مسألة البطل في الفكر التأريخي الحديث
ينطوي الفكر التاريخي الحديث على عدة نظريات في مجال تفسير التأريخ، احدى هذه النظريات مايسمى بنظرية البطل، ويعتبر توماس كارليل صاحب كتاب الابطال أحد رواد هذه النظرية التي تؤكد على ان التأريخ عبارة عن انتاج مطرد لعنصر البطولة، وإنّه حلقات متسلسلة من أدوار البطولة. فالبطل ينتج ويؤسس والبشرية تتلقى انتاجه وتأسيساته باعجاب واسترخاء فتتكل عليه وتتبعه حتى يأذن التأريخ بظهور بطل جديد فيقوم بنفس ماقام به البطل السابق وهكذا فالبشرية والتأريخ عيال على الابطال الذين يتوزعون على مجالات الحياة المختلفة كالسياسة والفكر والفن.
وتنسجم هذه النظرية مع الاتجاه الليبرالي الغربي الذي يؤكد على الفرد وقابلياته، ويلغي دور العقيدة او الايديولوجيا في حياة الانسان، بل يرى العقيدة مظهراً من مظاهر عبقرية الفرد الذي يعرف كيف يصبح بطلاً وكيف يقود المجتمع من خلال وسائل متعددة تأتي العقيدة أو الايديولوجيا كواحدة منها. فالعقيدة وسيلة البطل في ادارة التأريخ. فالبطل هو الاساس في هذه النظرية والعقيدة شبح يحكي تلك البطولة.
وواضح ان الفكر الاسلامي لايمكنه القبول بهذه النظرية لأن الاسلام يراهن على العقيدة ودورها الخلاق في حياة الانسان دون ان ينكر دور الخصائص الذاتية للافراد وملكاتهم الخاصة، لا نريد ان نستغرق في ذكر المؤشرات التي تدل على ذلك، ولكننا نكتفي بذكر مؤشر مهم وهو قوله تعالى (وما محمد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) وقد أوصى الرسول في لحظات وفاته فاطمة الزهراء بهذه الآية وبهذا يريد القرآن الكريم تركيز روح المسؤولية، وحينما يقول (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) انما يقول كلكم صاحب عقيدة، فما يزخر به التأريخ من احداث ووقائع بما في ذلك البطولات والابطال انفسهم هي من صنع العقائد ودرجة الايمان بها واذ كان الفكر الوطني والقومي قد رفع شعار عبقرية المكان فنحن نرفع شعار عبقرية الايمان، ولانقصد بالعقائد خصوص الاديان والايدلوجيات ذات النظرة الواسعة في الكون والحياة وانما هي تشمل بمفهومها العام كل فكرة تشكل دافعاً لحركة الانسان. فحينما يتحرك الانسان الايرلندي لتحرير بلاده من الاستعمار البريطاني انما يتحرك انطلاقاً من فكرة التحرير.
وفكرة التحرير هذه تلعب دور العقيدة في حياة ذلك الانسان. وهكذا فحينما يطل على الساحة الايرلندية سيكون هذا البطل من صنع العقيدة . وهذا التحليل والبيان يشمل السلوك الفردي والخاص ولايختص بالسلوك السياسي أو الاجتماعي العام، فحينما ينطلق رب الاسرة لتحقيق المنجزات لاسرته انما ينطلق من فكرة عيلولته ومسؤليته تجاه هذه الاسره. وحينما يكون بطلاً في هذا المجال انما يكون من صنع تلك الفكرة التي تلعب دور العقيدة. وهذا المعنى الشمولي الواسع للعقيدة، وهذا المفهوم المتحرك لها ولدورها في الحياة يلخصه الامام الحسين (عليه السلام) ببيان رائع حينما يقول «انما الحياة عقيدة وجهاد».
وهكذا فالرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله) بطل لكنه من صنع الاسلام والامام علي(عليه السلام) بطل لكنه من صنع الاسلام والامام المهدي (عليه السلام) سيكون بطلاً لكنه من صنع العقيدة الاسلامية. فبقدر مايكون الانسان مؤمناً بفكرة ماوعقيدة ما يكون بطلاً وبقدر مايكون منسلخاً عن العقائد والمبادئ والافكار يكون هزيلاً. ويكون البطل بطلاً في الحق او في الباطل تبعاً لطبيعة الفكرة او العقيدة التي آمن بها.
وعلى هذا الاساس تقوم النظرة الاسلامية للانبياء والائمة. فهم ابطال انطلقوا من الخط وتكوّنوا على اساس العقيدة. وما عصمتهم ومنزلتهم ومنجزاتهم الا لأنهم احرزوا اعلى درجات التصديق والايمان الحقيقي.
ومن المفارقات ان نجد بعض الخطوط الفكرية المنسوبة للاسلام قد تعاملت مع الانبياء والائمة على اساس نظرية البطولة التي وجدنا ان المؤشرات الاسلامية ترفضها. وذلك من خلال الاستغراق غير الطبيعي في الوصف الغيبي والصوفي لشخصية الانبياء والائمة حتى بدَوْا وكأنهم مخلوقات تجاوزت في سموها الحد البشري الطبيعي الذي تفترض الضرورة التوحيدية انهم خلقوا ضمنه وفي اطاره.
لانريد ان نقول ان تلك التي وقعت في هذه المفارقة انطلقت من نظرية البطولة لان هذه الخطوط سبقت في ظهورها نظرية البطولة بقرون. وانما انطلقت من الميل العاطفي والحسي الذي يغمر المجتمع ويوجه نظره الى العبقرية اكثر من النهج، الى البطل اكثر من الخط، فيبرز البطل على حساب الخط والعقيدة. وقد واصل هذا الميل دوره السلبي واخذ يشمل العلماء والفقهاء الكبار، ومنهم بل وفي مقدمتهم صاحب الذكرى الذي نقف الآن في ذكراه السنوية. الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر.
يقف الامام الشهيد الصدر في عصرنا هذا نموذجاً للشخصية التي تم التركيز على بعد العبقرية فيها والى حد فاحش. انطلاقا من التصور بأن هذه العملية تأتي وفاءاً له وبدافع الاخلاص والتعاطف معه، والحقيقة عكس ذلك تماما. فان هذه العملية من شأنها ان تحول الشخصية الرائدة الى مجسمة لا حراك فيها ولا قابلية لها على الامتداد والتواصل. بينما تؤدي العملية المطلوبة وهي عملية ربط العبقرية بالخط واعتبار الخط هو الاساس في الشخصية، تؤدي الى جعل الشخصية منهجاً حيوياً وممتداً بامتداد الحياة زماناً ومكاناً وأُفُقاً فمن يُرِدْ ان ينصف الشهيد الصدر فعليه ان يركز على جانب المنهج والخط في شخصيته بدلاً من جانب العبقرية.
ان العبقريةَ في شخصية الشهيد الصدر أمر مفروغ منه، وقد وجدت في أحد التعريفات ان العبقري هو الشخص الذي يمكنه معالجة المطالب الحيوية للمجتمع. وهذا التعريف ينطبق على السيد الشهيد الصدر وبأعلى الدرجات. حيث ان المسألة الاجتماعية سجلت حضوراً متقدماً في مدرسته الفكرية ولانكاد نجد له اثراً فكرياً ابداعياً الا وكانت المسألة الاجتماعية منطلقاً او مصعباً له.
ان الامم الحية تحول السلبيات الى ايجابيات، والامم الاخرى تحول الايجابيات الى سلبيات. الامة الحية تحول البطل الى نهج وخط تنطلق على اساسه في الحياة. والامة غير الحية تحصر البطل في نطاق الجسد فاذا ووري الثرى قيل انه استثناء ولايمكن للحياة الا ان تسير على وفق القاعدة لا الاستثناء. الامة الحية تخطط لنفسها على انها استثناء. والامة غير الحية ترسم لنفسها قواعد متدنية لتسوِّغ تقاعسها في ضوء تلك القواعد ولتقنع نفسها انها تسير في ضوء القواعد، فلو كان الشهيد الصدر بطلاً فقط ولم يكن خطاً لكان من اللازم علينا ان نحوله الى خط نترسمه في الحياة. فكيف به وهو بطل انطلق على اساس الخط وسعى لتكريس الخط وترسيخه. وهكذا نكتشف حجم المفارقة التي ارتكبها اكثرنا حينما عشناه بطلاً وغّيبناه نهجاً وخطاً. والمدلول النفسي لهذه العملية يتمثل في انها تعبر عن محاولة للتخلص من المسؤولية الناشئة عن غيابه.
وجدت في احدى الكراسات التي تناولت حياة سماحته انه (قدس سره) كتب «البنك اللاربوي في الاسلام» في مدة اسبوع فقط. المدلول النفسي القريب والظاهري المعبر عن روحية الكاتب حينما دوّن هذه المعلومة الخارقة والبعيدة عن التصور والتصديق هو الاخلاص والوفاء للشهيد الصدر. لكن المدلول النفسي العميق هو أن موقع المسؤولية بقي شاغراً وسيبقى شاغراً مادامت العبقرية الخارقة غائبة وبالتالي ان العذر عنها قائماً . وهذه هي النتيجة السلبية الطبيعية لعملية التركيز على عنصر العبقرية وحدها في شخصية البطل. وقد يعبر عنها بصيغ مختلفة منها الصيغة القائلة بأن السيد الشهيد لو كان حيا لَحُلَّت هذه المسألة الاقتصادية وتلك المسألة الفلسفية وغيرها من المسائل التي كأن القدر قد حكم عليها بالتجميد وعدم الحل مادام البطل الفلاني غائباً. صحيح ان السيد الشهيد لو كان موجوداً لحُلَّت هذه المسائل، لكن ليس صحيحاً ان يتخذ من غيابه عذراً في تجميدها وطريقاً للتنصل عن المسؤولية تجاهها.
ان اخطر ماتؤدي اليه عملية التركيز على عنصر العبقرية هو غياب روح المسؤولية وهذا مايجعل الاتباع على طرف مناقض للبطل. فقد وجدنا ان العبقري هو الذي يتصدى لحلِّ المطالب الاجتماعية الملحة. وما اصبح عبقرياً الا نتيجة لتشبعه بروح المسؤولية تجاه تلك المطالب. بينما يسعى الاتباع الى التحلل عن المسؤولية عن طريق حصرها قسراً بالبطل الغائب. خلافا لمقتضى تبعيتهم له، حيثُ تقتضي الاقتداء به وتمثل صفاته وابرزها روح المسؤولية تجاه المجتمع.
لقد اشبع الشهيد الصدر حاجات عصره الفكرية وغطّاها تغطية كاملة انطلاقاً من الشعور بالمسؤولية تجاه المجتمع والجيل الذي يستظل به. وادت المدرسة الفكرية التي انتجها اغراضها كاملة. ولانقصد بالحاجات العصرية الافتاء بمسائل التأمين والتلقيح الصناعي وحكم مشاهدة التلفزيون. وانما نقصد بالحاجات العصرية متطلبات بناء الذات وتشييد الصيغة العصرية للمجتمع الاسلامي الاصيل ونقد الفكر الغربي.
وعندما قام الجيل الاول على قدميه وصار في خضم المعركة عمد الغرب الى تغييب هذا العملاق. واصبح مأمولاً من هذا الجيل ان يتابع المسيرة ويتصدى للمسؤولية بالقدر المستطاع منها ازاء المجتمع والجيل الثاني منه. ولكن الظاهرة التي برزت على الساحة هي ان شريحة واسعة ومهمة من الجيل الاول لم تتحلَّ بالقدر الكافي من روح المسؤولية تجاه الجيل الثاني والحاجات الفكرية للمجتمع بصورة عامة. والسؤال الملح الذي يبرز على الساحة الآن هو: من المسؤول عن اشباع الحاجات الفكرية الجديدة للمجتمع؟ الى من يتوجه الجيل الجديد بإشكالاته؟
وفي الوقت الذي كانه مأمولاً من الجيل الاول ان يتصدى لهذه المسؤولية بدأنا نلمس في شريحة واسعة ومهمة منه التراجع الى الوراء امام بعض الاثارات. بل بدأ بعضهم يصدم المجتمع بالاثارات والاشكالات وكأنه يطلب من المجتمع ان يجيب عنها!!
في الوقت الذي كان مأمولاً من الجيل الاول ان يتصدى للاجابة على اشكالات الجيل الثاني صار بعضٌ من الجيل الاول ينشر الاشكالات وهو يخيل له انه يحقق فتوحات فكرية، وهنا ظهرت الحاجة الى تأسيس منهج هادف وبنّاء في التعامل مع الاشكال المنطلق هنا وهناك. فحينما يظهر الاشكال حول مفردة من مفردات الفكر الاسلامي ماهو الاسلوب الامثل في التعامل معه؟ هناك اسلوبان شائعان متناقضان احدهما يقمع الاشكال تحت شعار محاربة الانحراف منذ اوان ظهوره، والثاني يؤكد نشر الاشكال تحت شعار ضرورة مراجعة الذات. والاسلوب المختار والصحيح لا هذا ولا ذاك وانما هو ان الاشكال حينما ينطلق حول فكرة حسّاسة وفي ظرف حسّاس لابد من التعامل معه على اساس اختزان الاشكال والانطلاق من الحل. فلو ان اشكالاً ماانطلق حول فكرة حساسة ضمن الموروث الثقافي الذي يمثل قاعدتنا ومنطلقنا، ولنفترض ان الاشكال كان وارداً، ففي مثل هذه الحالة تقتضي منا روح المسؤولية عدم قمع الاشكال لأن القمع يؤدي الى اشكالات مضاعفة، كما تقتضي ايضاً عدم نشر الاشكال لأنه مخالف لمقتضى الحكمة. والاسلوب الصحيح هو ان يُختزن الاشكال ويُبحث عن حل له ويتم الانطلاق من الحل فينقطع الاستفهام وتستأصل النقطة المثيرة له دون الاشارة العلنية والصريحة للإشكال امام الرأي العام.
مستلزمات التصحيح
اذن لابد من التصحيح ولابد من العودة الى التوازن. والتوازن المطلوب في التعامل مع الذكريات السنوية للسيد الشهيد الصدر ومع كل الرواد والمؤسسين هو ان نؤكد على الخط والمنهج قبل البطل والعبقرية. وهكذا فان افضل مايُحتفل به في ذكرى استشهاد السيد الصدر (قدس سره) هو:
1ـ دراسة ابعاد مدرسته الفكرية دراسة معمقه ومقارنه بالمدارس الفكرية المناظرة لها على الساحتين الاسلامية الخاصة، والانسانية العامة.
2ـ الحرص والتأكيد والعمل على ابراز الصورة الحقيقية للسيد الشهيد المتمثلة بكونه منكراً على الصعيد الانساني ومن الطراز الاول شأنه شأن المفكرين العاملين. فهو ليس مفكراً على مستوى العراق وليس مفكراً على المستوى الشيعي بل مفكر على المستوى الانساني ككل.
3ـ ان تتحول ذكراه الى محفل فكري يتبارى فيه الباحثون والمفكرون في معالجة قضايا الساحة واشكالياتها. اي ان تتحول ذكراه الى مؤتمر فكري اسلامي سنوي.
4ـ لابد من تأسيس مركز فكري يقوم برصد تقلبات وتطورات الفكر الايجابية منها والسلبية على الصعيدين الاسلامي والغربي معاً. مع طرح التحليلات والمعالجات ذات العلاقة بشأن تلك التطورات. وتقديم تصورات عن التأثيرات السلبية او الايجابية في الحاضر والمستقبل لتلك التطورات. ويقوم هذا المركز بنشر حصيلة اعماله في نشرة فصلية او نصف سنوية. ليطلع المعنيون بالشأن الفكري الاسلامي بمحتويات وتحولات وافاق الساحة الفكرية الاسلامية الخاصة والانسانية العامة. ومن المناسب جداً ان يحمل هذا المركز اسم الشهيد الصدر بوصفه القمة للفكر الاسلامي المعاصر.
عبد الكريم نجف