نظرية العامل الواحد في تفسير التاريخ

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

إنّ الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر! منارة علمية، عالية الشرفات، ساطعة الأنوار، كثيرة البركات، أفاضته العناية الإلهية في عصر كان المسلمون أحوج ما يكونون فيه إلى مثل هذه الشخصية العملاقة، إنّه عصر الإجهاز على الدين واستهداف جذوره من أعماقها، مع إيجاد البديل العقائدي ومضامينه الفكرية والسلوكية، ولقد حشدت كل الطاقات الفلسفية والثقافية والإعلامية والمادية في تيار هو الأخطر والأقوى طوال عمر المواجهات مع الأديان، لقد امتّلك هذا التيار قدرات سياسية وإعلامية وعسكرية جعلته يهيمن على مساحات واسعة من الكرة الأرضية، وينسف في طريقه مرتكزات عقائدية وأخلاقية ويجفف في الإنسان نسغ الفطرة والخير والحق.

في هذا العصر تشرفت الأسواق والمكتبات باحتضان كتابين عظيمين للسيد الصدر، هما فلسفتنا واقتصادنا، وتسارعت إليهما أيدي العاملين لخدمة الدين، ووجدوا فيهما آفاق الفرج والخلاص، وعكفوا على دراستهما مرة بعد اُخرى، حتى إذا استقام قائم هذا السيف بأيديهم تصدوا لمنازلة العتاة، فإذا بالباطل زاهق وإذا بمنسأته قد أكلتها دابة الأرض.

فرحم الله الشهيد الصدر وأسكنه الغرف العالية مع رهط الأنبياء والمرسلين.

إنّ دراسة التاريخ وتفسير حركته ليست مسألة علمية محضة، فقلما يختلف على المسائل العلمية واختلف في تفسير حركة التاريخ كأشدّ ما يكون الاختلاف؛ لأنّ تفسيره مرتكز فكري ومبرر سُنَنِي لهندسة المستقبل وتصميمه، ومتكأ ايديولوجي لرسم ملامح ما ينبغي أن يكون عليه المجتمع. إذن تفسير حركة التاريخ تختزن بعداً سياسياً يخدم الايديولوجيات التي تتصف بالعالمية، وذلك في مجال التغيير وتعميم ونشر نظرياتها في الذهنية العامة.

إنّ مفسري التاريخ يلتقون عند نقطة واحدة وهي أنّ التاريخ في سيره وحركته محكوم ـ كظاهرة من الظواهر ـ بقانون العلية، ثم يفترقون بتحديد هذه العلة العميقة المحركة للتاريخ وتحديد العامل الأساس الذي يكمن وراء الحوادث التاريخية، والغالب أنّ هؤلاء المفسرين يقفون عند عامل واحد يعطونه الأهمية القصوى في مجال التفسير، فحيث يرى فرويد أنّ الجنس هو المحرك الأقوى بل الأوحد في دفع عجلة التاريخ يرى ماركس أنّ الاقتصاد وحده هو الموجه للتاريخ، وهكذا تختلف النظريات وتتباين، وكل يغني على ليلاه، وينتصر لنظريته ويحشد لها كل أسباب الإقناع، ومن بين هذه النظريات ـ التي طفت على السطح، وشغلت الكثير من الدارسين والمفكرين والسياسيين، وأفرزت على ساحة الواقع نظاماً سياسياً جباراً، حشد للإنتصار لهذه النظرية كل أدوات ووسائل التربية وفنون الأدب والقوة العسكرية والسياسية والمادية ـ نظرية تفسير التاريخ بالعامل الاقتصادي، والتي صاغت كل مراحلة التاريخ في إطار ما سمته بالمادية التاريخية، ثم انطلقت طموحاتها إلى آفاق المستقبل البشري زاعمة أنّ الحتمية التاريخية ستحكم هذا المستقبل حتى ينتهي مسار التاريخ إلى الحلم الشيوعي المنشود.

حيث ستنعم البشرية بمجتمع الطبقة الواحدة من جديد حيث لا تعب ولا نصب، ولا صراع ولا هموم، ولا استغلال ولا دولة،ولا أسرة ولا حاكم ولا محكوم، ولا درهم ولا دينار.

مفاد النظرية

العامل الاقتصادي محرك للتاريخ في كل أبعاده وجوانبه، والوضع الاقتصادي يحدد كافة الأوضاع الاجتماعية والسياسية والفكرية والدينية والفنية… وترى النظرية الماركسية أنّ الوضع الاقتصادي تحدده وسائل الانتاج والقوى المنتجة، هذه القوى التي يضطر الإنسان لاستخدامها في صراعه مع الطبيعة، والتي تتطور بشكل دائم بدءاً من الحجر والفأس إلى النجار والكهرباء والذرة، والتي تحتل في النظرية المفتاح الذي تُفسر به كل مراحل التاريخ، وذلك بالتحليل الآتي: تعتبر الماركسية أنّ الانتاج لا بد أن يكون اجتماعياً مما يفرز علاقات اجتماعية، وبشكل أوضح علاقات مُلكية تحدد الوضع الاقتصادي وكيفية توزيع الانتاج وشكل الملكية، مشاعية أو عبودية أو اقطاعية، وشكل التملك يقوم عليه البناء العلوي للمجتمع كله من علاقات سياسية وحقوقية وظواهر فكرية ودينيّة وفنيّة….

إذن علاقات الانتاج تابعة لأدوات الانتاج، والحياة السياسية والحقوقية والفكرية والدينية تابعة لعلاقات الانتاج أيضاً. أمّا آلية تطور العلاقات وما تفرزه من بناء فوقي فتتم على الشك التالي:

أدوات الانتاج تتطور باستمرار، وعلاقات الانتاج لا تواكب هذا التطور لأدوات الانتاج حتى تصبح بحلول أدوات انتاج جديدة معيقة لنمو أدوات الانتاج الجديدة وغير مناسبة لها، مما يجعلها في صراع مع هذه الأدوات، ويواكب هذا الصراع، صراع طبقي داخل المجتمع بين طبقة ترى مصالحها في دوام واستمرار العلاقات القديمة، وطبقة ترى مصالحها مع تطور أدوات الانتاج، وهذا الصراع الاجتماعي والتناقض الطبقي يعتبر انعكاساً وتعبيراً عن الصراع بين علاقات الانتاج وأدواته، ولما كانت وسائل الانتاج هي القوة الرئيسية في مسيرة التاريخ فمن الطبيعي أن تنتصر في صراعها مع علاقات الملكية ومخلفات المرحلة القديمة، ويتبع ذلك انتصار الطبقة الاجماعية المتحالفة مع أدوات الانتاج، وبانتصارها تتحطم علاقات الملكية القديمة ويتغير الوجه الاقتصادي للمجتمع ثم يتزعزع البناء العلوي كله من سياسة وأفكار ودين وأخلاق، والنتيجة أنّ وجه المجتمع يتغيّر بتغيّر الوضع الاقتصادي. ولكنّ ذلك كله حلّ مؤقت طالما أنّ أدوات الانتاج ستواصل نموها وتطورها، وهكذا تتكرر العملية ويتكرر التناقض بين أدوات الأنتاج والعلاقات الانتاجية، ويتولد الصراع الطبقي ويتحرك التاريخ من خلال انفجارات ثورية مرحلة بعد مرحلة مروراً بالمرحلة المشاعية فالعبودية فالاقطاعية فالرأسمالية فالشيوعية، ويكون لكل مرحلة بناؤها الفوقي القائم على نمط الوضع الاقتصادي، وهذا هو ملخص تفسير التاريخ عند الماركسية ودور العامل الواحد في حركة التاريخ.

إنّ الشهيد الصدر! وضع هذه النظرية تحت المجهر العلمي والمنطقي ومددها على طاولة التشريح بكل كفاءة واقتدار، وراح يفحص فيها كل نسيج وخلية وينبش عللها الدفينة، ويشخص كل خلل وعيب غاب عن كثير من العقول والأفهام التي طالما وقفت مذهولة أمام هندسة هذه النظرية وأبعادها الاجتماعية والفلسفية والاقتصادية. واُلخِّص ردّ الشهيد الصدر على هذه النظرية من خلال جملة من السهام التي طعن بها السيد محمد باقر الصدر هذه النظرية والتي أصابت مقاتل عديدة فيها:

نقد النظرية

أولاً:

أخطأت الماركسية حين ادّعت احتكار الاعتقاد بوجود حقيقة موضوعية لأحداث التاريخ في حين أنّ الحقيقة الموضوعية هي نقطة الانطلاق لكل من يفسر أحداث التاريخ، وكذلك الإيمان بوجود مبدأ العلية الحاكم على الحدث التاريخي والطبيعي والسياسي.

ثانياً:

أنّ المادية بمفهومها الفلسفي تعني أنّ المادة بظواهرها المتنوعة هي الحقيقة الواقعية الوحيدة، وأنّ المعنويات نتاج للمادة في درجات خاصة من تطورها، وعند ذلك يستوي أن يكون الإنسان نتاجاً للشروط المادية والقوى المنتجة، أو أن تكون شروط الإنتاج وقواه نتاجاً للإنسان، فمن أي القطبين نبدأ بتفسير التاريخ بحيث لا نخرج عن المفهوم الفلسفي للمادة؟ إذن ما المرر لئن ننزل بالإنسان إلى درجة ثانوية في السلّم التاريخي ونعتبره عجينة رخوة تكيفها أدوات الإنتاج كما تشاء؟

ثالثاً:

آمنت الماركسية بقوانين الديالكتيك وطبقتها على الصعيد الاجتماعي، معتبرة أنّ التطور الاجتماعي حركة ديناميكية منبثقة عن التناقضات الداخلية في صميم المجتمع والتي تتراكم شيئاً فشيئاً حتى تحين اللحظة المناسبة لتتفجر عن تحول شامل، وبنفس الوقت تعتبر الماركسية أنّ هناك علاقة علّية بين قوى الانتاج والظواهر الاجتماعية الفوقية، بمعنى أنّ تطور الظواهر الاجتماعية لم يتم بالتناقض الداخلي بحسب منطق ماركس الديالكتيكي بل بعامل خارجي هو قوى الانتاج.

رابعاً:

أنّ الديالكتيك التاريخي مجرد جدل تجريدي في ذهن ماركس، وإلاّ فكيف يكون تملك الحرفي لوسيلة انتاجه هو علة تملك الرأسمالي لها ليقال: إنّ النقيض ولد من نقيضه ثم يلتحم النقيضان ليشكّلا المجتمع الاشتراكي؟ إنّ سبب هيمنة الرأسمالي على ملكية الحرفيين هو التجارة، واستغلال المستعمرات، واكتشاف المناجم، وتضخم الملكية، وإلاّ لما برز الانتاج الرأسمالي.

خامساً:

أنّ المعارف والأفكار هي انعكاس للوضع الاقتصادي، والأوضاع الاقتصادية تنمو وتتطور، والنتيجة فإنّ هذه المعارف نسبية ومتطورة وغير مطلقة، هذه النتيجة لا بد لماركس من الإقرار بها منهجياً لكن السؤال لماذا لا تطبق هذه النسبية أيضاً على النظرية الماركسية فتكون انعكاساً لوضع اقتصادي عابر؟ ولماذا تعتبر الماركسية أن المادية التاريخية حقيقة مطلقة، ونقطة انتهاء المعرفة البشرية؟

سادساً:

آمن ماركس بأنّ الانقلاب الثوري من قوانين التاريخ العامة، وخلافاً لهذه النظرية فإنّنا نرى أنّ الرأسمالية الأوربية ـ لا سيما الغربية منها ـ قد اتجهت اتجاهاً اصلاحياً لا ثورياً، عكس أوربا الشرقية التي لم تنضج فيها الرأسمالية لدرجة الانفجار الثوري، ومع ذلك نجح فيها النهج الثوري، فهلّل الماركسيون لذلك النجاح ناسين أنّ هذا الاتجاه الثوري ليس قاعدة مطلقة إنّما هو فكرة استوحاها ماركس من ظروفه، ثم وضع عليها المساحيق العلمية وأعلنها قانوناً لا يقبل الاستثناء.

سابعاً:

تقول النظرية الماركسية في تفسير التاريخ إنّ الأحداث التاريخية تخضع في تطورها لمبدأ العلية بما فيها من تيارات اجتماعية وفكرية وسياسية، فإذا كانت التيارات الفكرية والسياسية والدينية خاضعة للأوضاع الاجتماعية، والأوضاع الاجتماعية مردّها للأفكار والآراء فنكون قد وقعنا بحلقة مفرغة. وهنا الماركسية تردّ المسألة إلى سبب أعمق وهو وسائل الانتاج، وإذا قلنا: ما علة تطور وسائل الانتاج؟ أجابت الماركسية بأنه من خلال التجربة والتفاعل مع وسائل الانتاج تتولد أفكار تطور وسائل الانتاج، وهكذا تظن الماركسية أنها تخلّصت من الحلقة المفرغة واحتفظت لوسائل الانتاج بموقفها الرئيسي من التاريخ، وهنا نتساءل من الناحية الفلسفية ذاتها لماذا لا تكون التجربة الاجتماعية التي يخوضها الإنسان من خلال علاقاته بالأفراد الآخرين مولدة لأفكار وآراء وسياسات جديدة تنمو وتتطور في ظل التجربة الاجتماعية، وتؤثر في تطويرها وتجديدها طالما أنّ تفسير الآراء وتطورها عن طريق التجربة الاجماعية المتمثلة في الاوضاع السياسية والاقصتادية هو نظير التفسير المتبادل للقوى المنتجة والوعي العلمي؟

ثامناً:

أنّ دراسة الظاهرة التاريخية تختلف عن دراسة الظاهرة الطبيعية كالحرارة مثلاً؛ ذلك بأنّه دراسة التاريخ كظاهرة لا يمكن معها التحكم بالفرضيات المتحملة لتفسير الظاهرة، فنستبعد منها ما نشاء ونبقي ما نشاء كي نصل إلى درجة الوثوق العلمي، فكيف نحكم من خلال مشهد واحد من مشاهد التاريخ في القرن الثامن عشر أو التاسع عشر على صحة نظرية لم تتمكن من استيعاب التاريخ ولا من استبعاد الفرضيات المطروحة الأُخرى؟

تاسعاً:

أنّ المقياس الأعلى لاختبار صحة نظرية هو مدى نجاحها في مجال التطبيق، وهنا نتساءل:

ألف: أية مادية تاريخية شقت المانيا نصفين، أُدرج جزؤها الشرقي في العالم الاشتراكي، وجزؤها الآخر ضمن مجموعة العالم الرأسمالي!

ب: أي مادية تاريخية جعلت بولونيا وتشيكوسلوفاكيا والمجر مجتمعات اشتراكية لولا اجتياح الجيش الأحمر لها!

ج: هل بلغت قوى الانتاج في روسيا الدرجة المطلوبة لتحويلها ثورياً إلى بلد اشتراكي والواقع أنّ عكس ذلك وعكس المنطق الماركسي هو الذي حول روسيا إلى مجتمع إشتراكي؟ فإنّ انخفاض مستوى الصناعة والإنتاج من العوامل المهمة في انفجار الثورة فيها، بينما نمو الصناعة. والقوى المنتجة في الدول الغربية لم يخصب فيها الاتجاه الثوري!

د: أنّ الثورة الداخلية في روسيا نجحت بسبب انهيار الجهاز الحاكم أثر الحرب العالمية الأولى واستغلال المعارضة لهذا الضعف السياسي والإدراي، وهكذا فإنّ حركة التاريخ في الأمثلة الآنفة الذكر لم تحمل خصائص النظرية الماركسية ولو لمرة واحدة.

عاشراً:

لماذا تتطور وسائل الانتاج؟

تجيب الماركسية بأنّها تتطور من خلال التجربة كممون وحيد للإنسان بالأفكار. لكن الماركسية تقول بأنّ التجربة لا تزود الإنسان إلاّ بتصورات، والحقيقة لولا أنّ الإنسان يمتلك قدرات فكرية تحليلية وتركيبية لظلت قوى الانتاج في مستواها البدائي، وهكذا نرى أنّ قوى الانتاج محكومة لعامل أعلى منها درجة في تسلسل التاريخ.

حادي عشر:

الدين عند الماركسية حصيلة التناقض الطبقي كالفلسفة والعلم والأدب، لكن الماركسية طوراً تعتبر الدين من صنع الطبقة المستغلّة لتحذير الطبقة المستغلَّة متغافلة عن الواقع الذي يدلل عن نشوء الدين في أحضان الفقراء، كالمسيحية في الامبراطورية الرومانية حملها أولئك الرسل الفقراء إلاّ من الجذور الروحية.

ثم ما هي مصلحة الطبقة الثرية والمستغِلّة في مكة لتصنع ديناً يحارب الرأسمال الربوي، وينادي بالمساواة ويستهين بالأغنياء؟

وطوراً آخر تزعم الماركسية أنّ الدين نابع من أعماق البؤس واليأس في الطبقة المضطهدة لتجد فيه السلوى والعزاء والأمل. وهنا نتساءل:

أولاً: كيف وجد الدين في المجتمعات البدائية اللاطبقية؟

ثانياً: كيف يتقبل المضطهدون ديناً يكرس الاضطهاد ويعطي للمضطهدين امتيازات؟

ثالثاً: كيف انبثق الدين الإسلامي دعوة عالمية ولمّا يبلغ العرب وعيهم الوطني فضلاً عن الوعي القومي، فإنّ ذلك يناقض فكرة الماركسية عن تطور الأديان؟

ثاني عشر:

أنّ الماركسية تعتبر تطور الفكر والفلسفة ناتجاً عن الانعكاسات الحتمية للعامل الاقتصادي الذي يقذف إلى عقول الفلاسفة التطور الذي قضى على النظرة الفلسفية الجامدة إلى الكون وحوّلها إلى نظرة ثورية تطابق التطورات المتواصلة في أدوات الانتاج! في حين نرى أنّ الفيلسوف ديدرو ـ في النصف الأول من القرن الثامن عشر ـ سبق في مفهوم التطور المادي كل التطورات الثورية في أدوات الانتاج، والفيلسوف اليوناني انكسمندر ـ الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد ـ قد جاء بمفهوم فلسفي عن التطور، وكذلك هرقليطس في القرن الخامس قبل الميلاد، والفيلسوف الإسلامي صدر الدين الشيرازي الذي أثبت في فلسفته الحركة الجوهرية في الطبيعة والتطور المستمر في جوهر الكون.

ثم في العصر الحديث لماذا لم تسبق بريطانيا غيرها من البلدان في المضمار الفلسفي بسبب سبقها في المضمار الاقتصادي؟ وهكذا نرى النتائج كلها عكس ما ترتضيه النظرية الماركسية في تفسير التاريخ.

ثالث عشر:

في مجال تطور العلم ترى الماركسية أنّ المستوى التقني للقوى المنتجة هو الذي يضع أمام العلم قضايا ويحتم عليه بحثها وحلها.

والسؤال: إذا استثنينا العصر الحديث فإنّ معظم المجتمعات القديمة كانت متشابهة في وسائل الانتاج فلما اختلفت مستوياتها العلمية فيما بعد؟ ثم إذا كان العلم تابعاً للحاجات المادية ونابعاً من مستوى أدوات الانتاج فلما اكتشفت أوربا قدرة المغناطيس على تعيين الاتجاه في القرن الثالث عشر ولم تكتشف الامبراورية الرومانية قبل ذلك مع شدة اعتمادها في التجارة على الطرق البحرية؟

رابع عشر:

في مجال التشكل الطبقي للمجتمعات، إذا كان نشوء الطبقة قائماً على أسس اقتصادية فكيف نفسر وجود طبقة الساموراي ذات النفود الكبير في المجتمع الياباني القديم والتي كانت ترتكز بتكوينها الطبقي على خبرتها في حمل السيف؟

كيف نفسر التنظيم الطبقي في الهند القائم على أساس اللون والدم في ماضي التاريخ السحيق ثم انقسام الطبقة الفاتحة إلى طبقة عسكرية واُخرى دينية؟ وكيف نفسر قيام الطبقة الاقطاعية في أوربا الغربية بعد الفتح الجرماني إذا لم نفسره عسكرياً وسياسياً؟

وإذا كانت الماركسية تصنف المجتمع إلى طبقتين واحدة تعيش على عملها واُخرى على استثمار وسائل الانتاج فأين موقع الأطباء والمهندسين؟ وبأي طبقة ندرجهم مع أنّهم يعيشون على عملهم؟ أفمع عمال المناجم واُجراء الزراعة؟ إنّ هذا لشيء عجاب!

خامس عشر:

كيف تلغي الماركسية العوامل الفيزيولوجية والسيكولوجية في تحريك التاريخ، ومواهب نابليون العسكرية، وميوعة لويس الخامس عشر قد تركت بصماتها واضحة على تاريخ فرنسا؟

كذلك حادثة الغرام الخاصة في حياة الملك الانكليزي هنري وقد أدّت إلى انفصال العائلة المالكة، وانفصال انكلترا كلها عن المذهب الكاثولوكي؟

ثم إنّ عاطفة الأبوة عند معاوية بن أبي سفيان التي حملته لأخذ البيعة لابنه يزيد الأمر الذي غيّر المجرى السياسي العام، كل هذه الأُمور لم تنبع من العامل الاقتصادي إنّما نبعت من خصائص فيزيولوجية وسيكولوجية لأفراد غيروا مجرى التاريخ.

سادس عشر:

أنّ الذوق الفني بوصفه ظاهرة اجتماعية لم يسلم من الصياغة المذهبية عند ماركس، إذ اعتبره انعكاساً للأوضاع الاقتصادية في نشوئها وتورها، والسؤال كيف احتفظت الروائع الفنية الموغلة في القدم بتأثيرها وجاذبيتها حتى في المجتمعات الاشتراكية والرأسمالية على حد سواء؟ وإذا كان الإنسان من شأنه أن يتمتع بأحوال طفولة البشرية البريئة فهل هذا التمتع نزعة أصيلة في الإنسان، أم انعكاس للوضع الاقتصادي؟

سابع عشر:

ترى الماركسية أنّ من خصائص الحالة البدائية الترابط بين الانتاج الجماعي وعلاقات الملكية الاشتراكية، حيث كان الانتاج يوزع بالتساوي خوفاً من أن يموت من الجوع أحد ولو من الكسالى، والسؤال هنا: يظهر أنّ هناك فائضاً من الانتاج يتناوله الكسالى من أي بيت، فلما هذا الالتزام بإطعام الكسالى الذين لا يخسرون بفقدهم شيئاً؟

ثامن عشر:

يتم الانتقال في نظر الماركسية من المجتمع الشيوعي البدائي إلى المجتمع العبودي كما هو مقتضى النظرية التي تقول: إنّ قوى الانتاج تتطور مما أتاح للمنتج هامشاً من الراحة، ولما كان لا بد من تجنيد كل الطاقات العملية لصالح الانتاج فلا بد من ايجاد قوة اجتماعية جديدة، وهذه القوة تشكلت من خلال أسرى الغارات، وبالتالي استعباد جزء من القبيلة ذاتها، وانقسم المجتمع إلى سادة وعبيد. والتساؤلات الآن:

أولاً: أين ملامح النظرية في هذا التحول؟

ثانياً: لما لا تكون المسألة مسألة الإنسان قبل أن تكون مسألة وسائل الانتاج؟ فالقوى المنتجة لا تتطلب إلاّ مزيداً من العمل البشري، وهذا يحقق من العمل الكثير العبودي وكذلك يحقق من العمل الكثير الحر، وبشكل أفضل، كمّا وكيّفاً من العمل العبودي المصحوب باليأس.

وحلّ المسألة يكمن في أنّ من طبع الإنسان الميل إلى الاقتصاد في العمل وسلوك أوفر الطرق راحة إلى غايته ولا يكمن في وسائل الانتاج.

ثالثاً: لماذا لم تفسر الماركسية النقلة من المجتمع الشيوعي البدائي في ركون الكثرة من المجتمع إلى الدعة والكسل؟ نعم، الماركسية لا تشير على ذلك؛ لأنّ هذا العامل هو سر اخفاقها، وهو الذي يشير إلى مقتل الشيوعية طالما أنّ الإنسان في تركيبته النفسي لا تصلح له هذه الاشتراكية.

تاسع عشر:

وتبدأ المرحلة الثانية في المادية التاريخية مع التناقض الطبقي الأول في التاريخ، والسؤال هنا، ما الذي جعل السادة سادة والعبيد عبيداً؟

تجيب الماركسية بأمرين:

أ ـ بسبب تبوئهم مراكزاً اجتماعية كالرئاسة وقيادة الجيش والمواقع الدينية، مما حدا بهم أن يستغلوا مركزاً ويثروا بينما تهشم الباقون شيئاً فشيئاً.

ب ـ أنّ جماعة حولت أسرى الحرب إلى عبيد، فزاد انتاجها فاستعبدت جزءاً من القبيلة.

كلا هذين التفسيرين لا يتفق مع وجهة نظر المادية التاريخية، فهذه أسباب سياسية لا اقتصادية.

عشرون:

ونشأ المجتمع الاقطاعي على انقاض المجتمع العبودي الذي أصبحت علاقاته الملكية معيقة لنمو الانتاج لسببين:

الأول: تهاوى آلاف العبيد في ميدان العمل بسبب شدة الاستغلال.

الثاني: تحول أكثر الأحرار إلى عبيد، فترك ذلك خللاً في القوة العسكرية التي كانت تموّن قوى الانتاج بالعبيد الأسرى، لذا تقوض النظام العبودي وخلفه النظام الاقطاعي.

والتساؤلات الآن هي:

ألف: أنّ تحول المجتمع الروماني من النظام العبودي إلى الاقطاع لم يكن تحولاً ثورياً منبثقاً عن صراع طبقي.

ب: أنّ التحول الاجتماعي والاقتصادي لم يسبقه أي تطور للقوى المنتجة.

ج: أنّ الوضع الاقتصادي لم يكن في تغيره معبراً عن مرحلة تكاملية من تاريخه، بل مني بنكسة خلافاً للنظرية الماركسية.

فبعد أن كانت التجارة ـ وهي شكل متقدم من أشكال الاقتصاد ـ في الامبراطورية الرومانية في أوج نشاطها، ومع ذلك لم تتحول إلى رأسمالية صناعية بل انتكست واختنقت في اقتصاد مغلق داخل حدود الاقطاعيات الخاصة.

واحد وعشرون:

ثم وجد المجتمع الرأسمالي ـ بعد انهيار النظام الاقطاعي ـ كحلّ أمثل للتخلص من التناقضات في المرحلة الاقطاعية.

وعند ماركس أنّ أساس العلاقة الرأسمالية يقوم على الانفصال الجذري بين وسائل الانتاج والأجير، وهذه هي الحركة التاريخية التي تفصل بين المنتج ووسائل الانتاج، ويتم ذلك برأي ماركس بالاغتصاب المسلح والنهب وألوان العنف.

التساؤلات:

أولاً: ماركس لا يدين الرأسمالية أخلاقياً؛ لأنّها بنظريته حركة زحف إلى الأمام ولو بالنهب والسلب، ولكن لماذا لم ينهب العمال ويسلبون أدوات الانتاج طالما أنّ النهب والسلب ضروريان لحركة التاريخ؟

ثانياً: في المانيا لم يكن هناك نهب ولا عنف، بل قام عدد كبير من الاقطاعيين بتشييدالمصانع وإدارتها على أساس ما يملكون من ثروات اقطاعية!

ثالثاً: أنّ النهب والسلب وسلطة الاخضاع لا تصلح إداة ماركسية لتفسير التراكم الرأسمالي الأول؛ لأنّها ليست تفسيراً اقتصادياً، ومع كل ذلك فإنّ كل شواهد ماركس استخرجها من تاريخ انكلترا، وهي تفرض الاغتصابات التي قام بها الاقطاعيون لتجريد الفلاحين من أراضيهم.

رابعاً: إنّ المجمع الرأسمالي وجد بسبب ازدهار مصانع الصوف ورواج التجارة الرأسمالية بالأصواف، فالرأسمالية التجارية هي التي دفعت الاقطاعيين إلى الإلقاء بجماهير الفلاحين في أسواق المدينة لا العلاقات الاقطاعية!

خامساً: أنّ تصنيع اليابان نشأ بسبب اقتحام الأسطول الأمريكي لخليج أوراجا في اليابان، والذي شكّل إنذاراً بخطر يتهدد البلاد، واعتمدت في حركتها التصنيعية على الطبقة الارستقراطية من رجال الاقطاع، ثم نمت طبقة من التجارة والصنّاع بسرعة وحطموا النظام الاقطاعي تحطيماً سلمياً، حتى تنازل أشراف الاقطاع عام 1871 عن إمتيازاتهم القديمة، إذن فلا اُسلوب ثوري، ولا عنف طبقي، ولا شيء مما تتبجح به الماركسية.

وأخيراً: وجد النظام الاشتراكي ذلك الحكم المنشود الهدف شبه النهائي للمادية التاريخية، والملاحظ في بروز الاشتراكية.

أولاً: أنّها لم توجد حيث تقرر المادية التاريخية.

وثانياً: حرست الاشتراكية بالحديد والنار والحصار الإعلامي، وانقسم المجتمع الاشتراكي إلى طبقتين متفاوتتين كأعظم ما يكون التفاوت، وضيّق الخناق على العامل، وصودرت حريته، حتى أخذ يترحم على العهد الرأسمالي.

وحكمت السنن الألهية في المجتمع البشري وهوى الباطل وهو في أوج زهوه، ومضى التاريخ في سيره الحثيث مخلفاً العبر، وفاتحاً أمام العقول صفحات للقراءة والتدبر.

الشيخ زيدان الغزالي

مجلّة المنهاج / 45