منهج الامام الصدر في تفسير القرآن الكريم .. دراسة مقارنة

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

المدخل

قد تعرف الأمم في رجالها مفكرين كباراً تركوا في ميدان الفكر احسن الأثر، قد تعرف مصلحين فتحوا عليها آفاقاً جديدة في الفكر، أو في الاجتماع، أو في السياسة، وقد تعرف ثوّاراً مخلصين أبراراً تمرّدوا على التخلف والظلم والفساد وصمدوا حياتهم كلها من اجل التغيير الشامل حتى ضحوا بكل ما يملكون و بأرواحهم أيضاً غيرةً ووفاءً وشهامةً، ولا تعدم الأمم أمة خاضت ثورات كبرى منظّرين يؤسسون لها مشاريع دولة، ولا تفتقر أمة من الأمم إلى زعيم روحي تجتمع فيه مكارم الأخلاق ومعالم العبادة النزيهة، يتخذونه مثالا وتسكن إليه أفئدتهم.

أما أن تعرف أمة كل تلك الخصال في أعلى درجاتها مجتمعة في رجل واحد ولما يعيش فوق الخامسة و الأربعين إلا عاماً أو عامين، فهو كالمعدوم، ولو لم تعرف أمتنا الإمام الشهيد محمد باقر الصدر لقلنا هو معدوم، بل هو أشبه بالمحال..

ذلك الرجل الذي وجد في الإسلام دليل قلب ومنهاج حياة لا يقصر مدّده دون شيء من آفاقها، فجاوز به فهمه ذاك حدود التخصص الأحادي وفتح عليه أبواب العلم الموسوعي، وصقل روحه منذ الصغر فعاشه فكراً وعقيدةً ومنهاج حياة لا يعرف حدود الفردية ولا الركون والاستسلام الا للحقيقة الناصعة الجلية.. فبرز في الفقه والاصول إماماً مجتهداً ولما يجاوز السابعة عشرة من عمره، وفي عمره ذاك اثبت كفاءة منقطعة النظير في دراسات التاريخ والعقيدة تفسيراً ونقداً واحاطة في كتابه الاول «فدك في التاريخ»، ثم مضى فاتحاً ومبتكراً ومجدداً، فانبرى للدفاع عن الاسلام عقيدة ومنهاج حياة، فتصدى للنظريات المضّلة التي هددت الاسلام واقتحمت دياره آنذاك ـ الشيوعية والاشتراكية والرأسمالية ـ فكان أمةً في رجل، وأحب امته فعاش آلامها بكل صدق واخلاص فصم على ان يسخّر طاقاته وكل ما يملك وحتى مهجته من اجل انقاذها من محنتها، وكان واعياً مدركاً انها محن شتى وليست محنة، فالتخلف الثقافي والعلمي محنة، والتشويش والتمزق العقيدي محنة، والتفكك محنة، والظلم السياسي محنة، وهيمنة الحكومات اللادينية بمذاهبها الوضعية على اممسلمين! محنة، فنهض معلّماً ومرشداً ومصلحاً! تبني في التوعية والاصلاح الديني والاجتماع منهجاً رائعاً يقدم فيه الفهم الصحيح بأوضح عبارة وأقوى برهان ليكون بديلا سهلا وناجزاً عما سواه، من دون ان يصدم مخالفيه بكلمة، بل ربما شدّهم اليه كثيراً، فهو منهج الاصلاح الذي يجمع ابداً ولا يفرّق، وهذا في ميادين الاصلاح الديني والاجتماعي نادر عزيز..

وكان الثائر الذي يؤجج في الجمهور روح الثورة بوجه الظلم والفساد والالحاد..

وكان الى جنب ذلك المنظّر الذي ينظم السلوك الثوري ويؤسس بنفسه مشاريع دولة ونهضة شاملة عقيدياً وفكرياً وسياسياً وحضارياً.

ذلك الرجل الأوحد كان في التفسير ايضاً اماماً ومجدداً، فتح فيه أفقاً جديداً، بل بثّ فيه روحاً جديدة، فأظهر شمولية المنهاج القرآني وقدرته على احتواء مشكلات الحياة المتجددة وتحدياتها المختلفة حين جعل من التفسير طريقاً لاستكشاف النظريات القرآنية الواسعة والشاملة لشتى نواحي الحياة وأركان البناء الحضاري المتجدد.

وبهذا يعد بحق مؤسساً لمنهج جديد في التفسير، واذا كان مسبوقاً ببعض تطبيقاته فانما هي تطبيقات متفرقة لا تجمعها صياغة نظرية متكاملة لتصنع منها منهجاً واضح المعالم، وهذا ما قام به السيد الشهيد ثم عززه بتطبيقات فريدة ارست قواعده منهجاً متميزاً وحيوياً وفاعلا يخلق بنفسه على الدوام الحاجة الى ادامته والتوسع فيه، فهو منهاج حي يستمد حياته من حياة القرآن الخالد نفسه.

أمل دونه الشهادة

كان تفسير القرآن الكريم املا في قلب الشهيد، لكنه امل يزاحمه امل كان اقرب اليه منالا، انه الشهادة التي عزم عليها عزماً كان قميناً ان تكون الشهادة ثمرته القريبة!

قال رضي الله عنه: ان شوط التفسير التقليدي شوط طويل جداً، وهذا الشوط الطويل بحاجة الى فترة زمنية طويلة ايضاً، ولهذا لم يحظ من علماء الاسلام الاعلام الا عدد محدود جداً بهذا الشرف العظيم، شرف مرافقة الكتاب الكريم من بدايته الى نهايته، ونحن نشعر بأن هذه الايام المحدودة المتبقية لا تفي بهذا الشوط الطويل، ولهذا كان من الافضل اختيار شوط اقصر[1].

اذاً لم يفرغ رجل الفكر والجهاد والثورة لتفسير القرآن الكريم رغم شوقه لذلك، لكنه دخل هذا الميدان العظيم من طريق آخر، فترك فيه اثراً لا يقل اهمية عن التفسير الكامل.

لقد تناول علوم التفسير دراسة ونقداً، فحدد معالم منهجه المتكامل في التفسير، ثم فتح أفقاً جديداً على منهج جديد في تفسير القرآن الكريم، حدد معالمه، وتقدم فيه خطوات في ممارسات تطبيقية في التفسير، فكان بحق صاحب مدرسة ورائد منهج.

وتعباً لتوزع اهتماماته في الميدانين تقسمت دراستنا هذه على ثلاثة اقسام:

تناول القسم الأول مشكلة المنهج وأثره في فهم النص:

وعني القسم الثاني بجهود الشهيد الصدر في تحديد المعالم المنهجية في تفسير القرآن الكريم، تحت عنوان «الامام الصدر في معالجة المنهج».

فيما تناول القسم الثالث التعريف المفصّل بالمنهج الجديد كما رسمه مؤسسه ورائده، تحت عنوان: «الامام الصدر وتجديد المنهج».

القسم الأول: منهج التفسير وأثره في فهم النص

ان المسألة الامم التي تتحكم في اتجاه التفسير، وفي صلاحياته في التعبير عن لغة القرآن الكريم وأهدافه: هي «المنهج».

المنهج هو الذي يميّز بين تفسير للقرآن.. وبين كتاب يسخّر القرآن لتبرير المذهب!!

بين قرآن حي متحرك يقود الفكر والعمل ويوجه الحياة.. وبين قرآن طلسمي يختفي وراء الحجب!!

بين قرآن عربي مبين جاء بلغة لها أصولها وآدابها، وبين قرآن رمزي غائم ليست ألفاظه إلاّ مطايا تمتطيها مقاصد باطنية مكنوزة في اللوح المحفوظ!!

بين قرآن يخاطب الانسان العاقل، كل انسان عاقل (هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان).. وبين قرآن لا يفهمه الا الصاعدون في (الاشارات) و(الفيوضات)!!

بين قرآن تبيّنه السنّة بالقول الصادق والعمل الثابت.. وبين قرآن تترجمه مخيّلات الخرافيين والتائهين والساخرين!!

بين قرآن يدعو الى نفسه ويهدي للتي هي أقوم.. وبين قرآن يدعو صراحة الى هجر القرآن!!

هكذا يصنع المنهج من القرآن الكريم.

وحين يغيب المنهج تعمّ الفوضى!!

فهنا (فوضتان):

فوضى حين يغيب المنهج.

وفوضى تحت عنوان المنهج، حين يغيب الفهم المعمق، والحس القرآني الدقيق والأفق الارحب.

وفي الحالين ينبغي ان لا نعدم الاخلاص، لكنه اخلاص مذبذب بين بلاغات القرآن وأهدافه، وبين الرؤية والمذهب.. اما اذا غاب الاخلاص فليس ثمة تفسير، بل هي كارثة تبرقعت بآيات القرآن!

فمشكلة المنهجية في التفسير اذاً مشكلة تغلي وتفور حتى نهاية المشوار، فأين سوف يضع المفسّر نفسه من بين تلك المربعات؟ بل أين سيضع القرآن بينها؟

هناك في البدء شريط تقليدي تؤلفه حلقات اصيلة: «فلا بد للمفسر من منهج عام في التفسير، يحدد فيه ـ عن اجتهاد علمي ـ طريقته في التفسير، ووسائل الاثبات التي يستعملها، ومدى اعتماده على ظهور اللفظ، وعلى السنّة، وعلى اخبار الآحاد، وعلى القرائن العقلية في تفسير النص القرآني. لان في كل واحد من هذه الامور خلافاً علمياً، ووجهات نظر عديدة، فلا يمكن ممارسة التفسير دون درس تلك الخلافات درساً دقيقاً»[2].

بعد ذلك «فان وجهات النظر المحددة التي سوف يخرج بها المفسر من دراسته العلمية لوسائل الاثبات تلك، هي التي سوف تؤلف المنهج العام للمفسر»[3].

وبعد ذلك كله فان مشكلة التفسير ما زالت قائمة.. لان مشكلة التفسير اضحت في الوقت ذاته هي مشكلة التاريخ ومشكلة العقيدة معاً!

فهي مشكلة تاريخ: تاريخ التفسير نفسه، بمناهجه التي عرضها المتقدمون، فاتخذها المتأخرون غلا في اعناقهم..

فما هو الجديد عند اصحاب المأثور؟

بماذا امتازوا عن ابي الجارود، وأبي حاتم الرازي، والعياشي؟

وحين تقدم هذا الفريق خطوة، او خطوات، الى الامام، فهل استطاع اللاحقون ان يجتازوا الطبري والطبرسي، ام ما زال العلمان الانموذج المتقدم على من جاء بعدهم بألف عام؟!

وأي جديد عند اصحاب الرأي قد تخطى منهج القاضي عبد الجبار، والزمخشري؟!

نعم، رما تجد الجديد عند اصحاب الباطن والاشارات، فالباطن لا قعر له، والاشارات لا حدّ لها لكنه الجديد الذي لا يشبه لغة الانبياء، ولا هو من سنخ الخطاب الذي يقصد به العقلاء.. فذاك عالم غريب يختص بأهله، فطوبى لهم ان كان خيراً حازوه وحرمناه، وطوبى لنا ان كان امراً لا يعنينا فتركناه!!

فكل الذي اعطتنا تلك المناهج المتقدمة غير الباطنية: معاني مفردات؟ وأسباب نزول، ثم تقودنا طوعاً او كرهاً الى مشكلة العقيدة.

فهو مشكلة عقيدة ايضاً: عقيدة تجر المفسّر اليها جراً، باطنياً كان المفسّر، او ظاهرياً، او من اصحاب التأويل.. وحتى في تفسير آيات الاحكام، ذلك الجانب الذي يمس الحياة العملية مباشرة، تتجلى مشكلة العقيدة.

ومشكلة العقيدة قد تكمن في «اننا، ومنذ وقت طويل، تكتفي عقائدنا بالتقليد الذي لا يتفق وعقول المتعلقين بالموضوعية..

«فمن المعلوم ان كل مجتمع يحتوي مشكلة افكار دارجة تحرّك الجماهير، كما يحتوي مشكلة أفكار عملية تخص المثقفين، وكما ان هذه تحدد لدى العلماء حلولا نظرية لبعض المشكلات، فان تلك تحجدد السلوك العملي للجماعات ازاء هذه المشاكل التي تصادفهم في الحياة.. ففي العالم الاسلامي توجد الآن طبقة مثقفة مقتنعة بحركة الارض، ولكن هناك جمهوراً كبيراً من الدارويش، وجيشاً من الجّهال يصر على اعتقاده بأن الارض ساكنة تحملها العناية على قرن ثور!

وهذه الفكرة الدارجة قد تؤثر في توجيه التاريخ اكثر من الفرة العلمية، لانها تستند الى خرافة مفسّر غير موفّق يرى الارض على قرن ثور»[4].

التجديد في المنهج

رأينا حتى الآن ان المنهج هو الامر الحاسم في (تقرير مصير) اثر القران:

بين ان يبقى محفوظاً بين الدفتين، يعيننا المفسّر احياناً على معرفة معاني مفرداته، ويقصر احياناً.. فاذا أعاننا المفسّر فسوف نعرف ان (مدها متان) تعني خضروان تميلان الى السواد من شدة الخضرة.. واذا تحيّر المفسّر في معنى 0الحور) فسوف نحار معه!

بين ذاك، وبين ان ينتقل القرآن بنصوصه ومقاصده وأهدافه الى الحياة في كل ميادينها، في بناء المجتمعات، وفي اعمار الارض.

تلك اصبحت تمثل حداً فاصلا بين القديم والجديد من مناهج التفسير.

وقد ظهر هذا الحد الفاصل منذ ظهر رجال الاصلاح في الفكر الديني، وأولوا مناهج التفسير ما تستحقه من عناية واهتمام.

ويمكن بحق ان يعدّ السيد جمال الدين الافغاني (الأسد آبادي) رائد التجديد في مناهج التفسير، كما كان رائداً في منهجه الاصلاحي كله. لقد رأى بوضوح ان تلك مناهج انصرفت عن الاخذ بروح القرآن والعمل بمعانيه ومضامينه، الى الاشتغال بألفاظه واعرابه، فحملت الفاظاً لفظية ومناقشات فرضية واستنتاجات ليس في مصلحة البشر ولا هي من وسائل هدايتهم الى الايمان به، وأضافت اليه من الشروح والتفسير ما لا محصل له سوى الاغراب وارضاء العامة[5].

وقد حاول ان يعكس رؤيته الجديدة من خلال ما يفسره من آيات الكتاب الكريم في صحيفته (العروة الوثقى) فركّز اهتمامه في سبع عشرة آية فقط استطاع تفسيرها قبل ايقاف اصدار (العروة الوثقى) في عددها الثامن عشر بقهر من حكومة بريطانيا (احد اكبر معاقل الديمقراطية وحذية الرأي في العالم!!) ركّز اهتمامه على الآيات التي تتصل بأسرار نمو الامم او ضعفها وسقوطها[6]، هذا الموضوع الذي تناوله مفصّلا فيما بعد السيد الشهيد الصدر في دراسة قرآنية جديدة، خرج منها بصياغة نظرية متماسكة، اطلق عليها اسم (السنن التاريخية في القرآن الكريم»[7].

وأهم ما تميز به منهج الافغاني في (العرود الوثقى) ثلاثة امور:

اولها: بيان سنن الله تعالى في الخلق ونظام الاجتماع البشرى، وأسباب ترقي الامم وتدنيها.

وثانيها: بيان ان الاسلام دين سيادة وسلطان وجمع بين سعادة الدنيا وسعادة الآخرة.

وثالثها: ان المسلمين ليس لهم جنسية الا دينهم، فهم أخوة لا يجوز ان يفرّقهم نسب ولا لغة ولا حكومة[8].

ثم تطور هذا المنهج بعد الافغاني على يد تلميذه وصاحبه الشيخ محمد عبده، فتقدّم فيه الاخير سعةً وعمقاً، حتى في لغة التعبير عنه حين جعل منه تفسيراً (مقاصدياً) يعانق مقاصد القرآن العليا ويمضي معها بدلا من ان يبقى متعثراً بين الالفاظ والاحكام المجزؤة، فقال: «التفسير الذي نطلبه هو فهم الكتاب من حيث هو دين يرشد الناس الى ما فيه سعادتهم في حياتهم الدنيا وحياتهم الآخرة، فان هذا هو المقصد الاعلى منه، وما وراء هذا من المباحث فتابع له، او وسيلة لتحصيله»[9].

فالواجب في التفسير اذاً «ذهاب المفسر الى فهم المراد من القول، وحكمة التشريع في العقائد والاحكام، فالقصد الحقيقي هو الاهتداء بالاحكام»[10].

والجديد الآخر الذي اضافه محمد عبده بعد ذلك الى هذا المنهج هو: «اعتبار القرآن جميعه وحدة متماسكة، فهم بعضه متوقف على فهم جميعه، واعتبار السورة كلها اساساً في فهم آياتها، واعتبار الموضوع فيها اساساً في فهم جميع النصوص التي وردت فيه»[11].

هذا التصور الاخير نجده على أتمه في منهج السّيد الطباطبائي في تفسير القرآن بالقرآن، واعتماد السياق بالمرتبة الاولى في تفسير النص وتشخيص مقاصده العليا، فالقرآن الكريم نفسه هو افضل اداة لتفسير آايته.

فالذي رآه السيد الطباطبائي بدياً عن كل المناهج هو: «ان نفسّر القرآن بالقرآن، ونستوضح معنى الآية من نظيرتها، بالتدبر المندوب اليه في نفس القرآن، ونشخّص المصاديق ونتعرّفها بالخواص التي تعطيها الآيات.

فحاشا ان يكون القرآن تبياناً لكل شيء ولا يكون تبياناً لنفسه!

وكيف يكون القرآن هدى وبينةً وفرقاناً ونوراً مبيناً للناس في جميع ما يحتاجون، ولا يكفيهم في احتياجهم اليه نفسه، وهو اشد الاحتياج.؟!

والله تعالى يقول: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) (العنكبوت،69) وأي جهاد اعظم من بذل الجهد في فهم كتابه؟ وأي سبيل اهدى اليه من القرآن نفسه؟»[12].

لكن السيد الطباطبائي يرى ان منهجه هذا انما هو اقدم المناهج المعروفة في التفسير، فهو المنهج الذي سلكه معلمو التفسير الاوائل: الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وعلي عليه السلام:

فالرسول صلى الله عليه وآله قد فسّر القرآن نفسه في كثير من المأثور عنه، وايضاً هو القائل: «اذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقران، فانه شافع مشفّع، وما حل مصدّق.. وهو الدليل، يدل على خير سبيل، وهو كتاب تفصيل وبيان وتحصل».

اما علي عليه السلام فيقول في وصف القرآن: «ينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض»[13].

اما الرؤية التي اضافها محمد رشيد رضا فقد تبدو ابعد عن منهج استاذه محمد عبده، اذ رأى ان الكون المنظور هو اعظم تفسير للكون المقروء، فالكشوفات العلمية الدقيقة من خير الوسائل التي تشرح حكم الله وآياته، وانها لمن اشد المصائب على الملّة ان يهجر رؤساء دين كهذا الدين هذه العلوم ويعدّونها مضعفة للدين او ماحية له[14].

ثم تعود هذه الفاصلة بين الاستاذ وتلميذه لتلتئم حين يرى التلميذ ان هذا النهج هو من صلب تفسير القرآن بالقرآن نفسه، فالقرآن حين يكثر من التنبيه الى آيات الكون المخلوق يختم دائماً بقوله: (ان في ذلك لآيات لقوم يعقلون) ونحوها، فهو اذاً انطلاقة من دعوة القرآن الكريم لتعود بكمال التوحيد في الايمان[15].

ولقد كان بامكان رشيد رضا ان يكون اقدر تعبيراً عن منهج (الافغاني ـ عبده) لولا حماسه الشديد الذي اتخذ احياناً كثيرة صورة التطرف في النزعة المذهبية، حتى انقلبت كثيراً من صفحات (المنار) الى صفحات في الصراع المذهبي، تماماً على نسق المناهج التى انتقدها كثيراً منهج العروة الوثقى، مما قد يكشف عن فهم قاصر لديه عن التعصب المذهبي المنبوذ، فكأنه يرى ان التعصب منبوذاً مادام دائراً بين اصحاب المذاهب الاربعة، او بينهم وبين غيرهم من اهل السنة، لا غير!

وهذا بلا شك فهم مختلف عن نهج الافغاني الذي كان انموذجاً في التوازن ذابت فيه هذه اللغة واختفت بالكامل، ناهيك عن الشقة الواسعة في لغة الخطاب الاسلامي ـ الاسلامي بين الافغاني ومحمد عبده من جهة وبين محمد رشيد رضا من جهة اخرى.

رغم ذلك فما زال الدارسون (للمنار) يكتفون بالصلة الوثيقة بين التلميذ واستاذه، والنقل الكثير لرشيد رضا عن الامام محمد عبده ليجعلوا منذلك برهاناً تاماً على ان رشيد رضا كان الامتداد والمكمل لمنهج (العروة الوثقى)، لكن المحاكمة الدقيقة تكشف عن اختلاف كثير في التفاصيل ولغة الخطاب، وان كان هناك اتفاق في المبادىء الاساسية لمشروع اصلاح الفكر الديني عموماً.

اذاً لم يبلغ منهج (العروة الوثقى) اهدافه على يد محمد رشيد رضا، فهنا رؤية جديدة وخطاب جديد.

وايضاً «فلم يظهر من رشيد رضا اهتمامه بتحديد المنهج، بل كان همّه ان يخلع على المنهج القديم صبغة عقل جديد، ومع انه لم يعدّل طريقة التفسير القديم تعديلا جوهرياً، فانه قد خلق في الصفوة المسلمة التي تعشق التجديد الادبي اهتماماً بالنقاش الديني»[16].

وفى الموضع ذاته تناول مالك بن نبي تفسيراً حديثاً آخر: وهو تفسير الجواهر للشيخ الطنطاوي جوهري، فوصفه بأنه: «انتاج علمي اشبه بدائرة معارف، ولا ينطوي على اقل اهتمام بتحديد منهج».

وهكذا بقيت مشكلة المنهج قائمة، لم تستوف حظها الكامل من الاهتمام حتى في اوسع التفاسير الحديثة وأكثرها حماساً في الدعوة الى تخطي المناهج القديمة.

القسم الثاني: الامام الصدر في معالجة المنهج

يعالج السيد الشهيد الصدر مشكلة المنهجية اولا من خلال خطوتين:

الخطوة الاولى: تتمثل في مقدمات منهجية اساسية داخلة في منهج التفكير، قبل دخولها في منهج التفسير.

والخطوة الثانية: تتمثل بتحديد الموقف من وسائل الاثبات التي تشكل المعالم الاساسية في منهج التفسير.

الخطوة الاولى: المقدمات المنهجية

هنا يضع السيد الشهيد مقدمتان، هما:

1ـ الذهنية الاسلامية:

فالقرآن لا يصح ان يدرس الا ضمن الاطار الاسلامي للتفكير، فهو كتاب الهي انزل للهداية وبناء الانسانية.

اذاً فالمنهج الاستشراقي عاجز عن تحقيق نجاح يذكر في التعبير عن لغة القرآن الكريم وأهدافه، ذلك لانه تمثل اساساً بالتسوية بين النص القراني وبين اي نتاج بشري.. فكل ما يمكن ملاحظته من مؤثرات يخضع لها النتاج البشري في شتى حقول المعرفة الانسانية، يمكن ملاحظته ايضاً على القرآن الكريم!

فحين تظهر في القرآن صورة لبعض الاعراف العربية، يراها المنهج الاستشراقي ـ المادي ـ دليلا على تأثر القرآن بالبيئة التي وجد فيها!

وحين يجد فيه تشريعاً موافقاً لتشريع بعض الديانات السابقة، يراه دليلا على تأثره بها وأخذه منها!

لكن الصحيح ـ وفق الذهنية الاسلامية ـ ان القرآن الكريم كتاب هداية للانسانية وقيادة لمسيرتها نحو التكامل، فليس من الضروري ان يكون ثورة عارمة على كل شيء تعلّته الانسانية من قبل، حتى ولو كان مبدءاً حقاً وسلوكاً امثل.

وأيضاً فهو امتداد لرسالات السماء، فمن الطبيعي ان تشمل الرسالة الخاتمة على الكثير مما احتوته.. الرسالات السماوية السابقة، كما هو طبيعي ان تنسخ قسماً كبيراً من تشريعاتها[17].

2ـ الذهنية القرآنية:

فلابد للمفسّر حين يدرس النص القراني ان يكون بعيداً عن اي تأثر مسبق باتجاه معين غير مستوحى من القرآن الكريم نفسه، كما يظهر كثيراً لدى اصحاب المذاهب الذين يحاولون اخضاع النص القرآني لعقيدتهم المذهبية.

فهؤلاء لا يدرسون القرآن ليكتشفوا اتجاهه، بل يفرضون عليه اتجاههم المذهبي، ويحاولون فهمه دائماً ضمن اطارهم العقيدي الخاص[18].

هذه ظاهرة مدت جذورها عميقاً وغلبت اهلها شاءوا أم ابوا، وليست هي في كتب التفسير بأقل منها ظهوراً في كتب العقائد والمناظرات المذهبية، فتكفيك الآن معرفتك بأصول المذاهب لتصّف جميع مفسري القرآن الكريم الى مذاهبهم بكل دقة، وسوف لا تخطىء ولو مرة واحدة!

من هنا اصبح كل فريق من فرق المسلمين متهماً لدى سائر الفرق الاخرى بأنه يلوي عنق النص ليّاً لاجل ان يصرفه الى المعنى الذي ينصر رؤيته المذهبية.

لذا فقد لا يجد السالسوس نكارة في مار مى به مفسري الشيعة من (تشيع) للقران، في كتابه: «فقه الشيعة الامامية» و«أثر الامامة في الفقه الجعفرى وأصوله»!

لكنه بلا شك كان مستغرقاً في غفلة عن ان ناقداً بسيطاً بامكانه ان يحصي من تفاسير اهل السنة او المعتزلة او غيرهم امثال ما احصاه هو بحق او بغير حق!

والسيد الشهيد الصدر لا يرى في هذه الظاهرة مجرد آفة دخلت كتب التفسير، بل يرى ان ذلك النهج ليس من التفسير في شيء «وانما هو حاولة تبرير للمذهب، وتوفيق بينه وبين القرآن».

ولهذا كان من اهم الشروط في المسفّر عنده «ان يكون بدرجة من التحرر الفكري تتيح له الاندماج بالقران، وجعله قاعدة لتكوين اي اطار مذهبي، بدلا عن جعل الاتجاه المذهبي المحدد قاعدة لفهم القرآن»[19].

هذا الانحراف المنهجي لم يكن حكراً على بعض مفسري المذاهب الاسلامية المعروفة، بل اتخذ منه الماديون ايضاً مطّية للنفوذ الى القرآن الكريم وتسخيره في تبرير مذاهبهم المادية التي ليس لها ادني صلة بالاسلام ومبادئه!

فمنذ ان دعا ماركس الى استخدام الدين من اجل مكافحة الدين نفسه بين الجماهير المؤمنة به، المبدأ الذي فسّره لينين بقوله: «ينبيغ توضيح مرتكزات ايمان الجماهير وأسس دينها وفق المفاهيم المادية» منذ ذلك الحين كان نصب أعين الماركسيين ابتكار الاسلايب الاكثر فعالية في خدمة هذا الغرض، ليجعلوا من المسلمين ماديين في كل محتواهم الداخلي حتى لا يبقى من اسلامهم الا القشور التي سوف تتساقط بدون جهد حين تنقطع الصلة بينها وبين اللباب!

فكان تفسير آيات القرآن الكريم وفق الرؤية المادية واحداً من اهم تلك الاساليب:

ففي قوله تعالى: (الم. ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين، الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلوة ومما رزقناهم ينفقون) (البقرة، 1 ـ 3).

قالوا: ان المفسرين يعتقدون ان الغيب هو ما لا يمكن رؤيته، من قبيل: الله، والملائكة.. بينما نجد، اولا: ان الله والملائكة ليسوا غيباً!

وثانياً: ان قضية الايمان بالله قد تم ذكرها ومضى خلال التطرق الى عنوان المتقين.

فالمقصود بالغيب اذاً غير هذا، وانما هو نفس المراحل الابتدائية للنضج والرشد والثورة، وزمن حصول التغييرات الكمية.. وبالتالي يقوم النظام الجديد، وتنتقل الثورة من حرملة الغيب الى مرحلة الشهادة!

اذاً وفق هذا التفسير المادي فالايمان بالغيب قد انتفى في العهد المدني حين انتقلت الثورة الى مرحلة الشهادة!

وفي قوله تعالي: (وبالآخرة هم يوقنون) (البقرة، 4).

قالوا: ان هؤلاء يوقنون بالنظام الافضل والاسمى حينما تمر الثورة بمرحلة الشهادة، ويعلمون ان اتخاذ هذه المواقف وهذا الاسلوب الثوري سوف يؤدي في النهاية الى بلوغ الغاية وتحقيق الهدف، ألا وهو الوصول الى اقامة النظام الافضل والاسمى هذا هو المراد بالآخرة.

اما الحياة الدنيا في القرآن فالمراد بها الحياة في ظل النظام الرأسمالي او الاقطاعي حيث تتفشى الملكية الخاصة لوسائل الانتاج!!

اذاً وفق هذا التفسير المادي قد انتهت الحياة الدنيا منذ الهجرة النبوية، وانتقل المسلمون في العهد المدني الى الحياة الآخرة!! وهذا تجديف أبله، بل مقصود، لا يستطيع ان يصمد امام اوضح الاسئلة المستفادة من وصف القرآن للحياة الدنيا، فهي حياة العمل، يستوي في ذلك مجتمع العدل والمساواة، ومجتمع الظلم والاستبداد، ووصف الحياة الآخرة، فهي حياة الجزاء، يستوي في ذلك من يتقلب في ألوان النعيم، ومن يتقلب في الوان العذاب[20].

ويقول هؤلاء «المفسرون الماديون»: الثائرون دائماً، المؤمنون باليوم الآخر دائماً!! هم المستضعفون، والصراع الذي رسمه القرآن على طول مسيرة الحياة هو صراع طبقي، لاغير، فالقرآن يقسم الناس الى طبقتين: مستكبرين، ومشتضعفين. ويجعل المستقبل للمستضعفين وحدهم، حيث تسود العدالة ويكون الناس سواء وتختفي الملكية الفردية لوسائل الانتاج، قال تعالي: (ونريد ان نمنّ على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم ائمةً ونجعلهم الوارثين)

(القصص،5)

والسيد الشهيد يفنّد هذه المغالطة: فهنا عملان ثوريان يسيران جنباً الى جنب، فحين يجعل المستضعفين هم الوارثون، يجعلم (ائمة) ـ وهذا يعني ان حلولهم محل المستكبرين يواكب تطهيرهم من الداخل والارتفاع بهم الى مستوى القدوة والنموذج الانساني الرفيع، ولهذا لن تكون عملية الاستبدال الثوري هنا كاستبدال الرأسمالية بالبروليتاريا، وانما هي تصفية نهائية للاستغلال ولكل انواع الظلم البشري.؟

وأيضاً فقد حدد القرآن الكريم في نص آخر صفة هؤلاء المستضعفين الذين ترشحهم الثورة لتسلّم مقاليد الخلافة في الارض فقال: (الذين ان مكنّاهم في الارض أقاموا الصلوة واتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الامور) (الحج،41)[21].

الخطوة الثانية: المعالم الأساسية في المنهج

هذه المعالم هي التي اطلق عليها السيد الشهيد اسم «وسائل الاثبات» وقال: «ان وجهات النظر المحددة التي سوف يخرج بها المفسّر من دراسته العلمية لوسائل الاثبات، هي التي سوف تؤلف المنهج العام للمفسّر»[22].

وقد تناول السيد الشهيد بعض هذه الوسائل بشيء من التفصيل، نذكر هنا خلاصة موقفه من اهمها:

1 ـ التفسير: معناه وحدوده

التفسير في اللغة: البيان والكشف، فتفسير الكلام ـ قران او غيره ـ معناه الكشف عن مدلوله، وبيان المعنى الذي يشير اليه اللفظ.

وأمام الخلاف الدائر حول ما يمكن ان يسمى تفسيراً على وفق هذا التعريف، وما لا يمكن، يثبت السيد الشهيد قصور الرأي السائد عند الاصوليين في ان ذكر المعنى الظاهر المتبادر من اللفظ لا يكون تفسيراً، وانما التفسير هو اظهار المعنى الخفي، لا غير، فيقسم الظهور الى قسمين:

أ ـ ظهور بسيط: وهو الظهور الواحد المستقل.

ب ـ ظهور معقد: وهو الظهور المتكون نتيجة لمجموعة من الظواهر المتفاعلة.

وفي الحالة الثانية نواجه في النص الواحد ظهورين بسيطين، او اكثر، بينها تعارض، وحين نلاحظ الكلام بصورة كاملة مع ملاحظة التفاعل بين هذه الظواهر، نحصل على ظهور واحد ناجم من ذلك التداخل والتفاعل. فالكشف عن هذا الظهور يصدق عليه اسم التفسر، لأنه في الحقيقة كشف عن معنى خفي.

فالصحيح اذاً ان التفسير يصدق على بيان المعنى في موارد الظهور المعقد، دون بعض موارد الظهور البسيط[23].

وتفسير القرآن الكريم: علم يبحث فيه عن القرآن الكريم بوصفه كلاماً لله تعالى. وفي ضوء هذا التعريف يدخل في علم التفسير البحوث التالية:

1ـ البحث عن مدلول كل لفظ او جملة في القرآن الكريم.

2ـ البحث عن اعجاز القرآن والكشف عن مناحي الاعجاز المختلفة فيه.

لان الاعجاز عن اوصاف القرآن باعتباره كلاماً دالا على المراد.

3ـ البحث عن اسباب النزول.

4ـ البحث عن الناسخ والمنسوخ، والخاص والعام، والمقيد والمطلق.

5ـ البحث عن اثر القرآن في التاريخ، ودوره العظيم في بناء الانسانية وهدايتها، الى غير ذلك مما يرتبط بالقرآن الكريم باعتباره كلاماً لله تعالي، فيخرج عن حدود التفسير مايتعلق بعلم الرسم القراني وعلم التجويد[24].

والبحث الاخير الذي ذكره الشهيد الصدر هنا، وهو البحث عن اثر القرآن فى التاريخ ودوره العظيم في بناء الانسانية وهدايتها، هو بحث حيوي بالغ الأهمية يكاد يكون غائبا في تفاسير المتقدمين، الا ان نجد لمسات متفرقة هنا وهناك لا تشكل بحثاً جاداً ومنظماً في الموضوع. وقد تنبّه الى هذا البحث المهم بعض المفسرين المتأخرين فأولوه بعض عنايتهم على درجات متفاوتة ومساحات مختلفة، كما يظهر في بعض البحوث التي افردها السيد الطباطبائي في (الميزان)، وبعض البحوث التي ادخلها سيد قطب ومحمد جواد مغنية ومحمد رشيد رضا والطنطاوي في تفاسيرهم.

تقسيم مهم

ثمة تقسيم للتفسير باعتبار الشيء المفسّر، يوليه السيد الشهيد اهتمامه ويركز في ابرز أهميته، وقد لا تجده بمثل هذا الوضوح عند غيره من الدارسين.

فيقسم التفسير الى قسمين: الاول: تفسير اللفظ. والثاني: تفسير المعنى.

وتفسير اللفظ: هو بيان معنى اللفظ لغةً.

وتفسير المعنى: هو تحديد مصداقه الخارجي الذي ينطبق عليه ذلك المعنى.

ففي مثل قوله تعالى: (وأنزلنا الحديد) غاية تفسير اللفظ ان نحدد معنى الزول لغةً. لكن تحديد المعنى اللغوي لهذه المفردة لا يعطينا الفهم الكامل للآية، فنحن نريد ان نفهم حقيقة هذا الانزال ونوع تلك الجهة التي نزل منها الحديد، هل هي جهة مادية او معنوية؟ ونحو ذلك. وهذا هو تفسير المعنى.

ومثل ذلك يجري في آيات الصفات ونحوها.

وتبرز أهمية هذا التقسيم، والتمييز بين تفسير اللفظ وتفسير المعنى من جانبين:

الجانب الاول: معالجة الشبهة التي تظهر كأن هناك تناقضاً ظاهراً بين كون القرآن كتاب هداية ينبغي ان يكون ميسّراً، مفهوم المعاني، وبين وجود مواضيع في القرآن يستعصي فهمها على الذهن البشري.

فالمعنى اللغوي وتفسير اللفظ لم يستعص على الذهن البشري، وانما قد تستعصي بعض المصاديق الخارجية، كما في آيات الصفات والآيات التي تتحدث عن يوم القيامة والغيب. ومثل هذه المفاهيم لابد للقران ان يستعرضها لاتصالها بهدفه الرئيس في ربط البشرية بعالم الغيب وذلك ممن خلال تنبيه الانسان الى صلته بعالم أكبر من العالم المنظور[25].

والجانب الثاني: تقريب معنى التأويل الى الاذهان، فالقسم الثاني من التفسير، والذي اسماه تفسير المعنى، وأراد به تحديد مصداقه الخارجي الذي ينطبق عليه ذلك المعنى، هو المراد بالتأويل تماماً، ذلك الموضوع الذي اضطربت فيه افهام المفسرين والدارسين وتعددت فيه اراؤهم.

2ـ التأويل

ظهر في معنى التأويل خلاف كثير، واتجاهات ومذاهب متعددة، يصنّفها السيد الشهيد تصنيفاً جامعاً الى اتجاهين رئيسين:

الاتجاه الاول: يذهب الى القول بالترادف والتساوي بين التفسير والتأويل، فالتأويل هو التفسير، ولا فرق بينهما.. وهذا هو الاتجاه العام لدى قدماء المفسرين، ولعل منه قول مجاهد: «ان العلماء يعلمون تأويله» يريد تفسيره.. ومنه قول ابن جرير الطبري في تفسيره في ذيل كل آية: «القول في تأويل قوله تعالى.. واختلف اهل التأويل في الآية..».

والاتجاه الثاني:يذهب الى القول بان التأويل يخالف التفسير.. وهذا هو الاتجاه العام لدى من تأخر زمناً عن اصحاب الرأي الاول من المفسرين.

ظهر الاختلاف عند اصحاب الاتجاه الثاني في تحديد الفرق بين التأويل والتفسر، فهنا مذاهب أهمها ثلاثة:

1ـ ان التفسير يخالف التأويل في العموم والخصوص، فالتأويل يصدق على كل كلام له معنى ظاهر ثم يحمل على خلاف الظاهر، فهذا الحمل هو التأويل.. اما التفسير فهو أعمّ، لأنه بيان مدلول اللفظمطلقاً، سواء كان وفق الظاهر او خلافه.

2ـ ان التفسير: هو القطع بأن مراد الله كذا.. اما التأويل: فهو ترجيح احد المحتملات بدون قطع.

3ـ ان التفسير: هو بيان مدلول اللفظ اعتماداً على دليل شرعي.. والتأويل: هو بيان اللفظ اعتماداً على دليل عقلي.

ثم يناقش السيد الشهيد هذه الاتجاهات ليحدد موقفه منها، ثم المعنى الذي ينتخبه للتأويل. فيؤكد ان اصحاب الاتجاه الثاني قد اصابوا في القول بالفرق بين التأويل والتفسير، ولكن وقع الخطأ عندهم في تحديد معنى التأويل.

اما مرجع هذا الخطأ فهو اعتماد المعنى الاصطلاحي معناً وحيداً لكلمة التأويل.

وهذا ايضاً وقع فيه اصحاب الاتجاه الاول.

والصحيح اننا «بازاء موقف من هذا القبيل يجب ان نعرف قبل كل شيء هل المعنى الاصطلاحي هذا كان موجوداً في عصر القرآن، وهل جاءت كلمة التأويل بهذا المعنى حينئذ، ولا يكفي مجرد انسياق المعنى الاصطلاحي مع سياق الآية لحمل كلمة التأويل عليه»[26].

وهذا مطابق لما ذكره محمد عبده في تفسير هذا الخطأ، اذ قال «انما غلط المفسرون في تفسير التأويل في الآية جعلوه بالمعنى الاصطلاحي، وان تفسير كلمات القرآن بالمواضعات الاصطلاحية قد ينشأ غلط يصعب حصره»[27].

ثم يسير المفسران ـ السيد الصدر ومحمد عبده ـ ويوافقهم السيد الطباطبائي، وقبله محمد جمال الدين القاسمي المتوفي 1914م ـ سيراً استقرائياً، يتابع موارد استعمال كلمة (التأويل) في القرآن الكريم، ليكتشفوا جميعاً معنى آخر لا يتفق مع ذلك المعنى الاصطلاحي الذي يجعلها بمعنى التفسير، والآخر الذي لا يميّزها عنه الا في الحدود والتفصيلات[28].

فقد وردت كلمة التأويل سبع عشرة مرة في خمس عشرة آية في سبع سور، وهي:

1،2- آل عمران:7، (… فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله الا الله والراسخون في العلم يقولون امنا به..).

3ـ (النساء: 59) (.. فان تنازعتم في شيء فردّوه الى الله والرسول ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا).

4،5ـ (الاعراف: 53) (هل ينظرون الا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق..).

6ـ (يونس: 39) (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله).

7ـ (يوسف: 6) (وكذلك يجتبيك ربك ويعلّمك من تأويل الاحاديث).

8ـ (يوسف: 21) (وكذلك مكنّا ليوسف في الارض ولنعلّمه من تأويل الاحاديث).

9ـ (يوسف: 36) (… نبئنا بتأويله إنّا نراك من المحسنين).

10ـ (يوسف: 37) (قال لا يأتيكما طعام ترزقانه الا نبأتكما بتأويله).

11ـ (يوسف: 44) (وما نحن بتأويل الاحلام بعالمين).

12ـ (يوسف: 45) (انا انبئكم بتأويله فأرسلون. يوسف ايها الصديق أفتنا..).

13ـ (يوسف: 100) (يا أبتِ هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا).

14ـ (يوسف: 101) (ربّ قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الاحاديث).

15ـ (الاسراء: 35) (وأوفوا الكيل اذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا).

16ـ (الكهف: 78) (سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً).

17ـ (الكهف: 82) (ذلك تأويل ما لم تستطع عليه صبراً).

وفي هذه الموارد كلها لم ترد كلمة التأويل بمعنى التفسير وبيان مدلول اللفظ، ولا يبدو امكان ورودها بهذا المعنى الا في الآية الاولى فقط، لأنه اضيف فيها الى الآيات المتشابهة ولهذا ذهب كثير من مفسري الآية الى القول بأن تأويل الآية المتشابهة هو تفسيرها وبيان مدلولها..

وملاحظة ما عدا الاولى من موارد استعمال كلمة التأويل، تدل على انها كانت تستعمل في القرآن الكريم بمعنى آخر غير التفسير، ولا نملك دليلا على انها استعملت بمعنى التفسير في مورد ما من القرآن.. بل ان جميع تلك الموارد تدل على ان المراد بالتأويل هو ما يؤول اليه الشيء، وهذا نفسه هو المراد ـ في اكبر ـ الظن من كلمة التأويل في الآية الاولى[29].

اذاً لم يرد لفظ التأويل في القرآن الا بمعنى الامر العملي الذي يقع في المآل، تصديقاً لخبر، او رؤيا، او لعمل غامض يقصد به شيء في المستقبل، فيجب ان تفسر آية آل عمران بذلك، ولا يجوز ان يحمل التأويل فيها على معنى التفسير، ولا على حمل الكلام على خلاف الظاهر[30].

وان التأويل ليس من المفاهيم التي هي مداليل للألفاظ، بل هو من الامور الخارجية العينية، واتصاف الآيات بكونها ذات تأويل من قبيل الوصف بحال المتعلق، واما اطلاق التأويل وارادة المعنى المخالف لظاهر اللفظ، فاستعمال مولّد نشأ بعد نزول القران، لا دليل اصلا على كونه هو المراد من قوله تعالي (ابتغاء تأويله وما يعلم تأويله الا الله) الآية ـ كما لا دليل على اكثر المعاني المذكورة للتأويل، فان القرآن لم يستعمل لفظ التأويل الا في المعنى الذي ذكرناه[31].

وفي كلام القاسمي مزيد تفصيل وتمثيل «فالتأويل هو ما أول اليه الكلام، او يؤول اليه، او يؤوّل اليه، والكلام انما يرجع ويعود ويستقر ويؤول الى حقيقته التي هي عين المقصود به، كما قال بعض السلف في قوله تعالي: (لكل نبأ مستقر ومستوع وسوف تعلمون) (الانعام، 67) قال: اي لكل نبأ حقيقة فاذا كان الكلام خبراً، فالى الحقيقة يؤول ويرجع.. واذا كان الخبر وعداً او عيداً، فالى الحقيقة المنتظرة يؤول ويرجع، كما روي عنه صلى الله عليه وآله انه تلا هذه الآية: (قل هو القادر على ان يبعث عليكم عذاباً من فوقكم او من تحت ارجلكم اوى لبسكم شيعاً) (الانعام) قال: انها كائنة، ولم يأت تأويلها بعد»[32].

وقد عرف هذا الرأي في معنى التأويل عند ابن تيمية (728ه)، وفيما نقله عنه محمد رشيد رضا والقاسمي دلالة على استفادتهما مباشرة منه، وفي عبارتهم ما يكاد يكون صريحاً بهذا..

لكن السؤال: هل كان ابن تيمية هو السابق الى هذا الرأي ولم يسبقه اليه احد؟

الحق ان ابن تيمية لم يكن هو السابق الى هذا الرأي، كما ذكر الشيخ محمد هادي معرفة[33]، بل هو مسبوق اليه بزمن بعيد.. اذ وجدنا هذا الرأى قد اختاره السيد الشريف الرضي (406ه) في كتابه النفيس «حقائق التأويل».

اتذ قال فيه: ان ابا علي الجبّائي (303ه) يجعل المراد بالتأويل: مصائر الامور وعواقبها[34].

ثم يذكر حجة هذا الرأي فيقول: قال تعالي: (هل ينظرون الا تأويله يوم يأتي تأويله..)(الاعراف: 53) اي مصيره وعاقبته، لان اصل التأويل من قولهم: آل يؤول، اذا رجع.

قال: ومما يؤكد ذلك ان مجاهداً قال في قوله تعالى (ذلك خير وأحسن تأويلا) انه سبحانه اراد بالتأويل ها هنا: الجزاء على الاعمال.

قال الشريف الرضي: فهذا المعنى يلامح ما نحن في ذكره، لأن الجزاء انما هو الشيء الذي آلو اليه وحصلوا عليه[35].

وهذا المعنى في التأويل ذكره الماوردي (405ه) ايضاً، فقال: في التأويل وجهان:

احدهما: انه التفسير، الثاني: انه العاقبة المنتظرة[36].

وهذا ـ الثاني من اقوال المتقدمين ـ هو المطابق لما انتهت اليه المدرسة الحديثة في معنى التأويل، وهو الذي قال به ابن تيمية بعد اكثر من اربعمائة سنة عن الجبائي، وأكثر من ثلاثمائة سنة ـ عن الشريف الرضي والماوردي.

وللسيد الشهيد الصدر بعد ذلك مزيد تفصيل، تفرّد في شطره الأول في ما اضافه من تعريف لتقريب المعنى المنتخب للتأويل، وشارك الآخرين في شرطه الآخر الذي يخصصه لبيان الفائدة المترتبة على هذا المعنى المنتخب، فقال: «فعلى هذا الاساس يكون معنى التأويل في الآية الكريمة هو ما أطلقنا عليه اسم (تفسير المعنى).. فالتأويل جاء في القرآن بمعنى ما يؤول اليه الشيء، لابمعنى التفسير، وقد استخدم بهذا المعنى للدلالة على تفسير المعنى، لا تفسير اللفظ، اي على تجسيد المعنى العام في صورة ذهنية معيّنة».

ثم ينتقل الى ذكر الفائدة المترتبة على هذا الاختيار، فيقول: «ان اختصاص الله سبحانه والراسخين في العلم بالعلم بتأويل الآيات المتشابهة لا يعنى ان الآيات المتشابهة ليس لها معنى مفهوم، وان الله وحده الذي يعلم بمدلول اللفظ وتفسيره، بل يعني ان الله وحده الذي يعلم بالواقع الذي تشير اليه تلك المعاني ويستوعب حدوده وكنهه، وأما معنى اللفظ في الآيات المتشابهة فهو مفهوم، بدليل ان القرآن يتحدث عن اتباع مرضى القلوب للآيات المتشابهة، فلو لم يكن لها معنى مفهوم لما صدق لفظ (الاتباع) هنا، فمادامت الآية المتشابهة يمكن ان تتبع، فمن الطبيعي ان يكون لها معنى مفهوم، وكيف لا يكون لها معنى مفهوم وهي جزء من القرآن الذي انزل لهداية الناس وتبيان كل شيء؟!»[37].

3ـ المتشابه

في الفقرة الاخيرة من كلامه في التأويل يحدد السيد الشهيد موقفه من متشابه القران، فهو يرى ان الراسخين في العلم يعلمون تفسير الايات المتشابه، اي يعلمون تفسيرها اللفظي، اما تفسير المعنى ـ والذي هو التأويل وحقيقة ما يؤول اليه المعنى، فهذا هو الذي اختص به الله تعالى.

اذاً فالواو في (والراسخون) من قوله تعالى: (وما يعلم تأويله الا الله والراسخون في العلم) يصح ان تكون عاطفة، كما يصح ان تكون استئنافية.

فعلى الأول: الراسخون في العلم يعلمون تفسيرها، دون الحقيقة التي تؤول اليها.

وعلى الثاني: هم لا يعلمون تأويلها اي حقيقتها التي تؤول اليها، وانما يعلمون تفسيرها اللفظي.

وقدم على قوله دليلين:

الأول: ان الآيات المتشابهة لها مفهوم يفهمه الناس، بدليل ان القرآن يتحدث عن اتباع مرضى القلوب للآية المتشابهة. فلو لم يكن لها معنى مفهوم لما صدق لفظ الاتباع هنا.

والثاني: كيف لا يكون لها معنى مفهوم وهي جزء من القرآن الذي انزل هداية للناس وتبياناً لكل شيء!!

ثم ينتقل الى تفسير الأمر الذي ألجأ بعض المفسرين الى القول بأن علم المتشابه كله مختص بالله تعالى وحده، فيقول: «ان عدم التمييز بين تفسير اللفظ وتفسير المعنى هو الذي ادى الى الاعتقاد بأن التأويل المخصوص علمه بالله هو تفسير اللفظ، وبالتالي ادى الى القول بأن قسماً من الآيات ليس لها معنى مفعهوم لأن تأويلها مخصوص بالله تعالى وحده »[38].

هذا بينما كان اختيار السيد الشريف الرضي ان واو (والرسخون) عاطفة، وليست استئنافية، اي ان الراسخين في العلم يعلمون تأويله، ولكن على تفصيل. فهناك من المتشابه ما لا يعلم تأويله الا الله، وهذا محصور في علم الساعة ومقدار الصغيرة والكبرة ومقادير الجزاء ونحوها.

وقد نسبه السيد الشريف الى جماعة من مفسري السلف منهم الحسن البصري[39].

اما ابن تيمية فقد تذبذب في هذا الأمرين بين ثلاثة أقوال ينسبها جميعاً الى السلف، ثم يميل الى ترجيح المذهب الذي اختاره السيد الشهيد.

فمرّة يرجح الوقف على قوله تعالى: (وما يعلم تأويله الا الله) والواو بعد مستأنفة، فعلم تأويله مختص بالله تعالى، ويقول: هذا قول جمهور السلف والخلف.

ومرة يرجح الرأي المقابل، فيمنع الوقف هنا، والواو عاطفة، فالراسخون في العلم يعلمون تأويله، ويقول: هذا هو الاشبه برأي السلف، وانما اشتهر الاول بسبب تبّرم المتأخرين من التأويلات المحرّفة للجهمية ونحوهم[40].

وهذا الرأي هو الذي يختاره السيد الطباطبائي في الميزان مع فارق يرجع الى اصول منهجية في التفسير، فعند السيد الطبطبائي ان العلم بتفسير المتشابه يتم بالرجوع الى المحكمات، فالمحكمات هنّ ام الكتاب، وتعني الامومة هذه حل التشابه بالشكل الذي يتعين به مدلول الآية المتشابهة على ضوء مدلول الآية المحكمة[41].

اما ابن تيمية فيرى ان التشابه في الاآيات امر نسبى، فقد يتشابه عند هذا ما لا يتشابه عند غيره، وتلك المتشابهات اذا عرف معناها صارت غير متشابهة، بل القول كله محكم[42].

وقد لاحظنا ان موقفه هذا املته عليه عقيدته في الصفات التي تدور حول المتشابه من القرآن والسنّة[43]. ثم هو مناقض لقوله المتكرر ان السلف كانوا يكلون العلم بآيات الصفات الى الله ويقولن: امّروها كما جاءت.

وفي موضع ثالث يذهب الى ان القولين، والتأويل المنفي غير التأويل المثبت، فيكون الوقف على حسب المراد من التأويل، فان كان المقصود به الحقيقة الخارجية المطابقة لمدلول اللفظ التي استأثر الله بعلمها، فالوقف على لفظ الجلالة هو الأولى.. وان كان المقصود به التفسير الذي هو بيان اللفظ وتوضيح معناه، فالوقف على الراسخين في العلم هو الأولى[44].

وهذا هو الموافق لاختيار الشهيد الصدر.

4ـ حجية ظواهر القرآن

من المسائل المهمة في مناهج التفسير مسألة ظواهر القرآن، هذه المسألة التي انشطر ازاءها المسلمون، فتمسك بعض الظواهر القرآن، فيما اعرض عنها آخرون وتمسكوا بالمعاني الباطنية، او منعوا من اعتماد ظواهر القرآن في فهم آياته ومعانيها واعتبروه من التفسير بالرأي المنهي عنه وأوجبوا الوقوف على ما ورد في ذلك من اثر عن المعصومين، او عن الصحابة.

وقد نجد بين كل واحدة من طوائف المسلمين الكبرى من تمسك بالباطن اما مطلقاً واما بالتوفيق بينه وبين الظاهر واعتبار كل منهما مراداً.

غير اننا قد لا نجد بين الشيعة الامامية من وقف عند الظاهر وقوفاً تاماً الى حد الجمود الحرفي كما هو شأن الظاهرية من اهل السنة الذين انكروا حتى المجاز في القرآن بحجة انه خلاف الظاهر.

في مقابل ذلك وجد بعضهم في الحديث المروي «للقرآن ظهر وبطن» عالماً فسيحاً تهيم فيه خيالاتهم وأذواقهم على نحو تختفي فيه مدلولات الكلمة العربية التي نزل بها القرآن، ويفقد فيه القرآن اية صلة بالحياة العملية وتشريعاتها ليفقد بذلك عنوانه الاساس في كونه كتاب هداية ومصدر تشريع ومنهاج حياة.

وهذه هي السمة الغالبة على تفاسير الصوفية وما حفظ من تفسير بعض الفرق الباطنية الغالية.

اما المعتمد عند الامامة، والذي عليه عامة علمائهم من اهل التحقيق والنظر: فهو اعتماد حجية ظواهر القرآن الكريم. وقد استندوا في مذهبهم هذا على ادلة من محكم الكتاب الكريم ومما صح عن اهل البيت عليهم السلام وبالبرهان العقلي ايضاً..

يقول الشيخ المفيد: القرآن نزل بلسان العرب ولغتهم، قال الله عز وجل: (بلسان عربي مبين)[45].

وقال تعالى: (قرآناً عربياً غير ذي عوج)[46].

وقال تعالى: (ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي)[47].

فاذا ثبت ان القرآن نزل بلغة العرب، وخوطب به المكلفون في معانيه على اللسان، وجب العمل بما تضمّنه على مفهوم كلام العرب، دون غيرهم[48].

وقال ايضا: من تأوّل القرآن بمايزيله عن حقيقته، وادّعى المجاز فيه والاستعارة بغير حجّة قاطعة، فقد ابطل بذلك، وأقدم على المحظور، وارتكب الضلال[49].

واستهلّ السيد الخوئي باباً أفرده بهذا العنوان (حجية ظواهر القرآن) بقوله: لا شك ان النبي (ص) لم يخترع لنفسه طريقة خاصة لافهام مقاصده، وانه كلّم قومه بما ألفوه من طرائق التفهيم والتكليم، وانه اتى بالقرآن ليفهموه معانيه وليتدبروا آياته فيأتمروا بأوامره ويزدجروا بزواجره. وقد تكرر في الآيات الكريمة ما يدل على ذلك، كقوله تعالى: (افلا يتدبرون القرآن ام على قلوب اقفالها)[50].

وقوله تعالى: (هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين)[51].

وقوله تعالى: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر)[52].

الى غير ذلك من الآيات الدالة على وجوب العمل بما في القرآن ولزوم الأخذ بما يفهم من ظواهره.

ثم ذكر جملة اخرى من الادلة العقلية والنقلية على ذلك، وذكر شبهات المخالفين وفنّدها[53].

واما الشيخ محمد جواد مغنية فقد قطع بأن الشيعة الامامية يحرّمون تفسير كتاب الله تفسيرا باطنيا[54].

والامام الشهيد الصدر واحد من ائمة هذه المدرسة، يدافع عن هذا المذهب، ويركز كلامه في دفع شبهة القائلين بعدم جواز التمسك بظواهر القرآن، الا بما كان نصا في المعنى او مفسرا تفسيرا محددا من قبل النبي (ص) او احد المعصومين من اهل البيت (ع) فهؤلاء تمسّكوا بهذا القدر ومنعوا من اعمال المفسّر عقله وبذله جهده في اية محاولة لفهم آية من آيات القرآن الكريم لم يرد نصّ في تفسيرها.

وتمسّكوا بجملة من الحجج يستعرضها السيد الشهيد مفصّلا ويكشف عن وهنها.

واهم ما استدلوا به طائفة من الروايات تنهى عن الرجوع الى ظواهر القرآن الكريم، ففي هذه الروايات دلالة على ان القرآن لا يعرفه الا من خوطب به، وان غير المعصوم لا يصل الى مستوى فهمه!

اجاب الامام الشهيد هؤلاء بما نصه:

اولا: ان الروايات التي افادت هذه المعاني وتمسك بها هؤلاء جميعها ضعيفة السند! بل قد يحصل الاطمئنان بكذبها نتيجة لضعف رواتها وكونهم في الغالب من ذوي الاتجاهات الباطنية المنحرفة، على ما يظهر من تراجمهم.

مع الالتفات الى ان اسقاط ظواهر الكتاب الكريم عن الحجية امر في غاية الاهمية، فلو كان الائمة بصدد بيانه لما امكن اختصاص هؤلاء الضعفاء بالاطلاع على ذلك والاخبار عنه دون فقهاء اصحاب الائمة الذين عليهم المعوّل واليهم تفزع الشيعة في الفتوى والاستنباط، بأمر الائمة وارجاعهم!

ثانياً: ان هذه الروايات معارضة للكتاب الكريم الدال على انه نزل تبيانا لكل شيء وهى وبلاغا، والمخالف للكتاب من اخبار الآحاد لا يشمله دليل حجية خبر الواحد[55].

اما عن شبهة ابهام القرآن الكريم لتأكيد حاجة الناس الى الامام، فيقول:

1 ـ ان الابهام المذكور على خلاف الحكمة من نزول القرآن!

2 ـ ان ربط الناس بالامام فرع اقامة الحجية على اصل الدين، المتوقّفة على فهم القرآن وادراك مضامينه.

اما دعوى شموخ المعاني وعلوّها: فان الشموخ والعلّو في المعاني ينبغي ان لا يكون على حساب الهدف من بيانها، ولما كان الهدف هداية الانسان، فلا بد ان تبيّن المعاني على نحو يؤثر في تحقيق هذا الهدف، وذلك موقوف على تيسير فهمه.

فالصحيح اذن ان ظواهر الكتاب حجة كظواهر السنة[56].

وهؤلاء الذين اسقطوا حجية ظواهر القرآن، هم بين: باطني، وحشوي، قد تركوا آثارا سلبية كبيرة على الفكر الاسلامي:

فالباطنية كما يراها السيد جمال الدين الافغاني ـ تلميذ حوزة النجف الاشرف وتلميذ شيخها الكبير مرتضى الانصاري: هي بداية الانحطاط في سلطة المسلمين، وبداية ظهور الانحطاط في الفكر، وكل ذلك كان «من يوم ظهور الآراء الباطلة والقعائد الباطنية في صورة الدين، وسريان هذه السموم القاتلة في نفوس اهل الدين الاسلامي»[57].

والحشوية كما يراها الشهيد الشيخ المطهري: أسوء نموذج للجمود والتحجر، عندما اسقطوا حجية ظواهر القرآن «فقد قالوا: لا اعتبار للقران، ولم يقولوا: لا تقرأوا القرآن، بل قالوا: اقرأوا وقبّلوه ولكن لا تفهموه، وهذه ضربة قوية للعالم الاسلامي»[58].

ومن خلال هذا الفهم ونظائره المذكورة عن اكابر علماء الامامية نستطيع بكل بساطة ان نلمس ما في دعاوى خصوصمهم من مجازفات وتقولات باطلة، حين يزعمون ان الامامية الاثني عشرية «تدعوا الى تجميد العقل، تماما كما فعل الارهاب الكنسي في العصور المظلمة، حيث اغرقوا في الباطن واوجبوا التسليم بكل ما ورد فيه، بحجة انه قد وصلهم عن طريق آل البيت»[59].

فهؤلاء حين افتقدوا الموضوعية في نقد الفكر الشيعي، تلمّسوا بعض ما تناثر هنا وهناك من آراء قد اتسعفهم في تحقيق مآربهم تلك، وتركوا وراء ظهورهم كل هذا التراث الضخم الذي خلّفه علماء الامامية في هذا الباب وفي غيره من علوم الشريعة والحياة.

وسؤال واحد لو اثرته بوجه هؤلاء الكتّاب لا نكشف امامك كل ما يخفونه من اهواء ودوافع غير نزيهة، والسؤال هو: على اي شيء تستندون في شطب مناهج اكابر علماء الامامية في التفسير، كالمفيد والرضي والمرتضى والطوسي والطبرسي والخوئي والطباطبائي والبلاغي والمطهري ومحمد حسين فضل الله ونظرائهم مّمن هم في طليعة من تفتخر بهم الامامية من علمائها؟

وفي مقابل ذلك فأنتم تخرجون التفسير الباطني السنّي والصوفي والاشاراتي من ساحة المدارس السنية في التفسير، لتجعلوها مدارس منفصلة بمذاهب اخرى مستقلة عن التسنّن؟

ان منهجا كهذا لهو ابعد شيء عن الدراسة الموضوعية.

الباطن في قصص القرآن

ثمّة مقالة يتمسك بها الباطنية لا يذكرها الشهيد في شيء من عناوين بحوثه، لكنا نجد في واحدة من ابرز دراساته القرآنية الجواب الشافي على تلك المقالة، والنقض الذي لا يبقي على شيء من خيوطها.

تتعلق هذه المقالة بالقصص التي ساقها القرآن الكريم عن الامم السابقة، فليست كلمات القرآن التي انتظمت لتشكّل أية واحدة من هذه القصص الا رموزا لمعان اخرى قائمة في هذه الامة.

والقرآن حين يتحدث عن قوم نوح او قوم هود وصالح وموسى وغيرهم، فهو لا يريد هؤلاء، فما هؤلاء الا ظواهر تعلقت بها الفاظ القرآن، وانما المراد منها معانيها الباطنية، وهي تأويلها في هذه الامة.

ويرى هؤلاء ان هذا الباطن هو الكاشف عن اعجاز القرآن الكريم، والا فما فائدة الحديث عن قصص الغابرين؟

واي اعجاز فيه ان كان المراد هو ظاهر تلك الآيات التي تتحدث عن قوم بادوا قبل مئات القرون؟

وهذا ما فيه من قصور في الفهم، فهو تكذيب للقران الكريم!

فأما قصوره: فمن عدم ادراك فائدة قراءة تجارب الامم واسرار نموها وانحطاطها، هذا الدرس العبقري الذي لا يمكن ان تستغني عنها امة تريد ان تحيا ويكون لها شأن بين الامم.

هذا الدرس هو الانموذج الاول الذي يستعرضه السيد الشهيد في تطبيقاته لمنهجه الموضوعي في التفسير، فيقول: الموضوع الاول الذي نختاره للبحث هو: «سنن التاريخ في القرآن الكريم».

هل للتاريخ البشري سنن وقوانين في مقهوم القرآن الكريم، تتحكم في مسيرته وفي حركته وتطوره؟

ما هي هذه السنن؟

كيف بدأ التاريخ البشري؟ كيف نما؟ كيف تطور؟

ما هي العوامل الاساسية في نظرية التاريخ؟

ما هو دور الانسان في عملية التاريخ؟

ما هو موقع السماء، او النبوة، على الساحة البشرية؟

ثم يقول: قصص الانبياء (ع) تمثّل الجزء الاعظم من هذه المادة[60]!

ويستعرض الامام الصدر تلك الآيات التي تتحدث عن الامم الغابرة فيستخلص منها سننا ثابتة:

يستخلص ان المحتوى الداخلي النفسي والروحي للانسان هو القاعدة، والوضع الاجتماعي هو البناء العلوي، ولا يتغير النباء العلوي الا طبقا لتغير القاعدة.

وهذا قانون حي، مصاديقه ماثلة في ذلك القصص القرآني، وهو حي دائما، يدخل في روح البناء الحضاري، فلا يقال عنه انه من قصص الغابرين!

ويستخلص من طائفة اخرى القانون الذي يعبّر عنه بالعلاقة بين عدالة التوزيع وبين وفرة الانتاج[61].

وهذه قاعدة حية دائما، لا يقال عنها انها من قصص الغابرين!

واما كون ذلك الفهم القاصر تكذيبا للقران الكريم، فلأن القرآن حين يستعرض تلك القصص يؤكد دائما ان فيها ذكرى للذاكرين وعبرة للمعتبرين ثم يعزّر ذلك بدعوته المتجدّدة الى البحث والنظر والتدبر في تلك التجارب.

والسيد الشهيد يكشف عن ذلك ضمن فهمه السليم، مصدقا لآيات الكتاب الحكيم، داحضا ذلك الفهم القاصر على وفق منهجه الخاص في الاصلاح الديني، اذ غالبا ما يكتفي بتقديم الفهم الصحيح دون ان يشير الى الآراء الخاطئة والقاصرة التي يمارس تفنيدها بما يطرحه من افكار ويقدمه من براهين، مبتعدا عن الجدل والمراء المنفّر للخصوم، وحتى حين يعين تلك المفاهيم الخاطئة ويبرز حججها، فهو لا يجاوز اطار المنهج العلمي البحت في المحاورة، بعيدا كل البعد عن تجريح اصحابها او التعريض بهم، معتقدا ان الفكرة انما تقابل بالفكرة، وما زاد عن ذلك فهو فضول.

يقول السيد الشهيد: هناك آيات حثّت على الاستقراء والنظر والتدبّر في الحوادث التاريخية من اجل تكوين نظرة استقرائية، من اجل الخروج بنواميس وسنن كونية للساحة التاريخية. ثم يذكر طائفة من هذه الآيات، وجميعها مما ورد في قصص الامم الاولى[62].

ان تلك الآيات العديدة التي تتحدث عن قصص الامم السابقة او التي لم يفهم منها ذلك الفريق الباطني شيئا، يستنبط منها السيد الشهيد ـ في اطار الفهم المنسجم مع طبيعة القرآن باعتباره كتاب هداية وبيان وتشريع ـ مفهوما متينا ومتماسكا يمثل نظرية متكاملة في التاريخ، تؤكد ان للساحة التاريخية سننا وضوابط، كما يكون للساحات الكونية الاخرى سنن وضوابط.

وحين لا يرى اولئك في تلك الآيات، مادة هذا الفهم، مما يتلائم واعجاز القرآن.. يرى السيد الشهيد الرؤية المضادة تماما، فيقول: ان هذا المفهوم القرآني ـ الذي تعطيه تلك الآيات ـ يعتبر فتحا عظيما للقران الكريم، لاننا في حدود ما نعلم ان القرآن اول كتاب عرفه الانسان اكد هذا المفهوم وكشف عنه واصر عليه، وقاوم بكل ما لديه من وسائل الاقناع والتفهيم النظرة العفوية، او النظرة الغيبية الاستسلامية في تفسير الاحداث[63].

5ـ النسخ في القرآن الكريم

النسخ: هو رفع حكم ثابت، من قولهم: نسخت الرياح الاثر، اذا درسته.

وعرّف ايضا: بأنه تصور حكم على لفظ يختص بأهل زمان خاص.

او هو: أحلال حكم مكان حكم.

او: استغناء عن حكم موقوت بحكم مستديم.

او: بيان نهاية تعبّد بأمر او نهي في حكم خاص بنقله الى حكم آخر[64].

والتعريف الجامع للنسخ في الشريعة الذي يختاره السيد الشهيد هو التعريف الذي ذكره السيد الخوئي، وفيه:

«ان النسخ رفع امر ثابت في الشريعة المقدسة بارتفاع امده وزمانه، سواء كان ذلك الامر المرتفع من الاحكام التكليفية ـ كالوجوب والحرمة ـ ام من الاحكام الوضعية ـ كالصحة والبطلان ـ وسواء كان م المناصب الالهية، ام غيرها من الامور التي ترجع الى الله تعالى بما انه شارع»[65].

وقد وردت فكرة النسخ في القرآن في ثلاثة مواضع:

أ ـ قوله تعالى: (ما ننسخ من آية او ننسها نأت بخير منها او مثلها)[66].

ب ـ قوله تعالي: (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب)[67].

ج ـ قوله تعالى: (واذا بدلنا آية مكان آية والله اعلم بما ينزّل قالوا انما انت مفتر بل اكثرهم لا يعلمون)[68].

والشبهة التي اعترضت النسخ لاول مرة شبهة أثارها اليهود عند تبدل بعض الاحكام، بحجة ان هذا لا يكون الامن البداء، او العبث، وكلاهما باطل[69].

ويرد السيد الشهيد هذه الشبهة: بأن حالات النسخ الشرعي مردها الى ان المصلحة المقدّرة مثلا كان لها امد محدد من اول الامر، وقد انتهى، وان الارادة التي حصلت بسبب ذلك التقدير كانت محددة تبعا للمصلحة. والنسخ معناه انتهاء حدُّها ووقتها المؤقت لها من اول الامر.

فلا يكون هناك بداء، لانه ليس في النسخ من جديد على الله تعالى لعلمه مسبقا، وليس هناك عبث ايضا لوجود الحكمة في متعلق الحكم الناسخ وزوالها في متعلق الحكم المنسوخ.

وليس هناك ما يشكل عقبة في تعقل هذا النسخ الا الوهم الذي يأبى تصور ارتباط مصلحة الحكم بزمان معين بحيث تنتهي عنده، والوهم الذي يرى في كتمان هذا الزمان المعيّن على الناس جهلا منه تعالى بذلك الزمان!

لكن هذا قريب الى الافهام، ومثله مثل حال الطبيب حين يعالج مريضا فيرى ان مرحلة من مراحل المرض يصلح لها دواء معين. فاذا اجتازها المريض يستبدل دواءه بدواء آخر يصلح لمرحلته الجديدة.

فلا يوصف عمله هذا بالعبث والجهل. ونظير هذا يمكن ان نتصوره في النسخ الشرعي[70].

والنسخ في الشريعة الاسلامية ـ كما يقول الامام الصدر ـ امر ثابت لا يكاد يشك فيه احد من علماء المسلمين[71].

ويتميز مذهب الشيعة الامامية في النسخ باجماعهم عى قضية مهمة ودقيقة خالفهم فيها كثير من الحشوية وغيرهم، الا وهي: ان النسخ انما هو في الاحكام، لا في اعيان الآيات خطا وتلاوة.

اما ما ذهبت اليه بعض الطوائف الاسلامية من وقوع النسخ في اعيان الآيات، فتنسخ آيات قد أنزلت قبل، فلا تكتب في المصحف ولا تتلى، فهذا يردّه الامامية بقوة بلاخلاف فيه بينهم[72].

مفارقات

من المفيد ان نذكر هنا بعض المفارقات التي وقع فيها بعض الدارسين بخصوص موقف الشيعة من النسخ:

مجد الدين الفيروزآبادي يصنّف الناس من حيث مواقفهم من اصل فكرة النسخ، فيرى انهم صنفان: مثبتون. ومنكرون.

والمنكرون صنفان: صنف خارج على ملة الاسلام، وهم اليهود، فانهم اجمعوا على انه لا نسخ في شريعة موسى، وقالوا: ان النسخ دليل على البداء والندامة، ولا يليق بالحكيم ذلك.

وصنف ثان من اهل الاسلام، وهم الرافضة، فانهم وافقوا اليهود في هذه العقيدة، فقالوا: ليس في القرآن ناسخ ولا منسوخ[73].

والفيروزآبادي هذا قد توفي سنة 817ه، وكان في هذا التاريخ وقبله بكثير يطلقون لفظ الرافضة على الشيعة عامة، وربما استثنوا منهم الزيدية لا غير.

غير ان الذي لا جدال فيه ان الشيعة هم اصحاب القول بالبداء الذي عابه اليهود على المسلمين قديما كما ذكر قصته الفيروزآبادي نفسه في الصفحة نفسها!

ومما لا جدال فيه ايضا ان الشيعة قد عرّضوا من اجل قولهم بالبداء الى انتقادات شديدة من قبل كثير من علماء اهل السنة.

يقول الشهيد الصدر: المعروف من مذهب الامامية الاثنى عشرية انهم يقولون بفكرة البداء، وعلى هذا الاساس نجد بعض الباحثين من اخواننا السنة يحملون على اخوانهم الامامية بشكل عنيف متهمين اياهم بالانحراف والضلال، حتى ان بعضهم يكاد يقول ان الامامية اشدّ انحرافا من اليهود والنصارى حين حاولوا انكار النسخ، لان اولئك انكروا النسخ في محاولة لتنزيه الله سبحانه من النقص، وهؤلاء قالوا بالبداء فأثبتوا الجهل والنقص لله سبحانه[74].

وفي رؤية ثالثة يعرضها واحد من اكبر علماء الوهابية المعاصرين في محاضرة له مسجّلة على الشريط المسجل (الكاسيت) يقول فيها: ان البداء عقيدة يهودية، دخلت الى الاسلام على يد جعفر بن محمد الصادق (ع).

ان مثل هذا الاضطراب الشديد ليجعل من تلك المقولات مفارقات باعثة للسخرية حقا!

6ـ اللغة

اذا كانت المعرفة باللغة العربية وقواعدها وآدابها وخصائصها، شرطا اساسيا يجب توفره في المفسر، باتفاق، حتى قال بعضهم: «انه لا ينبغي لاحد ان يدخل في تفسيره القرآن الا ان يكون عربيا، او كالعربي».

اي في معرفة لغة العرب وتذوّقها، فان السيد الشهيد وهو يتفق مع اصحاب هذا الفن في شأن هذه الضرور، يركّز على نقطة هامة كثيرا ما كانت سببا في اختلاف المفسرين، الا وهي مشكلة تحديد معاني المصطلحات.

فيحدد موقفه من هذه المشكلة بالرجوع الى المعنى المعروف في عصر نزول القرآن، وترك المعاني المستجدة التي استحدثت على ايدي المتكلمين، او ولدت بتطور اللغة، فنحن «بازاء موقف كهذا يجب ان نعرف قبل كل شيء: هل المعنى الاصطلاحي (هذا) كان موجودا في عصر القرآن؟ وهل جاءت 0الكلمة) بهذا المعنى حينئذ؟ ولا يكفي مجرد انسياق المعنى الاصطلاحي مع سياق الآية لتحمل الكلمة عليه»[75].

7ـ تطور تفسير القرآن

تناول السيد الشهيد بشيء من التفصيل الادوار التي مرّ بها التفسير في مراحله الاولى، واثر الزمن والحالة الثقافية والسياسية والعقيدية في التفسير ومناهجه.

غير ان دراساته تلك لم تستوعب كافة الادوار المهمة التي مرّ بها التفسير، ولم تكن ايضا على مستوى واحد من البسط والتفصيل في حدود ما تناولته من عوامل مؤثرة في اتجاهات التفسير لدى المسلمين. فقد منح بعض الجوانب حضا اوفر عرضا، ونقدا، فيما اكتفى باعطاء نبذة موجزة اقرب ما تكون الى الصورة الناجزة مع بعض آخر.

والسبب في ذلك كله انه لم يتوجه لدراسة هذا الموضوع دراسة مستقلة تستوعب جميع جزئياته، او على الاقل جميع محاوره المهمة، وانما كانت دراساته مقيدة بحدود المنهج الدراسي الذي كان يقدّم له بحوثه في علوم القرآن، وكان بعضها الآخر مقيّدا بحدود وما اراده تميهدا فقط لدخول في منهجه التأسيسي في التفسير التوحيدي الموضوعي.

لقد توسّع نسبيا في البدء في اثبات الدواعي الموضوعية لتولي النبي الاكرم(ص) تفسير القرآن بنفسه.

فاذا كان الصحابة على معرفة باللغة التي نزل بها القرآن الكريم، فان ذلك يقتضي ان يتوفروا على فهم اجمالي للقرآن الكريم وحسب، فلا يدل فهمهم الاجمالي على انهم كانوا يفهمون جميع آياته بصورة تلقيائية فهما تفصيليا يستوعب مفرداته وتراكيبه بحيث لا يخفي عليهم شيء، ولا يختلفون في فهم شيء منه.. فهذا مما لا يدّعيه احد، بل طبيعة الاشياء تدل على بطلانه، كما اكدت ذلك احاديث ووقائه كثيرة دّلت على ان الصحابة كانوا لا يستوعبون بعض النصوص القرانية، بل كان منهم من لا يفهم حتى معاني بعض مفرداته.. كما روي عن عمر في معنى الأب في قله تعالى: (وفاكهة وأبّا). وعن ابن عباس في معنى فاطر، في قوله تعالى: (فاطر السموات والارض)، وعن عديّ بن حاتم في المراد بالخيط الابيض والخيط الاسود في قوله تعالى: (حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر).

بل قد تغيب عنهم مصاديق بعض الآيات التي يعرفون معاني الفاظها بوضوح، كما في قوله تعالى: (والفجر وليالى عشر) فان احدا منهم لا يخفى عليه معنى كلمة (ليال) او كلمة (عشر)، ولكن ما هي هذه الليالي العشر التي عناها الله تعالى؟ فهذا ونحوه قد يخفى عليهم.

تلك جميعا كانت دواع موضوعية تدعو ان يتولى النبي بنفسه تفسير القرآن للصحابة.

وقد كان ذلك، فمارس النبي (ص) دور الرائد في التفسير، فكان (ص) المفسر الاول للقرآن الكريم، يشرح النص القراني ويكشف عن معانيه واهدافه ويزيل ما قد يعلق في اذهان بعضهم من اشكال او ابهام وغموض.

ولا يختلف المسلمون في ذلك، بل هم مجمعون على انه (ص) قد مارس التفسير، وفسّر من آياته ما لا يمكن لاحد من الصحابة ان يعرفه الا عن طريقه.

ولكن الخلاف قد وقع في حدود التفسير الذي مارسه النبي ومساحته، أفاستوعب آيات القرآن كلها فلم يغادر آية الا فسرها وبينمعانيها ومراد الله تعالى فيها؟

ام فسّر بعضاً من آياته فقط ولم يستوعب تفسيره جميعها؟

ام انه لم يفسّر الا ما سئل عنه من قبل بعض الصحابة؟

فمنهم من رأى انه (ص) قد فسّر جميع القرآن، كما يظهر من قول ابن تيمية: يجب ان يعلم ان النبي (ص) بيّن لاصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه[76].

ومنهم من ذهب الى انه لم يفسّر الا ما سئل عنه[77].

وتوسط الآخرون فقالوا: الصحيح ان النبي (ص) لم يفسّر القرآن كله، ولكنه لم يكتف بما سئل عنه، بل فسّر اكثر من ذلك، وقد روي في الصحيح عنه ما يشهد لذلك.

والرأي الاخير هو المشهور، والذي عليه سائر اهل التفسير وغيرهم من اهل العلم الا من شذّ.

اما القول الاول: فلا يؤيده دليل، بل الدليل قائم على خلافه، فان احدا لم يرو عن الرسول (ص) تفسير سائر آيات القران، ولو كان ذلك معروفا عندهم لصرح به غير واحد منهم، بل لما كثر الاختلاف بينهم في معاني الفاظه وآياته.

لاجل ذلك حاول الدكتور محسن عبد الحميد ان يصرف قصد ابن تيمية في قوله «ان النبي بيّن لاصحابه معاني القرآن كما بين لهم الفاظه» الى المعاني الاصطلاحية التي كان بيان رسول الله (ص) لها ضرورة.

وقال: لابد ان يصرف قول ابن تيمية الى ذلك، لانه رحمه الله كان من المتبحرين باتفاق المحققين في السنة النبوية الشريفة، فمن غير المعقول ان يقصد ان رسول الله (ص) فسّر الفاظ القرآن لفظة لفظة على ما يقتضيه لسان العرب، لان مثل هذا التفسير لايوجد في دواوين السنة ولا في كتب التفسير، وهذه القضية استقرائية لا مجال لخلاف الرأي فيها[78].

لكن الحق ان من تفحّص منهج ابن تيمية لا يتكلف عناء صرف كلامه هذا عن ظاهره، فكثير ما جازف ابن تيمية في امثال هذا من القضايا التي لا مجال لخلاف الرأي فيها.

ويشهد لما نقوله متابعة تلميذه وصاحبه ابن القيم له في هذا وقوله: ان النبي (ص) بيّن لاصحابه القرآن لفظه ومعناه، فبلّغهم معانيه كما بلّغهم الفاظه، ولا يحصل البيان والبلاغ المقصود الا بذلك قال تعالى: (وما على الرسول الا البلاغ المبين) وهذا يتضمن بلاغ المعنى وانه في اعلى درجات البيان: فمن قال انه لم يبلّغ الامة معاني كلامه وكلام ربّه بلاغا مبينا لم يكن قد شهد به بالبلاغ.

الى ان قال: والجزم بتبليغه معاني القرآن والسنة كالجزم بتبليغه الالفاظ، بل اعظم من ذلك!

واضاف قائلا: فالصحابة اخذوا عن رسول الله (ص) الفاظ القرآن ومعانيه، بل كانت عنايتهم بأخذ المعاني اعظم من عنايتهم بالالفاظ، يأخذون المعاني اولا ثم يأخذون الالفاظ ليضبطوا بها المعاني حتى لا تشذّ عنهم:[79].

هكذا يجازفون في قضية استقرائية لا مجال لخلاف الرأي فيها؟

ولو قابلتهم بسؤالين فلا جواب لديهم يرتضيه العلم على ايّ منهما:

الاول: لماذا غاب هذا التفسير اذن عن دواوين السنة وكتب التفسير؟

والثاني: لماذا هذا الاختلاف الكثير بين ما ورد عن الصحابة في التفسير؟

لماذا حصل هذا وذاك وانتم تضيفون، ان التابعين بأحسان اخذوا ذلك عن الصحابة وتلقّوه

واما القول الثاني: فلا يؤيده ما كان على عاتق الرسول الكريم من مسؤولية تجاه الوحي الذي امر ببيانه كما امر بتلاوته للناس: (وانزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزّل اليهم ولعلهم يتفكرون)[80].

والدليل قائم ايضا على خلافة، فثمة احاديث نقلها عنه بعض الصحابة في تفسير بعض أي القرآن من غير ان يسبق بسؤال، هذا الى ان كثيرا من سنّته العملية كانت تفسيرا وتبيانا لاحكام القرآن الكريم.

اذن فالرأي الثالث هو الاصح، كما انه الاشهر، لكن ورد عن بعض انصاره ما يفيد ان النبي (ص) لم يفسّر الا القليل والقليل جدا من آي القرآن الحكيم، واستدلوا بما اخرجه البزار عن عائشة: «ان رسول الله ما كان يفسّر الا آياً تُعد).

والسيد الشهيد الصدر حين اشار الى الاختلاف الحاصل في حدود تفسير النبي ومساحته، لم يذكر من الآراء الا هذا الاخير، ثم هو رحمه الله ينتصر لهذا الرأي بما يتلمسه من أدلة في شأن عامة الصحابة، ثم يعقب برأيه الجديد الذي يملأ به الفراغ الذي يتركه هذا الرأي.

فيقول: فهناك من يعتقد ان النبي (ص) لم يفسر الا آيات معدودات من القرآن الكريم، ويستند اصحاب هذا الرأي الى روايات تنفي ان يكون الرسول قد فسر القرآن كله تفسيرا شاملا، وعلى رأس هؤلاء: السيوطي. ومن تلك الروايات: ما اخرجه البزار عن عائشة من ان رسول الله (ص) ما كان يفسر الا آياً بعدد.

ثم يقول مباشرة: واهم ما يعزز هذا القول هو طبيعة الاشياء، لان ندرة ما صحّ من التفسير المأثور عن النبي تدل على انه (ص) لم يكن قد فسر للصحابة على وجه العموم آيات القرآن الكريم جميعا تفسيرا شاملا، والا لكثرت روايات الصحابة في هذا الشأن، ولما وجدنا الكثرة الكاثرة منهم او كبار رجالاتهم يتحيرون في معنى آية او كلمة من القرآن[81].

وقد لا يخلو الكلام الى هنا من ملاحظات ترد عليه، منها:

1ـ لماذا جعل السيوطي (911ه) على رأس اصحاب هذا الرأي، مع انه رأي قديم، والسيوطي متأخر كثيرا عن ابن عطية مثلا الذي احتج برواية البزار هذه، وكانت وفاة ابن عطية سنة 338ه.

وقد نقل القرطبي (671ه) عن ابن عطية رأيه هذا واحتجاجه بهذا الحديث ايضاً[82].

2ـ ان قلة ما صح من التفسير المأثور عن النبي اذا كانت تفيد ـ كما قال الشهيد ـ ان النبي لم يفسر جميع آيات القرآن للصحابة عامة تفسيرا شاملا، فهذا لا يعني انه (ص) لم يفسر الا آيا تعدّ.

هذا مع اننا حين ننظر الى كثير من السنة النبوية على انها تبيان لاحكام القران، اما قولا او عملا، فسوف نحكم قطعا بانه (ص) قد فسر كثيرا من آيته وليس آياً تعدّ.

ومن هنا ذهب بعض من احتج بحديث عائشة المتقدم الى انه مخصوص بمتشابه القرآن وما جاء فيه من انباء عن الغيب ونحو ذلك، كما ذهب اليه ابن عطية[83].

3ـ ان طبيعة الاشياء، وعدم احاطة الصحابة بمعاني القرآن تلقائيا، كانت اهم المسوّغات الموضوعية التي قدمها الشهيد في برهانه على ضرورة ممارسة النبي للتفسير وكونه اول المفسرين ورائدهم، فكيف اصبحت هذه العوامل نفسها دليلا على انه لم يفسر الا آياً تعدّ؟

الملاحظة الثالثة بوجه خاص قد تجد حلها في الرأي الذي سيضيفه الشهيد الصدر ويحاول ان يتوسع نسبيا في بيانه.

التفسير النبوي الشامل:

يرى السيد الصدر ان قلّة التفسير المأثور عن النبي (ص) انما هو فيما كان من تفسيره على المستوى العام لمجتمع الصحابة، فلم يكن تفسيره هذا يتناول جميع الآيات، بل كان يقتصر على قدر الحاجة الفعلية، ودليله: ندرة ما صحّ عن الصحابة من المأثور عنه (ص) في التفسير.

غير انه الى جانب ذلك كان ثمة مستوى خاص من التفسير تفرضه ضرورة فهم الامة للقرآن وصيانته من التحريف في معانيه ومداليله واهدافه، فكان (ص) يفسّره على مستوى خاص تفسيرا شاملا كاملا بقصد ايجاد من يحمل تراث القرآن ويندمج به اندماجاً مطلقا بالدرجة التي تتيح له ان يكون مرجعا بعد ذلك في فهم الامة للقرآن.

وهذه النظرية تدعمها حقيقتان:

الاولى: النصوص المتواترة الدالة على وضع النبي لمبدأ مرجعية اهل البيت (ع) في مختلف الجوانب الفكرية للرسالة.

وفي اثبات هذه الحقيقة يكتفي بالاشارة الى حديث الثقلين، وكفى بهذا الحديث دليلا على مرجعية اهل البيت (ع) (اني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي، وانهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض»[84]. وفيه ايضا دلالة على الامر موضوع البحث، وهو اختصاصهم في معرفة القرآن الكريم معرفة تامة شاملة، فهم والقرآن متلازمان لا يفترقان.

والثانية: هي وجود تفصيلات خاصة لدى اهل البيت (ع) تلقّوها عن النبي (ص) في مجالات التفسيروالفقه وغيرهما.

وفي اثبات هذه الحقيقة يستشهد بحديث واحد عن علي (ع)، يصنّف فيه الرواة الى اربعة اصناف حتى ينتهي الى قوله: «وليس كل اصحاب رسول الله (ص) كان يسأله عن الشيء فيفهم، وكان منهم من لا يسأله ولا يستفهم، حتى كانوا يحبون ان يجيىء الاعرابي والطارىء فيسأل رسول الله (ص) حتى يسمعوا، وكنت ادخل على رسول الله (ص) كل يوم دخلة، وكل ليلة دخلة، فيخليني فيها ادور معه حيث دار، وقد علم اصحاب رسول الله (ص) انه لم يصنع ذلك باحد من الناس غيري، فربما كان في بيتي يأتيني رسول الله (ص)، وكنت اذا دخلت عليه بعض منازله اخلاني واقام عني نساءه، فلا يبقى عنده غيري، واذا اتاني للخلوة معي في منزلي لم تقم عني فاطمة ولا احد من بنيّ، وكنت اذا سألته اجابني، واذ سكتّ عنه ابتدأني، فما نزلت على رسول الله (ص) آية من القرآن الا اقرأنيها وأملاها عليّ فكتبتها بخطي، وعلمّني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها وخاصّها وعامّها، ودعا الله ان يعطيني فهمها وحفظها، فما نسيت من كتاب الله آية ولا علما املاه عليّ…» الحديث.

والحديث طويل اخرج اكثره في نهج البلاغة، وقطعة منه في (الامتاع والمؤانسة) للتوحيدي، ولسبط ابن الجوزي اليه طريقان اقصر مما نقله الشهيد الصدر من رواية الكليني[85].

وللحديث في كثير من فقراته ادلّة كثيرة في الصحاح عنه (ع) وعن آخرين من الصحابة:

اخرج النسائي بأسانيد صحيحة عن علي (ع) انه قال: «كان لي من رسول الله (ص) من السحر ساعة، آتية فيها، واذا اتيته استأذنت، فان وجدته يصلي سبح، وان لم يكن في صلاته اذن لي».

وقال (ع): «كان لي من النبي (ص) مدخلان، مدخل بالليل ومدخل بالنهار، اذا دخلت بالليل تنحنح لي»[86].

واخرج ابن خزيمة وابن ابي شيبة والنسائي والترمذي والحاكم ـ صححه ووافقه الذهبي[87] عن علي (ع)، قال: «كنت اذا سألت رسول الله (ص) أعطيت، واذا سكت ابتدأني».

وقد اشتهر عنه (ع) قوله: «سلوني، فوالله لا تسألونني عن شيء الا اخبرتكم، وسلوني عن كتاب الله، فوالله ما من آية الا وانا اعلم: أبليل نزلت ام بنهار، ام في سهل ام في جبل».

وعن ابن مسعود: انّ القرآن انزل على سبعة احرف، ما منها حرف الا وله ظهر وبطن، وان علي بن ابي طالب عنده منه الظاهر والباطن[88].

قال ابن عطية: اما صدر المفسرين والمؤيد فيهم فعلي بن ابي طالب (ع)، ويتلوه عبد الله بن عباس وهو تجرد للامر وكمّله. وقال ابن عباس: ما اخذت من تفسير القرآن فعن علي بن ابى طالب[89].

وقال ابن عباس: والله لقد اعطي علي تسعة أعشار العلم، وايم الله لقد شارككم في العشر العاشر[90].

ومثلة عن عبد الله بن مسعود[91]. وكثير غير هذا مما هو منتشر ومشتهر.

ومن هنا حقق السيد الشهيد فائدتين مهمتين:

الاولى: انه اذا كانت طبيعة الاشياء[92] وشواهد الوقائع والاحاديث لا تسمح بأن يفسر النبي (ص) لعامة الصحابة جميع آيات القرآن الكريم، فانه (ص) قد عّوض هذا بتفسيره الشامل على المستوى الخاص الذي تسمح به طبيعة الأحوال وتشهد له النصوص، فأدى بذلك الامانة تامة في التبليغ والبيان معاً.

والثانية: ان مصدر التفسير عند اهل البيت عليهم السلام انما هو ما أخذ عن الرسول (ص)[93].

وهنا قد يثار السؤال ذاته الذي اثير بوجه التفسير المروي عن الصحابة: لماذا لم يرد تفسير القرآن كاملا عن علي وأهل البيت عليهم السلام بالمأثور عندهم عن الرسول (ص)، فالذي صحّ عنهم من ذلك وان كان اكثر مما صحّ عن الصحابة الا انه لم يستوعب جميع آي القرآن، ولا اكثريتها الغالبة اذا ما توقفنا عند ما صحّ اسناده اليهم فقط؟

لكن هذا السؤال قد اغضى عن حقيقة غير خافية على احد، فافتقد بذلك موضوعيته:

فالآفاق التي كانت مفتوحة على الصحابة الذين نقل عنهم التفسير، لم تتهيأ لأهل البيت عليهم السلام..

وما رواه اهل البيت عليهم السلام من التفسير لم ينقل كله، بل ولا معظمه، حتى ما ورد عن علي عليه السلام، للأسباب السياسية التي شُحنَ بها التاريخ فحرفت مساره عن اهل البيت عليهم السلام قاطبةً.

وما نقل عنهم، حفظاً وتدويناً، لم يبق كله، بل ضاع اتو أضيع منه الكثير في اطار تناقضات التاريخ وحيفه الشديد على اهل البيت (ع) وحملة علومهم وآثارهم. والتاريخ مشحون بأدلة ذلك على امتداد حياة ائمة اهل البيت عليهم السلام بما لا ينازع فيه من له قلب.

فلا مناسبة اذاً بين الموضوعين ليثار مثل هذا السؤال.

التفسير في عصر الصحابة والتابعين[94]

الدور الثاني من ادوار التفسير يبتدأ بوفاة الرسول (ص) ويمتد مع عصر الصحابة الذي يتداخل معه عصر التابعين، وخاصة الطبقات الاولى منهم.

ويحاول السيد الشهيد ان يحدد طبيعة التفسير في هذا العصر والسمة الغالبة عليه من خلال ملاحظته للمحاور التي توزع حولها التفسير والتي كانت موضع اهتمام الصحابة والتابعين. فيلاحظ ثلاثة محاور ئيسية، وهي:

1ـ المعاني اللغوية لمفردات القرآن الكريم. وقد يتسع هذا الباب عندهم الى مقارنة اللفظ القرآني بالكلام العربي من اجل تحديد موارد استعماله.

2ـ اسباب النزول والحواد ث التي ارتبطت ببعض الآيات القرآنية.

3ـ بعض النصوص الاسرائيلية التي تتعلق بقصص الانبياء والامم الغابرة.

ومن خلال ملاحظة العلاقة بين هذه المجاور الثلاث يخلص الينا الطابع الاساس المميز للتفسير في ذلك العصر هو: تحديد المعنى القرآني من الناحية اللغوية.

ويدعم هذا الاستنتاج:

أ ـ غلبة المحور الأول بشكل ظاهر على التفسير في ذلك العصر.

مصادر البحث

1ـ القرآن الكريم.

2ـ الاتقان في علوم القرآن /السيوطي.

3ـ الاستيعاب / ابن عبد البر.

4ـ الاسلام ومتطلبات العصر/ الشهيد د. مرتضى المطهري.

5ـ الافصاح في الامامة /الشيخ المفيد.

6ـ اقتصادنا /الامام الشهيد الصدر.

7ـ الامام الصادق (ع) /محمد ابو زهرة.

8ـ الامام محمد باقر الصدر ـ دراسة في حياته ومنهجه /محمد الحسيني.

9ـ الامتاع والمؤانسة/ التوحيدي.

10ـ اهل السنة والجماعة ـ معالم الانطلاقة الكبرى/ محمد عبد الهادي المصري.

11ـ اوائل المقالات /الشيخ المفيد.

12ـ بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز: مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي.

13ـ البيان في تفسير القرآن /الامام الخوئي.

14ـ تاريخ القرآن /د. محمد حسين علي الصغير.

15ـ تجربتان في التفسير الموضوعي / خالد توفيق.

16ـ تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي.

17ـ تطور تفسير القرآن / د. محسن عبد الحميد.

18ـ تفسير البرهان / البحراني.

19 ـ تفسير القرطبي / ابو عبد الله القرطبي.

20ـ التفسير الكبير /ابن تيمية.

21ـ تفسير الماوردي.

22ـ تفسير المنار / محمد رشير رضا.

23ـ التفسير والمفسرون / محمد حسين الذهبي.

24ـ تكامل المنهج المعرفي عند ابن تيمية /ابراهيم عقيلي.

25ـ تلخيص التمهيد في علوم القرآن /محمد هادي معرفة.

26ـ التمهيد في علوم القرآن /محمد هادي معرفة.

27ـ ابن تيمية.. حياته وعقائده / صائب عبد الحميد.

28ـ حقائق التأويل في متشابه التنزيل /الشريف الرضي.

29ـ الحلّى بتخريج خصائص علي / الاثري.

30ـ حلية الاولياء / ابو نعيم.

31ـ حوار في العمق من اجل التقريب الحقيقي /صائب عبد الحميد.

32ـ خصائص امير المؤمنين (ع) / النسائي.

33ـ دروس في علم الاصول / الامام الصدر.

34ـ الدوافع نحو المادية /الشهيد د. مطهري.

35ـ الرجال /ابن داود.

36ـ الرجال / النجاشي.

37- الرد على الدهرين /جمال الدين الافغاني.

38ـ الرسالة العددية / الشيخ المفيد.

39ـ سنن الترمذي/ ابو عبس الترمذي.

40ـ شيخ المضيرة / محمود ابو رية.

41ـ صحيح البخاري.

42ـ صحيح مسلم.

43ـ الظاهرة القرآنية / مالك بن نبي.

44ـ علل الشرائع / الشيخ الصدوق.

45ـ علوم القرآن / الامام الصدر، والسيد محمد باقر الحكيم.

46ـ الفكر الاسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي/ د. محمد البهي.

47ـ الكاشف في تفسير القرآن /محمد جواد مغنية.

48ـ الكافي/ الشيخ الكليني.

49ـ مجموع الفتاوى/ ابن تيمية.

50ـ محاسن التأويل / جمال الدين القاسمي.

51ـ المدرسة القرآنية / الامام الصدر.

52ـ المستدرك / الحاكم النيسابوري.

53ـ مسند احمد بن حنبل.

54ـ مقدمة في اصول التفسير / ابن تيمية.

55ـ الموافقات / الشاطبي.

56ـ الميزان في تفسير القرآن / السيد الطباطبائي.

57ـ نهج البلاغة / بتحقيق د. صبحي الصالح.

* المدخل

* امل دونه الشهادة

* منهج التفسير واثره في فهم النص

* التجديد في المنهج

* الامام الصدر ومعالجة المنهج

* المعالم الاساسية في المنهج

* التفسير النبوي الشامل

* التفسير في عصر الصحابة والتابعين

* مصادر التفسير في ذلك العصر

* اتجاهات مستجدة في التفسير

* الامام الصدر وتجديد المنهج

* عرض المنهج

* شرعية المنهج

صائب عبد الحميد

* من مواليد مدينة  حديثة ـ العراق 1956.

* باحث اسلامي متخصص بالتراث، يعيش في المهجر.

* حصل على شهادة بكالوريوس علوم فيزياء من جامعة بغداد.

* حفظ القرآن الكريم واهتم بدراسة علومه.

* حقق عدة كتب في التراث منها:

– البرهان في تفسير القرآن للسيد هاشم البحراني.

– مجمع البحرين (معجم لغوي) للشيخ فخر الدين الطريحي.

– المسائل السروية للشيخ المفيد.

* صدرت له عدة كتب منها:

– منهج في الانتماء المذهبي

– ابن تيمية ـ حياته وعقائده.

– حوار في العمق من اجل التقريب.

* نشرت له عدة بحوث ومقالات في الصحف العربية

صائب عبدالحميد

[1] المدرسة القرآنية: 45.

[2] الامام الشهيد الصدر، علوم القرآن: 84 (كتاب علوم القرآن محاضرات القاها السيد محمد باقر الحكيم في كلية اصول الفقه ببغداد ـ والفصول الأولى منه كتبها الامام الشهيد الصدر).

[3] المصدر السابق

[4] مالك بن نبي، الظاهرة القرآنية: 59 ـ 60

[5] د. محسن عبد الحميد، الفكر الاسلامي تقويمه وتجديده، 70 ـ 71.

[6] د. محمد البهي، الفكر الاسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي: 96، تراث الانسانية 5: 445.

[7] انظر: محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية

[8] محمد رشيد رضا، المنار 1:11.

[9] المصدر السابق: 1:17.

[10] المصدر السابق 1:25

[11] د. محمد البهي، الفكر الاسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي: 175.

[12] السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 1:9.

[13] المصدر السابق 1:12،10.

[14] محمد رشيد رضا، تفسير المنار 2:63 ـ 64

[15] المصدر السابق: 2:63.

[16] مالك بن نبي، الظاهرة القرانية: 59

[17] علوم القران: 80 ـ 82.

[18] علوم القرآن: 83.

[19] المصدرالسابق.

[20] انظر: الشهيد الدكتور مرتضى المطهري، الدوافع نحو المادية.

[21] محمد باقر الصدر، الاسلام يقود الحياة: 35.

[22] علوم القرآن: 84.

[23] علوم القرآن: 66 ـ 68.

[24] المصدر نفسه: 72 ـ 73.

[25] المصدر نفسه: 69 ـ 72.

[26] علوم القرآن: 77.

[27] المنار 3:172.

[28] السيد الصدر، علوم القرآن: 76 ـ 77، محمد عبده/ المنار ـ لرشيد رضا 3:172 ـ 174، السيد الطباطبائي/ الميزان 3:22 ـ 25، القاسمي/ محاسن التأويل 4:14 ـ 24.

[29] علوم القرآن: 78.

[30] المنار: 174.

[31] الميزان: 3:25،49.

[32] محاسن التأويل: 4: 23 ـ 24.

[33] التمهيد في علوم القرآن 3:31. تلخيص التمهيد 1:461.

[34] اهم ما في هذا الرأي انه جاء بازاء كلمة التأويل في آية آل عمران التي تردد فيها المعنى بين هذا المختاروبين التفسير.

[35] حقائق التأويل: 128 ـ 129.

[36] تفسير الماوردي 1:371.

[37] علوم القرآن: 78 ـ 79.

[38] علوم القرآن: 79.

[39] حقائق التأويل: 128.

[40] مجموع الفتاوى 3: 54، 17: 400 ـ 419.

[41] الميزان 3:43.

[42] التفسير الكبير 2:231

[43] ابن تيمية ـ حياته، عقائده، موقفه من الشيعة وأهل البيت عليهم السلام: 142 ـ 143

[44] ابراهيم عقيلي/ تكامل المنهج المعرفي عند ابن تيمية: 162 ـ 163.

[45] الشعراء: 195.

[46] الزمر: 28.

[47] فصّلت: 44.

[48] الرسالة العددية: 5.

[49] الافصاح: 177.

[50] محمد (ص): 24.

[51] آل عمران: 138.

[52] القمر: 17.

[53] الامام الخوئي/ البيان في تفسير القران: 281 ـ 291.

[54] التفسير الكاشف 7: 209

[55] دروس في علم الاصول/ الحلقة الثانية: 216،218 ـ 219 دروس في علم الاصول/ الحلقة الثانية: 216،218 ـ 219

[56] المصدر نفسه: 224 ـ 223.

[57] جمال الدين الافغاني/ الرد على الدهريين: 118

[58] المطهري/ الاسلام ومتطلبات العصر: 50، محسن آجيني/ الالتقاط الفكري والتحجر العقائدي في نظرة العلامة المطهري: 144

[59] محمد حسين الذهبي/ التفسير والمفسرون 2:29.

[60] المدرسة القرآنية: 46.

[61] المصدر نفسه: 58.

[62] المصدر نفسه: 60.

[63] المصدر نفسه: 61.

[64] د. محمد حسين الصغير/ تاريخ القران: 156، مجد الدين الفيروزآبادي/ بصائر ذوي التمييز 1:120

[65]. الامام الصدر/ علوم القرآن: 157.

[66] البقرة: 106

[67] الرعد: 39

[68] النحل: 101.

[69] علوم القرآن: 158، بصائر ذوي التمييز 1:118

[70] د. محمد حسين الصغير/ تاريخ القران: 156، مجد الدين الفيروزآبادي/ بصائر ذوي التمييز 1:120

[71] علوم القرآن: 165.

[72] انظر: علوم القرآن: 166 ـ 167، الشيخ المفيد/ اوائل المقالات: 140، د. محمد حسين الصغير/ تاريخ القرآن: 162.

[73] بصائر ذوي التمييز: 117 ـ 118.

[74] علوم القرآن: 162 وقال في هامشه: راجع بهذا الصدد: الفخر الرازي/ تفسير قوله تعالى (يمحو الله ما يشاء ويثبت)، والدكتور مصطفى زيد/ النسخ في القرآن 1:27.

[75] علوم القرآن: 77.

[76] ابن تيمية/ مقدمة في اصول التفسير: 5.

[77] انظر: د. محسن عبد الحميد/ تطور تفسير القرآن: 16.

[78] تطور تفسير القرآن: 18.

[79]محمد عبد الهادي المصري/ اهل السنة والجماعة: 22 ـ 23 اخذه عن مختصر الصواعق المرسلة 2:335. منهم ولم يعدلوا عمّا بلغهم اياه الصحابة؟! هذا ما قاله ابن القيم في تتمة كلامه المتقدم.

[80] النحل: 44.

[81] علوم القرآن: 97

[82] تفسير القرطبي: 1:29.

[83] المصدر نفسه 1:29

[84] اخرجه مسلم والترمذي واحمد وغيرهم: صحيح مسلم/ ح 2408 بعدّة طرق، سنن الترمذي/ ج3788، مسند احمد 2:17، المستدرك على الصحيحين 3،148.

[85] نهج البلاغة/ تحقيق صبحي الصالح: الخطبة ـ 21، الامتاع والمؤانسة 3: 197، تذكرة الخواص: 142، الكافي 2:62.

[86] الخصائص للنسائي/ بتخريج الاثري/ ح112، 113، 114.

[87] المستدرك 3:125، الخصائص بتخريج الاثري/ ح116.

[88] الاتقان في علوم القرآن 4:204، حلية الاولياء 1:65.

[89] تفسير القرطبي 1:27

[90] الاستيعاب 3:40.

[91] حلية الاولياء 1:65.

[92] والمراد من طبيعة الاشياء: مجموع الظروف والخصائص الموضوعية والذاتية التي عاشها النبي (ص) والمسلمون، محمد الحسيني/ الامام محمد باقر الصدر دراسة في حياته ومنهجه: ص 146.

[93] علوم القرآن: 101.

[94] هذه الفقرة في كتاب علوم القرآن هي من اعداد السيد محمد باقر الحكيم، اثبتناها هنا تتميماً للبحث الذي ابتدأه السيد الشهيد، ولأنها لم تكتب بعيداً عنه)