مسألة العلاقة بين السيد الشهيد والإمام الراحل رضوان الله تعإلى عليهما، انعكاس ناصع للنظرة العقيدية والسياسية التي حكمت كل العملاقين، وهي جزء من رؤيتها للإسلام، والثورة والحياة، ولدى تتبعنا لحركة هذه العلاقة نكتشف أنها كانت تسير منذ البدء في إطار حركة الثورة والجهاد والمساعي الدؤوية لإعادة الدور الحضاري للإسلام ومن هذه الحقيقة ابتدأت وفي أجوائها تطورت ونمت تنشد الكمال حيث نشد الإسلام غاياته وأهدافه، فهي لم تكن علاقة أستاذ بتلميذه وليس هي أيضاً محكومة بقواعد أكاديمية أو حوزوية كما هو شأن الطلبة مع بعضهم، وإذا هي لا تكون كذلك يعني أنها خارجة عن إطار السياقات الطبيعية والتأريخية التي تحكم كثير من أفراد البشر في علاقتهم مع بعضهم وجدانياً أو رحمياً أو حياتياً، فليس بين السيد الشهيد والإمام الخميني من عوامل الربط والارتباط ما يكون خاضعاً بحكم العلاقة إلى عمليات البلورة والتطور التي يخضع لها عادة أحد طرفي العلاقة من قبل الطرف الآخر لتنتهي إلى الذروة والاندكاك بشخصية الطرف المؤثر وأهدافه ومناهجه.
فحينما ننظر إلى الإمام نجد أن كثيراً من مريديه والمتأثرين بشخصيته هم من أبناء وطنه وينطقون بلغته ويحظرون درسه وينهلون من مناهجه وسيرته ويخضعون لتربيته، فهم إذن صنائعه الذين توجهت في نفوسهم الثورة والمعرفة فأمست كالمرأة التي تعكس ضوء الشمس الساقط عليها، ونظرة سريعة إلى رجالات الإمام والثورة الذين تشربت نفوسهم بحبه وأفكاره والذين تساموا في حركة الثورة والجهاد، فذهبوا إلى بارئهم شهداء من أمثال الشيخ المطهري والشيخ مفتح والسيد بهشتي وغيرهم، تتضح لنا تلك الحقيقة، حقيقة أنهم كانوا في دائرة الجذب المستمر والعطاء الدائم للقائد الإمام، فهم إذن طلبته ومريديه وأبنائه وبالتالي هم يديه التي يبطش بها ومفاصله التي تتحرك وتحرك الأحداث والثورة، أنهم عشقوا الإمام في سياق حركة المعرفة المعاشر والدرس واللسان والوطن فتوجهت نفوسهم المستعدة للطهر بالعشق والعرفان والثورة، ولكن واحدة من هذه العوامل لم تكن لتحكم في ما بين السيد الشهيد والإمام الراحل، وكان لابد من البحث عن جدلية هذه العلاقة وما هي حركيتها التطورية وفي أي موقع استقرت؟ ولعل في الإجابة على هكذا سؤال تتضح لدينا عمق النظرة وتكامليتها لدى طرفي العلاقة. وتنكشف لنا أيضاً بأن العلاقة بين العظماء تبدأ في الوهلة الأولى من الذروة وتستمر على الذروة إلى النهاية وهي بهذا تتحرك من أعلى إلى أعلى وليس في كينونتها نسغ تصاعدي من أسفل إلى أعلى كما هو شأن الآخرين في علاقاتهم عوامل تركز العلاقة بين المرجعين وممكن حصرها في عاملين أثنين يرجع لهما الفضل في تركيز وتنمية هذه العلاقة بينه السيد الشهيد الصدر والإمام الخميني (رض)، أحدهما كامن في شخصيتهما والآخر في الواقع.
العامل الأول، نظرتهما إلى حركة الإسلام في واقع الحياة وإخلاصهما للرسالة: تميز السيد الشهيد والإمام الراحل ومنذ مطلع عمريهما باستيعاب حركي ومعمق للإسلام فلم يروا فيه إلا حقيقة للحياة تنظمها وتحدد مسارها وأهدافها وتشبع حاجاتها، وهم إذ يرون الإسلام من واقع هذه النظرة الواعية والمتحركة تلمسوا في إطارها كل الطرق والوسائل التي من شانها أن تعيد ذلك الدور الحضاري للرسالة، وكان أول الغيث أغنائهما المكتبة الإسلامية بالنتجات النظرية والمعرفية التي اعتبرت في وقتها شيئاً جديداً، فكتاب اقتصادنا وفلسفتنا للسيد الشهيد وكتاب الحكومة الإسلامية للإمام الراحل بالإضافة إلى رسائلهما العملية. كل ذلك كان يعتبر بمثابة الثورة على الواقع الفكري الراكد والذي كان لا يرتضي أية محاولة من هذا القبيل تهدف إلى إعطاء الصورة الحقيقة للدين من خلال فكرة الدمج بين الدين والسياسة أو تلمس الحلول والرؤى الدينية للقضايا الحياتية المعاصرة والمحلة ذلك بالإضافة إلى تحركهما السياسي والثوري باتجاه تحطيم الأركان الجاهلية وأنظمته المتحكمة والعمل على إقامة الحكم الإسلامي على أنقاض ذلك الكيان، وفي هذا الاتجاه قاد الإمام حركة سياسية مريرة ضد نظام الشاه المقبور في إيران ومثل ذلك فعله السيد الشهيد مع نظام الحكم القائم في بغداد. انتهت الحركتين إلى تحقيق نتائج باهرة في سياق الأهداف الكبيرة للإسلام ولعل المعلم المهم الذي تميزا به والذي ميز إلى حد بعيد المفردات التفصيلية لنظريتهما السياسية واسبغ عليها الطابع الخاص الذي ميزها ذلك هو انتقائهما لمفردات التي يتعاملون معها في إطار الأهداف والغايات التي يؤمنون بها ويعملون من اجلها وفي إطار عالمية النظرة التي ينبثقون منها عقائدياً ولم تنقصهم في تنفيذ غاياتهم الجدارة النفسية اللازمة والإرادة الصلبة والتفاني المخلص في جنب الأهداف والرسالة التي يجاهدون من اجلها، ومثلاً بارزاً على ذلك موافق الشهيد الصدر(رض) ونظرته إلى إمام الأمة الراحل والثورة الإسلامية المباركة. تلك المواقف التي أثبتت قدرة السيد الشهيد في وعيه لأهداف الإسلام وذوبانه الكامل في رسالة التوحيد فهو وفي هذا المجال لم يتأخر لحظة في الإعلان عن ولائه لمرجعية الإمام وقيادته الحكيمة ولم يدخروا سعاً في تأييده ومبايعته ومساندته للثورة الإسلامية. ولم يشعر بأدنى مفاصلة تحول بينه وبين أن يرى وحدة الثورة والجهاد والأهداف الإسلامية، لقد أعلن السيد الشهيد قراره الأول والأخير في التنازل عن كيانه ومرجعيته ودعى مقلديه وطلبته ومريده للذوبان الكامل في قيادة الإمام ومرجعيته المتفانية في الإسلام
ولم يمر ذلك الأمر من دون ثمناً باهضاً دفعه السيد الشهيد في نفسه وأهله وأصحابه وكيانه ـ حتى انتهى الأمر بعد طول معاناة وضيق إلى وقوعه ضحية بيد الجلادين البعثيين حيث نال على أيديهم وسام الشهادة الشريف ثمناً لمواقفه المسبقة من الإمام والثورة والإسلام بعد أن رفض بأباء كل المحاولات الدنيئة الرامية إلى إغرائه أو استدراجه وسحب تأييده للإمام والثورة الإسلامية المباركة، ولعل قولاً واحداً يثبت حقيقة ذوبان الإمام الراحل والسيد الشهيد قاله سيدنا الصدر وهو ذوبوا في مرجعية الإمام كما ذاب هو في الإسلام، فهو من جانب عبٌر عن محتوى السيد الشهيد وإخلاصه للرسالة وللإمام ومن جانب آخر كان شهادة مسبقة منه دلت على نفي الحقيقة الأنفة الذكر لدى إمام الأمة الراحل. لقد شكلت خاصية الذوبان الكامل في رسالة التوحيد لدى سيدنا الشهيد وإمامنا الراحل نقطة الالتقاء والذروة وهي ذاتها لحظة الفناء في الحق تعإلى.
العامل الثاني: ركود الواقع وتخلف النظرة للدين والسياسة: لقد ابتلى الواقع العام للأمة الإسلامية بالركود والجمود وضعف الإرادة وهيمنة حالات الإحباط واليأس على النفوس منذ عهود الهيمنة الاستعمارية وانحسار المد الإسلامي بعد أن فقد المسلمون آخر موقع لهم في الدولة العثمانية. وبعد أن ذهبت البلاد الإسلامية وشعوبها نهباً وضحية للخطط والمطامع الاستعمارية. وكانت الخطط الاستعمارية ترمي فيما تهدف إليه من نزع الهوية الإسلامية من أبناء الأمة وتشكيكهم في قدرتهم على النهوض من خلال غزو الأمة وإدامة هذا الغزو سياسياً وفكرياً واقتصادياً. وقد استطاعوا ومن جراء ذلك من تركيز فكرة الفصل بين الدين والسياسة بعد أن نجحوا في إقصاء الإسلام عن واقع الحياة ومعتركها الاجتماعي، وقد تطورت الموقف إلى حالات أسوأ عندما استطاع المستعمر وأدواته العاملة من تركيز فكرة عدم جدوى بل وعدم صحة طرق المجالات التي من شأنها أن توحيد النظرة للدين والسياسة أو التي تسيس الدين، وقد تسربت هذه النظرة وللأسف الشديد إلى قطاعات خاصة في الأمة شملت بعض أوساط رجال الدين التقليديين وبعض الطبقات المثقفة التي راحت تعتبر تدخل الدين في السياسة أو في واقع الحياة الاجتماعية شيئاً غير مألوفاً. إذ إن الدين في نظر هؤلاء منحصر بالطقوس والعبادات وأحكامها لا يتجاوزها أبدا إلى غيرها من المواقع الممنوعة. لكن ذلك لم يمنع بعض أحرار الأمة وفطاحل الرسالة من أن يعبروا عن نظرتهم الصحيحة للدين والحياة والسياسة ورغم مجافاة الواقع لهم ومحاربته إياهم. إذ قد يرمون بالكفر أو الانحراف والبدعة في الدين جراء نهضتهم تلك. فالنظرة السائدة والتي كاد تطبق على الواقع هي أن لا دخل للدين في السياسة والحكم ومستلزمات الواقع المعاصر. وليس للعالم من حق في الولوج في هذه المجالات لأنها في نظر بعض أولئك المتخلفين من مختصات الإمام المعصوم. وغاية الأمر والوجوب يقتضي مجرد الانتظار والتقية وحتى يظهر المعصوم الغائب ـ ولربما تطرف بعضهم خطلاً في الرؤية والحكم إلى جواز السكوت على إشاعة الفحشاء والظلم في بلاد الله وعباده لأنهما يعدان من معجلات الظهور للإمام المنتظر الذي لا يظهر إلا بعد أن تملأ الأرض جوراً وظلماً فيأتي ليملأها قسطاً وعدلاً. فالسكوت على حد تدهور الواقع المتخلف والراكد شكل سبباً أساسيا في حركة السيد الشهيد والإمام الراحل إذ أن تشخيصهما لطبيعته دفعهما للعمل والجهاد باتجاه تغير ملامحه من خلال الثورة على الأسس التي استند اليهما وانبثق منها وفي محاولة إعادة النظرة الصحيحة والإرادة القوية لأبناء الأمة الإسلامية.
ما ساهم هذا الواقع في التقريب بين السيد الشهيد والسيد الإمام على مستوى النظرة والعمل والجهاد إذ كانا يعتبران أن معاً ثورة على ذلك الواقع وحركة جديدة تتجه على نحو مغاير لحركة الواقع وعلى بعض المتطفلين في الحوزة العلمية ممن لا يرتضون رؤية أية حركة ناهضة تحاول كسر الجمود وبعث الرسالة في الحياة. مما جعلهما شبه معزولين في ذلك المعترك المزدوج الاتجاه، ولم تفت في عضديهما تلك العزلة المصطنعة والوجوم المفتعل بل على العكس ساهم ذلك السكون في إعطائهما زخماً هائلاً لإدامة الحركة والثورة والعلاقة المقدسة فيما بينهما وفي هذا الصدد لا بد من ذكر بعض المشاهدات الدالة على الضيق الذي كانا يعانيانه من جهالات هذا الواقع وتجنياته عليهما. فلقد روى لنا أحد تلامذة السيد الشهيد وأحد أبرز مقريبه بأن السيد الإمام وحينما كان مقيماً في النجف الأشرف كان يعاني وبشدة من حنق وجهالة الجاهلون عليه من الطلبة الإيرانيين وغيرهم إذ كانوا يشيعون ضده بأنه متأثر بالشيوعيين، في محاولة لكسر هيبته وتجيير جهاده لصالح الأطراف المنحرفة. لا لشيء إلا لأنه ثار في وجه حكومة الشاه العميل ـ وأن عملاً مثل هذا لن يكون بنظر أولئك إلا بسبب تأثر الإمام بالشيوعيين المحيطين به، إذ كان أولئك يضيق استيعابهم عن معرفة خلقيات ومحتوى أية حركة مضادة للشاه الأمريكي ولن يتصورها إلا من خلال كونها تابعة للمحور الآخر وهو المحور الشيوعي ـ وفي نظرهم تنعدم الدواعي لرجل الدين في أن يمارس عملاً مثل هذا سيما وأن شاه إيران كان شيعياً ـ وإن كنا لا نشك في أن مثل هذه الترهات كان يقف ورائها جهاز السافاك الإيراني ابتدأ واستمراراً والهدف واضح من ذلك. ولعل هكذا أشاعة قد يكتب لها أن تنموا وتمتد في المناخ المناسب لهما ـ وفعلاً شقت لهما طريقاً باعتبارها كانت تتحرك في أجوائها المناسبة. وفي هذا المناخ المتلبد بالجهل وفي زحمة المؤامرة المحاكة ضد الإمام الراحل فما كان من السيد الشهيد الصدر(رض) إلا أن اتخذ موقفاً مشرفاً وشجاعاً رد به عملياً على هذه الإشاعات وأكد موقفه الداعم والمؤيد لحركة الإمام وشخصيته ومرجعيته ـ وسوف نذكر ذلك تفصيلياً في تفاصيل موضوعنا هذا ـ في الوقت الذي لم يكن السيد الشهيد معفياً هو الآخر من جهالات ذلك الواقع ولربما اتهموه أيضاً بالتأثر في بمحور استعماري آخر. ذلك غير التهم والأباطيل الأخرى التي كانت تطال السيد الشهيد ويعاني منها أشد المعاناة حتى اضطرته مرةً إلى ترك صلاة الجماعة ومن ثم تعطيل درسه العلمي وتوجيه الدعوة إلى طلابه لحضور درس من يشاءون من الأساتذة، ولولا توسط بعض الصالحين من العلماء لما استأنف السيد الشهيد درسه.
هذا الواقع الشاذ عن خط الفقهاء أهل البيت المجاهدين الذي كان لا يجيز حتى سماع جهاز المذياع في إطار الحوزة العلمية والذي كان فضلاً عن ذلك لا يتحمل أن يرى مرجعاً متألقاً يتدخل في شؤون السياسة أو يقود حركة ثورية شعبية جماهيرية، هذا الواقع كان عاملاً آخراً ومهما في توكيد علاقة السيد الشهيد بالسيد الإمام إذ شعرا معه بأنهما يتحركان باتجاه واحد ولهدف واحد متخذين تياراً مضاداً واحداً وكان شعورهما بالمسؤولية يحتم عليهما الاستمرار بالحركة وإدامة زخمها سوية إذا اقتضى الأمر أو كل على انفراد أو إيثاراً على النفس من أحدهما اقتضى أن يذوب في كيان الطرف الآخر ذوباناً تاماً ـ وهذا ما فعله سيدنا الصدر (رض) بعيد انتصار الثورة فتسامى في عالم القيم والأهداف معلناً وفائه للرسالة والثورة والإمام.
الشهيد الصدر ومرجعية الإمام
تشخيص السيد الشهيد المبكر لمكامن القوة في مرجعية الإمام الخميني(رض)، وتمييزه لها عمن سواها من المرجعيات الدينية آنذاك وبالتالي إيمانه بها وبقدراتها الفذة ومن ثم الاندكاك ذورته عندما آثر الموت على الحياة دونما أن يرضخ قيد شعره لرغبات الكافرين التي أرادت أن تزلزل علاقته باللإمام والثورة لكنه أبى إلا أن يعلن استعداده للموت والشهادة أبياً شامخاً معلناً سبب موته ومصراً عليه وعاشقاً له دونما ذرة من ضعف و وهن أو تنازل« إني كل ما كنت اطمع إليه في الحياة وأسعى له فيها هو أن تقوم حكومة للإسلام في الأرض والآن بعد أن أقيمت في إيران بقيادة السيد الإمام فأن الموت والحياة عندي سواء لأن الحلم الذي كنت أحلم به وأتمنى أن تحقيقه قد تحقق والحمد لله »([1])
من حديقة عشق الصدر للخميني نقتطف بعض الزنابق الحزينة فهي دلائل الحب والخير والاستقامة وهي ذاتها مؤشر على رجل عاش ومات مظلوماً:
1ـ يذكر آية الله السيد كاظم الحائري في كتابه مباحث الأصول:« حدثني الأستاذ (رحمه الله) ذات يوم فقال: أنني أتصور أن الأمة مبتلاة اليوم بالمرض الذي كانت مبتلاة به في زمن الحسين(ع)، وهو مرض فقدان الإرادة، فالأمة تعرف حزب البعث والرجال الحاكمين في العراق ولا تشك في فجورهم وفسقهم وطغيانهم وكفرهم وظلمهم للعباد، ولكنها فقدت قوة الإرادة التي بها يجب أن تصول وتجاهد في سبيل الله إلى أن تسقط هذه الزمرة الكافرة من منصب الحكم وترفع كابوس هذه الظلم من نفسها. وعلينا أن نعالج هذا المرض كي تدب حياة الإرادة في عروق هذه الأمة الميتة وذلك بما عالج الإمام الحسين(ع) عرض فقدان الإرادة في نفوس الأمة وقتئذ وهو التضحية الكبيرة التي هز بها المشاعر وأعاد بها الحياة إلى الأمة إلى إن انتهى الأمر بهذا السبب إلى سقوط دولة بني أمية، فعلينا أن نضحي بنفوسنا في سبيل الله ونبذل دمائنا بكل سخاء في سبيل نصرة الدين الحنيف والخطة التي أرى ضرورة تطبيقها اليوم هي أن أجمع ثلة من طلابي وهم صفوة أصحابي الذين يؤمنون بما أقول ويستعدون للفداء ونذهب جميعاً إلى الصحن أحياء. وأنا اقدم خطيباً فيما بينهم ضد الحكم القائم ويدعمني الثلة الطيبة الملتفة من حولي ونثور بوجه الظالم والطغيان فسيجابهنا جمع من الزمرة الطاغية ونحن نعارضهم (ولعله قال ونحمل السلاح) إلى أن يضطروا إلى قتلنا جميعاً في الصحن الشريف، وسأستثني قلة من أصحابي عن الاشتراك في هذه المعركة كي يبقوا أحياء من بعدي ويستثمروا الجو الذي سيحصل نتيجة لهذه التضحية والفداء قال(رحمه الله) أن هذا العمل مشروط في رأيي بشرطين:
الشرط الأول: بأن يوجد في الحوزة العلمية مستوى من التقبل لعمل من هذا القبيل أما لو أطبقت الحوزة العلمية على بطلان هذا العمل وكونه عملاً جنونياً أو مخالفاً لتقية واجبة فسوف يفقد هذا العمل أثره في نفوس الأمة ولا يعطي ثماره المطلوبة.
والشرط الثاني: أن يوافق أحد المراجع الكبار مسبقاً على هذا العمل كي يكتسب العمل في ذهن الأمة الشرعية الكاملة. فلا بد من الفحص عن مدى تواجد هذين الشرطين. أما من الشرط الأول فمم الأستاذ(رحمه الله) على أن يبعث رسولاً إلى أحد علماء الحوزة العلمية لجس النبض ليعرض عليه هذه الفكرة ويستفسر عن مدى صحتها وبهذا الأسلوب سيتعرف على رأي عالم من العلماء كنموذج لرأي يتواجد في الحوزة العلمية. وقد اختار(رحمه الله) بهذا الصدد إرسال سماحة الشيخ محمد مهدي الآصفي(حفظه الله) إلى أحد العلماء، وأرسله بالفعل إلى أحدهم كي يعرض الفكرة عليه ويعرف رأيه، ثم عاد الشيخ إلى بيت أستاذنا الشهيد واخبر الأستاذ بأنه ذهب إلى ذلك العالم في مجلسه ولكنه لم يعرض عليه الفكرة وكان السبب في ذلك أنه حينما دخل المجلس رأى أن هذا الشخص مع الملتفين حوله قد سادهم جو من الرعب والأنهيار الكامل نتيجة قيام الحكومة البعثية بتسفير طلبة الحوزة العلمية، ولا توجد أرضية لعرض مثل هذه الفكرة عليه إطلاقاً.
وأما من الشرط الثاني: فرأى أستاذنا الشهيد(رحمه الله) أن المرجع الذي يترقب بشأنه أن يوافق على فكرة من هذا القبيل هو الإمام الخميني ـ دام ظله ـ الذي كان يعيش وقتئذ في النجف الأشرف، فلا يصح أن يكون هذا العمل من دون استشارته فذهب هو ـ رضوان الله عليه ـ إلى بيت السيد الإمام وعرض عليه الفكرة مستفسراً عن مدى صحتها. فبدا على وجه الإمام (دام ظله) التألم وأجاب على السؤال بكلمة(لا أدري) وكانت هذه الكلمة تعني أن السيد الإمام (دام ظله) كان يحتمل أن تكون الخسارة التي ستوجه إلى الأمة من جراء فقد هذا الوجود العظيم اكبر مما قد تترتب على هذا العمل من الفائدة وبهذا وذاك يتبين أن الشرطين مفقودان فعدل أستاذنا الشهيد (رحمه الله) عن فكرته وكان تأريخ هذه القصة بحدود سنة 1390 أو 1391هـ ق »([2]).
ويتضح من هذه الواقعة بأن شهيدنا الصدر(رض) كان يرى في الإمام الخميني ومنذ ذلك الحين، يرى فيه ذلك المرجع الكبير والقيادة الحكيمة والوعي الرسالي الصحيح. وأن اختيار السيد الشهيد للسيد الإمام وتمييزه له عن باقي المراجع في مسألة حساسة وخطيرة تتعلق بحياته ومستقبل التحرك الإسلامي في العراق. لم يكن اعتباطا بقدر ما كان مستنداً إلى حقائق صارخة وليست صفة المرجعية وحدها كانت الدافع الذي شد السيد الشهيد إلى الإمام ـ وإلا فالمراجع كثيرون ـ لكن السيد الشهيد كان يرى في الإمام ذلك القائد الثائر الذي استوعب الشريعة و آمن بحقيقة أن الدين والسياسة والجهاد هما شيء واحد لا يمكن الفصل بينهم، ويتعاظم هذا الموقف لدى المتطلعين إذا عرفوا بأن السيد الشهيد إذ كان يرى في الإمام هذه الحقيقة لم يكن في وقتها الإمام معروفاً لدى الأمة كما هو عليه بعد انتصار الثورة الإسلامية. بل على العكس كان الإمام يعاني بمرارة من سوء فهم الآخرين له ممن تضيق عقولهم ونفوسهم بتقبل فكرة وجهاد الإمام. إذ أن التيار الذي كان سائداً في بعض أوساط الحوزة العلمية في النجف الأشرف هو أن لا تدخل للدين في السياسة ومن يتدخل يلق آثاماً واتهاما قد يطله في شخصه واستقامته وفي هذا الجو المتلبد بالجهل استطاع رجال أمن الشاه(السافاك) من إشاعة المزيد من التهم ضد الإمام بهدف إضعاف دوره واتهامه في نواياه وخططه السياسية، في ذلك الوقت وفي اشتداد الأزمة ضد الإمام وفي مجتمع النجف وبالخصوص من الطلبة الإيرانيين الذين اختلفوا بالأصل مع الإمام كان للسيد الشهيد موقفاً مشرفاً آخر هدف من ورائه دعم مرجعية الإمام وإعلان التأييد المطلق لها ورد بشكل غير مباشر على جميع التهم والإشاعات المغرضة التي كان يرددها الجهال والمنحرفون.
2ـ روى لنا أثنين من طلبة السيد الشهيد، بأن السيد حال إحساسه بذلك الأمر (أي الإشاعة أعلاه) أوعز لأثنين من أفاضل طلبته الذين يحضرون بحثه الخارج أوعز لهم بترك درسه والالتحاق بدرس السيد الإمام. لغرض أن يثبت تأييده وتنزيهه لمرجعية السيد الإمام. وكان الذين أوعز لهم كلاً من آية الله السيد محمد الصدر وآية الله السيد محمود الهاشمي وفعلاً نفذا كلاً من السيدين أمر السيد الشهيد وقضيا فترة من الزمن وهما يحضران دروس وبحوث السيد الإمام لذلك الغرض المنشود. ليس إلا.
لقد كان السيد الشهيد(رض) يرى في إمام الأمة الراحل الأمل والقدوة من خلال معرفته لطبيعة الإمام وشخصيته وأفكاره ومنهجه ـ فليس صعباً إزاء ذلك من أن يستبق السيد الشهيد الزمن ليعلن أو يؤشر إلى مكامن القوة والنبوغ وإلى المستقبل الذي ينظر هذا الرجل العظيم وفي هذا المجال لطالما أشاد به وأشار إلى ذلك مراراً أمام طلابه ومريديه ـ متوقعاً القيادة الرشيدة لمرجعيته الثائرة، ومتوقعاً مستقبل الإسلام والأمة على يده. السيد عبد الهادي الشاهرودي أحد طلبة ومريدي السيد الصدر وممن كان يحضر درسه في النجف الأشرف، يروي: عندما كان يحدثنا السيد الشهيد عن فكرة المرجعية الموضوعية وجهازها البنيوي وأهدافها المستقبلية ويؤكد لنا على حقيقة إيجادها كمشروع قيادي متقدم للحوزة وللأمة ـ يقول: انبرى ذات مرة للقول بأن فكرة ومشروع المرجعية الموضوعية لا تحسبوه غاية بذاته وإنما هو وسيلة ـ إذ لو انبثقت مرجعية أخرى في الأمة وكان لها من الدور والتأثر اكثر مما للمرجعية الموضوعية فعليكم أن تلتفتوا حول تلك المرجعية وأن تتخلوا عن الفكرة الآنفة الذكر ـ واستشهد بمثل على ذلك وأشار صراحة إلى مرجعية الإمام الخميني مثلاً كان لها ذلك الدور حينئذ فالواجب يحتم عليكم مساندة وتأييد تلك المرجعية: وهكذا ومرة أخرى يؤكد السيد الشهيد على مرجعية الإمام لأنه يرى فيها الأمل والقدوة والمستقبل، ومهما يكون من أمر فأن السيد الشهيد وبما يملك من نظرة ثاقبة للأمور استطاع وبوقت مبكر من أن يشخط مكامن القوة في مرجعية الإمام ويتخذ آزائها المواقف المشرفة ولما يبزغ بعد نجم والإمام وتنتصر الثورة، أما في مرحلة الارهاصات الأخيرة وبعيد الانتصار وقيام الدولة الإسلامية فأن مواقف السيد الشهيد تبلورت بالشكل الذي جعله مندكاً وذائباً بتمام المعنى في قيادة الإمام ومرجعيته الرشيدة ومتنازلاً عن جميع كيانه حيث أن السيد الشهيد شعر منذ الوهلة الأولى للانتصار بأن أمنيته التي جاهد من أجلها قد تحققت ولأجل ذلك لم يتأخر لحظة واحدة في الإعلان عن تأييده المطلق للثورة وفي مبايعته الإمام والإشادة بالشعب الإيراني ورغم الصعوبات السياسية المحدقة به. لقد شعر السيد بأن أمامه مسؤولية مزدوجة تجاه الثورة الإسلامية المنتصرة بقيادة الإمام في إيران ومسؤولية تجاه مستقبل الثورة الإسلامية في العراق التي بدأت تتأكد جذوتها وتسرع الخطى بعيد الانتصار وهو أزاء هاتين الحقيقتين لم يقف مكتوف الأيدي ولم يتجزأ في نظرته واهتماماته ولم يدخر وسعاً أزاء إحدى هاتين الحقيقتين. بل بالعكس راح يمارس دوره الجهادي ويعيش القضية بكل أبعادها غير عابيء بالحدود الجغرافية أو العراقية فالثورة عنده ذات معنى عالمي تماماً كما هو الإسلام رسالة للناس جميعاً. ونظرة أولية لمواقف السيد الشهيد في كلا المجالين والثورتين تكشف لنا هذه الحقيقة.
حقيقة عالمية النظر وسعة الأفق والأهداف التي يؤمن بها. فمساهمات السيد الشهيد في هذا المجال سواء فيما يخص الثورة الإسلامية في إيران أو في العراق تتشابه إلى حد بعيد ولربما تترجح الكفة في عطائه وتضحياته لصالح الثورة الإسلامية في إيران. وسيبدوا ذلك جلياً بعد استعراصنا لمواقفه تجاه الإمام والثورة والدولة الإسلامية في إيران وما جرت عليه من متاعب ومشاكل انتهت إلى إعدامه على أيدي السلطة الجائرة في العراق وهو مما يكشف لنا بعداً جديداً في عظمة هذا الرجل والمدى الذي انتهى اليه من نكران الذات والإخلاص للرسالة.
وفي هذا المجال له مواقف أخرى.
3ـ من رسالة بعثها السيد الشهيد لأحد العلماء في إيران عام 1963م تحدث في مقطع منها عن الإمام والثورة
يقول فيها:
« وأما بالنسبة إلى إيران فلا يزال الوضع كما كان وآقاي خميني مبعد في تركيا من قبل عملاء أمريكا في إيران وقد استطاع آقاي خميني في هذه المرة أن يقطع لسان الشاه الذي كان يتهم المعارضة باستمرار بالرجعية والتأخر، لأن خوض معركة ضد إعطاء امتيازات جديدة للأمريكان المستعمرين لا يمكن لإنسان في العالم أن يصف ذلك بالرجعية والتأخر »([3]).
4ـ قبيل انتصار الثورة الإسلامية وعندما كان الإمام مقيماً في نوفل لوشاتو بعث السيد الشهيد برسالة مطولة إلى إمام الأمة عبر فيها عن رؤيته وتأييده للثورة وللإمام وللشعب الايراني. نقتطف منها بعض المقاطع:
«فأننا في النجف الاشرف إذ نعيش مع الشعب الإيراني بكل قلوبنا ونشاركه آلامه وآماله نؤمن بأن تاريخ هذا الشعب العظيم، أثبت أنه كان ولا يزال أبياً شجاعاً وقادراً على التضحية والصمود من أجل القضية التي يؤمن بها ويجد فيها هدفه وكرامته»([4]).
وعن علاقة الشعب بالمرجعية أردف قائلاً:
«لأن الإسلام وبزخم المرجعية التي بناها الإسلام وبالخميني القائد استطاع أن يكسر أثقل القيود ويحطم عن معصميه تلك السلاسل الهائلة فلم يعد الإسلام هو الرسالة فحسب بل هو أيضاً المنقذ والقوة الوحيدة في الميدان التي استطاعت أن تكتب النصر لهذا الشعب العظيم… ومن تلك الحقائق الثابتة أن الشعب الإيراني كان يحقق نجاحه في نضاله بقدر ألتحامه مع قيادته الروحية ومرجعيته الدينية الرشيدة… فالمرجعية الرشيدة والقيادة الروحية هي الحصن الواقي من كثير من ألوان الضياع والانحراف » ([5]).
ثم ينتقل السيد الشهيد في رسالته إلى الجانب الفكري والمفاهيمي للثورة محاولاً أن يضع الأسس الفكرية والعقائدية والغائية لحركة الثورة والجماهير فهو بهذا الصدد يقول مخاطباً الجماهير:
« أنها مدعوة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى أن تنظر بعين إلى الحاجات الفعلية لمسيرتها، وتنظر بعين إلى حاجاتها المستقبلية وذلك بأن تحدد معالم النظرة التفصيلية من الآن فيما يتصل بأيدولوجيتها ورسالتها الإسلامية الشريفة… وقد أثبت ذلك أن الإسلام له رسالته وأصالته في المبارزة، وأن الإسلام الذي يقاوم الماركسية هو نفسه الإسلام الذي يقاوم كل ألوان الظلم والطغيان »([6]) ثم يردف موضحاً الفارق بين طرح الإسلام مجرد شعار وشكل وبين أن يطرح كمضامين وأخلاقيات وواقعيات يقول:« لأن أبناء إيران إسلامياً ليس مجرد تغيير في الشكل والأسماء بل هو إضافة إلى ذلك تطهير للمستوى من كل الجذور الفاسدة وملئ المضمون ملأ جديداً حياً تتدفق فيه القيم القرآنية الإسلامية في مختلف مجالات الحياة »([7]).
5ـ على أثر إشاعة انتشرت في الوسط الإيراني مفادها بأن السيد الشهيد عازم على ترك العراق. أرسل السيد الإمام (رض) برقية طالب فيها السيد الشهيد(رض) بعدم الهجرة ـ وعلى أثرها بعث السيد الشهيد برقية جوابية ضمنها تأييده للثورة ومبايعته للإمام:
« بسم الله الرحمن الرحيم ـ سماحة أية الله العظمى الإمام المجاهد السيد روح الله الخميني دام ظله: تلقيت برقيتكم الكريمة التي جسدت أبوتكم ورعايتكم الروحية للنجف الاشرف الذي لا يزال منذ فارقكم يعيش انتصاراتكم العظيمة وأني استمد من توجيهكم الشريف نفحة روحية كما اشعر بعمق المسؤولية في الحفاظ على الكيان العلمي للنجف الاشرف وأود أن أعبر لكم بهذه المناسبة عن تحيات الملايين من المسلمين والمؤمنين في عراقنا العزيز الذي وجد في نور الإسلام الذي أشرق من جديد على يدكم ضوءاً هادراً للعالم كله طاقة روحية لضرب المستعمر الكافر والاستعمار الأمريكي خاصة ولتحرير العالم من كل أشكاله الإجرامية وفي مقدمتها جريمة اغتصاب أرضنا المقدسة فلسطين. ونسأل المولى سبحانه وتعالى أن يمتعنا بدوام وجودكم الغالي. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته الخامس من رجب 1399هـ ق ـ النجف الأشرف ـ محمد باقر الصدر ».
6ـ على أثر مواقف السيد الشهيد من الإمام والثورة الإسلامية تعرض لحملة مضايقات من السلطة البعثية وكان من جملتها احتجازه في داره. ولمٌا تناهى هذا الخبر إلى الإمام بعث برقية يستفسر بها عن أحواله ويطمئن بها على أوضاعه ـ ولما كان السيد الشهيد لا يستطيع الرد على برقية الإمام ببرقية جوابية نتيجة لظروف القاهرة استعاض عنها بمكالمة هاتفية هي الأخرى ضمنها مواقفه ورؤاه البطولية الملتزمة:
« استمعت إلى برقيتكم التي عبرت عن تفقدكم الأبوي لي وإني إذ لا يتاح لي الجواب على البرقية لأني مودع في زاوية البيت ولا يمكن أن أرى أحداً أو يراني أحد ـ لا يسعني إلا أن أسأل المولى سبحانه وتعالى أن يديم ظلكم مناراً للإسلام ويحفظ الدين الحنيف بمرجعيتكم القائدة وأسأله تعالى أن يتقبل منا العناء في سبيله وأن يوفقنا للحفاظ على عقيدة الأمة الإسلامية العظيمة وليس لحياة أي إنسان إلا بمقدار ما يعطي لأمته من وجوده وحياته وفكره وقد أعطيتم للمسلمين من وجودكم وحياتكم وفكركم ما سيظل على مدى التاريخ مثلاً عظيماً لكل المجاهدين »([8]).
7ـ بعث السيد الشهيد برسالة إلى طلابه المقيمين في إيران والذي هاجروا من العراق ضمنها من المبادئ والأفكار ما يكون دليلاً مستقلاً على عظمة السيد الشهيد وتفانيه وإخلاصه لمبادئه ونكرانه لذاته:
« بسم الله الرحمن الرحيم ـ أولادي وأعزائي ـ حفظكم الله بعينه التي لا تنام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ـ اكتب اليكم في هذه اللحظات العظيمة، التي حقق فيها الإسلام نصراً حاسماً وفريداً في تأريخنا الحديث، على يد الشعب الإيراني المسلم، وبقيادة الإمام الخميني(دام ظله) وتعاضد سائر القوى الخيرة والعلماء الأعلام، وإذا بالحلم يصبح حقيقة وإذا بالأمل يتحقق، وإذا بالأفكار تنطلق بركاناً على الظالمين، لتتجسد وتقيم دولة الحق والإسلام على الأرض. وإذا بالإسلام الذي حبسه الظالمون والمستعمرون في قمقم، يكسر القمقم بسواعد إيرانية فتية، لا ترهب الموت، ولم يثن عزيمتها إرهاب الطواغيت ثم ينطلق من القمقم ليزلزل الأرض تحت أقدام كل الظالمين، ويبعث في نفوس المسلمين جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها ـ روحاً جديدة وأملاً جديداً.
أن الواجب على كل واحد منكم، وعلى كل فرد قدر له حظه السعيد أن يعيش في كنف هذه التجربة الإسلامية الرائدة، أن يبذل كل طاقاته وكل ما لديه من إمكانات ومقومات، ويضع ذلك كله في خدمة التجربة، فلا تقف في البذل والبناء يشاد لأجل الإسلام، ولا حد للبذل والقضية ترتفع رايتها بقوة الإسلام، وعملية البناء الجديد بحاجة إلى طاقات كل فرد مهما كانت ضئيلة. ويجب أن يكون واضحاً أيضاً أن مرجعية السيد الخميني ـ التي جسدت أمل الإسلام في إيران اليوم ـ لا بد من الالتفاف حولها والإخلاص لها، وحماية مصالحها، والذوبان في وجودها العظيم بقدر ذوبانها في هدفها العظيم، وليس المرجعية الصالحة شخصاً وإنما هي هدف وطريق وكل مرجعية حققت ذلك الهدف والطريق فهي المرجعية الصالحة التي يجب العمل لها بكل إخلاص، والميدان المرجعي أو الساحة المرجعية في إيران يجب الابتعاد بها عن أي شيء من شأنه أن يضعف أو لا يساهم في الحفاظ على المرجعية الرشيدة القائدة، أخذ الله بيدكم وأقر عيونكم بفرحة النصر، وحفظكم سنداً وذخراً والسلام عليكم يا أحبتي ورحمة الله وبركاته التوقيع : أبوكم »([9]).
8ـ برقية بعثها السيد الشهيد(رض) إلى الشعب العربي في إيران يحثهم فيها على التقيد بقيادة الإمام الحكيمة ويوضح لهم فيها طبيعة المجتمع المسلم وما يتطلبه من تلاحم وتفاني من أجل بناء مجتمع المتقين:
« بسم الله الرحمن الرحيم ـ شعبنا العربي المسلم في إيران، المجاهد، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ـ وبعد، فأني أخاطبكم بأسم الإسلام، وأدعوكم ـ وسائر شعوب إيران العظيمة ـ لتجسيد روح الأخوة الإسلامية، التي ضربت في التاريخ مثلا أعلى في التعاضد والتلاحم في مجتمع المتقين، الذي لا فضل لمسلم على مسلم إلا بالتقوى، مجتمع عمار بن ياسر وسلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي مجتمع القلوب العامرة بالذكر والإيمان، المتجاوز كل حدود الأرض المفتوحة باسم السماء ورسالة السماء فتتوحد القلوب ولتنصهر كل العلاقات في إطار القيادة الحكيمة للإمام الخميني وفي طريق بناء المجتمع الإسلامي الذي يحمل مشعل القرآن الكريم إلى العالم كله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ـ محمد باقر الصدر ـ النجف الأشرف 16 / رجب »([10])
9ـ روى لنا الشيخ محمد رضا النعماني (أحد تلامذة السيد الشهيد ومن المقربين لديه) وهو آخر من لازم الشهيد الصدر في بيته حتى آخر فترة الاحتجاز المفروضة من قبل السلطة الحاكمة في بغداد، قال: قال لي السيد الشهيد يوماً«لو أن الإمام الخميني طلب مني يوماً أن أكون مجرد مبلغاً أو وكيلاً عنه في إحدى قرى إيران النائية ومن هناك أمارس دوري الإرشادي والتبليغي لوافقت.» والسيد الشهيد يقصد بهذا القول استعداده الكامل لتنفيذ أوامر وتوجيهات الإمام ولا يضيره طبيعة المهمة المسندة إليه في ذلك المجال. ويقصد أيضاً أن يعبر عن درجة تفانيه وإخلاصه ونكرانه لذاته بل وتتنازله عن منزلته الرفيعة ومرجعيته الرشيدة في مقابل مرجعية الإمام وقيادته الحكيمة لدرجة أنه يرضي بأن يكون مجرد مبلغاً ووكيلاً للإمام ولو كان ذلك في قرية من قرى إيران.
10ـ بعث صدام الشيخ عيسى الخاقاني بمعية ضابط المخابرات الذي عرف نفسه «أبو علي» لغرض مفاوضة السيد الشهيد. فقال الشيخ عيسى الخاقاني للسيد الشهيد « إن السلطة تريد أن تفك الحجز عنك، إلا أن لديها شروطاً،
بمعنى أنها تريد منك أن توافق على الشرط الأول، وإلاٌ فعلى الشرط الثاني، وإلا فعلى الشرط الثالث، وهكذا، أما عدم الاستجابة لأي واحد من تلك الشروط فيعني الإعدام، الله لشرط من هذه الشروط فسوف أعدمه!
والشروط هي: الشرط الأول ـ أن يتخلى عن تأييد ودعم الثورة الإسلامية في إيران وعن تأييده للسيد الخميني… (و) عندئذٍ التفت السيد إلى الشيخ الخاقاني وقاله له ((إذا لم أستجيب))؟ قال الشيخ عيسى: ((كما قلت لك سيدنا ـ والله ـ لقد سمعت من لسان صدام إنه قال: سوف أعدمه. فقال له ـ ره ـ: ((إني كل ما كنت أطمح إليه في الحياة وأسعى له فيها هو أن تقوم حكومة للإسلام في الأرض، والآن بعد أن أقيمت في إيران بقيادة السيد الإمام فأن الموت والحياة عندي سواء لأن الحلم الذي كنت أحلم به واتمنى تحقيقه قد تحقق والحمد لله… ثم التفت ـ ره ـ إلى ضابط مخابرات القصر الجمهوري التكريتي وقال له: (( يا أبا علي! أخبر صداماً إنه في أي وقت يريد إعدامي فليفعل)). بعبارة واحدة يمكن أن نجد في معانيها ودلالتها شخصية هذا الرجل العظيم ونجد فيها أيضاً نقطة الذروة التي ابتدأ منها وانتهى عليها في تعاطيه مع الرسالة ومستقبليها وفي تعاطيه مع أمام الأمة وقيادته الحكمية. ولسنا مضطرين لتحميلها شيء آخر سوى إنها مدوية بمظلومية هذا الرجل ـ ولا عجب فلقد تواصل مع سيرة أجداده في تضحياتهم ومظلوميتهم فكان لهم امتداداً حقيقياً تتجسد فيه كل سماتهم ويبدوا إنه سيستمر كذلك، أو ليس لله أولياء له في خلقه قد أخفاهم. قد يكون السيد الشهيد واحداً منهم. ونترك الختام للشهيد نفسه يفلسف بها حياته ومماته فهي واحدة ولن تكون صادرة إلا من واحد هو الصدر الذبيح(رض) ((إن كل ما كنت أطمح إليه في الحياة وأسعى له فيها هو: أن تقوم حكومة إسلامية في الأرض، والآن بعد أن أقيمت في إيران بقيادة السيد الإمام، فأن الموت والحياة عندي سواء لأن الحلم الذي كنت أحلم به وأتمنى تحقيقه قد تحقق والحمد لله)).[11]
1. كلام قاله السيد الشهيد لمبعوث صدام الشيخ عيسى الخاقاني الذي اتى لمفاوضته نقلناه من كتاب مباحث الاصول لآية الله السيد كاظم الحائري ، ج 1 /ص 162.
3. الشاهد الشهيد، ع نجف / ص 51 ـ 52.
9. مباحث الأصول ، ج 1 / ص 145ـ 146.
11. م.س / ص 162 ـ 163.