هناك أسباب أخري، غير أنني أري، أن الأمر المرجح هو تعمد الصدر بذلك، استناداً الى رؤية تقول: إن الغوص في تفاصيل الخلاف المذهبي، رغم الدعوة للتقريب، قد تثير قضايا لا تستوجب مصلحة الوحدة الاسلامية ومصلحة الاجتماع الاسلامي في العراق اثارتها، لذلك كان يفضل، كما أعتقد، التعامل مع هذه المسألة ومعالجتها من خلال تناولها بشكل غير مباشر، عبر تناول الاسلام بنظرة شمولية، ومن خلال صياغة منهج توحيدي اسلامي، كأداة لرؤية هذه المسألة كما المسائل الاسلامية الاخري.
ومن خلال تفحص كتابات الشهيد الصدر وبحوثه ودراساته والتأمل فيها، يمكن القول: إنه كان يهدف ويسعي، بنظرته الشمولية للاسلام وبمنهجه التوحيدي، الى خلق ثقافة ورؤى وأدوات بحث اسلامية موحدة لكل المسلمين ثقافة لا تلغي المذاهب، انما تتجاوز أطرها المحددة الى الاطار الاسلامي الأوسع. وحين تُعمم هذه الثقافة لدى المسلمين، وخاصة لدى نخبتهم المثقفة من العلماء المصلحين والمفكرين والكتاب، سيتضاءل أمام ذلك حجم الخلافات، أو تشذب وتحذف تعبيراتها الضارة، أو العدائية، وغير الصحيحة، لتبقى الخلافات الموضوعية قائمة، كاجتهادات يدور السجال حولها تطلعاً لما يقرب موضوعياً بين المذاهب ويصون وحدة الاجتماع الاسلامي.
وإذا كانت اعمال الشهيد الصدر تعبر عن محاولاته المنهجية «التأصيل لنظريات اسلامية في كل حقل من حقول المعرفة الاسلامية» وذلك بمنهج توحيدي ونظرة شمولية للاسلام، كما أشرنا لذلك في هذا البحث، فقد تناول الصدر، كتطبيق عملي لمنهجه التوحيدي ونظرته الشمولية مسألة التقريب، أو الخلاف الشيعي السني، في ندائه الثالث.
وفي هذا النداء، ثمة أمران مهمان ينبغي الاشارة اليهما: الأول، هو أن الشهيد الصدر لم يدعُ لحشد المسلمين الشيعة وحدهم بقصر دعوته عليهم لمواجهة النظام وافشال محاولته اثارة فتنة مذهبية، وهو أمر كان من الممكن حصوله ويحظى بتعاطف عموم المسلمين السنة خاصة حين يتم كما فعل الصدر التفريق بينهم وبين النظام اللاسني أصلاً. غير ان الصدر عمد الى اعتبار قضية مواجهة النظام وفتنته، هي قضية جميع المسلمين سنة وشيعة، ناهيك عن بقية العراقيين، وهو الأمر الذي تجلّى بمناشدة العراقيين بانتماءاتهم المذهبية والاثنية والمناطقية، وبتسميات محببه اليهم مثل: يا أبناء علي والحسين وابناء ابي بكر وعمر، أي مناشدتهم بمنهج توحيدي اسلامي، كمسلمين موحدين باطار موحد يجمعهم ضد عدو مشترك، مع احتفاظ كل منهم بانتمائه المذهبي أو العرقي.
أما الأمر المهم الثاني، فهو تأكيد الصدر على أن الحكم السني الذي مثله الخلفاء الراشدون وكان يقوم على اساس الاسلام والعدل قد حمل علياً للدفاع عنه وحارب كجندي في حروب الردة تحت لواء الخليفة ابي بكر، وهذا لا يعني فقط تجاوز رأي بعض الذين يقولون بـ«بطلان التاريخ» انما تصحيح التاريخ، كما صححه الامام علي والأئمة المعصومون من بعده، ويعني أيضاً، اعترافاً بوقائع تاريخية حصلت فعلاً، ولا يجدي أو يفيد انكارها بشيء. ورغم أن مثل هذا الكلام لا يرضي شريحة من شرائح المسلمين الشيعة، لكن الشهيد الصدر تعمّد قوله، بمنهج وحدوي، ليعبد الطريق لرؤى اكثر وضوحاً واكثر جرأة، لكن اكثر تعبيراً وتوافقاً وانسجاماً مع موقف الامام علي وسائر ائمة أهل البيت عليهم السلام.
إن قول الامام علي: «لأسلّمن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور، إر عليّ خاصة» والذي قاله وهو «في أشد حالاته إيلاماً» قد شكل الأساس، كما أعتقد، في قراءة الشهيد الصدر للتأريخ الاسلامي، وخاصة تأريخ الانقسام والصراع والخلافات المذهبية والتقريب بينها في الاجتماع الاسلامي إنها قراءة لهذا التاريخ وتمثل لأبعاده ودلالاته، عبر تناوله نظرة شمولية للاسلام وبمنهج توحيدي يرتقي بأهمية الوحدة الاسلامية الى مرتبة «المقدس» باعتبارها الحافظة لكيان الاجتماع الاسلامي الذي تنتعش وتتعايش في داخله المذاهب، كاجتهادات مشروطة ومطلوبة للتعبير عن حيوية الحياة الاسلامية واستجابة لمتطلبات الظروف المتجددة.
عبد الحليم الزهيمي
باحث اسلامي عراقي مقيم في لندن.
[1] الآصفي، الشيخ محمد مهدي: الشيخ محمد رضا المظفر وتطور الحركة الاصلاحية في النجف الاشرف (سلسلة رواد الاصلاح ـ 3) / مؤسسة التوحيد للنشر الثقافي / قم / ط1 / 8991 / ص 511.
[2] المصدر ذاته: ص 511 و 611
[3] الأمين، السيد علي: مقال في مجلة «النور» العدد 79 / لندن / 9991 / ص 16.
[4] الصدر، الشهيد محمد باقر: النداءات التاريخية الثلاثة (في كتاب محمد باقر الصدر، دراسات في حياته وفكره) تأليف نخبة من الباحثين / دار الاسلام / لندن / ط1 / 6991 / ص 367
[5] الصدر، المصدر ذاته: ص 467 و 567.
[6] فضل الله، السيد محمد حسين: مقدمة كتاب «رسالتنا» / الدار الاسلامية / بيروت / 1891 / ص 51.
[7] فضل الله، السيد محمد حسين: المصدر ذاته، ص 71 و ص8.
[8] فضل الله، السيد محمد حسين: المصدر ذاته، ص 75.
[9] عبد الجبار، محمد: مجلة «المنبر» / العدد 15 / ذو الحجة 9141 هـ ـ نيسان 9991 م / لندن.
[10] الرفاعي، عبد الجبار: منهج الشهيد الصدر في تجديد الفكر الاسلامي / مؤسسة التوحيد للنشر الثقافي (سلسلة رواد الاصلاح ـ 1) / قم / 8991 / ص 54.
[11] الرفاعي، عبد الجبار: موجز في اصول الدين (المرسل، الرسول، الرسالة) / تحقيق: عبد الجبار الرفاعي / مطبعة صدر / ط1 / 7141هـ / ص 55.
[12] شمس الدين، الشيخ محمد مهدي: مجلة «الغدير» تصدر عن المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى (لبنان) / العددان 8 و 9 / ربيع الاول 1141هـ / تشرين الأول 0991 / ص 78.
[13] شمس الدين، المصدر ذاته: ص 78.
[14] شمس الدين، ذاته: ص 88.
[15] شمس الدين، ذاته: ص 89 و ص 90.
[16] شمس الدين، ذاته: ص 90 و ص 91 و ص 92.
[17] شمس الدين، ذاته: ص 92.
[18] شمس الدين، ذاته: ص 92 و ص 93.
[19] الصدر، الشهيد محمد باقر: المحنة، انتشارات ذو الفقار، قم، بلا تاريخ اصدار، يقدر في 1979 و 1980. يقول الصدر في أحد محاضرات الكتاب كتعبير عن المنهج التوحيدي: «لابد ان نجعل مشاعرنا تجاه المحنة مشاعر صحيحة واسلامية تنبض بالغيرة على الاسلام لا بالغيرة على مصالحنا الخاصة “ ونطمح أن نبني كمسلمين ككل» ص 25.
[20] يشار هنا الى الجولات التوحيدية للشيخ محمد حسين كاشف الغطاء الى الهند والقدس في الثلاثينيات، وكذلك جولات الشيخ عبد الكريم الزنجاني، الى القاهرة ودمشق وبيروت، حيث استقبل بحرارة من العلماء المسلمين السنة وألقى خطباً بالمساجد، ويشار كذلك الى جهود الشيخ محمد رضا المظفر وكتابيه لمعالجة هذه القضية وهما «السقيفة» و «على هامش السقيفة» ودراسات ومقالات أخري.
[21] مثلاً وجهت مجلة «رسالة التقريب» للشيح محمد علي التسخيري السؤال التالي: عرف الشهيد الصدر بقدرته الفكرية والتنظيرية وبمواقفه الجهادية الملتزمة، ولكن الجانب التقريبي من نشاطاته يكاد يكون غير معروف. وارتباطكم الوثيق بالشهيد يدعوني ان اسألكم عن موقفه من مسألة التقريب؟ فأجاب: «المرحوم الشهيد الصدر كان من رواد هذه الحركة. معظم دراساته العميقة تؤدي الى نظرة اسلامية جامعة “ كان يركز على المصادر السنّية كما على الشيعية، وكان يعنى بآراء المفكرين والعلماء من الفريقين، ويتعامل مع اتباع اهل السنة بنفس المستوى الذي يتعامل مع اتباع مدرسة اهل البيت “».
راجع «رسالة التقريب» العدد 12 / الدورة 3 / ربيع الثاني ـ جمادى الآخرة 1417 هـ / 1996 م / ص 23.