في ظلال الذكرى

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

الحديث عن ذلك القلب العملاق، الذي تمحض صناعة ويقيناً وعشقاً، وتلك الروح السامية التي تجسدت ألقاً وإشراقاً وسمواً، وذلك العقل الذي طلع على البشرية من أفق العلياء نبوغاً وشموخاً واقتداراً، وتلك العزمة الشماء التي انهدت إعصاراً جباراً من صميم الهمة القعساء لليقين الوتر والوفاء الفرد، وذلك الإيمان المتجسم صدقاً وعرفاناً ورسوخاً، فلم يكذب حيث تتهاوى دعاوى الكاذبين، ولم يستشف أو يسبر لأنه محيط هائل بلا قعر ولا ساحل، واندفع ذوباً في مصهر العلقة الرائعة، ومنافسة للأطواد الشامخة في الاستمساك.

الحديث عن ذلك كله صعب عسير لأنه يحتاج إلى حديث الحقيقة التي لا تنطقها الألفاظ البشرية العجم واللغة الشلاء، وهي ليست تألو، على بعدها عن ذلك، جهداًِ في (الفضول والتطفل) للافصاح عن بعض الشعاع الغامر والفيض الزاخر، دأب الكوة والقطرة في الإفصاح عن غمرة الشمس وامتداد البحر، وكما تبقى هاتان عاجزتين عن أن تشيا بأصليهما، كذلك تظل أدواتنا اللفظية على ضعفها المشهود في طوق العجز عن الوصول إلى معالم العظمة في هذا الوجود، كأنها ريشة تروم السبح في الأعصار القاصف، أو عين عشواء تريد أن تسبر بالنظر الواهن أجواز الفضاء، أو يد جذاء همها أن تنوش ذرى الجوزاء.

وإنه لكذلك الحديث عن شهيد الإسلام الخالد، حليف المحامد، الإمام الثائر القتيل في سبيل الله والثورة على الطغاة السيد الصدر عليه تحيات الله وبركاته.

وإذا كان لابد من شيء يعرف ببعض شأنه وفاء لحقيقته الجديرة بالبيان، وإداءاً لواجب العشق له، ذلك الذي ما زلت أحترق بناره مذ عرفته فأحببته، وإعظاماً لذلك الشأن الرفيع الذي يكون عرفانه، والذوب فيه، والترنم بترانيم الوله به، من تعظيم الحرمات المطلوب فرضاً على العباد الذين عرفوا الله وحرمته وأولياءه العظام وحرماتهم، فوقروها وقدسوها وأعطوها بعض حقها من كل جهدهم، وبقى سعي النيات الصادقة في فسيح اللهفات الحرى حافداً إلى نيل رضا الله وعفوه عن القصور أو التقصير.

الصدر شخصية عظيمة من فرائد النفوس العلية، وبدائع الذات الأزلية ارتضاها الله وأرضاها، وحبا بها بعدما حباها، فزين بها فيما زين به الدنيا الشوهاء، وهدى به فيما هدى به في الداجية العمياء.

لقد كان إنسياً طهراً متجرداً كأنه ملاك، وكان روحاً متمحضة للشفافية والصفاء واللطافة، كأنه لم يعرف الجسد الخناس ولا نوازع الوسواس. وكان فضيلة متعالية تزهو في ذروة التسامي، تزرى برذائل الدنيا وطلابها. وكان عشقاً فرداً وسع هواه العذري وجود الغرام والهيام وانماث في سبحات الحبيب الأسمى ولها وتراً ليس له مثيل.

في قلبه حكمة بالغة يفوه بها ضياءاً وبهاءاً، وفي عقله فكر ثاقب يبديه سداداً ورشاداً ودلالة هادية، وفي نفسه شعلة وهاجة من العرفان يلذ بها لذة لا يتسع لها فهم الدنيا، ولا تحيط بها فطنة ذوي الألباب، وفي روحه ضمير حي دائب ووجدان متيقظ حساس يكمن فيهما بمنتهى الحضور والرقابة هيبة ربه وجلاله يحضانه على الخير ويزعانه عن الشر، ويقفان به وقفة عاصمة أو شبه عاصمة عند حدود الله، ويأخذان به أخذاً مقتدراً حازماً إلى ما فيه رضاه.

مقادم الحق هي مهوى سلوكه البديع، ومنازل الصدق هي موضع خطاه النبيلة المقدسة على النهج الرفيع. ومذبح الظلامة المشهودة لم يبرح يسيل عليه دمه الزكي ليملأ راح الشموخ يشمه عبيراً يزدي بكل عبير، ويرفعه إلى السماء تجلةً وإعظاماً، ويستخلص معانيه السامية ليرشها في الآفاق دروساً في الفداء، وآيات للتضحية، ومستثاراً للهمم والعزائم.

الصدر وقدة لا تخبو في قلوب المجاهدين ساروا على طريقه مهطعين، وحسرة ضارمة واصبة في صدور ذوي الأسى المتصل لمأساتهم به. والصدر هو وصل القضية الكبرى بأمها، ووشيجة المعنى العظيم بأبيه الذي ذابت له مهجة السبط الشهيد في كربلاء، ورثه ثقلاً هو تاريخ من الآهات والحسرات، فذاب له ذوباً حسينياً تجددت فيه فصول التهمام والآلام الطفية التي لم يزل فم التاريخ يتلوها آيات من وحي النجدة والفداء للحق المهتضم.

الصدر ظلامة الأولياء لم تعرفهم أيامهم، ولم تخبرهم أقوامهم، ولم ينصفهم الحسد الظلوم، ولم يرحمهم الحقد الغشوم، فعاشوا نبذ الجهل والعداء، وعرامة السفهاء والأشقياء، وتجرعوا نغب المرارات، وأكتووا بنار الحماقات، فصبروا يعلمون الاصطبار دروساً لم يقرأها، ويطلعون عليه بمشاهد لم يبصرها، فيخشع حيران للمشهد العجيب قد طوى دنياه الممتدة فضاء رحيب، أمتد وانداح من تصبر الصدر حتى طوى بيمين الاقتدار كل معاني المرابطة الشامخة، فهي سكرى بصعقة الهول من دهشتها.

لله هو حيث كان في أفانين الغمرات للأهوال، يخوضها بعجائب البطولات النفسية، وفرائد الحماسات المعنوية، فإذا هو على أثباجها المتلظية، وهامات موجها المستعر، صلابة طودية لا تنحني، وعزمة ماردة لا تحور. ركلها كلها بالقدم الثابتة للإيمان الثابت، بعدما قارعها بالجراح النازفة، وثاورها بالكلوم الراعفة. حتى إذا عاد كله جرحاً واحداً تفجرت ثورة النزف فانهد مارد الشهادة من عزة الجبروت يقتحم خضم المحن بلا أدنى مهابة، ويباسل جحافل الشرور بلا شيء من الخوف، ثمة في عالم البأس المطلق، والعزم المستخلص، والاقتدار العجاب محير الألباب ولله ذلك اللواء الرافع الفذ طلع جديداً غريباً وحيداً كأصله، لواء المصطفى، ومشى على الدرب يجدد فصول تلك الملحمة العظمى، ويحييها للواقع بعد إذ هي روايات في التاريخ تقرأ على المنابر.

حار في أزقة النجف كما حار جده في أزقة مكة. وزعق في وجهه الأكابر والأشراف ونبزه الجاهلون بمنكر النعوت، ورماه الحمقى بحجارة التسفيه والتقريع، وعصفت فيه زعازع الصنمية للفكر المتحجر، وعبادة القديم أرث الأولين، وخلق الأقدمين. ولقي من العنت المستشيط مالا قبل لأحد سواه به، وهرع إليه السفهاء بالقوارع، وقعدوا له في مرصد المسأءة، ولم يألوه إلا خبالا، ولم تضق قلوبهم بما طوت من المدى الفسيح من الكراهية والشنآن، ولم تضعف أيديهم عن أن تبسط بالشرور، ولم تتوان أقدامهم عن أن تخطو خطاها المسرعة صوب أذاه، ولم يزل دأبهم التركاض في شؤون الوقفة ضده بألوان ما طلعت عليه من فنونها وشجونها. وخاضوها عليه حرباً عواناً إعلامية ونفسية، وجعجعوا به حتى تركوه رهين شعب الوحدة إلا من صفوة الناصرين، ومنعوا عنه الناس وعونهم، وألبوا عليه أغرارهم، فصيروهم صحفاً تنطق بمثالبة المزعومة ومعايبه المفتراة، ولم يقعد بعض ذوي الأضغان حقدهم اللئيم عن أن يشوا به ويحفزوا عليه همة عدوه، ويشحذوا سيفه الباتر ليقد رقبة من أقض مضاجعهم، وأرق دجاهم، وجعلهم ندي الهم والأسى في ليل طويل ثقيل يسامرون الشبح الرهيب لذلك الرجل العجيب.

ولله هو ذلك الصوت لم أنسه ملائكياً منساباً كأنه همس الندى في السحر، ينسل بهداه عبر حواجز الرين والأوهام يمسح على القلوب بأنواره الحالمة ينقيها من ألواثها، ويجلو عنها أغباشها، ويوقظها رفيقاً وادعاً في عالم الصحو والانعتاق، لتنطلق معافاة نشيطة بروح الصفاء، وقدرة النقاء، تحلق في عوامل الفضيلة الممتدة بلا حدود، المتمادية بلا آماد، الضاربة في أعناق الحقيقة الناصعة الخالصة، حيث التجلي والمثول في لجج الأنوار والبهاء، في أحضان الحياة السامية، في المنأى القصي عن أوزار التراب وأثقال الطين، وكبول العالم الدنيوي، وأغلال الحياة المعتمة الهابطة.

لله هو لم أنسه بريئاً وادعاً قد حفدت إليه الزعجات الوتر، بمعايلها النكر، فمد إليها يداً بيضاء خالية من أسباب المحاجزة والممانعة يذود بها عن قلبه الغافل المحصن، فاستعصمت، تلك بخبثها وشراستها، وانهدمت تلح بطعنها الدارك المتصل على ذلك الفؤاد المتلفع بدرع الصبر العياء الممتنع على البلاء يقفوه البلاء، فما أفادت غير الأرق الشريف، والسهاد المقدس، والدمعة الحانية الرؤوم تذرف أسى وحسرة على الذين يكون ظلمهم له مباءة إثمهم ووزرهم، ودعاءاً خاشعاً عارفاً بلمغفرة ينبعث من نار اللوعة ليحف ظالميه، ونور الرحمة لخبطهم في متاهة البغي والحسد.

تا الله لا أنساه ينطق بالكلمات الهادية، في غربة ضيقة خانقة، لكنها في أمله الباسم فسحة الكون، ويطرح فكره الفذ المجدد في وحدة التفرد ولوازمها من عرامة النسك الجاهل والغي المتهتك ولكنه في اقتدار اليقين والبصيرة والاحتساب كان في عالم الأنس الطافح بنصره الحق الظافر وعاقبة الحقيقة الخالدة وأهلها الكثر شاهدين، أو في أرحام الأيام تتمخض عنهم ولاهاً متيمين، يدينون بأعظم الولاء لعاشق الحقيقة الصابر المنتصر، ويذرفون دموع العشق والعرفان والامتنان، تهجيها قلوب والهة، ونفوس هائمة، قد امتلأت بحب الصدر الذي أبى إلا أن يتقمص الحق في غربته ووحدته وتبعات نصرته، ليكون بعد برهة رابطة محتسية فضاءاً، ممتداً من الأنس للغرباء والمستوحشين وسكناً ناعماً للمرهقين المعذبين، في أطواء وحدتهم وغربتهم. ولا أنساه يتلو علينا بعض النبوءات عن أمرنا كأنما يقرؤها في صفحة الغيب المشرفة في أفق بصيرته النافذة، يحدثنا عن دنيا الرشيد التي كانت تتسع لكل شآبيب السحب الهاتنة تحوزها جميعاً ولا تغادر منها شيئاً لا تصيب دره وخيره، فكان يسخو لها بكل شيء حتى دينه، وعن دنيانا التي عجت بالأوهام، فصلها عن الواقع بعد الحقيقة عن أضغاث الأحلام، لا تعدل مثقال ذرة من دنيا هارون، فنضن عليها بكل ديننا أو الكثير منه، وعن الهوى الهاروني السخي المتربص في ظلمات الأعماق المستترة وراء حجب السر أو سره، الكامنة في نزق الوثبة للنزعات والنزغات، وعشق الزخرف السخيف، خنقتها دون التفجر قصور الأسباب وقضية ( المقتضي والمانع )، فإذا محص البلاء بنعيمه الآسر الأخاذ هنالك تكون آية الصدق والكذب، ويمتاز الديانون – الذين عرك الصبر العملاق دينهم، ونقى بناره تبرهم – من ذوي الأوهام المتدينة الذين أن خنست دنياهم قبعوا متدينين، وإن طلعت عليهم بزبرجها وثبوا متحللين.

لقد امتازت الشخصية الكبيرة للإمام الشهيد (رض) بسمة فريدة وضعته في شغاف قلب المؤمن وإنسان عينه، فالوجد والحرص هناك حليفه المسامر، والوله والأكابر نصيبه الملازم، وهو ثمة زاد الحب والعرفان، وضياء البصيرة واليقين، والنور الهادي على السبيل، حيث اعتكرت دياجير الأباطيل والأضاليل، وأدلهمت ليالي الفتن والشبهات، وتكثفت حنادس الحماقات والجاهليات.

وتلك السمة الفريدة هي سمة ( الريادة ) في أمور هن سنام مجد الإسلام وعزه، جمعن له جمعاً بلطف ربه وبدأبه، حيث حجزن عن غيره حجزاً، وجئن إليه بمشيئة اقتداره مذعنات حيث قعد الوهن بغيره عن أن يظفر لديهن حتى بهاجس التسليم.

وكانت الريادة الصدرية في هذه الأمور المهمة :

أولاً : ريادة الفكر الإسلامي الأصيل، وليس ثمة في بني الأسلام أو خصمائه من لا يشهد لذلك المفكر الفذ بأنه رائد الفكر الإسلامي في كل أبوابه وطرائقه وفنونه، وفي كل مجالات الإسلام الواسعة وشؤون ذلك الدين الحنيف، فهو فقيه وطأ هام الفقاهة بشموخ فذ، وفيلسوف دوخ العقول، وباحث تاريخ يغور في أعماقه يستخلص سننه وقوانينه وكلاميٌ بزّ المتكلمين، ومفكر سياسي بارع صنع الثورة وفجرها في عنف الطاغوت، ومفسر قرآن يسبح بعزمة الفهم والبصيرة في الخضم العباب لنور الكلمات الربانية الموحاة، فيطلع بهن قبسات يبسمن للوجود عن ثغر الجدة والعمق والشمول والانتساب البديع للروح القرآني الرفيع.

لم يدع مجالاً في شؤون ( أيديولوجيته ) العظيمة لم يطرقه، يستثير دفائنه، ويستخرج لآلئه الحسان، ومناقبه الفاتنة، وأياديه البيض على البشرية، بلطف واقتدار، وعزيمة وإصرار، حتى طبق، أو كاد، كل تلك المجالات بحثاً وتنقيباً، وإثارة وطرحاً وبياناً، حيث طلع الإسلام فكر السماء سماوياً يهزأ بتفاهات الأرض، ربانياً يسخر من حماقات المربوبين، علوياً متسامياً صعقت لفرط عظمته سخافات التدني والهبوط، جليلاً مهيباً ذابت لمهابته سفاهات أهل الوضاعة والصغار.

ولم يزل الصدر مع دينه باذل الورد من روضته الغناء، ونافح العطر من جنانه الفيحاء، ومستخرج كنوز عظمتها في القرون المتطاولة، وسترتها عرامات العادين، وحجبتها أستار الشياطين، ولم يزل ماتح الحوض الموصول بالكوثر في كبد النعيم يسقي الظمأى إلى الحقيقة عذبها الشبم الزلال لينقلبوا وقد نقع غليلهم بعد أن أحزبهم صدى الهواجر وعطش الجدب والمحول. وإنك لترى الإسلام الأصيل طلع به فكر الشهيد الصدر على العالم مثار العجب به ومنه الدهشة لروعته، والحيرة من أعجازه وإفحامه، قد حظي بالرضا والقناعة في العقول والقلوب فحازها احتياز الفاتح الظافر، وحركها ببأس اليقين الكبير لتعطي عطاءها.

وامتد فتح الفكر الصدري تياراً مارداً أخذ على الضلالات الوافدة كل الآفاق فهي مدحورة مخذولة، واستبانت وضيعة زائفة لا تقدر يدها الشلاء على دفاع، ولا يحير لسانها الألكن نداءاً. واعتلى الصدر منبر الريادة الفكرية في عالم الإسلام المعاصر ملاكاً مقدساً، ورائداً هماماً، تسمرت به العيون، وذابت فيه الأفئدة، وانغمست الأرواح في أنواره، يهذبها، ويصقلها، ويجلوها، ليبديها صنائع البر واللطف، وعطايا الفضل والإحسان.

لقد كانت معالم العظمة في فكر الشهيد الصدر تتجلى في أنه كان فكراً أصيلاً لم ينبع إلا من أصله الصحيح لم يجانفه مجانفة عامدة أو ساهية، ولم ينحرف عنه لأنه نظر بعينه واستهداه، فما شطت به قدماه إلى سواه، ولم يدخل فيه ما ليس منه، لأن صارف التقوى المقتدر، وعبقرية الكشف والتمييز عصمته من مساءة ذلك الزبغ، ولم يمزجه بشوب مما سواه، ولم ينقصه بزخرف مما عداه. بل كان هو فكر الإسلام كما جاء به الوحي نوراً هادياً، ودلالة مرشدة، وسداداً عاصماً.

ولقد كان فكره، فوق كونه شمولياً مستوعباً، إنه تميز بالعمق، فله غور بعيد المدى، تكمن فيه العجائب، وبالمتانة، فكان رصيناً شديد القوى، عيث بمنافحته الحلوم المقتدرة، فقعدت أسير العجز والحيرة.

وتلتمع في فكره الفذ نزعة الكشف والإبداع، والبحث عن الكنوز الدفينة، ولقد عافت نفسه الرضا بالمطروح. واجترار المألوف، وأخذ ما تعاقبت عليه الأزمنة أو تسالم عليه الأكابر أخذ المسلمات، وكانت روحه تواقة طلعة إلى معرفة ما في الإسلام من عظيم شؤونه ومواهبه وسني عطاياه، وعجيب أسراره في الفلسفة الكونية، والعقيدة والنظام، وعظمة التشريع، ووحدة المنهج وتكامله، وسيرة القادة الهداة ( الأئمة ) في الثورة والإصلاح، وطريقهم المدروس ( إن صح التعبير ) في القيادة، وتناهضت قوى العزيمة الثاقبة، وإصدار القلب المشوق، وعشق النفس الوالهة، والألق الفكري المشهود، على أن تكون له جناح نسر عملاق يحلق بها في سماوات دينه الممتدة المتمادية، فإذا به قد بلغ الكثير مما يحب، فسكن قرير العين، راضي الروح، منشرح الصدر، بما حظي به وأحظى من جزيل النوال وعظيم المنال، ونزعة الإبداع تلك يحسها المتطلعون في مسيرة الصدر الفكرية البديعة في جل ما طلع به على دنيا المسلمين من مواهب الدين العظيم، وتتجلى تجليها الطوري الصاعق في كشفه أسسه المنطقية للاستقراء، والنظرية الاقتصادية في الإسلام، وفلسفة المنهج القيادي عند الأئمة الميامين.

وكان من أروع ما في منهج الصدر الفكري أنه منهج المنطق والبرهان، فلا تجد في ما يطرحه الصدر إلا أموراً مبرهنة مستدلاً عليها، معاضدة بالدليل، مدعومة بالحجة، حتى في تلك التي سموها ذوقية وجدانية أو عقلائية، فقعدوا وانين أو عاجزين في إقامة برهانها، وكان الصدر البرهاني عتيد الدليل حاضره، تتفتق قريحته المبدعة عن طرائف النكات الاستدلالية. وقد اعتبره العارفون لهذه الخصيصة في مبهجه أنه مدرسة إسلامية قامت على المنهج المنطقي والدليل العلمي، مدعوماً بما ابتدعه من طرق الاستدلال الذوقي والعقلائي، فإذا هي مدرسة برهانية متكاملة تدهش العقول لعظمتها وإعجازها.

وكانت خصيصة الاستيعاب لدى ذلك الإمام الهمام في منهجه الفكري خصيصة عجيبة، فلم يكن ليذر موضوعاً يطرحه، حتى ولو كان اعتيادياً، دون أن يتعامل معه تعامل الطبيب الجراح، فيروح مبضعه المرهف يمشي في أجزاء الموضوع ( الاحتمالات ) يتفحصها تفحص الشفيق الدقيق، يبحث فيها عن السر الكامن حتى يبلغ المرام في سيره، وبذلك كان الصدر منهجاً فريداً في روح الاستدلال والاستيعاب والطابع البرهاني الشمولي، وبهذا كانت ريادته للفكر الإسلامي ريادة شهد له الجميع إنه فارس الصيال في حلبة النزال، وغالب الأقران إذ استعر الميدان، وإن ثورته الفكرية هي أعظم ثورة فكرية في الإسلام بعد ثورة الوحي والتنزيل، وهبوط الفكرة السمائية إلى الأرض، وهي وحدها تجسد عظمة ذلك المنهج الرباني، ونشأته الإلهية، وإعجازه الجبروتي واقتداره المذهل، وحقيقة النبوة والأنباء، ووحي السماء بالمنطق القويم، والبرهان القاطع، والبينة الدامغة، والحجة الواضحة، بعد أن كان أكثر أمر الدليل على ذلك يلوذ بالوجدان، ويهرع إلى التسليم والإيمان، وفريضة الإذعان، ويهرب إلى المدعيات العرفية والذوقية، والمرسلات العقلائية، بلا سند مقبول، ولا دليل معقول، وأصبح الوجدان لدى الصدر منهجاً استدلالياً يحفل بنكاته الطريفة وبراهينه الظريفة، وأصبح الذوق العقلائي والعرفي في عالم الصدر جنة برهانية فيها ما تلذ الأعين وتشتهي الأنفس من نعم الأدلة والحجج، تلوي إعجاب القلوب إليها، وتنحو بإذعان الألباب شطرها.

ثانياً : ريادة الحالة الثورية في العراق. وتلك سجية كبرى من سجاياه العالية، نهض به إليها عزم الإيمان الصادق العاشق، يظاهره الوعي المكين المتين بمطالب الدين المبين، تعضدهما روح رافضة أبية، ونفس شامخة علية، تأبى أن تذل للجناة، أو تركع للطغاة، أو تسكت على الضلال الذي راح، والإسلام في عزلته النكراء في طوايا الحجب والإقصاء يتولى الأمور مهيمناً، مدبراً، قد ثنيت له وسادة الحكم، يقضي بالغي، ويحكم بالجهل، ويسوس بالعمى، ويهدي بالضلالات إلى الشقاوات، قد أحمى مواسم الكفر والإلحاد وانتضى بواتر العنف والفساد.

واندفع الصدر السياسي الثائر البارع إلى المقاومة السياسية والرفض الثوري، وتحركت قواه على قلتها وشدة العداء من حولها تعمل في الساحة السياسية العراقية تدعو سراً وإعلاناً إلى هدى الله وشريعته وتحكيم دينه. وانطلق الصدر المدبر، بأساليبه البارعة، إلى تحريك الأمور المتاحة إلى الهدف المنشود، وتوجيه دفة العمل السياسي الإسلامي إلى المقصود، بحكمة بالغة وتدبير ذكي، واقتدار قيادي جلي.

وتميزت الريادة الثورية الصدرية هذه بأنها ريادة الوعي البصير العارف الذي أحاط بقضيته وهدفه وطرقيه علماً، واستغرق آماله الكبيرة تفاؤلاً، وآلامه المتوقعة استعداداً واحتساباً، وجهوده المطلوبة عزماً على البذل، واحتراقه للشأن الكبير فيه ثباتاً إبراهيمياً، وطول المسير مع المشاق الجسام صبراً محمدياً، واستدعاء المحن الفواقر لوازمها عند الثائرين شجاعة علوية، وما انفك في لهوات العناء الجائح صلداً كأنه الطود، آملاً كأنه قد عاين حصول الأمر الرغيب للإسلام، أو أداء الوظيفة المفروضة بالجهاد، صابراً قد تجلبب الصبر درعاً دون فت العاديات في عضد الوقوف والثبات، عاينته المحن والآلام فهش لها واتخذها سميراً مؤنساً، واشتجرت عليه رياح الإيذاء فسكن إليها ظلال جنة فيحاء، ودوت في أذنه الرعود القاصفة للتبريح فأحالتها البينة من الأمر مع الصبر والاحتساب أنغام وعود حالمة بالغلبة أو الشهادة، وأجاءته الصروف القاهرة مجعجعة إلى السجون والترهيب فحولها التأسي بالآباء الطاهرين قرناء القيود والطوامير محاريب عبادة، فيها ذوب العرفان وسكينة الوجدان، والفراغ المشغول بذكر الرحمن.

وامتازت ريادته تلك بأنه ريادة المحيط بأمور الزمان، الملم بشؤون الواقع، البصير بما يكتنف الدنيا وقضيته وما يدور حوله من الأوضاع، وما تستدعيه من المواقف والخطط والتدبير المحكم.

وكان أعلى السجايا في ريادته ( التصميم القاطع على الشهادة ) فكان القتل الذي هو غاية الفتل في كبد الظالمين محبوبه ومطلوبه، ومن كان ذلك مشتهاه فقد رأى في مقدماته من الكروب بشائر زاهرة تطل لها ضاحكة من وراء الغيب طلعة بهية هي طلعة الخلود المأنوس في رحاب المقام الأسمى، ومن رأى ذلك في مصائبه وآلامه فماذا ينتظر منه الجناة المفسدون وهم يكيدونه إلا المحير للعقول من الرفض والعناد، والآخذ بمجامع الأفئدة من الإباء والإصرار. لقد راد ركب الاستشهاد مذ صرخ في وجه الطغيان المهول هولاً مدمدماً، فباء منه الظالمون بالخطب العياء، وسرت أنفاس رفضه العابقة في قفر الهمود، فأعشب روضاً طافحاً لينع الفداء، ودوى بركاناً ذلك الصوت الصدري المهيب أن لابد من دم طاهر مهراق يجري حياة في الجدب يروي ظمأ الحق المضام من مهجة البذل، وينقع غلة الإسلام إلى روح التضحية التي جبل على أن لا يعيش إلا بها، ولا يقوم إلا بطاقتها، ولا يثاور إلا ببأسها.

والتمعت له في الأفق البهي بسمة الشهادة ساحرة فاحتبلت روحه وارتهنت لبه، وفاح عبيرها الآسر وتشممه فأخذ بمجامع قلبه، وطلعت عليه من جنة العلياء بهجتها النوراء، فسلبته التفكير فيما سواها. وأحاط به دهره أهاب الشهادة بكل معانيه السامية وألوانه الزاهية، واستغرق فكره الرافع من تصميمه ( أنه قربان الرسالة ) فما زال والمنحر المقدس الذي يستسلم عنده لسلطان الوفاء بالعهد الأسمى ماثلاً لعينه كأنه قد نبت في إنسانها، حاضراً في خاطره حضوراً متصلاً بلا انقطاع ولا نفاد، فهو قبل الشهادة، شهيد حي ينطق، وقتيل يسعى، لكأنه والشهادة كمن قد نالها وسما في معراج مجدها إلى سبحات بارئها، تجلله الكرامة والبهاء، وتغمره الأنداء والآلاء.

ثالثاً : ريادة الحركة التجديدية في الحوزة العلمية، فقد أوجد الشهيد الصدر ( رض ) منهجاً بديعاً لسير هذا الجهاز الذي يرى فيه أنه القلب النابض في الأمة، يجري منه في عروقها دم الهدى والرشاد، ويفيض فيها روح الوعي والسداد، ولو أن ذلك القلب امتلأ بالدم الجديد الذي احتلبه له الصدر من قلبه وعقله، وعج بتلك المشاعر الرفيعة والأحاسيس السامية التي هي مشاعره، رضوان الله عليه، وأحاسيسه لألفيت ذلك الزعيم المجدد قد اكتحلت عينه قريرة بمرود الأماني الجسيمة المتحققة، وبات ناعم البال خليّهُ من البلبال، بأخذ الحوزة للمقود والزمام، وادائها واجب التصدي والقيام. ولقد تجسدت ملامح التجديد في حياة الشهيد الصدر في الحوزة العلمية بأمور جمة نجملها فيما يأتي :

أولها : المنهج الفكري الخاص القائم على السجية المنطقية والنزعة البرهانية، والاستدلال الذوقي والعقلائي، والنهج الموضوعي الفريد في الاستظهار الفقهي، وكانت بحوثه ودراساته الأصولية والفقهية بنهجه الفكري الخاص ذلك مدرسة جديدة طلعت على عالم الحوزة من مجتهد شامخ الرأي لا ينحني للنقد والتفنيد لأنه رشيد سديد، ثاقب النظرة لا تفوته دقائق اللفتات، واسع المدى بشمولية مشهودة، وموسوعية محمودة، دقيقاً متناهي الدقة، لا تغرب عنه حتى صغائر الاحتمالات، فهو رائد ( حساب الاحتمال ) متين القوى، لا تستعصي عليه أشد المستغلقات، مهيب الفكرة كأنها هبطت من الغيب، موضوعي الطرح قد تنزه عن أوهام الخيال، منهجي البحث مغرم بروح الاستدلال البديع، شغوف بنزعة الكشف والإبداع، فريد فيما يهب عقله الصناع، قد مازج بين المنطق والذوق ممازجة فريدة وحيدة، وألف بين الجنبة العقلائية والنزعة البرهانية، تأليفاً قد أنفق غيره أعمارهم الزاهرة دون أن يخطر على بالهم، فضلاً عن أن يتحقق في واقع دراستهم وبحوثهم.

وثانيها : الثورة على القديم في أوضاع الحوزة ومسارها وأخلاقيتها التليدة، وقد أخذت هذه الثورة أبعادها على النحو الآتي:

الثورة على الوضع الدراسي بشقيه : مادة الدرس ونظام التدريس، وقد استغرق هذا الأمر الكبير من الشهيد ( رض ) فكراً طويلاً ووقتاً كثيراً، وخطا فيه خطوات مهمة واجهتها الصعوبات والمشاكل، وحفت بها الأزمات والعراقيل، لكنها مشت بقوى الصواب والسداد، لا تحفل حتى أفلحت في أن تصيب حظاً كبيراً مما يؤمله باريها ومبدعها.

الثورة على القانون الألوف بأبعاد الحوزة عن شؤون التصدي لريادة الأمة وقيادة المجتمع، وقضية الاستعداد لملء الفراغ الفكري والسياسي على هدى الإسلام، وحمل راية الجهاد ضد الطغاة والمستبدين، والمناداة بمبدأ تحكيم الشريعة السمحاء. وقيادة الفقيه البصير العارف، وترتيب وضع الحوزة على حال يلائم هذا الدور الرائد ويوفيه مطالبه، ويتحمل أعباءه وآلامه، إذ الحوزة ليست إلا مدرسة النبوة والإمامة تنجب خلائف الأنبياء والأوصياء، الذين هم قادة البشرية، وساسة الناس، وأولياء أمر الأمة، وإن الحوزة يجب أن تكون فارس الإسلام الصائل الذي يذب عنه العاديات، ويدفع عنه الأرزاء، ويصونه من الأذى، ويرفع لواءه الوضاء منطلقاً به يخفق بأنواره في أرجاء المعمورة يجلو دياجيرها وعشاها، ويمحو تيهها وعماها، ويهديها مواضع الرشد في خطاها. ومن هنا دعا ( رض ) إلى أن تواكب الحوزة الحياة الصاعدة، وأن تتطلع فيها بعمق، وأن تتعرف كل عظمة الإسلام ليمكنها من ذلك أن ترد كيد التيارات الوافدة، وتبطل مكر الحماقات المستشرية، وتفضح الزيف، وتسقط الأقنعة، وتبدي الحقيقة الناصعة أجلى من الشمس، وتشرق بها على الدنيا شروق صبح مسفر.

وكان هنا في ثورته على النهج الدراسي أن دعا إلى أن يطرح في الحوزة من الدروس ما يتماشى وروح العصر، وما يمكن الحوزة من مجاراة الواقع والتصدي لصياغته صياغة إسلامية بوعي شامل كامل : ( كل معالم الحقيقة وأضدادها، الإيمان والإلحاد )، ( الإسلام والنظم الأخرى )، ( تفصيلات الشريعة وأحكامها )، ( القيادة الرشيدة والقيادات الزائفة ). وقد دارت كل مساعيه الميمونة وكتاباته المباركة في فلك هذه الشؤون الكبيرة وتمحورت لها، وتمخضت جهوداً جبارة في إطارها فجاءت بالعجب العجاب.

الثورة على الكيفية والطريقة التي ترتبط بها الحوزة بالأمة، والأسلوب الذي يتم من خلاله وصل الناس بالمرجعية، ونوعية الأفراد الذين يقومون بهذا العبء العظيم، وهم رسل الحوزة إلى الساحة ومبلغوها فيها، وأسلوب تعامل هؤلاء مع الجماهير، فحيث كان الوكيل هو ممثل المرجع المعين يتحدث بأسمه، وينشر فتاواه، ويجمع الحقوق الشرعية له ويقتات من إحسان المحسنين، على دأب واحد ن عمله هو إمامة الناس في الصلاة، وبيان الأحكام، وحل مشاكلهم التي لا ربط لحلها بالمؤسسات الرسمية، وإنجاز العديد من أمورهم التي تحتاج إلى الرأي الشرعي، وجمع أخماسهم وزكواتهم وما إلى غير ذلك مما لا يعدو هذه الدائرة الضيقة التي أعلن الصدر أنها الجزء الضئيل الهامشي في الدور الحقيقي لرسول الحوزة الهادفة وممثل المرجعية الرشيدة، وأن هناك الشيء الأهم في ذلك الدور، وهو التصدي القيادي نيابة عن قيادة المسلمين التي بعثته وكيلاً عنها، والتمهيد لعملية التغيير الكبرى والطرح البديل العظيم، وهذه الوظيفة تستدعي رجالها الأكفاء الذين تسلحوا بعمق الإيمان بها، وعمق الإدراك للمسؤولية، وآمنوا بالهدف الأسمى، وتدرعوا بالوعي الكبير بدينهم، وبما يحيط بهم، وبشؤون مجتمعهم، وهذا لا يكون إلا حين تكون المرجعية التي تبعث رسلها إلى الناس مرجعية رائدة، متصدية، واعية بصيرة، مؤمنة بالتصدي، مستعدة لتحمل أعبائه، غير حبيسة في طوق الفتوى والبحث الخارج، والصلاة، وجمع الحقوق الشرعية، ولمّ شمل الأعوان والحاشية والمريدين، وترتيب أمورهم، والقيام بالمشاريع التي تدعم الوجود الخاص.

وكان (رض) يوصي الوكلاء – لحفظ شخصيتهم واعتبارهم في جماهيرهم – ألا يقتاتوا مما يهبه لهم المحسنون ولا ينتظروا من الناس أسباب عيشهم، وأن المرجعية يجب أن تؤمن لهم الأمر الكبير، وأن تعزز مقامهم في الأمة بترفعهم عن الاحتياج المادي إليها.

وكان يعطي وكلاءه ما يكفيهم لتأمين عيشهم بل واعانة المحتاجين من أبناء مناطقهم. وكان أمراً رائعاً لوى أعناق العجب إليه، ومنح من فضله الوكلاء العون على أن يحفظوا عز شخصياتهم من أن يذال بالافتقار إلى ما في أيدي الناس.

وكان ( رض ) يحصن وكلاءه بسرابيل واقية من الرفض لما في أيدي الظالمين وأعوانهم وأن مدوها هم ملتمسين القبول، ورفض إلتقائهم مهما كانت الدواعي لذلك تبدو بظاهر الصلاح والسلامة والجدوى، وما ذلك إلا لأنه يريد الوكلاء أن يتحسسوا بالتجسيد أنهم نواب القادة الحقيقيين الذين كل من عداهم قادة مزيفون، ويتحسس الناس بالواقع الحي، أن هناك بوناً بعيداً، نفسياً وجسدياً، بين قيادة السلطة الحاكمة وأذنابها من جهة، والقادة الواقعيين وممثليهم من جهة أخرى، هذا والكثير غيره كان من مضامين النهج الرائع الذي خطه الصدر لرجال الحوزة المخلصين لدينهم وقضيتهم، فمشوا عليه، فسطروا، على قصر المدة، أروع المواقف الإيمانية الجهادية، وكتبوا بالصبر والمصابرة دروساً لا تنسى عن التضحية والفداء والعطاء على منهج الصدر.

لقد كان الوضع الخلقي للمرجع الشهيد ( رض ) ثورة على القديم المألوف في الحوزة، وكانت فضائله ( قدس الله نفسه الطاهرة ) انتفاضة عظمى هزت ركام المعتاد الجاثم على سمعة الحوزة واعتبارها، فانبعثت من تحته شخصية جديدة اسمها ( المرجعية المؤهلة للقيادة المتصفة  بصفات القواد الصالحين السائرين على خط أهل البيت ). وقد حفدت القلوب مشوقة والهة إلى احتضان هذه المرجعية والذوب في تقديسها وإجلالها واستذكار الملامح النورانية لأسوتها وأصلها، وإبداء الأهمية الكاملة لتفديها والتضحية في سبيلها على طريق هدفها، لقد أشرقت تلك المرجعية بخصائص الزهد في الدنيا، والانصراف إلى شأن الجهاد وإعلاء لواء الإسلام، والاهتمام بشؤون الفضية الإسلامية الكبرى في العالم عموماً وفي العراق خصوصاً، والتواضع الفريد الذي شهد له بأنه عظيم النفس، إذ هو يرى أن الشخصية الكبيرة إنما تعظم بشموخها الذاتي، ودواعي العظمة الواقعية، بالعناوين والألقاب والمظاهر، فكان أبغض شيء إليه أن يرى من مشاهد التعظيم له أو يسمع من كلماته، حتى أنه كان يأبى أن يسجل على كتبه التي يزهو بها الفخار توج بها رأسه غير اسمه المجرد دون زوائد يراها لغواً فارغاً تمقته نفسه العالية المترفعة.

وإذا أحست النفس الصدرية العظيمة المدركة أن لها ما يميزها عن غيرها من خلال العظمة – عظمت فيها روح المسؤولية فزادتها أملاً وهماً وسعياً، ونشطت همة الشكر والثناء لواهب ذلك العطاء، وزادتها خشوعاً وضراعة وانقطاعاً، فأنى لها بعد ذلك أن تنازع الله رداءه، أو تستعلي على عباده وقد أمرت بخفض الجناح لهم، وقد أئتمنت على استصلاحهم وهدايتهم.

كان من سجايا مرجعيته الكريمة الانفتاح على أبناء الأمة على مختلف أوزانهم وأقدارهم، والحديث البشوش مع صغيرهم وكبيرهم، ومخالطتهم مخالطة الأب الشفيق الرؤوف يحنو عليهم، ويسعهم بأخلاقهم الرفيعة، ويسقيهم من معين ألطافه وشفاقيته وخفض جناحه كؤوس الارتياح والانشراح، لم يحجبه عنهم حاجب، ولا سدل بينه وبينهم ستار، ولا طوح به عنهم طلب الراحة ونشدان العافية، فهما مقرونان برؤيتهم وراحتهم وعافيتهم.

وكانت سجية المعاناة في سبيل الله وللقضية وللأمة، وخوض غمرات الآلام، وتجرع مرارات التهمام، ومكابدة أغلال المعاصم، وأطواق السجون، وسماع قاصف الوعيد والتهديد، والملاحقة والمراقبة، ومطاردة الاتباع والإشياع، كل أولئك كان دليل الإكبار إلى نفوس الناس يجتازها لهذا المرجع المكابد قد جفا الراحة مذ رآها عناء دينه ومتاع الغافلين، وقلا العافية مذ أبصر بلاء القضية، وحلية طلاب الدنيا، وباين الأمان والقرار حين أحس أن قضيته مروعة مكروبة.

وكان معلم الشجاعة والإقدام من معالم عظمته الشخصية التي حببته إلى القلوب، وأمكنته من أزمتها، وقد كان جريئاً مقداماً باسلاً يصرخ في الباطل، ويزعق في وجه الفتنة، وينادي برفيع النداء، يدعو إلى هدى السماء، ويحرم طريق الظالمين، ويجعله من الركون الشائن والغي المبين، ويفجر رعوده المزمجرة في الطواغيت تصك أسماعهم، وتنهر عروشهم، وتنآى عن عيونهم بطيور الكرى، في سهاد مر ذميم، لا يبرح ولا يريم، ويغرقهم في خضم الأهوال حين يعلن النصرة والولاء لدولة الإيمان التي قامت على ثرى إيران، غير هياب من غب ذلك، وهو يعلم أن فيه مضاعفات الأوصاب والأتعاب، وأنه المرشد الهادي إلى قعر الزنزانة أو عناق السيف أو مساورة الكربات والنكبات.

كان ذلك الثائر أبياً، رافضاً، لا يذعن للظلم شيئاً من الأذعان، ولا يلين للبغي نزراً من اللين، ولا يداهن، ولا يصانع، ولا يضارع، ولا يحابي، ولا يراجي، ولا يتقي كغيره، إذ صارت التقية عنده أكبر المناهي والمحرمات، وغدت المجاهرة بالعداء والسطوة أعظم الفروض والواجبات، ولا ينزغه التسليم بنزغٍ يستعيذ منه بالمقاومة والثبات، وأن فعل فحسبه بهذين ملاذاً ومعاذاً ولا ينفث في نفسه خناس الإعطاء باليد هواجسه ووسواسه، فبيعته للإباء الطفي في حماسة عاشوراء بيعة واثقة لا تنكث، وقد شغف الأباة الأحرار بهذه السجية الصدرية، ودانوا لصاحبها معظمين مبايعين، وأولوه الإكبار الفرد، والوفاء الذي لا شفع له، ومشوا قبله وبعده على منهجه إلى السجون والمقاصل، كأنهم الرواسي الشم رسوخاً وثباتاً، قد تأسوا بسيدهم فأحسنوا التأسي، واحتذوا مثاله فأجادوا الاحتذاء.

وكان في صفاته الباهرة ( طاب ثراه ) أنه مرهف الحس الإيماني، كأنه مذاب أحاسيس، شفيف الشعور رقراقه لله وللمحرومين، واثب القلب للانفعال والتأثر في حلم الإسلام والمسلمين، كأنه لم يعرف التجلد والاصطبار، غريز الدمعة لنكباء الأمة وحوازبها، كأن دأبه تهتان ماء الشؤون، فائر الزفرة تتلظى بين جنبيه وقدتها، سريع العبرة، كأنه قد اضطمت جوارحه على قلب والهة ثكلى تحرك الشجن المستفحل يستثير المآقي ويحفزها إلى البدار، وحين تراه كذلك تعجب منه وله حين تراه في مواضع أخرى عصي الدمع رابط الجأش صخري الإحساس، وحين تسأل الحكمة البالغة عن المغزى تجيبك أن الصدر ذوب شوق وضراعة، وضرام عشق وعرفان، وانمياث حب ووفاء لربه ودينه وأمته، فما له لا يبكي ويأسى، وتحترق أحشاؤه بنار مشاعره وأحاسيسه المرهفة، وهو مع ذلك منتهى اقتدار الامتناع على الحزن والأسى، عيت به سطوة الشجون، وغاية سعي القسوة الأبية والعناد الرافض، استعصى حتى على ريب المنون، ووسع هذا الفضاء الممتد جموحاً وتجلداً وبعداً عن التأثر والانفعال خوف غب الشماتة من الأعداء والمساءة للأولياء، وحيث يكون ذلك هو مصلحة الدين، وغبطة القضية، ورغيب السياسة الواعية المدبرة، ومطلوب فرض المؤمن أن يكون بإيمانه واحتسابه وصبره وقوراً في الهزاهز، صلباً في العاديات، جميع الفؤاد في المحن، ساكن النفس في الكربات، لا يذل عزمه للفواقر المنكرة، ولا تلين قناته حتى لما يذيب الجلاميد من الخطوب.

إنها الحكمة الصدرية التي تدري ببصيرتها الثاقبة كيف تضع المواقف وتجسيد الأحاسيس مواضعها، وتصيب في حسن تصريفها وتدبيرها مواطن الرشد والسداد، وإذا ظاهر هذا غيره من فضائل الإمام الشهيد ومحامده التي طلعت شموساً زاهرة كان ذلك أدعى لبيان حقيقة تلك الثورة الصدرية الباهرة التي صنعتها شمائله السامية، وسجاياه العالية، في وجود الحوزة العلمية.

السيد فاضل النوري