مقدمة حول الحركة التجديدية عند الشهيد الصدر(قدس سره)

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

الحمد لله الذي منّ علينا بمحمد(صلى الله عليه وآله وسلم) دون الامم الماضية، والقرون السالفة، والصلاة والسلام على محمد أمين الله على وحيه، ونجيبه من خلقه وصفيه من عباده، إمام الرحمة، وقائد الخير ومفتاح البركة وعلى آله الطيبين الطاهرين أزمّة الحق، وأعلام الدين، وألسنة الصدق وشجرة النبوة، ومحط الرسالة، وبعد:

فإنّ العالم الإسلامي قد واجه خلال قرنين من الزمان ثلاثة مستويات من الغزو; الغزو السياسي، الغزو العسكري، والغزو الثقافي. واذا كان الغزو السياسي قد باشره جواسيس الغرب في بلاد المسلمين أو عملاؤهم كالسلاطين والولاة والضباط، والسفراء والشركات التجارية، واذا كانت الحملات العسكرية قد اضطلعت بدور الاحتلال لبعض الثغور والاقاليم الإسلامية، فأن هذين اللونين من ألوان العدوان الغربي على بلادنا كانا يمهدان لغزو ثقافي واسع يُلغي الثقافة الإسلامية، بل والطابع الشرقي العام.

واذا قرأنا تاريخ المنطقة بتأمل بكل ما حوى من آلام وفتن على مدار قرنين من الزمان أو يزيد، لوجدنا ان أخطر ما واجهه المسلمون والشرقيون عموماً هو الغزو الثقافي الغربي لبلداننا، بيد أن التبشير والثقافة الغربية لم يحققا خطواتهما نحو النجاح إلاّ عندما وجدا ولاة عملاء أيام الحكم العثماني مثلاً، من أمثال (ابراهيم باشا) في بلاد الشام حيث انطلق المبشرون في عملهم في تلك البلاد في ثلاثينات القرن التاسع عشر، وفي مصر أيام العميل الفرنسي (محمد علي باشا الكبير) ـ كما يسميه التاريخ ـ، كما لم ينتشر نفوذ الثقافة الغربية في بلاد المسلمين كذلك إلاّ تحت رعاية الغزو العسكري كما جرى ذلك في بلدان المسلمين التي سيطرت عليها الجيوش الغربية، كما هو الحال في بلاد الشام، والجزائر وغيرها.. ولا ننسى دور الحكام العملاء في توفير المناخات المناسبة لدعم حركة التغريب في بلاد المسلمين.

وبحركة ثقافية واسعة تملك ارصدة واقعية ضخمة كالتبشير وحركة الاستشراق، والحركة التعليمية التابعة لأهداف الغزاة بكل مظاهرها ومصادرها ومواردها من المناهج إلى المادة التعليمية، ومن ثمَّ المدرّس والمعلم إلى البعثات الدراسية إلى اوربا،.. أقول: بهذه الحركة التعليمية، المخططة الواسعة المدعومة بأنظمة سياسية مدججة بالسلاح ومدعومة من قوى النفوذ العالمي، وقعت الهزيمة الفكرية والثقافية في بلاد المسلمين، وانتصر الغالب على المغلوب في ثقافته وأفكاره إلى درجة خطيرة، خلافاً لما كان عليه المسلمون أيام الغزو المغولي المدمر لبلاد المسلمين، حيث ما إن توقف اندفاع المغول، حتى انتصر المغلوب على الغالب، فاعتنقت جيوش التتار دين الحق، وخلعت وثنيتها لتدخل أفواجاً في دين الله تعالى وانصهر الغزاة في الاُمّة الإسلامية، وساهموا في بناء الكيان العام للاُمّة…

إلاّ اننا في هذه المرة أي في القرن الأخير هزمنا شر هزيمة، وبرزت آثار الهزيمة في أبناء جلدتنا واضحة إذ صار الكثيرون يدعون للذوبان في حضارة الرجل الابيض.

لقد ظهر في بلاد الاناضول (ضياء اليسع كوك) منظراً للذوبان والتبعية الثقافية، وظهر (كمال اتاتورك) منفذاً لأفكاره باصرار أهوج يشبه اصرار البعثيين وأمثالهم من أصحاب الهوس التقدمي الثوري ! وظهر في مصر (سلامة موسى)، و(قاسم أمين)، و(لطفي السيد)، و(طه حسين)، و(علي عبد الرازق)، وعلى الصعيد السياسي ظهر دعاة القومية الذين كان (جمال عبد الناصر) عصارتهم، بل حصيلة افكار المهزومين والعملاء الفكريين الذين ذكرتُ بعضهم.

لقد حاول (طه حسين) أن يهز أركان الاعجاز القرآني بكتابه الشعر الجاهلي، ثم دعا صراحة لتغيير هوية مصر في مشروعه الثقافي اللاهث خلف الغرب (مستقبل الثقافة في مصر) وكان (عبد الرازق) قد شكك أن يكون في الإسلام نظام حكم وبذل جهداً من أجل تكريس هذا الاتجاه في كتابه (نظام الحكم في الإسلام)، وتناول آخرون جوانب اخرى، وقد بلور (ساطع الحصري) البديل القومي للاسلام في ضوء ثقافته الغربية وتطلعاته شطر اوربا، وشهد العراق أمثال (منيف الرزاز) و(الياس فرح) و(عفلق) و(علي الوردي)، و(هادي العلوي)، وأنيط تنفيذ المشروع إلى (البكر) و(صدام) منذ نهاية الستينات إلى اليوم.

وفي بلاد المسلمين الاخرى أمثلة حية لهذه المسيرة الذليلة الجبانة..

1ـ المسلمون في موقف الدفاع:

الحديث هنا يدور حول المواقف الثقافية لا المواقف السياسية ولا البطولات العسكرية للمسلمين…

لقد تنبّه المسلمون رويداً رويداً إلى المؤامرة، فهبوا في وجه العدوان الثقافي، فحفروا الخنادق الدفاعية، وهكذا ظهرت مجموعة كبيرة من التآليف ونُشِرت كثير من الافكار الدفاعية الخجولة أو المنفعلة بالواقع، لذا، فقد شهدت الاربعينات من هذا القرن والخمسينات نمطاً من الفكر الدفاعي على المستوى العلمي أو الفكري.

فقد ظهرت كتابات تفسر آيات من القرآن الكريم تفسيراً علمياً، طبق النظريات التي تتداولها ألسنة الغربيين أو تصوراتهم، كتفسير آيات في النظرية السديمية أو في الجاذبية او كروية الارض او نظرية لامارك او دارون، حتى لوى بعض عنق الآيات، ففسروها بالصواريخ والذرة وما إلى ذلك، كل ذلك من أجل أن يبرهنوا أن الإسلام والقرآن قد حمل ماوصل اليهما العلم الحديث كذلك…[1].

وعلى مستوى الفكر والتشريع جرت عمليات مشابهة لكنها من نمط آخر، فقد ظهر الحديث على ألسنة المفكرين والكتاب المسلمين عن الاشتراكية الإسلامية، والديمقراطية في الإسلام، كما تأثر بعضٌ في احاديثهم عن الإسلام بتفصيلات تلك المذاهب الاجتماعية، ولك أن تقرأ مثلا كتاب: (اشتراكية الإسلام) للدكتور مصطفى السباعي و(ديمقراطية القومية العربية) الدكتور عبد الله العربي، و(الإسلام بين الانصاف والجحود) الدكتور حسن عبد الغني حسن، و(المجتمع الإسلامي بين النظرية والتطبيق) للبهي الخولي، بل في علمائنا من ظهر على لسانه مصطلحات العروبة، والاشتراكية والديمقراطية وما إلى ذلك.. وهكذا كان اسلوب الدفاع لدى المخلصين من أبناء الاُمّة لعقدين من الزمان او اكثر يدفع إلى تكييف الإسلام وقيمه حسب الموجات العلمية والفكرية التي زخر بها العالم يومذاك، وربما أدى ذلك التخبط المُدافِع إلى تقلبات في التفسير لموضوع واحد غير مرة في فترات متقاربة حسب الموجات الفكرية والموضة التي تعم البلاد[2].

2ـ في خندق الهجوم:

ومنذ منتصف الخمسينات صار مسار الحركة الثقافية يتجه من خندق الدفاع إلى خندق الهجوم. فقد ظهرت بوادر هذا التحول في أواخر الاربعينات وبداية الخمسينات في كتابات الشيخ (عبد الاعلى المودوي) في كتاب «الربا» و«الدستور الإسلامي»، وموجز «تجديد الدين واحيائه» وما إلى ذلك، وتأثر بهذا المشروع قلم (سيد قطب)، فكتب «العدالة الاجتماعية» وموسوعة «في ظلال القرآن» و«خصائص التصور الإسلامي»، و«السلام العالمي والإسلام»، وختمها «بمعالم في الطريق»، وفي هذه المرحلة، أي في أوائل الخمسينات ظهر (الشيخ النبهاني)، في «المذهب الاقتصادي في الإسلام» و«نظام الحكم في الإسلام»، وغيرها. وظهر (الشيخ المطهري) في ايران، بيد ان ظهور هذه المؤلفات والابحاث قد رافقه في الجانب الآخر تصاعد الهجمة لأتباع الحضارة الاوربية بشطريها الشرقي والغربي، حيث انتشر الفكر الماركسي والاشتراكي والفكر الاشتراكي الديمقراطي، وثقافة اليسار العربي، والدعوة إلى الديمقراطية وما إلى ذلك بشكل خطير، حتى انك لاتكاد تجد في تلك المرحلة ولاتسمع غير نتاج هذه الموجة الفكرية العاتية.

ولقد كان العراق  في الخمسينات ومطالع الستينات من أسوإ البلدان في المنطقة من ناحية فَقرِهِ  للثقافة الإسلامية الحديثة التي تستجيب لطموحات المسلم المعاصر…لقد كان الشباب في تلك المرحلة لايكاد يجد عن الإسلام غير الابحاث الحوزوية التخصصية ذات الاسلوب التقليدي غير المنسجم مع ذوق العصر، او الدراسات التاريخية التقليدية واذا وجد شيئاً، فأنه يجد بعض مؤلفات سيد قطب مثلاً، رغم قصورها عن الاستجابة للطموح بدرجة ما.

لقد أعلن المرحوم (الشيخ كاظم الحلفي) المشرف التنفيذي لمجلة الاضواء التي صدرت عام 1960 م في كراس له اسمه «الله واسماؤه الحسنى» طبع في بداية الستينات، ان بعض شباب جامعة بغداد الشيعة يتأثرون بتآليف الشيخ النبهاني ككراس «الخلافة» سيِّئ الصيت، ولقد اعلن المرحوم آية الله (السيد محمد جمال الدين الهاشمي) في مقدمة كتابه «اصول الدين الإسلامي» عن عمق الصدمة التي ألمت بالاخيار من العلماء والمؤمنين حين فوجئوا ان المواكب الحسينية بعد ثورة تموز عام 1958 م كانت تشيد بالديمقراطية والاشتراكية..

وكانت المشكلة الرئيسة التي تعانيها الاُمّة، خصوصا الاجيال المتطلعة، في منهج عرض الإسلام وقيمه وأحكامه لافي المضمون، فمضمون الإسلام محفوظ في القرآن والسنة وتصانيف العلماء، ولكن المنهج الذي كان يعرض المضمون لايتناسب وروح العصر الحديث أبداً.

السيد الصدر ضرورة المرحلة:

وفي هذه المرحلة العصيبة من تاريخنا وفي أواخر عقد الخمسينات وبداية الستينات على وجه التحديد، حيثُ النكوصُ والتراجعُ أمام الثقافة الوافدة، مما لايدرك أبعادها الاّ من عاش تلك الفترة الزمنية الرهيبة…

وفي هذه المرحلة لمع نجم المفكر العملاق السيد محمد باقر الصدر(رضي الله عنه)، الذي حمل اعباء مواجهة المذاهب الاجتماعية الاوربية بكل اسسها ومفاهيمها بجدارة مستفيداً من تجارب الماضين والمعاصرين له من المفكرين والفقهاء، ومضيفا إلى ذلك من نتاجات عبقريته العملاقة التي تميزت بالقدرة على البلورة والعطاء وفهم خصائص العصر وأدواته …

وهكذا وفّق هذا المفكر العملاق أن يهاجم المادية في رؤاها العامة، ومرتكزاتها الاساسية في كتاب (فلسفتنا)، كما فعل في هجومه على البنية التحتية للفكر الماركسي واطروحة الديمقراطية الرأسمالية كما تجلى ذلك في كتاب (اقتصادنا)…

وبعد تفنيد الخصائص المذهبية للمدرسة الاشتراكية وخصائص المدرسة الرأسمالية الديمقراطية عمد إلى بلورة المذهب الاقتصادي للاسلام من خلال بلورة قضية الملكية، والارض والتوزيع ودور السلطة في عملية توزيع الثروة، والمشكلة الاقتصادية والموقف من علاجها.

وهكذا وفّر المفكر الشهيد الصدر مفردات عصرية للخطاب الإسلامي، تحتفظ بأعلى درجات الاصالة، وتتسلح بأحدث وسائل المعاصرة، وقد تميزت نتاجات السيد الصدر(رضي الله عنه) بالمنهجية العلمية التي لم تتوفر عند أغلب المفكرين المسلمين المعاصرين، الذين يجنح اكثرهم إلى الاسلوب الخطابي، والاستغراق في المنهجية الادبية، دون أن يعتمد نهجاً علمياً صارماً ـ كما وفق له سيدنا المفكر الكبير(رضي الله عنه) ـ.

إنّ هذا الخطاب الثقافي العملاق، الذي وفره السيد الشهيد الصدر (رضي الله عنه) للنهضة الإسلامية وللثقافة الإسلامية المعاصرة في مضمونها المبلور المميز وفي أدواتها التعبيرية الكفوءة وفي منهجيتها العلمية العصرية الواثقة.. ان هذا الخطاب لم يشعر بقيمته الاّ من عاش فترة الستينات في العراق، حيث تلتهب الساحة يومذاك بصراع فكري رهيب بين أنصار الاشتراكية الماركسية والديمقراطية والقومية وقبالهم أنصار النهضة الإسلامية كلٌّ بأدواته التي يملك.

ولم يكن للاسلاميين يومذاك سلاح فاعل ومضمون مبلور قبل ظهور (فلسفتنا واقتصادنا) لقد كان اقتصادنا وغيره بحق سيفاً ـ وأي سيف ـ شهره الإسلاميون العاملون ببسالة واثقة في وجوه انصار الفكر الوافد الرخيص.. ولعلي لا أبالغ اذا قلت : ان شطر ماحققناه من نصر فكري في الستينات كان بذلك الحسام الذي جرّده السيد الصدر(رضي الله عنه) من غمده…

وهكذا، فليس خيالاً مجنحاً، ولا أماني عريضة أن ندعي ان منهجية السيد الصدر(رضي الله عنه) في نتاجه الفكري عموما والطريقة التي انتهجها لمواجهة الحركة الثقافية التغريبية في منحنياتها الإسلامية لم يألفها الخطاب الثقافي الإسلامي في المنطقة الإسلامية كلها..

فلقد عبّرت نتاجاته الفكرية العملاقة عن عبقرية الثقافة الإسلامية وأصالتها وقدرتها على مواجهة الغزاة بطريقة لم تواجه بها «ثقافة» الرجل الابيض ! منذ جاست جحافله خلال الديار الإسلامية المقدسة… وحيث اكتشف رجال الاصلاح في الاُمّة منذ عقود من الزمان ان الهزيمة اكبر مما يتصور، وان تيار الغزو الاوربي وامكاناته المتاحة اكبر بكثير من امكانات الاُمّة المسلمة، فلابد من مرحلة اعداد قبل المواجهة ولابدّ من بناء الاُمّة داخليا، ومدها بأسباب الفعل والقوة وهكذا اتجهت آليات الخطاب باتجاه البناء الداخلي لتوفير مقومات المواجهة الحقيقية وقد تناولت أساليب خطاب النهضة في هذه المرحلة مجموعة من الامور:

ـ الوعي لملابسات المرحلة، والظروف التي ألمت بعد سقوطها ضحية بيد الجزار.

ـ مواجهة الثقافة الاوربية بالثقافة الإسلامية بديلاً حضارياً.

ـ خلق تيار داخل الاُمّة يتسلح بذلك الوعي وتلك الثقافة.

وفي مرحلة تمسك المصلحين المسلمين بهذه المحاور بعد تبلورها في أذهانهم في ضوء كفاحهم المرير من اجل استئناف مسيرة العودة إلى الإسلام والحضارة الإسلامية.. في هذه المرحلة لمع نجم المفكر الشهيد الصدر(رضي الله عنه) وشمر عن ساعد الجد للمساهمة في حركة الخلاص. فما هي تصوراته لعملية التغيير الذي يتحقق فيه بناء الاُمّة لكي ينجز مشروع الخلاص ؟ وهذا التساؤل تحتاج الاجابة عليه إلى معرفة نظرة السيد الشهيد إلى حدود التخريب الحضاري الذي لحق بالاُمّة وإلى اي مدى نجح الاوربيون الغزاة في النأي بالاُمّة المسلمة عن الإسلام: آدابه وقوانينه واحكامه وعقائده.. يقول رحمه الله موضحاً مساحة التخريب الذي لحق بالاُمّة من جراء الغزو الاوربي للعالم الإسلامي: «اخذ العالم الإسلامي ينفتح على حياة الانسان الاوربي يذعن لامامته الفكرية وقيادته لموكب الحضارة بدلا عن ايمانه برسالته الاصيلة وقيمومتها على الحياة البشرية»[3].

«وقد عبرت التبعية في العالم الإسلامي لتجربة الانسان الاوربي الرائد للحضارة الحديثة عن نفسها بأشكال ثلاثة مترتبة زمنيا ولاتزال هذه الاشكال الثلاثة متعاصرة في اجزاء مختلفة من العالم الإسلامي:

الأول: التبعية السياسية التي تمثلت في ممارسة الشعوب الاوربية الراقية اقتصاديا حكم الشعوب المتخلفة بصورة مباشرة.

الثاني: التبعية الاقتصادية التي رافقت قيام كيانات حكومية مستقلة من الناحية السياسية في البلاد المختلفة وعبرت عن نفسها في فسح المجال للاقتصاد الاوربي لكي يلعب على مسرح تلك البلاد بأشكال مختلفة ويستثمر من موادها الاولية ويملأ فراغاتها برؤوس اموال اجنبية.

الثالث: التبعية في المنهج الذي مارسته تجارب عديدة في داخل العالم الإسلامي»[4]، ويوضح مساحة هذا الانهيار امام الحضارة الاوربية بما يلي:

«فقد استعمل الغزاة الاثمون كل الطرق والاساليب للقضاء على وعي الإسلام في ذهنية الاُمّة، وحجب أضوائه، وأنواره عنها بما نثروه هنا وهناك من مفاهيمهم وافكارهم وتشويهاتهم للاسلام المشرق العظيم وهكذا اصبحت الاُمّة بعد ان نفَّذ اعداؤها فيها مخططهم الفظيع وهي لاتعرف من الإسلام شيئا واضحا محددا او تعرف مازوره المستعمرون من افكاره وحقائقه..»[5].. «الطريق طويل لأن ميوعة الاُمّة التي انحدرت اليها وغرابة المعطيات الإسلامية اليوم على افكارها وعقولها التي تعودت الابتعاد عن الإسلام في واقع الحياة والاستعمار الغاشم الداهية الذي يقف للامة بالمرصاد والحضارة الغربية بكل حماتها ودعاتها حواجز في الطريق»[6].

فمن خلال هذه المقاطع من احاديث السيد الشهيد(رضي الله عنه) وكتاباته تتجلى تصوراته العميقة لحجم المحنة الحضارية وآثارها في كيان الاُمّة المسلمة نتيجةً للغزو الاوربي الذي تهاوت امامه السدود. ويمكننا ان نسجل تصوره للمأساة في النقاط التالية:

1ـ اذعان الانسان المسلم لإمامة الانسان الاوربي وقيمومته الفكرية والحضارية على حياة الاُمّة.

2ـ تنازل المسلم عن قيادته للبشرية وشعوره بالضعة امام الانسان الاوربي واستلهامه من الحضارة الغازية بديلاً لحضارته الالهية العظيمة.

3ـ التبعية الذليلة للنفوذ الاوربي والقبول بسياسة النهب الاستعماري لثورات المسلمين باستثمار المواد الاولية وملء الفراغات الاقتصادية برؤوس اموال اجنبية اضافة إلى اتباع سياسة اقتصادية استهلاكية خاصة.

4ـ غياب وعي الاُمّة عن معرفة الإسلام وحقائقه واهدافه في اشارة الحياة وصنع المجد واقامة صروح الحضارة الالهية.

5ـ غرابة المعطيات الإسلامية عن الاُمّة والتعود على الابتعاد عن مفاهيم الإسلام في الحياة، وقوة النفوذ الاستعماري وهيمنته في بلاد المسلمين اضافة إلى قوة الحضارة الاوربية وتمتعها بالحماية من الاسياد والعملاء السياسيين والمفكرين تشكل جميعا حواجز في طريق النهضة الإسلامية المباركة.

وفي خضم هذا التحديد يتناول المفكر العظيم(رضي الله عنه) دراسة الشروط الموضوعية لقيام أيّة نهضة حقيقية على ظهر هذا الكوكب ثم يحاكم هذه الشروط ويدرسها في ضوء واقع الاُمّة المعاش، ويحدد ماتفتقر اليه هذه الاُمّة في مشروع نهضتها المطلوبة.

ففي بحثه المعنون  «الشروط الاساسية لنهضة الاُمّة»، الذي كتبه مفتتحاً به أول عدد من مجلة الاضواء النجفية المباركة الذي صدر في التاسع من حزيران عام 1960 م «أي قبل ثلاثين عاماً من الزمان» يسجل المفكر الشهيد(رضي الله عنه) ثلاثة شروط لنهضة الاُمّة الحقيقية هي: ـ

ـ المبدأ الصالح.

ـ الايمان بذلك المبدأ.

ـ وفهمه.

وبعد دراسة هذه الشروط في ضوء الواقع المعاش للامة يخلص المرجع الشهيد(قدس سره)، إلى ان الاُمّة تمتلك المبدأ الصالح المتمثل بالرسالة الإسلامية في قيمها ومبادئها وقوانينها وهي تؤمن بها وتقدسها، غير ان ايمان الاُمّة برسالة الإسلام يعتريها الضعف والسطحية والغموض ويعزو السيد الشهيد هذه الظواهر في طبيعة ايمان الاُمّة برسالتها إلى سوء فهمها إياها، وعدم ادراكها لحقائقها وغموض أهدافها.

ثم ينتهي رضوان الله عليه إلى حقيقة ان الشرط الاساسي لنهضة هذه الاُمّة منوط بفهمها واستيعابها لرسالة هذا الدين وحمله مبدأً ومفتاحاً تفتح به كنوز خير الدنيا والآخرة..

يقول(رضي الله عنه) «وأما فهم الاُمّة للمبدأ ومفاهيمه وحقائقه، فقد كان هو نقطة الضعف التي نجحت فيها عملية الفصل بين الاُمّة والمبدإ، فقد استعمل الغزاة الاثمون كل الطرق والاساليب للقضاء على وعي الإسلام في ذهنية الاُمّة وحجب أضوائه وأنواره عنها بما نثروه هنا وهناك من مفاهيمهم وأفكارهم وتشويهاتهم للاسلام المشرق العظيم، وهكذا أصبحت الاُمّة بعد أن نفذ أعداؤها فيها مخططهم الفظيع وهي لاتعرف من الإسلام شيئاً واضحاً محدداً أو تعرف مازوره المستعمرون من أفكاره وحقائقه، وبهذه الطريقة وجد التناقض العجيب في كيانها فأصبحت لاتفهم الإسلام فهما صحيحاً كاملاً بالرغم من انها ظلت باقية على ايمانها به، فمسألة الاُمّة اليوم ـ وهي تملك المبدأ الصحيح وتؤمن به ـ ان تقبل على تفهم اسلامها ووعي حقائقه واستجلاء كنوزه الخالدة ليملأ الإسلام كيان الاُمّة وأفكارها ويكون محركا حقيقيا لها، وقائداً أميناً إلى نهضة حقيقية شاملة. فالفهم العام للمبدإ الإسلامي اذن هو الضرورة الذي تستكمل الاُمّة به الشروط الأساسية لنهضتها»[7].

لقد أدرك السيد الشهيد(رضي الله عنه) مكامن الخطر، وأمسك برأس الخيط الذي ينتهي بالمسلمين إلى استئناف المسيرة، وذلك بأن يأتوا البيوت من أبوابها…

وهنا لسنا بصدد الحديث عن مشاريع السيد الصدر المختلفة الهادفة إلى بلورة وسائل النهضة الجديدة، وانما يهمنا هنا فحسب الحديث عن حركته التجديدية في مجال الثقافة والفكر والقيم. لقد كان المفكر الشهيد(رضي الله عنه) يسعى جاهداً إلى ان يبرز عبقرية الثقافة الإسلامية من خلال عبقرية المنهج وعبقرية الطرح..

لقد كانت الاُمّة ـ خصوصاً في العراق ـ لاتعاني من عقدة تجاه المضمون الحقيقي للاسلام، الاّ انها كانت تعاني من مشكلة عدم عرض المضمون بأسلوب عصري يفهمه الناس، وهكذا شمّر المفكر الشهيد(رضي الله عنه) عن ساعد الجد ليعالج المشكلة من أساسها:

أ ـ فبدلاً من أن يتحدث ـ كما تتحدث به المصطلحات الفقهية مثلاً ـ عن آداب التجارة، والبيع الفضولي، والخيارات، والمساقاة، والاجارة، وما اليها من معاملات مالية، اتجه رضوان الله تعالى عليه، إلى اكتشاف المذهب الاقتصادي في هيكليته العامة، وفي اطر هذه الهيكلية.

ب ـ وبدلاً من أن يتحدث حول المعاملات المحرمة في التجارة مثلاً، يتجه إلى الحديث حول الحرية في الاقتصاد الإسلامي.

جـ ـ وبدلاً من الحديث حول البطالة، والفقر وحرمة الكسل عن كسب الرزق يدرس المشكلة الاقتصادية وكيف يعالجها الإسلام.

هذا، ويتجنب السيد الشهيد(رضي الله عنه) بشكل كامل مصطلحات المذاهب الاخرى، ويبرز المصطلح الإسلامي والمنهج الإسلامي والمضمون الإسلامي في ثوب مبارك جديد.

لقد حافظ المفكر الكبير على أصالة الشريعة بشكل كامل، مع التماس تجديدي يمتطي صهوة المعاصرة بأعلى درجاتها وأرفع مستوياتها.

عزالدين سليم

[1] المجتمع الإسلامي بين النظرية والتطبيق، البهي الخولي، اشتراكية الإسلام / الدكتور مصطفى السباعي.

[2] الإسلام بين الانصاف والجحود، الدكتور حسن عبد الغني حسن، ديمقراطية القومية، د. عبدالله العربي

[3] مقدمة الطبعة الثانية لكتاب اقتصادنا، للسيد الشهيد(قدس سره).

[4] المصدر السابق نفسه

[5] مجلة الاضواء ع / س حزيران 1960 م النجف الاشرف (موضوع رسالتنا: 2).

[6] دروس من القرآن الكريم، دراسة للسيد الشهيد(رضي الله عنه) كتبها لمجلة الاضواء ص 2 ع 3 ونشرته المكتبة الإسلامية الكبرى في طهران مع دراسات اخرى تحت عنوان (دراسات قرآنية) للسيد الشهيد(رضي الله عنه).

دروس من القرآن الكريم، دراسة للسيد الشهيد(رضي الله عنه) كتبها لمجلة الاضواء ص 2 ع 3 ونشرته المكتبة الإسلامية الكبرى في طهران مع دراسات اخرى تحت عنوان (دراسات قرآنية) للسيد الشهيد(رضي الله عنه).

[7] (رسالتنا) مجلة الاضواء العدد الاول س 1 عام 1960 م