الشهيد الصدر واقتحام التحديات

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

البحث عن إسلام حركي

لو أردنا أن نلخِّص الشهيد الصدر في فكره وحركته ونشاطه وجهاده لكانت كلمة: «لقد كان الإسلام كله»، من أفضل الكلمات الدالة، لأنه تمثل الإسلام كله، لقد كان مسلماً في الاستراتيجيا وفي التكتيك، بخلاف بعض الناس الذين انطلقوا بالتكتيك وابتعدوا عن الإسلام أو حاولوا أن يجدوا في الضربة الإستراتيجية ما يعفيهم من الالتزام بها فكراً وحركة. لقد كان مسلماً في كل أحواله، في السلم وفي الحرب، في حال الشدة والرخاء، في الفقه وفي الفلسفة وفي السياسة، كان الإسلام الهاجس الذي عاشه منذ طفولته فقرأ الفقه لا ليستهلك حركته، ولكن من خلال عمق لاشعوري في داخله لينتج كل ما هو جديد منه. ولذلك فإن التجديدية هذه نشأت في وقت مبكر، فقد نلاحظ أن الذين انطلقوا بالفكر الإسلامي تنظيراً وحركة انطلقوا به بعد أن عاشوا تجارب كثيرة وواجهوا تحديات كثيرة ولكن الشهيد كان على خلافهم، فقد انطلق بالإسلام كقاعدة للفكر وللعاطفة وللحياة في شبابه الأول حيث كان الهاجس الذي كان يهز فكره وشعوره ويحرك عاطفته، هذا الهاجس الذي يقول له: إن الإسلام انطلق حركياً ولن يمكن له أن يجد أي موقع في الفكر أو في الواقع إلاّ إذا عاد حركياً.

البحث عن إسلام حركي

أما أن يبقى الإسلام فقهاً يجتر نفسه وفلسفة تحلِّق في التجريد ومجتمعاً ينطلق به أفراده ليبحث كل واحد منهم عن نقاط الضعف وتبرير قعوده وانكفاءه… أما أن يبقى الإسلام في هذا الجو وفي هذا المجال فإنّه قد يمنحك أفراداً يعرفون كيف يتعبّدون الله بطريقة وبأخرى، ولكنه لن يمنحك حياة تنفتح على الإنسان كله من خلال الإسلام كله، لينطلق الإسلام في عمق الإنسان بكل قضاياه. لذلك كنا معه وكان يبحث في بدايات انطلاقته عن المصطلحات الحركية كيف يمكن لها أن تتحرك في الأجواء الإسلامية من دون أن يسيء ذلك إلى المضمون الإسلامي والمفهوم الإسلامي، كان يعيش قلق الإسلام الحركي وكان يلاحق كل تجربة سابقة تنطلق في الواقع الإسلامي، فينقد تلك التجارب من خلال مضمونها تارة ومن خلال شكلها أخرى، وبذلك اكتملت لديه التجربة، تجربة تنطلق من فكر ينظِّر للإنسان كيف يكون الإسلام، ولا نقول إنّه ينظّر للإسلام، لأن القضية هي أننا لا ننظّر للإسلام عندما نفكر، بل نحاول أن نفهمه من خلال النظرية الثابتة المنطلقة في حركة الوحي.

السيد.. سبق مجتمعه

لذلك كان الإنسان الذي سبق مجتمعه، لم تكن تجربته في الحركة الإسلامية التي بدأها أول تجربة، ولكنها كانت التجربة الأولى في مجتمعه، وربما كانت طبيعة كثير من المفردات التي اغتنت بها هذه التجربة هي تجربة أولى. وأستطيع أن أقول، ونحن نعيش في ملامح شخصيته في طبيعة الواقع الذي كان يملؤه، حيث كان شخصية تحمل كل العناصر، حيث لم يُجد التاريخ الإسلامي بمثلها على المستويات الفقهية والحركية والفلسفية، فجمع كل هذه المستويات فحمل فيها فقهاً يتحدى كل الفقه التقليدي بل ليتفوق عليه، وفيلسوفاً استطاع أن ينطلق من خلال دراسته للفلسفة الإسلامية القديمة إلى الدخول في عمق الفلسفات الحديثة التي أبدع فيها في كتابه الأخير «الأسس المنطقية للاستقراء»، وحركياً ينطلق بالفقه بطريقة حركية، وينطلق بالحركة بأسلوب فقهي، ومجاهداً أعطى كل حياته لفكره، لأنه كان الإنسان الذي لا يعيش الازدواجية بين ما هو الفكر وبين ما هو الواقع، بل كان الواقع لديه تجسداً للفكر وكان الفكر انطلاقة في خط الواقع.

قد تجد في تاريخنا الإسلامي فقهاء في حجم الثورة وثواراً في حجم الحركة، أما أن تجد إنساناً يجمع ذلك كله، إنساناً قيمته في الوسط الفقهي كله، أنّه عندما واجه التحديات الكبرى التي عاشها الإسلام وعاشها المسلمون وكان السؤال الكبير: أيها المسلمون الحركيون إنكم تقدمون لنا إسلاماً بلغة انطلقت مع الزمن وربما مات الكثير من مفرداتها، وإنكم تحدثوننا عن مفردات فقهية لا تعالج مشاكلنا التي نعيش، ولكنها تعالج مشاكل عالم آخر، ماذا عن كل الجديد الذي فرض نفسه على الواقع؟ ماذا عن كل الجديد في الإقتصاد؟ وماذا عن كل الجديد في الإدارة؟ وماذا عن كل الجديد في حركة السلم والحرب؟ وما إلى ذلك. إن هناك إنساناً آخر وإن هناك حياة أخرى، لذلك ليست المسألة أن تطرحوا لنا الإسلام، ولكن كيف تواجهون التحديات التي يطرحها الواقع؟.

اقتحام التحديات

قيمة السيد محمد باقر الصدر أنّه كان في مستوى التحديات، كان الإنسان الذي ينفتح على كل أصول الفكر الإنساني لذلك نجده لا يتعقد من أي سؤال حتى لو كان في المسلَّمات، لأنّه انطلق في تجربته الفلسفية الأخيرة في مناقشة البديهيات على أنها ليست بديهيات، وأن كل شيء قابل للمناقشة، والقليلون من العلماء ومن الإسلاميين يعيشون هذه الرحابة في الفكر، لأن الكثيرين من المفكرين يخشون من طرح فكرهم حتى لدى الذين يملكون الفكر، لأن الغوغائية هي التي تصدم الواقع وليس الفكر. فكان السيد محمد باقر الصدر الإنسان الذي يستجيب لكل سؤال ويناقش الفكر الآخر من دون أية عقدة. وكان الإنسان الذي يقتحم التحديات كلها، اقتحم الفلسفة الماركسية والفلسفات الأخرى التي بلغ معها حداً جعله يتفوق عليها بشهادة الكثيرين. وعندما كان الإسلاميون يقدمون الاقتصاد مجرد أحكام ومسائل متفرقة في التجارة وفي الإجارة وفي المضاربة، انطلق ليقول إن في الإسلام مذهباً في الاقتصاد يقف بكل عنفوان أمام المذهب الاقتصادي الرأسمالي، والمذهب الاقتصادي الاشتراكي.

وهكذا انطلق ليواجه الفراغات التي لم يأت بها التشريع بشكل تفصيلي، والفراغات التي تنطلق من خلال الواقع المتحرك الذي لا يمكن لك أن تعطيه خطاً شرعياً محدداً، لأنه يتحرك مع الحياة في كل تطوراتها، وبذلك كانت نظريته في منطقة الفراغ، النظرية الفقهية التي شكلت تجديداً في حركة الفقه.

لا أريد أن أتحدث عن شخصه، ونحن نتناول فكره السياسي، لكنني أحب أن أقول: إن جريمة النظام العراقي في اغتيال هذا الإنسان الكبير هي أنّه أفقد الثورة الإسلامية فكراً كان من الممكن أن يسد كل فراغاتها، وكان من الممكن أن يعالج الكثير من مشاكلها، لأنّه الإنسان الذي انفتح على الثورة الإسلامية بكله وكان يحاول أن يفكر لها وهي لا تزال في البدايات وكان يريد أن ينطلق ليملأها في كل المجالات التي تحتاجها. وبعبارة أخرى كانت خسارة السيد الشهيد الصدر هي خسارة للثورة الإسلامية وللجمهورية الإسلامية، وللحركة الإسلامية لأننا لا نجد هذه الشمولية التي تتميز بها شخصيته في إنسان آخر، مع احترامنا لكل الناس الذين يتحركون في أجواء الحركة الإسلامية والثورة الإسلامية والجمهورية الإسلامية.

وهنا نقطة أخرى تمثل وحشية هذه الجريمة وخطورتها وهي أننا لا نتألم على الشهيد الصدر الماضي فحياة الشهيد الصدر إلى آخر عمره موجودة عندنا، نحن لم نخسر حياته تلك، لأنه أعطى الكثير منها ولكنه شكل خسارة للمستقبل الذي كان ينتظر الشهيد الصدر، مستقبل الفكر والحركة الإسلامية والفقه الذي يمتزج بالحركة، الذي كان من الممكن أن ينطلق بإبداعات كبيرة جداً، وكان يعيش قلق التجديد حتى لو كان التجديد في الشكل إذا لم يستطع التجديد في المضمون.

الخط السياسي للإنسان… هو الإسلام

عندما نريد أن نتحدث عن الفكر السياسي الإسلامي الذي انطلق به السيد الشهيد الصدر فإننا قد نجد في البداية الخط العام، الذي يشكّل الإسلام خطه السياسي للإنسان كله والذي يبقى في حالة عطاء دائمة من داخله لكل حركية الإنسان في الحياة، ويحمل في داخله عمق المعنى الروحي الذي يمثل الإسلام كدين، كما يحمل في داخله كل الخطوط التفصيلية للواقع التشريعي من جهة والواقع الحركي من جهة أخرى والواقع السياسي ثالثةً وهكذا كله. إنّه لم يحتج إلى كثير من التنظير ليكون الإسلام هو الخط الحركي الذي يدعو المسلمين إليه وغير المسلمين لأنّه في وعيه للإسلام واكتشافه للكنوز الدفينة في الإسلام ومن خلال ما يقدمه من حلول متنوعة لمشاكل الإنسان المختلفة كانت القضية عنده في مستوى البداهة، ولذلك لم يدخل في أي جدل مع الكثير من الكلمات التي كانت تتحدث هل في الإسلام نظام حكم؟ هل الإسلام يلتقي بالسياسة أو ما إلى ذلك؟ لأنه اعتبر المسألة من القضايا التي قياساتها معها كما يقول المنطقيون. فالإسلام كان تجربة حكم لا ينغلق على فترته الزمنية، والإسلام كان تجربة شريعة وقانون قد يختلف الناس في تقويمها، ولكنهم لن يختلفوا في أنها بالرغم من كل الإرباكات التي حدثت في داخلها كانت تملأ فراغ الإنسان المسلم. فالمسلمون في مدى أكثر من ألف سنة لم تكن لديهم شريعة إلاّ شريعة الإسلام على اختلاف الإجتهادات فيها، وعلى اختلاف التطبيقات فيها، وعلى اختلاف عناوين الحكم فيها، ولم يشعر المسلمون بأي فراغ من خلال ذلك. لذلك أن يكون الإسلام حكماً ينفتح على كل قضايا الإنسان هي من المسائل التي تنطلق فيها النظرية ويتحرك فيها التطبيق، فهي ليست نظرية تبتعد عن الواقع، ولكنها كانت واقعاً يغني النظرية كما يغتني بها بطريقة أخرى.

لذلك كانت المشكلة لديه هي مشكلة المستعمرين، كيف حاولوا بكل ما عندهم من وسائل أن يُبعدوا الإنسان المسلم عن وعيه للإسلام من جهة، وعن إحساسه بالحاجة إليه، وعن شعوره بالغنى الموجود في داخله، كانت المشكلة التي عايشها ولا نزال نعايشها أن هناك مفاهيم جديدة تنطلق في عمقها من مفاهيم قديمة، ولكنها أخذت شكلاً جديداً وحاولت أن توحي للإنسان المسلم بأن هناك فراغاً في حياته لأن ما كان يملأ حياته كان ينطلق من خلال طبيعة تلك الحياة، أما وقد انطلق الإنسان لينفتح على واقع الغرب في كل جديده فإن هناك فراغاً لا يملؤه إلا ما يقدمه الإسلام له، لذلك كانت كل تجربته هي أن يقول للمسلمين من موقع الفكر تارة، ومن موقع الفقه أخرى، ومن موقع الخطوط السياسية الحركية ثالثة، إنّ هذا الفراغ ليس هو الفراغ الذي تملؤه العلمانية في كل فروعها ولكن الإسلام هو الذي يملؤه.

ولذلك كانت القضية عنده أن يفلسف للمسلمين إسلامهم وأن يُمذهب للمسلمين إسلامهم، وأن ينوّع للمسلمين مسألة الفكرة والتجربة، النظرية والتطبيق. واستطاع أن يدخل المعركة بكل قوة في وقت كانت التحديات تنطلق في خطين: الخط الأول ويتمثل في الحكم الطاغي المنحرف الذي كان يأخذ شكل الثورة التي تجتاح مشاعر الناس باعتبار أن الثورة عندما تنطلق من واقع كان الناس يعيشون تحت تأثير قسوته فإنها ترتكز في هذا المجال على أساس إثارة مشاعر الناس وعواطفهم وتمنعهم من أن يفكروا. وكان الخط الثاني يتمثل بالحكم الذي كان يأخذ بقلوب الناس، حتى أننا رأينا في ذلك الوقت المنشورات التي تصدر عن جماعة العلماء في النجف الأشرف، تجامل ذلك الحكم، لأنها لا تستطيع إلا أن تجامل بفعل الواقع الشعبي، أو هكذا خُيِّل للذين عاشوا التجربة، وبعبارة أخرى كان هناك مدٌ شعبي انطلق من خلال ما كان يُسمَّى بالمد الشيوعي الأحمر إلى جانب التيارات الأخرى بحيث أنك عندما تنطلق في الحديث عن هذا الموضوع فقد يخيِّل إليك أنك لا تجد لنفسك موطئ قدم فيه عندما يسيطر عليك الانفعال، ولكنه كان من الطليعة الواعية من أخوته ومن العلماء الكبار المنفتحين على قضايا الإسلام في الواقع يفكر بطريقة أخرى، وكان يتمثَّل بقوله تعالى ﴿الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل﴾.

وهكذا فكَّر أنه لكي يكون هناك إسلام يتحرك في واقع الناس لا بد من حركة إسلامية، ليس معنى ذلك أن يتحوّل الإسلام بكله إلى حزب، ولكن أن ينطلق الحزب من أجل أن يربي للحركة وللواقع الإسلامي الطلائع المثقفة المنفتحة على الحياة كلها وعلى الإنسان كله، وأن يعرفوا كيف يواجهون التحديات، وكيف يدرسون المتغيرات، وكيف يعملون على حماية الواقع الإسلامي من خطة مخابراتية هنا وخطة سياسية هناك وفتنة طائفية هنا وما إلى ذلك.

القضية هي أن الآخرين عندما يخططون فإن عليك أن تخطط، وعندما يتحزبّون عليك أن تتحزَّب، لا أن يكونوا الصورة التي تريد أن تجعل نفسك على شاكلتها، ولكن أن تنطلق على أساس الكلمة المعروفة «لا يمكن لك أن تبني الحق وأن تتحرك معه إلاّ من خلال تحديات الضلال». ولذلك لم يكن السيد محمد باقر الصدر مفكراً إسلامياً يريد أن يحبس الإسلام في قمقم الحزب، ويريد أن يجعل من أفراد الحزب أناساً يحاولون أن يفكروا بأنهم المسلمون وأن بقية الناس غثاء، كان الحزب تجربة انطلق بها ليُمنهج للمسلمين حركتهم وليخطط لهم انطلاقتهم، ليواجهوا المسألة من موقع متقدم من خلال وعي الواقع في كل مجالاته. وبذلك بقيت – في وعي السيد الشهيد – الحزبية في حركيتها الإسلامية إلى جانب المرجعية، لم تلغ المرجعية الحزبية فيما هو فكره ولم تلغ الحزبية المرجعية فيما هو خطه، وبذلك كان يفكر أن يتكاملا معاً، أن تكون المرجعية هي الحركة الفكرية والفقهية التي تحمي التيار وتحمي الواقع من الإنحراف، وكان يفكر أن الأمة عندما تتحرر وتنطلق فإنها تتكامل مع المرجعية، وبهذا كانت نظريته الأخيرة – في مسألة الحكم عندما تنتصر الأمة في أي موقع – وهي الجمع بين ولاية الفقيه وبين الشورى، فكان يرى إلى أن للفقيه دوراً يتحرك في موقع الشهادة، وأن للأمة دوراً يتحرك في موقع الخلافة، لأن الشهادة والخلافة إنما يجتمعان للمعصوم، أما في غير المعصوم فإنهما لا يجتمعان لديه بهذا الشكل الشمولي، ومن هنا لم تكن نظريته نظرية الشورى بالمطلق، ولم تكن نظريته نظرية ولاية الفقيه بالمطلق، ولكنها كانت مزيجاً من ولاية الفقيه والشورى التي قد نجد بعض ملامحها في التجربة الإسلامية في إيران وإن لم تكن بهذه الدقة التي كان يطرحها السيد الشهيد.

الدولة الإسلامية العالمية.. طرحه

لذلك كانت مسألة الدولة الإسلامية العالمية هي الطرح الذي طرحه في كل مجال، ميزته في كل ما كتب، وفي كل ما تحرك به، وفي كل ما تحدث عنه، أنّه كان يطرح الإسلام على أنه فكر يقول للناس تعالوا لنتحاور على نهج الإسلام وجعل الإسلام منهج يواجه المناهج الأخرى، كان المسلم الذي لا يضغط عليه الواقع ليجامل الواقع بالتراجع عن الإسلام، كان المسلم الذي يشعر بأنه عندما يقدِّم الإسلام إلى الناس، فإنّه لا يجد هناك أي فكر آخر يجامله، ولا يجد أن هناك أي وضع آخر يهادنه. كان يعتبر أنك تستطيع أن تجامل في كل علاقاتك الاجتماعية، ولكن لا مجال لأن تجامل في خطك الفكري، خطك الفكري لا بد أن ينطلق على أساس أنك مقتنع به وأنك تريد أن تقنع الآخرين. وهذا ما قد نحتاجه في كل الواقع الذي عشناه ونعيشه الآن ونعيشه في المستقبل.

إن هناك واقعاً يضغط علينا في كل العالم، واقعاً يقول لنا بأن الإسلام هو دين يدخل في دائرة التطرف ويدخل في دائرة الإرهاب ويدخل في دائرة التعصب والتخلف وما إلى ذلك. لهذا فقد انطلقت في الواقع الإسلامي جماعات وفئات تحاول أن تنظّر لهذا الإعلام الغربي بطريقة وأخرى وتعمل على أن تعقِّد المسلمين من كل الحركيين الإسلاميين إذا أخطأوا، أما إذا أخطأ غير الإسلاميين فإن كل الظروف يمكن أن تكون مبررة لهم، ولكن إذا أخطأ الإسلاميون ولو في الصغائر فإن السماء تطبق على الأرض، ويدّعون بأن هؤلاء يخربون الإسلام، ولا يفهمونه وما إلى ذلك من كلمات تنطلق هنا وهناك.

التحدي.. والحركة الإسلامية العالمية

لذلك فإن تجربة السيد الشهيد الصدر في طرحه الفكري من جهة، وفي ممارسته العملية من جهة أخرى، تعطينا فكرة أن التحدي قد أطلق في مواجهة الحركة الإسلامية العالمية، وعلى الحركة الإسلامية العالمية أن تكون في مستوى التحدي، أن نعمل على أن ندعو للإسلام حتى في بلد ليس فيه مسلم واحد، أن ندعو للإسلام كمنطلق للوعي وكتجربة للحركة. إنني أتساءل أمام كل الذين يحدثوننا عن ضرورة مراعاة الواقع فيما نطرح من شعارات، إنني أتصوّر لو كان رسول الله (ص) موجوداً الآن فهل يحدثنا عن الإشتراكية وعن الديمقراطية وعن الليبرالية أو ما إلى ذلك؟ إن رسول الله (ص) كان في مجتمع ليس فيه مسلم واحد وكان الواقع كله يضغط، وكان الشعار الذي أطلقته قريش في وجه رسول الله (ص): والشعار الذي أطلق في وجه الإمام الحسين (ع) «لقد فرقت الناس وهم جميع» لكن رسول الله (ص) والإمام الحسين (ع) لم يقبلا بمقولة أن الأمر الواقع يصلح أن يكون مبرراً لأن نتنازل عن خطنا وعن شعاراتنا. وأنا أقول لكم: لن يأتي وقت يمكن أن نطرح الإسلام فيه ما دمنا نؤمن بمثل هذه المقولة. وعند ذلك علينا أن ننسحب من كل عنوان إسلامي سياسي أم ثقافي، أية قيمة لأبحاث إسلامية تبقى في الكتب؟! إذا كانت المسألة الواقعية تفرض علينا أن لا نجرب الحركة الإسلامية هنا ولا نجربها هناك، لأنه هنا خطراً، وهناك مشكلة سياسية أو مشكلة إجتماعية وما إلى ذلك، فأين توجد الساحة التي ليس فيها مشاكل؟!.

السيد الشهيد الصدر لو كان في الواقع الذي نعيش فيه فإنه كان يتصرّف كما تصرّف وكان يتحرك كما تحرّك. في تجربته عندما يتحدث عن أسلوب العمل، كان يقسِّم الدول إلى دولة تقوم على أساس عقيدة الكفر ودولة لا تقوم على أساس عقيدي، ودولة تقوم على أساس بعض الإسلام، ورابعة تقوم على أساس الإسلام كله. وكان يرى أن علينا أن نعمل على أساس أن نكون في مواجهة الدولة التي تقوم على أساس فكري يناقض الإسلام أو يضاده باعتبار أن هذا هو الموقع الذي يمكن أن نضع أمامه كلمة الجهاد، فالمسألة في هذا المجال لا بد فيها من مواجهة القضايا بالعنف أقرأ لكم بعض هذا النص في الأسس التي كتبها في بداية تجربته الحركية، إنّه يقول عن هذه الدولة: «وحكم الإسلام في حق هذه الدولة أنه يجب على المسلمين أن يقضوا عليها وأن ينقذوا الإسلام من خطرها إذا تمكنوا من ذلك، بمختلف الطرق والأساليب التبشيرية والجهادية، لأن الإسلام في هذه الدولة حتى بصفة عقيدة موضع للهجوم وموضع للخطر فتكون الحالة معها حالة جهاد لحماية بيضة الإسلام غير أن وجوب جهاد هذا العدو لا يعني بطبيعة الحال القيام بأعمال تُعرِّض العاملين للخطر دون نتيجة إيجابية».

المواجهة هي المبدأ أما أسلوب المواجهة، فهي إذا كان العاملون يتعرضون للخطر وكانت النتائج إيجابية فعليهم أن يواجهوا الخطر، أما إذا لم تكن النتائج إيجابية بحيث تكون المواجهة بمثابة حركة انتحارية فإن المسألة لا تشجع على أن ينتحر العاملون، بل عليهم أن ينتظروا فرصاً أخرى وظروفاً أخرى.

أما الدولة الأخرى التي لا تملك لنفسها قاعدة فكرية معينّة كما هو شأن الحكومات القائمة على إرادة حاكم وهواه، فإنّه يتحدث عن الحكم الإسلامي، يقول: «والإسلام في هذه الدولة وإن كان لا يُجابه منها حرباً مركزة على عقيدته وأفكاره إلاّ أنّه حيث أقصي عن قاعدته الرئيسية أصبح يفقد ضمان الدولة بكل وجه من الوجوه وأصبح وجوده في خطر، والحكم الشرعي في حق هذه الدولة أنها ليست دولة شرعية، ويجب على المسلمين هدمها وإبدالها بدولة إسلامية، وكذلك فإن وجوب إبدالها لا يعني القيام بأعمال تعرض العاملين للخطر دون احتمال نتيجة إيجابية، كما أن الطرق التي تستعمل في سبيل هدمها وإبدالها تقدم من حيث درجة العنف والقوة طبقاً لمدى الخطر الذي يتهدد الإسلام منها، وطبقاً لإمكانات العاملين واحتمال عود جهادهم بنتيجة على الإسلام». وهناك الدولة الإسلامية التي تنطلق من الإسلام كله فلا بد من دعمها أو من بعض الإسلام دون بعض فلا بد من الدخول في حوار معها.

لننتج عمقه الفكري

إذاً السيد الشهيد رحمه الله ينطلق على أساس أن تكليفنا الشرعي هو الدعوة إلى الدولة الإسلامية في العالم بحيث نواجه كل حكم غير إسلامي بالوسائل التي يمكن لها أن تؤدي إلى نتائج إيجابية ويمكن لها أن تعطي الإسلام خطوة متقدمة أو تعطي للمشروع الإسلامي إنطلاقة جديدة في هذا المجال.

إنّه كان يفكر في هذا الأفق، وأعتقد أننا في هذه المرحلة من حياتنا الإسلامية نحتاج إلى أن ننتج هذا الفكر من جديد، ولا أقصد من كلمة «انتاج هذا الفكر من جديد» أنه ليس هناك فكر بهذا الشكل في واقعنا، فنحن في عصر الصحوة الإسلامية وعصر الثورة الإسلامية وعصر الحركة الإسلامية، لكنني أقصد أن ننتج عمقه الفكري في عقلنا السياسي وفي عقلنا الاقتصادي والاجتماعي بحيث نعمل كإسلاميين بكلنا، لأن المشكلة هي أن هناك عناوين تُطرح في الساحة ولها مفاهيم فكرية في داخلها وربما تلتقي مفاهيمنا الإسلامية ببعض خطوطها، ولذلك فقد يبادر الكثيرون منا ممن يريدون أن يتخففوا من ضغط الحاضر على أوضاعهم أو على كثير مما يفكرون فيه بطريقة جزئية هنا أو طريقة جزئية هناك إلى الانسجام معها.

إن هناك عناوين تتحرك في الساحة ولها جذور فكرية مختلفة، وقد بدأنا من خلال الضغوط الفكرية والسياسية والواقعية نرزح تحتها حتى أصبحنا نود أولاً أن نمسك بها أو أن نأخذ بعضاً منها أو أن نطرحها بطريقة وبأخرى.

إن هناك حملة ثقافية سياسية عالمية على الإسلام وعلى المسلمين، وهو أن الإسلام ضد الديمقراطية، وأن المسلمين لا يتحركون في أوضاعهم ديمقراطياً، وقد بدأ الحديث في أكثر من موقع إسلامي بأنه علينا أن نصالح بين الديمقراطية والإسلام في بعض الطروحات، وأنّ علينا أن نصالح بين الديمقراطية والشورى ، وعلينا أن ننطلق لنطوّر الإسلام ليكون ديمقراطياً، ويستشهد هذا بآية هنا وآية هناك، لكن للكلمات مدلول فكري فلسفي، إذا استعملت الكلمة فلا بد أن تخضع لها. قد نمارس اللعبة الديمقراطية كما تمارسها الجمهورية الإسلامية في إيران، لكن هناك فرق بين أن تمارس اللعبة الديمقراطية من خلال التزامك بها وبين أن تمارسها من خلال أنها وسيلة من الوسائل التي تستطيع أن تحقق بها عنوان شورى من جهة أو عنواناً آخر من جهة أخرى.

نحاور العالم ولا نسقط أمامه

إن علينا أن نعرف ما معنى الالتزام بالديمقراطية، لو أن الإسلام نجح من خلال الديمقراطية فمعنى ذلك أن الإسلام شرعي، لأن الأكثرية الشعبية صوّتت له، وبذلك يفقد الإسلام شرعيته إذا صوّتت الأكثرية ضده. إن الديمقراطية لا تعطي شروطاً في العناوين التي تتقدم إلاّ الشروط الإدارية، فهي ضد التمييز الديني مثلاً، فلا تشترط أن يكون الحاكم مسلماً، وما إلى ذلك. لذلك أن تمارس الديمقراطية وأن تدعو لها من جهة التزامك بالديمقراطية كخط، معنى ذلك أنك لا تنطلق من الإسلام على أساس أنّه دين الله، ولكن على أساس أنّه اختيار الشعب، هل نستطيع كمسلمين أن نلتزم بهذا الأمر حتى في القضايا المتحركة؟ بعض الناس يقولون لا ديمقراطية في مسألة التعبديات، ولكن في المسائل الأخرى يمكن أن ننطلق مع الديمقراطية، ونحن نقول: حتى في المسائل المتحركة هل ننطلق بالديمقراطية من خلال انطلاقها مع العناوين الشرعية وتأكيدها لهذه العناوين في مضمونها أو أن ننطلق بها كعنوان كبير؟! وهكذا في الاشتراكية وفي كل المجالات.

مصطلحات الإسلام مصطلحاتنا ولا حاجة بنا إلى مصطلحات أخرى. فالمصطلحات الأخرى قد نجد فيها ما يتفق مع الإسلام وما قد يختلف فيها معه، ولذلك علينا أن نتعامل معها على هذه القاعدة، ليبقى المفهوم في دائرته الدقيقة العلمية. ولعلّكم إذا قرأتم الشهيد الصدر في كل نتاجه منذ أن كتب بيانات «جماعة العلماء» في النجف الأشرف إلى «الأسس المنطقية للاستقراء» إلى ما كتبه، لرأيتم أنّه كان الإنسان الأمين على المصطلحات الإسلامية، وكان دقيقاً في التعامل معها كما معروف عنه في دقته الأصولية المتميزة.

ولهذا فإن الآخرين يريدون أن تسقط مصطلحاتنا تحت ضغط مصطلحاتهم، وأن تسقط سياستنا تحت ضغط سياستهم. إننا ننفتح على العالم ونحاوره ولكننا لا نسقط أمامه، هناك فرق بين أن ينحني فكرك لفكر آخر وإرادتك لإرادة أخرى وبين أن تتوازن في بعض الحالات مع هذه النقطة أو تلك النقطة.

تسمية الأشياء بأسمائها

وعندما نقترب إلى ممارسته العملية، يؤكد الشهيد الصدر درس المسألة العراقية التي كان يعيش تحت ضغطها ودرس الحكم العراقي وفهم جيداً أنّه الحكم الذي يريد أن يجتث جذور الإسلام من كل واقع المسلمين، ولهذا كانت مبادرته الأولى إلى إصدار فتوى بتحريم الإنتماء إلى حزب البعث في العراق حتى يعرِّف المسلمين بأن الخط الذي ينطلق به الحكم يختلف عن الخط الإسلامي، لأن الكثيرين من المسلمين هناك قد لا يفهمون الأمور فهماً شرعياً يدخل في وجدانهم وإحساسهم عندما تكون المسألة مسألة تحليل وتنظير، ربما نجد بعض الناس لا يحبون أن يقرأوا التحليلات أو يفهموها. لذلك تأتي الفتوى عميقة الجذور في تأثيرها في وعي المسلمين ولا سيما إذا صدرت من إنسان يؤمن المسلمون بأنه يملك الكفاءة التي تجعله في موقع الفتوى.

ومن هناك فإننا نجد في بعض نداءاته بياناً لا أظن أنه صدر من أي مجتهد مسلم شيعي في كل أوضاعهم، ما يدل على أنّه كان يعيش الفكرة في موقع المسؤولية، لأنه كان يدرك الخطورة التي تدفعه أن يسمي الأشياء بأسمائها دون أن يخاف من تعصب المتعصبين ومن تشويهات الجاهلين. إنّه يقول: «إني منذ عرفت وجودي ومسؤوليتي في هذه الأمة بذلت هذا الوجود من أجل الشيعي والسني على السواء ومن أجل العربي والكردي على السواء حيث دافعت عن الرسالة التي توحدهم جميعاً وعن العقيدة التي تهمهم جميعاً»، مركزاً على أن الخط السياسي هو خط إسلامي، ولذلك فإنه يخاطبهم من خلال الإسلام. «ولم أعش بفكري وكياني إلاّ للإسلام طريق الخلاص وهدف الجميع فأنا معك يا أخي وولدي السني بقدر ما أنا معك يا أخي وولدي الشيعي، أنا معكما بقدر ما أنتما مع الإسلام وبقدر ما تحملون هذا المشعل العظيم لإنقاذ العراق من كابوس التسلط والاضطهاد، إن الطاغوت وأولياءه يحاولون أن يوحوا إلى أبنائنا من السنّة أن المسألة مسألة شيعة وسنّة، ليفصلوا السنّة عن معركتهم الحقيقية ضد العدو المشترك وأريد أن أقولها لكم يا أبناء علي والحسين وأبناء أبي بكر وعمر إن المعركة ليست بين الشيعة والحكم السني، إن الحكم السني الذي مثله الخلفاء الراشدون والذي كان يقوم على أساس الإسلام والعدل حمل «عليٌّ» السيف للدفاع عنه إذ حارب جندياً في حروب الردّة تحت لواء الخليفة الأول «أبي بكر» وكلنا نحارب عن راية الإسلام وتحت راية الإسلام مهما كان لونها المذهبي، إن الحكم السني الذي كان يحمل راية الإسلام قد أفتى علماء الشيعة قبل نصف قرن بوجوب الجهاد من أجله وخرج الآلاف من الشيعة وبذلوا دمهم رخيصاً من أجل الحفاظ على راية الإسلام، إن الحكم الواقع اليوم ليس حكماً سنياً – وهذا موجَّه إلى كل الذين يتعصّبون لملك سني أو ملك شيعي كما كان في أيام رضا شاه أو رئيس وزراء سني أو رئيس شيعي في مجال آخر على أساس أن هذا شيعي أو سني وأن في هذا دعم للتشيع وفي هذا دعم للتسنن، لاحظوا كيف يعالج السيد الصدر هذه المسألة – «إن الحكم الواقع اليوم ليس حكماً سنياً وإن كانت الفئة المسلَّطة تنتسب تاريخاً إلى التسنن، فإن الحكم السني لا يعني حكم شخص ولد من أبوين سُنِّين، بل يعني حكم أبي بكر وعمر الذي تحداه طواغيت الحكم في العراق اليوم في كل تصرفاتهم، وهم ينتهكون حرمة الإسلام وحرمة عليّ وعمر معاً في كل يوم وفي كل خطوة من خطواتهم الإجرامية». ثم يقول بعد ذلك: «إني أعاهدكم بأني لكم جميعاً ومن أجلكم جميعاً وأنكم جميعاً هدفي في الحاضر والمستقبل، فلتتوحد كلمتكم ولتتلاحم صفوفكم تحت راية الإسلام، ومن أجل إنقاذ العراق من كابوس هذه الفئة المتسلِّطة، وذلك حتى يشعر فيه المواطنون جميعاً على اختلاف قومياتهم ومذاهبهم بأنهم أخوة».

الوحدة الإسلامية

كانت فكرة الوحدة الإسلامية على أساس الإسلام لا سيّما في المسألة السياسية قضية تتمرد على كل المشاعر والانفعالات الطائفية المذهبية من دون أن يعني ذلك أن يصبح السني شيعياً من دون مناسبة أو يصبح الشيعي سنياً من دون مناسبة، ولكن أن يتفقا على الإسلام عندما يتعرّض الإسلام للخطر وعندما يتعرض الواقع الإسلامي للخطر، لأن القضية لن تكون قضية سنة وشيعة، بل قضية الإسلام كله في هذا المجال.

ونحن نعرف – في نهاية المطاف – أن الطاغية قد حاول أن يخيّره بين السلة والذلة، فقد نقل أحد تلاميذه أنه جاء إليه موفد من قبل طاغية العراق الحالي يعرض عليه أموراً، منها:

الأوّل: أن يسحب تأييده للجمهورية الإسلامية وللإمام الخميني، لأن الشهيد السيد الصدر أعطى الجمهورية الإسلامية كل تأييده وأعطى الإمام الخميني كل مواقعه حتى أنّه عندما أمر الناس أن يذوبوا في الإمام الخميني كما ذاب في الإسلام نراه هو ذاب وذوّب حياته في هذا الاتجاه.

الثاني: أن يؤيد بعض مشاريع الحكم هناك، ليس من الضروري أن يؤيد الحزب، ولكن أن يؤيد بعض مشاريعهم كتأميم النفط مثلاً حتى يعرف الناس بأن السيد الشهيد ينظر بعطف إلى هذا النظام.

الثالث: أن يسحب فتواه في تحريم الإنتماء إلى حزب البعث.

الرابع: أن يفتي بتحريم الإنتماء إلى حزب الدعوة الإسلامية.

الخامس: أن يُجري بعض الصحفيين الأجانب معه حديثاً يقول فيه ما يشاء ليعرف الناس بأن المسألة بين الحكم وبين «السيد» هي مسألة طبيعية.

عندما انتهى هذا الشخص من عرضه قال له: وإن لم أفعل، قال له: إنهم يقولون إن الإعدام هو البديل من ذلك. عند ذلك قال كلمته «إذاً بلِّغ صدام عندما يريد إعدامي فإني مستعد لذلك» وهكذا كانت المسألة في نهاية المطاف، كان يملك أن يتخفف من ذلك كله، كان يملك أن يستعمل التقية وقد يجد الكثيرون من الناس أنها في أعلى درجات التبرير كتقية «عمار بن ياسر»، ولكنه كان يعيش هاجس الشخصية الحسينية والمرحلة الحسينية، كان يفكر بين وقت وآخر أن يصدم الواقع حتى لو كان ذلك على حساب حياته، ولذلك كان يطلب من إخوانه أن يفكروا في تحديد النتائج الإيجابية، هل هناك نتائج إيجابية من اختياره للتضحية وكان يفكر أن يخرج هناك في ساحة حرم الإمام علي (ع) ويعلن الثورة ويتكلم بكلام قاسٍ ضد الحكم، وكانت المسألة عنده كيف يحدد تكليفه الشرعي للمسألة من خلال تقويمه للنتائج التي يمكن أن تنطلق في هذا الاتجاه.

ويبدو أنّه رأى أن النتائج الإيجابية هي في هذا الإتجاه، ونحن نرى النتائج الإيجابية هي في كل هذا الجيل الإسلامي الذي عاش بعده وفي كل هذا الجو الإسلامي الذي لا يزال يصنع وهو عند ربّه بفكره وجهاده. لذلك السيد محمد باقر الصدر هو القيمة الإسلامية الكبرى التي ينبغي لنا جميعاً كإسلاميين مع اختلاف مناهجنا الفكرية وآرائنا الفقهية، أن نستوحي فكر هذا الشهيد في الالتزام بالإسلام وأن نصر عليه إصراراً يجعل العالم يفهم بأننا لن نتنازل عن حكم إسلامي صغير وعن شعار إسلامي، ليس معنى ذلك أن ندخل في الفوضى، ولكن أن يكون التخطيط في هذا الإتجاه، لأننا نؤمن أن التخطيط سر النجاح.

قيمة الحركة الإسلامية أن الاستكبار ضدها

إن ذكرى الشهيد الصدر تعني أن نكون مع أية حركة إسلامية في أي مكان وجدت حتى لو اختلفنا معها، أن نكون معها لأن الإسلام يجمعنا. وإذا أردنا أن نركز على الخلافات فإن علينا أن نعمل على أساس أن نركزها من الداخل لا من الخارج. لا يجوز تحت أي اعتبار أن نخذل حركة إسلامية، ربما نحتاج إلى أن ننقد بعض أوضاعها بطريقة علمية لا توحي بالإستهانة بها ولا توحي بخذلانها، لذلك الإسلام الآن – وأقصد الإسلام الحركي – موقف واحد وإن اختلفت مواقعه. لذلك لا يجوز لنا أن نخذل أو نحمل أو نشوّه أو نتعامل مع أي نظام ضد هذه الحركة الإسلامية أو تلك، يكفينا من الحركات الإسلامية أنها تقف في وجه الإستكبار العالمي الفكري والسياسي وأن الإستكبار العالمي يقف ضدها، الدليل على صحتها أن أمريكا تقف ضدها وأن أوروبا تقف ضدها وأن روسيا تقف ضدها، إن الكفر كله يقف ضدها وأن المسلمين المنفتحين على خطط الكفر يقفون ضدها وأن المؤمنين الطيبين هم الذين يقفون معها. أن نختلف معها هذا أمر لا بد أن يبقى أما أن نسقطهم وأن نخذلهم هذا ما لا يجوز.

لتكامل الحركات الإسلامية

أن ننطلق مع الشهيد السيد الصدر لا أن نقف عند مرحلته، أن ننطلق في هذا الخط، خط أن نبدع وأن نجدد وأن يكون الإسلام إسلام الفكر، وهذا ما ركز عليه الشهيد الصدر. أن يكون إسلامنا قاعدة فكرية يتحرك فيها الإنسان المسلم حتى في عاطفته، لا بد أن تكون عاطفتنا منطلقة من خلال قاعدتنا الفكرية، لأن العاطفة التي لا تنطلق من قاعدة فكرية سوف تضيع في متاهات الأشياء التي توحي بالعاطفة.

لذلك نحن مع السيد الشهيد الصدر أن يكون الإسلام قاعدة للفكر وللعاطفة وللحياة، وأن تتكامل الحركات الإسلامية فيما بينها، وأن يتكامل المسلمون فيما بينهم، حذار من أن تنطلق حركة إسلامية لتهاجم حركة إسلامية أخرى لمجرد أن هناك خلافاً في بعض تفاصيل الأسلوب وبعض تفاصيل المنهج، لا وقت لنا أن نختلف مع بعضنا، لا فرصة لنا لأن نختلف مع بعضنا، لا يجوز لنا أن نختلف مع بعضنا، لأن الكفر توحد ضدنا، فعلينا أن نتوحد ضده، لقد برز الكفر كله إلى الإيمان كله فعلى الإيمان كله أن يبرز إلى الكفر كله.

﴿وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون﴾

والحمد لله رب العالمين

السيد محمد حسين فضل الله