الشَّهيد الصَّدر ونهضة الفقه الإسلامي المعاصر
«لقد أثبت هذا البحث، بشكل واف، صدارة محمَّد باقر الصَّدر كعالم مهمٍّ، ليس فقط في العراق، ولكن أيضاً في العالم الشِّيعي، بل في العالم الإسلامي.»
المؤرِّخ ألبرت حوراني
مميِّزات الكتابة عن سيرة الشَّهيد الصَّدر وفكره
بعد مرور عقدين من الزَّمن، على استشهاد السَّيِّد محمَّد باقر الصَّدر، العالم والفقيه النَّجفي المجدِّد، يمكن الحديث عن وجود تراكم كمِّي ونوعي حقَّقته الكتابات التي تعرَّضت لسيرته وفكره، سواء من طرف تلامذته والمؤمنين بنهجه الإصلاحي والتَّغييري، أم من طرف عدد من الباحثين الذين انطلقوا من فكره وكتاباته، وقدَّموا دراسات قيِّمة حول إبداعاته وإضافاته وما قدَّمه للفكر الإسلامي المعاصر. وقد لا نكون مجانبين للصَّواب إذا قلنا: إنَّ حجم ما كتب عن السَّيِّد الشَّهيد، إلى حدِّ الآن، يجعله من بين أهمِّ الشَّخصيَّات الإسلاميَّة العظيمة التي عرفها هذا القرن وأبرزها، والفضل يعود بالدَّرجة الأولى إلى إنتاجه الفكري المتميِّز الذي جعل منه أنموذجاً للفقيه الإمامي الذي تمكَّن من استيعاب مشاكل عصره وقضاياه، وتعاطى بإيجابيَّة مع الواقع الإسلامي وتحدِّياته المختلفة، وحمل همّ الإسلام والمسلمين، واستطاع أن يعيد الثِّقة بالإسلام وشريعته، عندما قدَّمه بحلل جديدة وأثبت صلاحيته لكلّ زمان ومكان، وكشف في المقابل تهافت الفلسفات الغربيَّة المادِّية الوافدة، كما أمدَّ الصَّحوة الإسلاميَّة بما تحتاجه من فكر ورؤية شموليَّة للإسلام، وهي تواجه الغزو الفكري الغربي. بالإضافة إلى انخراطه في العمل التَّربوي والاجتماعي والسِّياسي، لممارسة الإصلاح والتَّغيير المطلوبين سواء داخل الحوزة العلميَّة في النَّجف الأشرف أم في الوسط الاجتماعي العام داخل العراق.
أمَّا ما قدَّمه في سبيل إحداث التَّغيير فلم يقتصر على الجهد الذِّهني والانشغال طوال حياته في التَّفكير والتَّأليف والتَّعليم والدَّعوة والإرشاد ومواجهة التَّحدِّيات الواقعيَّة، وإنَّما قدَّم روحه الشَّريفة في سبيل ما كان يؤمن به، وبذلك جعل من جهاده وتضحياته أنموذجاً يقتدي به المصلحون والمجاهدون من أجل التَّغيير والإصلاح في أوطانهم، لقد كان السَّيِّد الشَّهيد بحقّ أنموذجاً فريداً على غرار آبائه وأجداده من أئمَّة أهل البيت الذين جمعوا بين العلم والعمل والجهاد في سبيل الإسلام وقيمه ومبادئه، واستشهدوا في سبيل ذلك، ورسموا لأتباعهم الطَّريق من بعدهم، وكشفوا لهم عن الثَّمن الذي قد يدفعه السَّالكون في هذا الطَّريق.
لكن السَّيِّد الشَّهيد لم يمت ولم ينته، فهو حيٌّ هناك في جنَّات عرضها السَّماوات والأرض، وهو هنا حيٌّ كذلك لأنَّ تراثه الفكري وآراءه وأفكاره تمَّت الاستفادة منها، وما زال الباحثون يغرفون من معينها، فلم تستنفد بعدُ أغراضها بل تكتشف يوماً بعد يوم ويزداد الاهتمام بها داخل الأوساط العلميَّة الإماميَّة والإسلاميَّة، بل العالميَّة. وقد بدأ الاهتمام من جديد داخل بعض الأوساط الأكاديميَّة في الغرب لاكتشاف السَّيِّد الصَّدر، سيرةً وفكراً، لمعرفة موقعه من النَّهضة الفكريَّة العامَّة في الشَّرق الأوسط عموماً والعراق بالخصوص، وموقعيَّته داخل الحركة والثَّورة الإسلامية في كلٍّ من العراق وإيران، وصولاً إلى دراسة التَّأثير الذي أحدثه في مسار الفكر الإسلامي المعاصر.
قبل الحديث عن إحدى أهمِّ الدِّراسات الأكاديميَّة التي أنجزت في الغرب حول السَّيِّد الشَّهيد وفكره، نستعرض مجموعة من الكتابات المهمَّة التي كتبت عنه، واستطاعت إلى حدٍّ كبير أن تسلِّط الضَّوء على مراحل حياته العلميَّة والسِّياسيَّة وأن تتحدَّث عن إنتاجه الفكري ومميِّزاته، وقد أصبحت هذه الدراسات تشكِّل أهمّ مصادر ترجمته، ويمكن أن يستفيد منها الباحثون والمهتمُّون بسيرته وفكره.
من هذه المصادر نذكر:
– الإمام الشَّهيد محمَّد باقر الصَّدر: دراسة في سيرته ومنهجه، للسَّيِّد محمَّد الحسيني، وهذا الكتاب يُعَدُّ من أهمِّ ما كتب عن السَّيِّد الشَّهيد لأنَّه يحتوي على عدد من الوثائق المهمَّة.
– مقدِّمة كتاب مباحث الأصول، للسَّيِّد كاظم الحائري، وفيها عرض مفصَّل لحياة السَّيِّد الشَّهيد وإنجازاته الفكريَّة وملابسات استشهاده.
– السَّيِّد محمَّد باقر الصَّدر: دراسة في المنهج، للباحث نزيه الحسن، وأهمِّية هذه الدِّراسة تكمن في التَّركيز على التراث الفكري للسَّيِّد الشَّهيد ومحاولة إبراز معالمه وخصائصه.
– الشَّهيد الصَّدر: سنوات المحنة وأيَّام الحصار، للشيخ محمَّد رضا النعماني، وهو عرض لسيرته الذاتيَّة ومسيرتيه: السِّياسيَّة والجهاديَّة.
– الشَّهيد الصَّدر رائد الثَّورة الإسلاميَّة في العراق، غالب حسن أبو عمَّار.
– الشَّهيد الصَّدر، رائد حركة التَّغيير في الأمَّة، عزّ الدِّين سليم.
– محمَّد باقر الصَّدر: دراسات في حياته وفكره، أصدرته «مؤسَّسة دار الإسلام» في لندن، وقد شاركت فيه مجموعة كبيرة من الكتَّاب والمفكِّرين. وقد تناولت الدِّراسات سيرة السَّيِّد الشَّهيد وإنتاجه الفكري.
– هناك مجموعة كبيرة من الدِّراسات والمقالات التي نشرت في عدد من المجلاَّت والدَّوريات الفكريَّة المتخصِّصة، مثل: «مجلَّة الفكر الجديد»، التي دأبت على نشر دراسات حول السَّيِّد الشَّهيد في جميع أعدادها، وقد خصَّصت عددها السَّادس للحديث عن سيرته وعطائه العلمي. بالإضافة إلى مجلاَّت: «الأضواء»، «الجهاد»، «التَّوحيد».
– صحف المعارضة العراقيَّة، في إيران وسورية ولبنان، وعدد من بلدان المهجر في الغرب وجرائدها ومنشوراتها، وبخاصَّة منشورات حزب الدَّعوة. وقد دأبت هذه الصُّحف والمجلاَّت على نشر عدد كبير من المقالات والدِّراسات حول كافة الجوانب المتعلِّقة بحياة السَّيِّد الشَّهيد ونضاله وفكره السِّياسي، وذلك بمناسبة الذِّكرى السنويَّة لاستشهاده.
– بحوث ودراسات عديدة ألقيت في عدد من النّدوات التي أقيمت خصِّيصاً لدراسة فكر السَّيِّد الشَّهيد.
هذه الكتابات التي أصبحت مصدراً ثريَّاً للاطِّلاع على حياة السَّيِّد الصَّدر، رغم تنوُّع المشاركين والمساهمين فيها وانتمائهم لمجمل الدول العربيَّة والإسلاميَّة، إلاَّ أنَّ ما يجمع بينها هو كون أغلبها كتبه عدد من تلامذة السَّيِّد الشَّهيد وأتباع نهجه الفكري والسِّياسي، أو بشكل عام ممَّن يحسبون على الدَّائرة الإسلاميَّة الإماميَّة؛ من هنا تبرز أهمِّية دراسة الدكتور شبلي الملاَّط، المحامي اللبناني والأستاذ في كلِّية الحقوق في جامعة القدِّيس يوسف، لأنَّها من خارج هذه الدَّوائر، كتبت لأغراض علميَّة أكاديميَّة، الهدف منها محاولة الكشف عن إسهامات السَّيِّد الصَّدر في تجديد الفقه الإسلامي ونهضته، لا سيَّما في المواضيع الدّستوريَّة والاقتصاديَّة والمصرفيَّة، وتتبُّع تأثير كتاباته في العالمين العربي والإسلامي بشكل عام، وفي الجمهوريَّة الإسلاميَّة في إيران على وجه الخصوص.
أصول الدّستور الإسلامي: إسهامات الشَّهيد الصَّدر
قبل الشُّروع في الحديث عن القانون في النَّهضة الإسلاميَّة ودور السَّيِّد الصَّدر، من أجل «تأمّل الانبعاثات الإسلاميَّة فكما يقول الدكتور الملاّطف في ما وراء الإفرازات الأوَّلية، من حماسة أو قنوط، لتحديد الكيفيَّة التي صيغ فيها الاستشراف الجديد، وتفحّص ما إذا كان النِّظام البديل متضمِّناً أي فكر جديد على الإطلاق..». استعرض المؤلِّف أصول الدستور الإسلامي كما كتبها السَّيِّد الشَّهيد، وقد تمثَّلت في تسعة أسس هي: 1ـ الإسلام، 2ـ المسلم، 3ـ الوطن الإسلامي، 4ـ الدَّولة الإسلاميَّة، 5ـ الدَّولة الإسلاميَّة دولة فكريَّة، 6ـ شكل الحكم في الإسلام، 7ـ تطبيق الشَّكل الشّوري للحكم في ظروف الأمَّة الحاضرة، 8ـ الفرق بين أحكام الشَّريعة والتَّعاليم، والأساس التَّاسع: مهمَّة بيان أحكام الشَّريعة وتعيين القضاة لأداء مهمَّات الحكم.
بعد ذلك، وفي إطار الحديث عن الخلفيَّات القانونيَّة للنَّهضة الإسلاميَّة، تحدَّث المؤلِّف عن مفهوم الشَّريعة، مستعرضاً أقوال بعض العلماء، مبرزاً كيف تطوَّرت إلى «قانون للعالم الإسلامي»، بالإضافة إلى التطوّر الذي شمل عدداً من الحقول والمجالات المعرفيَّة، «إلاَّ أنَّ حقولاً أخرى في القانون أهملت كلِّياً، أو ظلَّت هامشية، لكن يمكن الجزم -يقول الدكتور الملاَّط- بأنَّ القليل من المجالات الشرعيَّة وصلت إلى الصدارة في سنوات التجدُّد.. في المقابل أجريت عمليَّة استشفاف دقيقة لمجالين عامَّين هما: الجزء الدستوري في القانون العام، والحقل الواسع الذي فتح على مصراعيه بفضل الاقتصاديَّات المعاصرة..»، وكانت هذه هي الميادين الرئيسيَّة التي بعثت فيها الرُّوح الإسلاميَّة، كما أكَّد الملاَّط.
من هنا سينطلق للبحث عن طبيعة هذا التجدُّد وخلفيَّاته وآثاره الواقعيَّة، مؤكِّداً أنَّ العنصر الأهمَّ في هذا الانبعاث والاهتمام بالفكر الإسلامي على نطاق عالمي، لم يكن بسبب الصّحوة الإسلاميَّة الممتدَّة في العالمين العربي والإسلامي فقط، وإنَّما «نجاح الثَّورة الإسلامية في إيران، وقدرتها على الاستمرار، فبدون إيران فيقول الدكتور الملاَّط – لما اقتدر الإسلام على استرعاء الانتباه بهذه الطَّريقة» (ص 7).
بعد الحديث عن الخلفيَّات العامَّة للنَّهضة الإسلاميَّة في النَّجف الأشرف، شرع المؤلِّف في الحديث عن سيرة السَّيِّد الصَّدر، منذ ولادته وإلى حين استشهاده، مستعرضاً بعض المحطَّات المهمَّة في حياته، والتي أثَّرت في إنتاجه الفكري وجعلته يتَّخذ الوجهة التي اتَّخذها، من حيث المواضيع المعالَجة أو الانشغالات الفكريَّة والسياسيَّة بشكل عام.
وكذلك الظُّروف والملابسات السياسيَّة في العراق، والصِّراع بين الحكومة وعلماء النَّجف، والمسار الذي سلكته الحركة الإسلاميَّة في العراق، خلال المراحل الثَّلاث لنموِّها الفكري والسِّياسي، وكيف تطوَّر الصِّراع وانفجر آخر المطاف مع البعثيِّين مع انتصار ـ الثورة الإسلاميَّة في إيران، ثمَّ إعدام السَّيِّد الصَّدر وشقيقته بنت الهدى في 8 نيسان 1980م.
وقد انتهى، بعد ذلك، إلى إبراز أهمِّية الشَّهيد الصَّدر «في انبعاث الحركة السياسيَّة الإسلاميَّة في العراق وفي العالم الشِّيعي، وحتَّى في العالم الإسلامي ككلّ» (ص 11)، معتبراً أنَّ موقعه كان «محوريَّاً» وبخاصَّة في السَّاحة العراقيَّة، ومبيِّناً كيف استطاع أن يتحمَّل أعباء المواجهة مع الفكر الشّيوعي الذي بدأ يغزو العقول والأفكار، ويغيِّر القناعات، ويهدِّد الإيمان والشَّريعة داخل الأوساط الاجتماعيَّة، التي بدأت تنتظر ردّ فعل النَّجف وحوزته العلميَّة. لقد وجد السَّيِّد الشَّهيد نفسه يخوض صراعاً مريراً مع الفكر الماركسي والشُّيوعي من جهة، ومع الأوساط التَّقليديَّة المتحجِّرة في النَّجف من جهة أُخرى، لأنَّها وقفت في وجه أي تغيير أو تطوير [في بداية الأمر] يمسُّ البنية التَّعليمية ومناهج التدريس التي كانت بحاجة ماسَّة إلى التَّطوير والتَّجديد.
ثمرات هذا الصِّراع كانت الكتب القيِّمة التي ألَّفها السَّيِّد الشَّهيد، استجابة لهذه التَّحدِّيات، وعلى رأسها كتابه «فلسفتنا» الذي صدر سنة 1959م. كردِّ فعل مباشر على تعاظم المدِّ الشيوعي، وفيه، بالإضافة إلى نقد المذهب الماركسي، عرض المفهوم الإسلامي للعالم وصياغته على ضوء الفلسفة والعلم. في المقابل فيقول الدكتور الملاَّط :- «جاءت أبحاث الصَّدر الفقهيَّة كما كان متوقَّعاً لها، أي كتابات ذات طبيعة قانونيَّة عامَّة تمثِّل موقعه كمجتهد» (ص 18). وفيها كشف الصَّدر عن مقترحاته وآرائه في التَّغيير والتَّطوير، على المستويين: الشَّكلي والمضموني، – في كتابه «الفتاوى الواضحة» عدَّل في التصنيف التقليدي للعبادات والمعاملات ضمن عرض المسائل الفقهيَّة، عندما استثنى الزكاة والخمس من باب العبادات «ومهَّد -بذلك- الطَّريق أمام إعادة تنظيم التَّبويب القانوني المعتمد منذ أكثر من مئة سنة» (ص 20).
أشار المؤلِّف كذلك إلى ما أضافه السَّيِّد الصَّدر من جديد في: «التَّفسير الموضوعي للقرآن» و «فدك في التَّاريخ» و «الأسس المنطقيَّة للاستقراء» ومحاضراته عن دور الأئمَّة الاثني عشر، وكراريسه المتنوِّعة التي كتب أغلبها سنة 1977م، عن التشيُّع والتعليم الإسلامي، والقرآن ومواضيع أخرى مختلفة. «لكنَّ تمهّره -أي السَّيِّد الشَّهيد- في القانون لم يقتصر على إعادة تنظيم علمي الأصول والفقه.. بل تظهر مقدرته التجديديَّة والاستحداثيَّة على أشدّها في مجالين يشكِّلان -يقول الدكتور الملاَّط – موضوع الكتاب الحالي، وهما حقل الاقتصاد، بما في ذلك دراسته الهامَّة عن القطاع المصرفي الإسلامي والدستور» (ص 21).
اللّمحة الفقهيَّة التمهيديَّة وصياغة الدستور الإيراني
قبل الحديث عن «اللمحة الفقهيَّة التمهيديَّة لمشروع دستور الجمهوريَّة الإسلاميَّة في إيران» التي تبرز بوضوح حجم إسهام السيِّد الصَّدر في صياغة الدستور الإيراني كما سيثبت الدكتور الملاَّط ذلك، قبل ذلك لا بدَّ من مقدّمات ضرورية منهجياً، لأنَّها تشكِّل خلفيَّات فكريَّة مهمَّة لفهم ما سيقدِّمه السَّيِّد الشَّهيد، بالإضافة إلى معرفة طبيعة البنية أو الهرميَّة والهيكليَّة التي تميِّز المؤسَّسة العلمائيَّة داخل الحوزة العلميَّة والمجتمع الإمامي، فهذه المعطيات وغيرها تشكل المفاتيح الضرورية التي يحتاجها الباحث كي يتمكَّن من فهم مرتكزات النظام السياسي الإسلامي في عصر الغيبة لدى الشيعة الإماميَّة، ومن دون فهمها واستيعاب تداعياتها الفكريَّة تظلّ الصورة غير واضحة، وبخاصَّة لدى الباحث والقارى من خارج الدائرة التاريخيَّة للإسلام الشِّيعي الإمامي.
هذه المسوِّغات المنهجيَّة هي التي جعلت المؤلِّف يغوص بعيداً لفهم طبيعة الدَّولة في الفكر الإسلامي ومتابعة التطوُّرات الدستوريَّة حديثة العهد، وصولاً إلى المساهمة المعاصرة لكلٍّ من زعيم الثورة الإسلامية الإمام الخميني(قده) والسَّيِّد الشَّهيد، لأنَّ مساهمة كلٍّ منهما هي التي جعلت قيام نظام حكم إسلامي دستوري في إيران حقيقة واقعيَّة، بدأت فعلاً تحظى باهتمام الأوساط الأكاديميَّة القانونيَّة في الغرب ودراسته.
ولاية الفقيه في محاضرات الإمام الخميني ورسائل السَّيِّد الصَّدر
استعرض الدكتور الملاَّط فقرات من كتاب «الحكومة الإسلاميَّة» للإمام الخميني(قده)، وتبيَّن كيف بدأ المفهوم الدستوري لتدخّل العلماء في الحكم يتبلور، ولكن -وحسب المؤلِّف- فإنَّ حجج الإمام «والدَّوائر الإيرانيَّة حوله شكَّلت في الواقع مقترحات وإيحاءات رحبة المدى للنزعة التدخُّليَّة». ولم يقدّم المخطَّط الذي لاحت طوالعه في مؤتمرات النَّجف ومقالات محمود الطَّالقاني الدستوريَّة سوى إطار عمل عام، كان مفتقراً إلى المواصفات الضروريَّة للمفصلة المؤسَّساتيَّة، وقد يكون نصّ آخر هو الذي مارس قدراً أكبر من النفوذ على صياغة الدستور الحالي لإيران، هو البحث الذي كتبه محمَّد باقر الصَّدر عام 1979م، ردَّاً على استفسار علماء لبنانيين عن رأيه في «مشروع دستور الجمهورية الإسلامية في إيران» (ص 84).
قبل استعراض ما جاء في هذه اللمحة الفقهيَّة التمهيديَّة ومقترحات السَّيِّد الصَّدر، وإبراز التَّأثير والتَّوافق بينها وبين ما جاء في مواد الدستور الإيراني الحالي، تحدَّث المؤلِّف عمَّا أسماه ب ـ «مستويين إضافيَّين أكثر تجريدية في نظرية الدَّولة الإسلاميَّة.. الفكرة المجرَّدة الأولى فلسفيَّة تبحث في أصل الوجود، وهي مبنيَّة على نظريَّة الدَّولة الإسلاميَّة في أوثق صلة ممكنة بما جاء في القرآن الكريم.. المستوى الثَّاني من التجريد المعنوي في نظرية الدولة الإسلاميَّة هو فلسفي، ويبحث عن أهمِّية السلطة في ظلِّ الدَّولة الإسلامية وقدرتها على البقاء طوال أربعة عشر قرناً رغم النوائب والشدائد».
وقد تتبَّع المؤلِّف، ومن خلال كتاب «خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء» الذي نشر سنة 1979م، والذي عدَّه «من أرقى النصوص في الأدبيَّات الإسلاميَّة الحديثة عن العلاقة بين القرآن والبنية المقترحة للدَّولة الإسلاميَّة»، كيف عالج السَّيِّد الصَّدر «جوهر علاقة السُّلطة ومسؤوليَّة العلماء في الدَّولة»، وكيف استطاع أن يطوِّر «منحى أكثر عمقاً في إرسائه قواعد سلطة كهذه على النُّصوص القرآنية..»؛ وذلك من خلال تفسير جديد للآية (44) من سورة المائدة؛ حيث فسَّر السَّيِّد الشَّهيد «الأَحْبَار» بالعلماء المراجع.
أمَّا الشَّهادة في قوله تعالى: «وكانوا عليه شهداء» فهي في مفهوم الصَّدر «تعهد إلى هذه المرجعية بمهمَّة حراسة الجمهورية الإسلامية والذّود عنها» (ص 87)، ومواصلة الدَّور العام للأنبياء والأئمَّة، وبهذا التأصيل تمكَّن الشَّهيد الصَّدر -كما يقول المؤلِّف – من «تثبيت المرجعية دستورياً وترسيخ جذورها في صميم الدَّولة الإسلامية» (ص 91)، وهذا التأصيل النَّظري أمدَّ الثورة الفتيَّة ـ بمقوِّمات وعناصر فكريَّة قويَّة، تمَّت الاستفادة منها بشكل أو بآخر، بالإضافة إلى أن كتيِّب «خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء»، ومعه مجموعة أخرى من الكتيِّبات بلغ مجموعها ستّة من بينها كرَّاس «اللمحة الفقهيَّة» الذي سنتحدَّث عنه بعد قليل، هذه الكتيِّبات التي جمعت ونشرت تحت عنوان: «الإسلام يقود الحياة»، كان السَّيِّد الصَّدر قد كتبها بعد انتصار الثورة، فهي «من وحي الانتصار الذي حقَّقته الثورة.. وتهدف إلى تعزيز وقعها وتأثيرها عقائدياً..» كما يقول الدكتور الملاَّط.
بعد الحديث عن «خلافة الإنسان..» و «منابع القدرة في الدَّولة الإسلامية»، يأتي الحديث الآن عن «اللمحة الفقهية التمهيدية»، باعتبارها «المرحلة الثالثة من تطابق فعلي وعملي لهذه النَّظرات في عملية تطوُّر الثورة الإيرانية» (ص 94). بالإضافة إلى كونها تحتلّ صلب موضوع النقاش حول أصول الدستور الإيراني ومساهمة «لمحة» الصَّدر في صياغته النِّهائية.
ينطلق الدكتور الملاَّط من مجموعة من الملاحظات المنهجية المفيدة، مثل الإشارة إلى تاريخ كتابة «اللمحة الفقهية»، أي 4 شباط 1979م، ليؤكِّد من خلال ذلك أنَّها كتبت قبل الانتصار النِّهائي للثوَّار واستلام رجال الدِّين والعلماء الحكم في إيران. وهذا يعني، في نظره، أنَّ السَّيِّد الصَّدر عندما كتب لمحته «لم تكن لمفهوم الدَّولة الإسلامية صيغة دستورية محدَّدة بدقَّة»، أمَّا كتابات زعيم الثورة الإمام الخميني (قده)، ومقالات الطَّالقاني الدستورية، فلم تكن -حسب الدكتور الملاَّط – سوى إطارٍ عام «يفتقر إلى تفصيلات التَّرابط المؤسَّساتي المتّسق»، لذلك يستنتج المؤلِّف، بل يؤكِّد، أنَّ «لمحة الصَّدر الفقهية هي أحد المخطَّطات الأوَّلية (وقد تكون المخطَّط الأوَّل) للدستور الذي تبنَّته طهران في فترة لاحقة» (ص 95). «وقد تبيَّن لنا فيقول الملاَّط – في تحليلها بإزاء النصّ النِّهائي للدستور الإيراني أنَّ المنظومة المتبنَّاة في إيران اقتبست، بدون أي استثناء أو تعديل تقريباً، آخر الإسهامات الفقهيَّة الهامَّة لمحمَّد باقر الصَّدر» (ص 95).
ولتأكيد هذا المدَّعى يقدِّم المؤلِّف مجموعة من الأمثلة منها: «المبدأ الأوَّل في كتيِّب الصَّدر يتردَّد كالصدى في البند الأوَّل من المادَّة الثانية للدستور، الذي يعلن أنَّ الجمهوريَّة الإسلاميَّة نظام مبني على الإيمان.. بولاية اللَّه». وبخصوص دور الفقيه «المرجع» (المجتهد، العادل، الكفؤ)، الذي تحدَّث عنه الشَّهيد الصَّدر في اللمحة، نجد الدستور الإيراني ينصُّ في مادَّته الخامسة على أنَّ «في زمن غيبة الإمام المهدي، تكون ولاية الأمر وإمامة الأمَّة بيد الفقيه العادل.. الملمّ بأمور العصر». كذلك يلاحظ الدكتور الملاَّط أوجه الشبه في اعتبار قانونيَّة الحكومة وتقيّدها بالشريعة التي تسيطر على الحاكم والمحكوم كما أكد السَّيِّد الصَّدر، وهذا ما نجده في الدستور الذي ينصُّ في المادَّة (112) على أن «يتساوى القائد وسائر أعضاء مجلس القيادة أمام القانون شأنهم شأن أي مواطن آخر في البلد».
كذلك هناك أوجه شبه أخرى في مسألة الفصل المزدوج بين السّلطات، والصلاحيات والحقوق الخاصَّة بالمرجع، وقد فصَّل المؤلِّف القول حول أوجه التشابه هذه، وبحث في جذورها المشتركة، لأنَّ عدداً من الأفكار والآراء التي وردت عند السَّيِّد الصَّدر تحدَّث عنها الإمام الخميني زعيم الثورة، لذلك يشير المؤلِّف، وهو يعلِّل هذا التشابه، إلى قضيَّة مهمَّة لا يمكن فهم نظرية ولاية الفقيه، من دون فهمها ومعرفتها، ويعني بها البنية الداخليَّة والهيكليَّة العامَّة للمرجعيَّة الشِّيعيَّة وتطوُّرها عبر التاريخ، وتقاليدها الراسخة التي أصبحت بمثابة دستور غير مكتوب. وقد ساعدت هذه البنية في انسجام أطروحة ولاية الفقيه مع الوسط الاجتماعي والدِّيني، كما عدَّت قاعدة أساسية انطلق منها التنظير السِّياسي حول طبيعة الدَّولة ونظام الحكم الإسلامي زمن الغيبة.
مشاكل التّطبيق
من الطَّبيعي جدَّاً أنَّ التّطبيق الواقعي للنَّظريات تنجم عنه تساؤلات جديدة ومشاكل تحتاج إلى معالجة وتنظير جديد، كما يكشف التّطبيق الثّغرات والنَّواقص التي تعاني منها أي نظرية سياسية لم تطبَّق من قبل، وهذا ما وقع بالنِّسبة للفصل المزدوج بين السُّلطات الذي اتَّسمت به بنية الدستور الإيراني، وقد رأى المؤلِّف أنَّ «ثمَّة مشاكل جوهرية» نجمت عن هذا الفصل، وظهرت في تجربة العقد الأوَّل من التطوُّرات الدستورية في الجمهورية الإسلامية، لذلك فقد خصَّص بحثاً مطوّلاً تحت عنوان: «العقد الأوَّل للدستور الإيراني: معضلات أقلّ السّلطات خطراً» لمناقشة بعض القضايا الدّستوريَّة الشائكة، مثل موقع مجلس الأمناء بين السُّلطتين التشريعية والتنفيذية، والمشاكل التي نجمت عن المهام الموكولة إليه، وكيف تطوَّر الأمر أخيراً بإنشاء «مجمع تشخيص مصلحة النِّظام»، الذي استطاع أن يفصل عمليَّاً في عددٍ من القضايا والمشاكل المتراكمة جرَّاء الاختلاف الحاصل بين مجلس الأمناء ومجلس الشورى والحكومة.
وأثناء ذلك استطاع المؤلِّف أن يقدِّم دراسة تحليلية قانونية كشفت عن موقع الفقيه وصلاحياته في الدستور الإيراني، كما قدَّم مجموعة من التحليلات والنقودات والمقارنات بين الوضع الدستوري الإيراني وما نجم عنه من مشاكل إجرائية وبين بعض الأوجه والقضايا في الأنظمة السِّياسيَّة والقانونيَّة في بعض الدُّول الغربيَّة مثل فرنسا والولايات المتَّحدة الأمريكية، واستطاع كذلك أن يخرج باستنتاجات، أهم ما فيها أنَّها قدَّمت لرجال القانون الإيرانيين دراسة قانونية تحليلية للدستور والتَّجربة السِّياسية الإسلامية، يمكن الاستفادة منها في تطوير الدِّراسات القانونية الإسلامية حول الدستور والنظام السياسي الإسلامي. خصوصاً وصاحبها ينتهج الموضوعيَّة العلميَّة وليس هدفه النَّقض، وإنَّما الفهم والتَّحليل واكتشاف طبيعة السُّلطة وتركيبتها في إيران الثورة.
التَّجديد في مجال الاقتصاد
الفقه الإسلامي: الاقتصاد الإسلامي والبنك اللاَّربوي، هذا هو عنوان الجزء الثَّاني من الكتاب، وفيه سيحاول الدكتور الملاَّط كذلك أن يبرز القيمة التجديدية لما كتبه السَّيِّد الشَّهيد في هذا المجال، وإظهار حجم مساهماته التي كشفت أوَّلاً عن تمرّسه وقدرته الإبداعيَّة باعتباره فقيهاً مجتهداً كامل الأهلية لخوض غمار الشَّريعة واستنباط الأحكام من مصادرها المعتبرة، وثانياً انفتاحه على الثَّقافة والفكر الإنسانيَّين، واستيعابه لعدد من فروع المعرفة المعاصرة، وهذا ما ظهر في نقده العلمي والموضوعي للمذاهب الاقتصاديَّة الغربيَّة وخلفيَّاتها الفلسفيَّة والعقديَّة، ومن خلال ممارسة طرفي هذه المعادلة؛ أي الاجتهاد من جهة والنقد من جهة أخرى، استطاع السَّيِّد الصَّدر أن يكتشف المذهب الاقتصادي في الإسلام.
هناك مقدِّمات لا بدَّ منها لمعرفة حجم ما قدَّمه السَّيِّد الصَّدر في مجال الاقتصاد الإسلامي وأهمِّيته، أوَّلاً: ومن خلال الاطّلاع على مباحث علم الفقه وموضوعاته وكتبه المعتمدة لدى المذاهب الفقهية المعروفة، نلاحظ عدم وجود «أي نظرية عامَّة في الاقتصاد»، هناك موضوعات لها علاقة بالنَّشاط الاقتصادي، مبحوثة في عدد من الأبواب الفقهية المتفرِّقة، ثانياً: لا وجود لكتابات إسلامية (اقتصادية بالمعنى العلمي) حديثة أو معاصرة يمكن الرُّجوع إليها والاستعانة بها أو الانطلاق منها لاكتشاف المذهب الاقتصادي الإسلامي. أمَّا إذا تحدَّثنا عن المجال المصرفي فإنَّ النِّقاشات حول الرِّبا -التي تفجَّرت في مصر أواخر القرن الماضي وبداية هذا القرن، عندما افتتحت بعض صناديق التَّوفير فوشارك فيها بعض العلماء من الأزهر- لم تسفر عن اكتشاف نظريَّة متكاملة في هذا المجال، يمكن الاستفادة منها للتنظير أو إيجاد البديل، أي بنك إسلامي لا يتعامل بالرِّبا المحرَّمة.
من هنا، ولهذا السَّبب – يقول الدكتور الملاَّط – «تتَّسم كتابات محمَّد باقر الصَّدر في الاقتصاد والحقل المصرفي بأهمِّية بارزة، فقبالة خلفيَّة كلاسيكيَّة لم يكن فيها وجود لعلم الاقتصاد، وعالم إسلامي لم يخرج مع حلول عام 1966م بأيِّ فكرة متساوقة متماسكة في هذا المجال، أعدَّ الصَّدر كتابين جديين ومطوَّلين عن الموضوع هما: اقتصادنا والبنك اللاَّربوي في الإسلام» (ص 147).
قام الدكتور الملاَّط بعرضٍ للقسم الأخير من كتاب «اقتصادنا» الذي خصَّصه السَّيِّد الصَّدر للاقتصاد الإسلامي، أمَّا القسمان: الأوَّل والثَّاني فقد خصَّصهما لنقد المذهبين الاقتصاديَّين الماركسي والرَّأسمالي بعد عرض آرائهما الاقتصاديَّة ومرتكزاتها الفلسفيَّة. وقد أعاد المؤلِّف ترتيب هذا القسم تحت عناوين رئيسيَّة جديدة هي: المبادى والمنهج، التَّوزيع وعوامل الإنتاج، التَّوزيع والعدالة. ومن خلال هذه العناوين الثَّلاثة، استعرض المؤلِّف بالتفصيل محتوى ما كتبه الصَّدر حول مبادى الاقتصاد الإسلامي، وكونه جزءاً من كلّ، ووضع الدِّين الحقيقي في النِّظام الاقتصادي، واعتبار الاقتصاد الإسلامي ليس علماً، ومفهوم الملكيَّة المتنوِّعة في الإسلام، بالإضافة إلى عرض بعض الانتقادات التي وجَّهها السَّيِّد الصَّدر للماركسيَّة والرَّأسماليَّة، هذه هي المواضيع التي ناقشها المؤلِّف على ضوء ما جاء في «اقتصادنا». وبشكل عام قام الدكتور الملاَّط بوصف «وإعادة تكوين لجوهر إسهام الصَّدر الرَّئيسي وسبب استحقاقه الشُّهرة، أي النَّظرية التي عرضها في «اقتصادنا» لنظام اقتصادي إسلامي»، ليقوم بعد ذلك بالبحث عن موضعه في الآداب الاقتصادية المعاصرة، خصوصاً وقد تمَّت ترجمته لعدَّة لغات عالمية مثل الألمانيَّة والإنجليزيَّة، وقرى على نطاق واسع.
ملاحظات نقدية
من الملاحظات الجديرة بالاهتمام، الانتقاد الذي وجَّهه المؤلِّف للقسم الأوَّل من الكتاب الخاص بنقد المذهب الاشتراكي، يرى الملاَّط أنَّ السَّيِّد الصَّدر اعتمد على كتابات ستالين وبولتزر، وهذه الأدبيَّات تعدُّ اليوم عتيقة ومتجاوزة، وتنتمي -كما يقول- «إلى أكثر التَّقاليد الماركسية ابتذالاً» (ص 195). وهذا ما أضعف هذه الانتقادات وقلَّل من فرص بقائها حيَّة، وهذه الملاحظة النَّقدية يمكن الردّ عليها باستحضار عدَّة معطيات، فالسَّيِّد الصَّدر كتب نقده وتحليله من وحي الأدبيَّات الماركسية المترجمة إلى العربية آنذاك والمتداولة في السَّاحة العراقية، ونقده اتَّجه للأسس الفلسفية المادِّية للمذهب، ولم يكن ليهتمَّ ببعض التَّعديلات أو التطوُّرات التي ستعرفها مستقبلاً الأدبيَّات الحديثة أو «ما بعد الماركسية» التي لم تعد لها الآن أي حاجة بعد وفاة الشُّيوعية وسقوط وتفكك النِّظام والمعسكر السِّياسي الذي كان يتبنَّاها «ايديولوجيةً» اقتصادية وسياسية. لكنَّ المؤلِّف يعترف في النهاية، رغم هذه الملاحظات، بأنَّ السَّيِّد الصَّدر «نجح إلى حدٍّ بعيد رغم هذه القيود، وخرج بنقد فذٍّ في تعمُّقه وشموله» (ص 195).
أمَّا النَّقد الذي وُجِّه للكتاب من طرف بعض السلفيِّين، وأشار إليه المؤلِّف، فنعتقد أنَّه لا يستحقُّ الردَّ أو المناقشة، أو حتَّى الإشارة إليه لتفاهته وبعده عن أغراض النَّقد العلمي، فالسَّيِّد الصَّدر لم يكن يُنظِّر لاقتصاد شيعي إمامي بالمعنى المذهبي، ولم تكن الطائفيَّة أحد همومه أو انشغالاته لينطلق منها، كان السَّيِّد الصَّدر يكتب للإسلام، مستفيداً من تراثه الفكري العام، ولو وجد كتابات مهمَّة أو تستحقّ العناية للسَّلفيين أو الحنابلة، في هذا المجال، لاطَّلع عليها واستفاد منها. ومن خلال ما قدَّمه المؤلِّف يظهر تهافت النَّقد السَّلفي، ويُظهر كذلك الاستعانة بالكذب وتزوير الحقائق «ديدنهم دائماً» للوقوف في وجه الاستفادة الإسلاميَّة العامَّة من هذا الإبداع الإسلامي في مجال الاقتصاد. ونحن نعلم سبب ذلك؛ فقد تضايق السَّلفيُّون كثيراً وهم يسمعون أخبار انتشار هذا الكتاب داخل الأوساط الإسلامية، وكثرة الإشادة به واعتماده في عدد من الجامعات بوصفه مصدراً مهمّاً من مصادر الاقتصاد الإسلامي، وكيف يكون ذلك ومؤلِّفه عالم شيعي إمامي، وهم يكفرون الشيعة ويدَّعون أنَّهم فرقة منحرفة عن الإسلام وليس لهم من العلم إلاَّ الخرافات وعبادة الأئمَّة؟! لذلك كان لا بدَّ من ظهور مثل هذه الدِّراسات «الافترائيَّة» ولا نقول النَّقدية، لأنَّها لا علاقة لها بالنَّقد العلمي، وقد وصف المؤلِّف أحد هذه الرُّدود السَّلفية بأنَّ صاحبها «ينزع إلى تعميمات سهلة واستخدام نصوص مستخرجة من كتابات لاحقة للصَّدر، بما في ذلك أقوال غير صحيحة مثل الفرضية المزعومة بأنَّ الصَّدر دعا إلى شرعنة الرِّبا، واستشهادات غير دقيقة للنصوص» (ص 190)، ويضيف المؤلِّف: بأنَّ اقتصادنا «فريد بغياب أي نعرة طائفية شيعية ظاهرة من تحليله ومصادره.. فقد استعان الصَّدر، بدون تحفظ أو قيود، بمراجع شيعية وسنِّية، ومن الصَّعب إيجاد أي إشارة تنمُّ خصيصاً عن انحيازات طائفية.. وفي «اقتصادنا» يضمِّن الصَّدر كتابه وفرة من أقوال علماء شيعة وسنَّة على السّواء، منتمين إلى كلّ المذاهب الفقهية، وحتَّى المذهب الأكثر معاداة للجعفرية، أي الحنبلي في صيغته (الوهَّابية ـ السّعودية)، يستشهد به من خلال أقوال أحمدبن حنبل وابن قدامة» (ص 194). والنَّتيجة التي يتوصَّل إليها المؤلِّف بعد استعراض هذه الانتقادات هي: «إلى هذا اليوم، ما زال «اقتصادنا» الأثر الأهمّ شأناً والأكثر شمولاً بين كلِّ ما كتب عن الاقتصاد الإسلامي» (ص 189).
أمَّا بالنِّسبة للنِّظام المصرفي الإسلامي وكتاب الصَّدر «البنك اللاَّربوي»، فمن الضَّروري كذلك معرفة أنَّ السَّيِّد الصَّدر عندما شرع «في أواخر الستِّينات في كتابة رسالة بحثية عن بنك خلو من الفائدة، ردَّاً على استفسار من وزارة الأوقاف الكويتية، لم يكن متوفراً في ذلك المجال سوى المناقشة في مصر حول الرِّبا» (ص 245). وهذه المناقشات التي شارك فيها علماء الأزهر إلى جانب بعض القانونيِّين لم تسفر عن رسم المعالم الواضحة لبنك إسلامي يتجنَّب في نشاطه المالي والمصرفي التَّعامل بالرِّبا، لذلك ظلَّ البحث عن البديل الإسلامي حاضراً، إلى أن قدَّم السَّيِّد الصَّدر أوَّل محاولة تنظيرية متكاملة في هذا المجال.
وعلى غرار ما فعله بالنِّسبة لكتاب «اقتصادنا»، يقدِّم المؤلِّف عرضاً شبه مفصَّل لمباحث «البنك اللاَّربوي» مستعيناً بما كتبه الصَّدر حول الموضوع في جميع كتاباته. تحدَّث المؤلِّف عن الرِّبا في الشَّريعة الإسلامية، وكيف انتقد السَّيِّد الصَّدر بعض الأفكار التي تحاول تسويغ بعض أنواع المعاملات الرَّبوية، واستعرض ما قاله الصَّدر بخصوص حقوق كلٍّ من المودع والمستثمر والبنك، وأظهر كيف يتمّ العمل في هذا البنك المقترح من دون اللجوء إلى المعاملات الرَّبوية. وفي الأخير يقدِّم مجموعة من الاستنتاجات المهمَّة والملاحظات النَّقدية المتعلِّقة بهذا التنظير الإسلامي.
من هذه الملاحظات التي تشمل التَّنظير في مجال الاقتصاد كلِّه، الصّعوبة في معالجة هذه المواضيع بالنِّسبة للفقيه والمجتهد المسلم، الذي لم يتعوَّد على مناقشة مثل هذه المواضيع بلغتها ومصطلحاتها الغريبة عن فكره وتراثه المعرفي، «فاللغة المستعملة في هذا الفرع من فروع المعرفة مسكوبة في مقولات رأسمالية أو اشتراكية، ويتعيَّن على الاقتصادي الإسلامي أن يكتب نصَّه بلغة ما زالت في الطَّور التَّوليدي، وأيّ محاولة للتَّباين ترهقها مصطلحات فنِّية غريبة عن ثقافته وتراثه» (ص 247). «وتستلزم هذه التَّوافقيات اندماج اختصاصات عديدة؛ فعالم الاقتصاد الإسلامي بحاجة إلى إتقان النُّصوص الفقهيَّة القديمة، واعتماد منهجيَّة عمليَّة وإنجازيَّة، وإلى طاقة تأليفيَّة للخروج بنظام متكامل، وقدرة إبداعيَّة في المصطلحات الفنِّية» (ص 248). «ويبقى من الضَّروري -يقول الملاَّط – التَّنبيه إلى أنَّ الصَّدر لم يكن من علماء الاقتصاد أو الخبراء في عمليَّات المصارف، ولذا سوف يكتشف المنقِّبون في نظامه بأدوات النَّظريات الاقتصاديَّة والماليَّة العصريَّة تقصيراً ملموساً بل نواقص جلية.. ومع ذلك، فما أسهم به الصَّدر جبَّار، وتألُّقه في هذا المجال متمثِّل بما اعتمده لتجاوز عقبتين أساسيَّتين» (ص 248):
الأولى: غياب المصادر الكلاسيكية التي يمكن الرجوع إليها، والثَّانية: الأسلوب والمنهج اللذان ستناقش وتعالج بهما هذه المباحث الجديدة.
لكن في النِّهاية لا يجد المؤلِّف بُدًّا من الاعتراف بأنَّ السَّيِّد الصَّدر «كان الباحث الإسلامي الوحيد، القادر على إعداد نصٍّ شامل» عن الاقتصاد الإسلامي، فقد تمكَّن من «وصف الأسلوب الذي يمكِّن المصرف من العمل بدون أي تعامل ربوي، ولا تزال -يقول الدكتور الملاَّط – دراسته متميِّزة في الإتقان والعمق» (ص 148). والخلاصة: «إنَّ نظريَّاته عن البنك اللاَّربوي معالم هامَّة في النَّهضة الفقهيَّة الإسلاميَّة في الشَّرق الأوسط» (ص 149).
وبالجملة، ومن خلال مساهماته في التَّنظير لطبيعة النِّظام السِّياسي الإسلامي، كما ظهر ذلك في كتاباته حول أصول الدستور الإسلامي، وأثر هذه الكتابات في تجربة الثورة الإسلامية في إيران، ومساهماته في الكشف عن المذهب الاقتصادي الإسلامي، بالإضافة إلى ما قدَّمه من جديد في مجالي علم الأصول والفقه، ودعوته لتطبيق المنهج الموضوعي في دراسة القرآن ولاستخراج نظريَّات الإسلام في جميع المجالات العلمية، التَّاريخيَّة والتَّربويَّة والسِّياسيَّة والطَّبيعيَّة.. إلخ، كلّ ذلك يجعل منه بحقّ «المنظِّر الأوَّل للنَّهضة الإسلامية» (ص 23).
وأخيراً لا يفوتنا إدراج ملاحظة مهمَّة لم تفت المؤلِّف بل أشار إليها وتحدَّث عنها، ونعني بها الأسلوب أو اللغة التي كتب بها السَّيِّد الصَّدر كتبه وبحوثه، فقد لخَّص المؤلِّف كلامه ووجهة نظره بهذا الخصوص وأوجزها قائلاً: «سلاسة جاحظية، ومنطق صارم، وأسلوب سهل ممتنع».
ملاحظات عامَّة جديرة بالاهتمام
1ـ صحيح أنَّ الكتاب قد جعل مهمَّته الأساسية اكتشاف موقع الصَّدر وإنتاجه الفكري من النَّهضة الفقهية الإسلامية في الشرق الأوسط، لكنَّ بحوث الكتاب تجاوزت ذلك بكثير، واستطاعت أن تقدِّم رؤية موضوعية إلى حدٍّ بعيد، من خارج الدَّائرة الشِّيعية الإمامية والإسلامية عموماً، للتشيُّع الإمامي تاريخاً وعقيدةً، ومحاولة لفهم ما يدور داخل الحوزة العلمية في النَّجف وتطوُّرها، ومناهج التعليم فيها، وما قدَّمه علماؤها من مساهمات معاصرة دفعت بالنَّهضة الإسلاميَّة خطوات إلى الأمام.
2ـ استطاع الكتاب إلى حدٍّ بعيد أن يكتشف حجم مساهمة السَّيِّد الصَّدر في صياغة الدّستور الإيراني والتَّأصيل أو الكشف عن المذهب الاقتصادي الإسلامي.
3ـ موضوعيَّة علميَّة في البحث والعرض لا تخلو من بعض المقاربات والتَّقييمات التي تتحكَّم بها وتوجِّهها خلفية المؤلِّف الفكرية المغايرة للفكر والعقيدة الشِّيعيَّين وتاريخهم.
4ـ يمكن عدُّ الكتاب من بين أهمِّ ما كتب (من خارج الدَّائرة الإسلامية، حسب علمنا واطِّلاعنا) عن السَّيِّد الصَّدر وإنتاجه الفكري ومساهمته في النَّهضة القانونيَّة الإسلاميَّة.
5ـ بالنِّسبة للتَّأثير أو استفادة الدّستور الإيراني في صياغته النِّهائية ممَّا جاء في لمحة السَّيِّد الصَّدر الفقهيَّة التَّمهيديَّة، نعتقد أنَّ القضية في حاجة لمزيد من الدِّراسة للكشف عن جذور الدستور الإيراني ومصادره وأصوله بشكل عام، خصوصاً وأنَّ المؤلِّف قد اعترف بأنَّه وأثناء حديثه مع «علماء ومفكِّرين إيرانيِّين ظهر بعض المضض في الاعتراف بوثاقة صلة لمحة الصَّدر بالدستور الإيراني»، لذلك فهذه القضيَّة الإشكاليَّة تحتاج للمزيد من النِّقاش والمعالجة.
6ـ بالنِّسبة للتَّحليل الذي قدَّمه للمشاكل النَّاجمة عن الفصل المزدوج للسُّلطات في الدّستور الإيراني، يمكن عدُّ ذلك أنموذجاً للدِّراسات الفقهيَّة القانونيَّة، التي يفترض أن تنطلق لإغناء هذه التَّجربة الدّستوريَّة الجديدة، باعتبارها أصبحت جزءاً من الفقه أو القانون الدّستوري الإسلامي الجديد الذي بدأت أنظار الباحثين في مجال القانون تتَّجه إليه.
7ـ هذه الكتابات التي تتحلَّى بقدر كبير من الموضوعيَّة عن العالم الإسلامي وقضاياه المعاصرة، يمكن عدُّها مهمَّة وضروريَّة لإغناء مشروع حوار الحضارات، ونزع فتيل الكراهيَّة والصِّراع النَّاجم عن الجهل المتبادل بالآخر، وبخاصَّة عندما تكتب من جهات محايدة أو يفترض أن تكون كذلك، سواء أكانت عربية أو غربية.
8ـ مثل هذه الكتابات الأكاديميَّة المنجزة في الغرب، تستحقّ القراءة والتَّرجمة والتَّرويج لها بين قرَّاء العربية، وهذا ما قامت به دار النَّهار للنَّشر في بيروت، عندما أشرفت على ترجمة هذا الكتاب وطبعه سنة 1998م. وكان قد صدر باللغة الإنجليزية عن دار نشر جامعة كمبردج سنة 1993م.
وأخيراً، لقد حاز هذا الكتاب على جائزة جمعية الدِّراسات الشَّرق الأوسطية في الولايات المتَّحدة الأمريكية لأفضل مُؤلَّف أكاديمي لعامي 1993 ـ 1994م، وهذا دليل على أهمِّيته العلميَّة، وتمرُّس مُؤلِّفه في الكتابة والتأليف في حقول الفكر الإسلامي المعاصر ومجالاته.
قراءة في كتاب
تجديد الفقه الإسلامي
محمَّد باقر الصَّدر بين النَّجف وشيعة العالم
للدكتور شبلي الملاَّط
الأستاذ محمَّد دكير
مجلّة المنهاج / 17