ربما يوفر الرقم الذي نحن بصدده المزيد من الرافة للمهتمين بالشهيد الصدر، وبالذات فكره، وامتدادات هذا الفكر في أقاليم العالم الإسلامي. فعلى مدى خمس سنوات – وربما أكثر – دارت علاقة ثقافية حميمة بين أحد علماء إيران المثقفين الشيخ علي حجتي كرماني والشهيد الصدر، كان مركزها إعجاب كرماني بفكر الصدر واندكاكه به إلى حد التبني والمبادرة لترجمته إلى الفارسية واشاعته في الساحة الثقافية والفكرية داخل إيران.
لقد كان من ثمار هذه العلاقة أن نهض كرماني بترجمة أكثر من كتاب للشهيد الصدر، من بينها كتابه “التشيع والإسلام” الذي صدر فيما بعد مستقلاً تحت عنوان “بحث حول الولاية” بعد أن كان مقدمة لكتاب د. عبد الله فياض “تأريخ الإمامية وأسلافهم”، حيث قام بذلك تحت إشراف الشهيد الصدر، الذي بعث له أكثر من رسالة في هذا المجال.
لقد بلغ من تفاعل حجتي كرماني مع فكر الصدر أن تحول في إيران، إلى واحد من أبرز الدعاة إلية، وحينما ألمت بالشهيد الصدر محنة الاعتقال الأول ثم فرض الرقابة عليه في البيت، كان حجتي كرماني – رغم انشغاله بشؤون بلده بعد الانتصار وتسلمه عدة مسؤوليات في عهد الثورة – أحد الذين سلطوا الأضواء على محنة الشهيد الصدر في العراق، ولم ينس أبداً أن يلفت الإنتباه إلى المقام الفكري المنيف الذي يتمتع به فكر الصدر على صعيد ساحة العالم الإسلامي.
في لقاء مبكر مع صحيفة “جمهوري إسلامي” تزامن مع الأيام الأولى لفرض الحصار على بيت الشهيد الصدر، تحدث كرماني عن المكانة الفكرية السامقة للصدر، فقال ما ترجمته: ” فيما يتعلق بآية الله السيد محمد باقر الصدر، إذا قلت أنه أبرز وجه علمي وألمع شخصية علمائية في العالم الإسلامي؛ وإذا قلت أنه أكبر منظر آيديولوجي في عالم التشيع، فلن أكون مبالغاً.
أن كل كتاب من مؤلفاته القيمة من قبيل “اقتصادنا”، “فلسفتنا” “البنك اللاربوي في الإسلام”، و”التشيع والإسلام” ( وهوالكتاب الذي ترجمته إلى الفارسية بعنوان “تشيع مولود طبيعي إسلام”، وقد تناوله المرحوم د. علي شريعتي بالنقد، تعكس شخصية السيد محمد باقر الصدر بعنوان كونه واحداً من كبار مفكري العالم الإسلامي وعلمائه.
فالسيد الصدر على دراية من ناحية بالمنهج العلمي الجديد وفي تمكنه منه، وهومن ناحية ثانية مستوعب لمسائل العصر مُدركاً لها، وهوإلى ذلك يتحدث بلغة العصر ويكتب بها.
وبقول شريعتي: ” إن آية الله السيد محمد باقر الصدر، هومن طراز العلماء الذين يحتاج إليهم العالم الإسلامي في الوقت الراهن، فالعالم الإسلامي يحتاج إلى عالم متأصل في الإسلام متمكناً منه إلى حد الاجتهاد والقدرة على الاستنباط ؛ وأن يكون من جهة ثانية واعياً لهموم عصره مدركاً لها محيطا بها، يتملك الشجاعة الكافية في تشخيصها ووضع اليد عليها، وله القدرة على أن يتحدث فيها بلغة مجتمعة. وفي كل الأحوال، السيد الصدر هوفي طليعة مجتهدي الشيعة ومن الطراز الأول، ومن مراجع التقليد “.
بعد ذلك ينتقل كرماني لتعليل الصراع بين نظام البعث والصدر على أساس تناقض الخط الفكري بين الأثنين، فحجتي كرماني يعتقد أن تعرض السلطة البعثية للصدر هوأمر طبيعي إذ هي تعرفه في خطه الفكري المعارض لخط السلطة من خلال كتابيه ” اقتصادنا ” و” فلسفتنا ” بالذات.
ثم يستمر في لقائه الطويل مع صحيفة ” جمهوري إسلامي ” الذي نشرته في عددين متواليين، مبيناً الملابسات التي حلت في أجواء النجف والعراق بعد انتصار الثورة الإسلامية، إلى أن يقول: ” إنه لأمر يبعث على الأسف لنا، والأسى لشعبنا أن يصار إلى اعتقال شخصية هي من طراز كبار المنظرين للآيديولوجية الإسلامية، ومن وزن كبار المفكرين في ميدان الفكر الإسلامي “[1].
لا تقتصر العلاقة بين حجتي كرماني وفكر الشهيد الصدر على هذه المقابلة وحدها، بل هناك رسائل بين الأثنين أملتها مبادرة الأول لترجمة بحث الصدر عن ” التشيع والإسلام ” ( بحث حول الولاية ). وفي الواقع لم يبادر كرماني إلى ترجمة بحث الصدر جزافاً ولم يبذل جهده في تقديمه إلى قراء الفارسية، إلا على خلفية ما يعتقده من حاجة الساحة الإيرانية الماسة إلى ذا اللون من الفكر.
فهوفي المقدمة يفيض في بيان حالة الاضطراب والقلق النفسي الذي كان يعيشه في إيران قبل حوالي خمس سنوات من انتصار الثورة، وكان الباعث إلى قلقه هوتوزع الساحة الاجتماعية في إيران إلى تيارات يتنازعها صراع داخلي بين خط مؤيد للولاية التكوينية وآخر رافض لها، وبين تيار يرمي الآخرين – من خلال موقع التشدد بالولاية – بالفسق والتكفير، وآخر يتهم الأول بالتقاعس والقعود وتبرير هزيمته في إطار التخندق بشعار الولاية.
ومن جهة ثانية، كانت الساحة الشيعية مرمى لسهام خبيثة تنطلق من أمثال أقلام موسى جار الله والخطيب ومحمد ثابت وغيرهم.
في مثل هذه الأجواء، كان حجتي كرماني يجد أن الساحة الداخلية منصرفة من خلال الاهتمامات المشار أليها، بعيداً عن هموم البلد ومشكلاته وحاجات مجتمعه، كما كان يجد أن النبال الخبيثة التي تأتي في بطانة الكتابات الطائفية التي تهاجم الشيعة والتشيع من الخارج، غير بعيد عن مكر الأعداء.
وبقدر ما كان يؤلمه هذا الواقع، كان يزيد في مرارته وتجعه انطلاق بعض الأقلام وهي تمارس الكتابة في دائرة الصدر الشيعي من دون أن تتوفر على أبسط المؤهلات.
بإزاء هذه الحالة، التي تبعث على القلق والاضطراب يقول حجتي كرماني: إنه اكتشف ضالته في دراسة السيد الصدر “التشيع والإسلام” فقرر ترجمتها للفور.
بعث إلى السيد الصدر يستأذنه بالشروع بالترجمة، فكتب أليه الصدر رسالة جوابية، نقرأ فيها بعد التحية: ” وبعد فقد تسلمت بكل تقدير رسالتكم الكريمة التي تخبرون فيها عن تصديكم لترجمة الكتيب الصغير ( التشيع والإسلام ) إلى اللغة الفارسية مع التعليق عليه، وتطلبون إجازتنا في ذلك. وليس غريباً اهتماكم بذلك وبأمثاله، فإني عرفتكم منذ عرفتكم أملاً من الآمال النابضة بالحياة والعطاء في حياتنا الدينية، وكنت ولا أزال أرجوأن يحقق بكم للفكر الإسلامي والديني المكاسب الجليلة.
وإني إذ أبارك تصديكم للترجمة المذكورة، واعتز بجهودكم العلمية الثمينة، أود إذا سمحت لكم الظروف أن تطلعوني على ما كتبتم من تعليقات على البحث المذكور قبل نشرها.
وابتهل إلى المولى سبحانه وتعالى أن يسددكم ويثيبكم على جهودكم، ويسبغ عليكم ما يسبغه على العلماء العاملين من ألطافه وتأييداته والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته “.
محمد باقر الصدر – 12 شعبان /1395
وبالفعل جاءت هذه المبادرة موفقة في الساحة الإيرانية، كأشد ما يمكن أن يحققه العمل الفكري من نجاح، إذ توالت طبعات هذه الترجمة، حتى أحصينا منها عشر طبعات، باستثناء ما يمكن أن يكون قد فاتنا
لم يقف الشيخ حجتي كرماني بجهوده في الترويج لهذا البحث عند حدود ترجمته ونشره في إيران على نطاق واسع ( عشر طبعات إلى ما قبل خمس سنوات ) بل دفع بالكتاب إلى القاهرة، تحديداً إلى دار التقريب بين المذاهب الإسلامية، واضعاً بنسخة من الترجمة الفارسية بين يدي الشيخ القمي مسؤول المؤسسة، وأخرى بالعربية أملاً ببثها ونشرها من مصر.
وقد جاءت استجابة الدار إيجابية، إذ بعثت أليه بتأريخ 4/آذار/1976، الموافق 3 ربيع الأول 1396هـ، برسالة نذكرها بنصها الكامل نظراً لما تتضمنه من إشارات حول بحث الصدر هذا وبقية أعماله الفكرية.
ونص الرسالة، هو:
بسم الله الرحمن الرحيم
الأستاذ الفاضل علي حجتي كرماني
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: وصلنا كتابكم المترجم بعنوان ” تشيع مولود طبيعي إسلام ” واطلع عليه حضرة صاحب السماحة الإمام القمي رائد دعوة التقريب وهوفي طريقه إلى طهران بعد رحلة سنوية قضاها بمصر لتفقد شؤون الدعوة، وأبدى تقديره بإهداء الكتاب، لمؤلف جليل يعتبر من أبرز علماء الإسلام علماً وأكثر علماء الأمامية بحثاً.
وأن كل ما كتبه [ الشهيد الصدر ] كان موفقاً فيه، وفقه الله وأكثر من أمثاله.
وكذلك أثنى الإمام على ترجمتكم الموفقة وعبر بأن الترجمة قد وصلت إلى مستوى رفيع، وأبدى سماحته ملاحظة بأن العصر عصر المختصرات والاستدلالات السليمة، من غير تجريح ولا تعريض بعيداً عما يفرق بين المسلمين، ويفتح القلوب لبعضها بدل من المهاجمات التي تفرق “.
بعد أن اطلع الشهيد الصدر على كتابه مترجماً حيث بعثه إليه حجتي كرماني إلى النجف الأشرف، طلب المترجم إذن السيد في المبادرة إلى ترجمة كتاب آخر من كتبه، فكان أن بعث إليه الشهيد الصدر برسالة أخرى، كتب فيها بعد البسملة والتقديم: ” السلام عليكم زنة تقديري واعتزازي بكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد فقد تسلمت رسالتكم الكريمة، ونفذ إلى أعماق نفسي ما طفحت به الرسالة من شعور وألم وأمل، وابتهلت إلى المولى القدير سبحانه وتعالى أن يجعل من شبابك الممتلئ إيماناً وفضلاً والمعية، شمعة منيرة وقبساً هادياً للآخرين، وأن يمد في عمرك وأن يتوج هذا الشباب المتعب بشيخوخة قريرة العين مطمئنة النفس “.
وبعد مقطع خاص يتعلق بأخوه الشيخ كرماني، يعود الشهيد الصدر ليكتب في الرسالة التي كان بعث بها بتاريخ 28 محرم الحرام / 1396 إلى المترجم: ” كما سرني وأعجبني قلمكم في ترجمة كتابنا الصغير في الولاية والإمامة، واجادتكم الفنية في تصوير أفكار الكتاب وعرضها، فجزاكم الله عن باب مدينة العلم أفضل الجزاء.
وقد أرسلت إليكم بالبريد نسخة من كتابنا الآخر الذي تحبون ترجمته، وأني أرحب بذلك وأدعولكم بالمزيد من التوفيق والتسديد والسلام عليكم وعلى من حولكم من الأهل والأحبة ورحمة الله وبركاته “[2].
إشارة ربما تكون عارضة بيد أنها مفيدة، إذ نفهم من مفاد رسالة الشهيد الصدر هذه، أنه – رحمه الله – كان يعرف الفارسية، أويفهمها على الأقل، وأن كان السياق يدل على ما هوأكثر من ذلك، حيث قيم سماحته ترجمة الشيخ حجتي كرماني ووصفها بالإجادة الفنية في تصوير أفكار الكتاب.
توفرت الترجمة الفارسية لكتاب الشهيد الصدر ” التشيع والإسلام ” على مقدمة مهمة للمترجم، عرض فيها إلى الحالة التي كانت الساحة الإيرانية عليها قبل انتصار الثورة الإسلامية، ثم عاد ليتحدث عن أهمية الكتاب وخصوصية المؤلف من خلال نقطتين، نختصرهما كما يلي:
- قال عن المؤلف: ” كتاب ” التشيع والإسلام ” بقلم مجتهد، وباحثٍ مستنير، ينطوي على معرفة تخصصية بالكثير من العلوم الإسلامية، وهوصاحب نظر ورأي فيها. هوالآن بحق يقف في صف أكبر نوابغ الفكر، وفي طليعة علمائنا المعاصرين “.
ثم يشير إلى تفوقه في الدراسات الحوزوية، ويمر بعدئذ باختصار على فكرة المبدع في محاولاته التأسيسية المعروفة.
2- أما عن الكتاب، فقد قال: ” يقوم الكتاب على منهج مبتكر وأسلوب بديع جداً، يحكي عن انتظام أفكاره ووحدة نسيجها في إطار منطقي تحليلي بعيد كل البعد عن أي شكل من أشكال الانحياز الفكري والعلمي. وهوإلى ذلك مثال للبحث الحر الخالي من قسمات التعصب والجهل وقصر النظر.
كتاب صغير في حجمه، بيد أنه منيف في مستواه الرفيع، وقد كان من رفعته أنني أتممت ترجمته، وأنا مندمج فيه، بحالٍ تهيمن عليها الدهشة ويسيطر عليها الإعجاب “[3].
سنعود إلى الكتاب في فقرة أخرى، ولكن ليس مع حجتي كرماني، وإنما مع د. علي شريعتي الذي سجل نقداً موسعاً لأفكار الصدر.
الدكتور معن زيادة الباحث العربي اللبناني المعروف والمشرف على الموسوعة الفلسفية العربية التي صدرت عن معهد الإنماء العربي، قلت له في لقاء سريع – وهوالآن أستاذ جامعة ماكجيل الكندية _: هل اطلعت على أعمال السيد محمد باقر الصدر؟
أجاب: طبعاً أطلعت عليها، وهي موجودة في مكتبتي جميعاً.
وعن كتاب ” الأسس المنطقية للاستقراء ” بالذات، قال: هومن الكتب المهمة التي يجب أن تُقرأ على نطاق واسع الآن، وخاصة في وقتنا الراهن.
أكرر القول أن معن زيادة هوالمشرف على الموسوعة الفلسفية، وقد كان له فضل إدخال إسماء فلسفية إسلامية وشيعية في الموسوعة، فكم حسناً – ومايزال! لووصلت ليده دراسة عن مساهمة الصدر في البحث الفلسفي لتضم إلى الموسوعة؟ ولكن هل يعدوالصدر إلا أن يكون مجرد مثال واحد من الكم المهمل أمثال الطباطبائي ومطهري والمير داماد وصدر الدين الشيرازي واضرابهم!
من البوسنة والهرسك، الإقليم الإسلامي الممتحن، الذي يحمل على عاتقه منحة الدم النازف، وقضية شعب يراد أن تصادر هويته، ويصرخ بهما في أرجاء الدنيا، لم ينس مثقفها آدم حامد حاج الذي يحمل شهادة ماجستير في الاقتصاد، أن يذكرني أن أول عمل طبع له في قائمة أعماله الفكرية والثقافية، هي ترجمته لكتاب “اقتصادنا” (أقسام من الجزء الأول) إلى اللغة المحلية، إضافة إلى ترجمة مستقلة لبحث الشهيد الصدر: الاقتصاد الإسلامي ليس علماً.
د. محمد مصطفى أيوب (لبناني الأصل مقيم في أمريكا) الذي يحمل شهادة عليا في الفلسفة وتاريخ الأديان من جامعتي بنسلفانيا وهارفارد، يعتز أنه ترجم إلى الانكليزية كتاب الصدر ” الرسالة المرسل الرسول “، وهويقول عن الصدر: هوفي الحقيقة فقيه في الفكر الإسلامي المعاصر.
د. عمر يوسف حمزة (سوداني الأصل مقيم في قطر) أستاذ التفسير وعلوم القرآن بجامعة قطر يتحدث عن مكتبته بقوله: ” عندي كتاب الميزان في التفسير، وهومرجع من المراجع القيمة ليس للشيعة، وإنما هومرجع للمسلمين جميعاً. وكتاب الصدر ” اقتصادنا “، وهوكتاب جيد، ويدرس في كثير من الجامعات ؛ جامعات كثير من المسلمين على اختلاف مذاهبهم “.
الأستاذ عادل حسين الباحث الاقتصادي المصري المعروف، وصاحب الكتاب المشهور ” الاقتصاد المصري من التبعية إلى الاستقلال “، قد تحول من الماركسية إلى الصف الإسلامي، وذكر لي باعتزاز أنه قرأ للصدر كتابي ” اقتصادنا ” و” فلسفتنا ” وحين ذكرت له أن له كتاباً باسم ” الأسس المنطقية للاستقراء ” استغراب الأمر وأبدى رغبة شديدة للأطلاع عليه.
وممن ذكر أنه أطلع على فكر الصدر وقرأ مؤلفاته الكاتب السوري الدكتور شوقي أبوخليل، ومن الجزائر الدكتور عبد الرزاق قسوم، أستاذ الفلسفة بجامعة الجزائر[4].
وثمة شهادات كثيرة من هذا اللون.
وطالما ذكرنا الترجمة، أشير إلى أن فرصة ممتازة توفرت لفكر الصدر الاقتصادي، حيث ترجم إلى الانكليزية ونشر في أمريكا. كما توفرت له فرصة نموذجية للاطلالة على الساحة الفرنسية، وعلى النطاقين بهذه اللغة في بلدان أفريقيا، وذلك من خلال المشروع الذي نهض به الدكتور عباس البستاني، الذي ترجم أغلب مؤلفات الشهيد الصدر إلى الفرنسية، ووفر لها أجواء ممتازة للأنتشار ليس في فرنسا وحدها كما قلت، وإنما في البلدان الأفريقية الناطقة بالفرنسية.
وفي آخر لقاء مع د. عباس البستاني ذكر أنه انتهى من ترجمة ” اقتصادنا ” إلى الفرنسية، وقد طبع الكتاب، وكان بصدد نشره وتوزيعه. ومن خواطره عن الشهيد الصدر، ذكر أن السيد كان يتمنى أن يترجم ” الأسس المنطقية للاستقراء ” إلى الفرنسية، وقد فهم أن هذه هي رغبة الشهيد الصدر مُباشرة.
وإذا بدت إطلالة فكر الشهيد الصدر على اللغتين الفرنسية والإنكليزية معقولة إلى حد ما، وإذا كانت معظم، إن لم يكن جميع مؤلفاته قد ترجمت إلى الفارسية، فإن الغريب المدهش أن لا يكون فكر الصدر ومؤلفاته قد حققا اختراقاً لساحة شبه القارة الهندية، إذ لم يشهد فكره ترجمة إلى اللغة الأوردية، وذلك اعتماداً على شهادة د. ظفر الإسلام خان (نجل وحيد الدين خان صاحب ” الإسلام يتحدى “) الذي ذكر أن الساحة الهندية تعرفت على أفكار مالك بن نبي وسيد قطب وحسن البنا، بل ومطهري وعلي شريعتي وغيرها من خلال الترجمة، ولكنها لم تتعرف بعد على فكر الشهيد الصدر!
قلت له مستفهماً بعد أن عدد تلك الأسماء: وماذا بالنسبة للشهيد الصدر؟ أجاب نصاً: هوغير معروف، أن شاء الله ننقل بعض الكتب الهامة التي كتبها مثل ” اقتصادنا ” ” وفلسفتنا “[5].
الشيخ علي دواني المؤرخ الإيراني المعروف، الذي صرف جل عمره في الكتابات التاريخية، وبالذات في تراجم العلماء وحياتهم وسيرهم، يحمل الكثير من الخواطر والذكريات عن عدد بارز من العلماء في إيران والعراق. لقد قدم بعض هذه الذكريات في كتب مستقلة كما فعل مع الشهيد ومطهري والسيد البروجردي والإمام الخميني، وثمة عشرات أتى على ذكرها في مقابلات صحفية أوفي طي كتبه ومؤلفاته التي تجاوزت السبعين، وبرز من بينها ( 32 ) كتاباً في تراجم العلماء وسيرهم على الطريقة الاجتماعية والثقافية العامة وليس على الطريقة الرجالية.
من سني دراسته في النجف الاشرف، حمل معه خواطر كثيرة عن الشيخ كاشف الغطاء وأقا بزرك الطهراني، والشيخ محمد علي الكاظمي، والشيخ عبد الحسين الأميني، وحين بلغ الشيخ محمد رضا المظفر، كتب يقول: ” لقد أسس للتو” منتدى النشر “. وكان أول من خطى الخطوة الأولى باتجاه إحداث تغيير في حوزة النجف، بحيث وجه الطلاب والفضلاء للانفتاح على أمور الزمان وأوضاع العصر. كان يتحدث أحياناً في مجالس الصحن الشريف، وحين كان يرتقي المنبر كان يتحدث بحرقة وحماس عن ضرورة إيجاد التغيير في الحوزة، في مجال الدروس وكيفية التدريس. بيد أن الذي يؤسف له أن أحداً لم يكن يصغ أليه، ولم يكن ثمة من يتحمس لدعواته وخطواته.
وفي كل الأحوال، فقد نهض بالذي عليه، ثم مضى.
يضيف الشيخ دواني: ” كان المرحوم آية الله الشهيد السيد محمد باقر الصدر، أحد تلامذة المظفر [ ربما يقصد من المتابعين له في النهج الإصلاحي، وإلا فإن الشهيد الصدر لم يتتلمذ على المظفر ]، وقد نهض بعدئذ لوحده برسالة المظفر في التغيير، وأوفى بهذه المهمة فريداً “[6].
ليس العراق وحده، وإنما العالم الإسلامي برمته أصبح بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، تحت دائرة الرصد الغربي. وقد شملت دائرة الرصد الحركات الإسلامية، المرجعيات والحوزات، والمفكرين والعلماء وجميع القوى المؤثرة فكرية كانت أم حركية.
وإذا شئنا أن نتحدث بموضوعية وبصراحة أوفر، فإن ما أصبح في دائرة الرصد أكثر، هوالوجود الشيعي في تشكيلاته الحوزوية والمرجعية، وفي فكره العقائدي ومتبنياته، وفي مكوناته الحركية الناشطة، وجميع ماله صلة بالشيعة والتشيع.
وفي جومثل هذا كان طبيعياً أن ينتبه الدارسون الغربيون إلى شخصية محمد باقر الصدر وفكره الذي استطاع أن يتخطى حدود العراق، ويكون له حضور بهذا القدر أوذاك في أكثر من أقليم من أقاليم العالم الإسلامي.
وبالنسبة لنا لا نملك صورة متكاملة عن اهتمامات الدارسين الغربيين بالصدر، ولا أحسب أن أحداً من المعنيين بشؤون الصدر كمرجع وكمفكر وكقائد حركي، نجح في رصد جهود الغربيين في هذا المجال. وكل ما نملكه على هذا الصعيد هولمحات عابرة وإشارات خاطفة تعتمد على الجهد الفردي والسعي الذاتي، وذلك أسوة ببقية نشاطاتنا!
والذي يبدومن متابعة تلك اللمحات والإشارات، أن هناك كماً لا بأس به من الأعمال التي انتجها دارسون غربيون عن الصدر، أودارسون من أبناء المنطقة، قدموا بحوثهم ودراساتهم باللغات الأوروبية.
والذي يبدوأيضاً أن الدراسات حول شخصية الصدر وفكره وتأثيراته، استطاعت أن تخترق أسوار الجامعات الغربية، ليتحول الصدر إلى موضوع للدرس الأكاديمي. وربما كان العمل الذي أنجزه شبلي ملاط وقدمه بعنوان ” تجديد القانون الإسلامي: التشيع، النجف، محمد باقر الصدر ” هوأبرز عمل جامعي في هذا المضمار، أوهوأبرز عمل وصل خبره ألينا.
ولا نريد في هذا المجال أن نكرر جهود الباحث المثابر د. عبد الرحيم حسن فيما كتبه عن هذا الموضوع من متابعة[7]، أعتقد أنها الأوفر حظاً من غيرها، بل تكاد تكون الوحيدة في حجمها ومادتها ونوع المعلومات التي تطويها. لذلك نكتفي بالاحالة لها، وسنضيف في الفقرات الآتية إشارات أخرى وقفنا عليها.
يبقى أن نقول، أن العمل الثقافي في ساحتنا، طالما ظل يعتمد على المبادرات الشخصية، وهموم الأفراد وإحساسهم الذاتي بالمسؤولية، فمن المستحسن أن ينهض الباحث عبد الرحيم حسن بالمهمة كاملة، فيكمل الشوط الذي كان قد بدأه، برصد بقية ما كتب عن الشهيد الصدر بالانكليزية، وإذا أمكن ببقية اللغات الأوروبية، خاصة وأنه في موقع ومؤهلات، تهباه القدرة على إنجاز هذا العمل واستكماله.
الذي يُتابع الساحة الإيرانية يستطيع أن يعرف بسهولة أن القوى الإسلامية التي تحمل الولاء للثورة والنظام الإسلامي، كانت موزعة – منذ أن استقرت الحاكمية لهذه القوى، وعزلت الاتجاهات اللبيرالية والمجموعات المناوئة للثورة – إلى خطين أوجناحين بارزين، أضيف أليهما خط أوجناح ثالث حاول أن يكون مركز توازن بين الجناحين أوالخطين.
منذ عام 1981 م والصورة تكاد تكون ثابتة على هذه التوزيعة، وأن اختلفت الموازين بينها، وتبدلت المواقع بالنسبة للمنتمين إليها.
لقد استخدمت في تمييز الخطين مصطلحات كثيرة، فقيل يسار ويمين، وقيل محافظون تقليديون ومجددون راديكاليون، وقيل غير ذلك أيضاً. بيد أن أفضل تمييز بين الخطين بنظرنا، هوالذي يمكن أن نتلمسه في التجمعين العلمائيين الكبيرين ” جامعة روحانيت مبارز طهران ” و” مجمع روحانيون مبارز طهران ” والثاني هوانشقاق عن الأول، وهوالذي يوسم عادة باليسار والتجدد، وأحياناً بالتطرف والراديكالية. والجناح الثاني هوالذي أمسك بقيادة الدولة وهيمن على مجلس الشورى الإسلامي، من خلال ” الحزب الجمهوري الإسلامي ” قبل تجميده، ومن خلال حكومة السيد مير حسين موسوي.
ما يعنينا من هذه المقدمة أن رؤى هذين الخطين، أوالجناحين – بحسب تعبير الإمام الخميني – تفترق حول أهم قضايا البلد، وأبرزها المسألة الاقتصادية، التي تعد في طليعة أبرز شواخص الخلاف بينهما، إذ يميل الأول لاقتصاد القطاع الخاص والتقليل من تدخل الدولة في الاقتصاد، فيما يؤمن الجناح الثاني الذي كانت بيده مقاليد إدارة البلد في سنوات الحرب، بنظرة معاكسة، سببت له بعض المشكلات، والنقد الذي ثار ضده من الجناح الأول.
وما يهمنا في هذه المقدمات، هوأن نظرة كل جناح للسياسة الاقتصادية تنتهي إلى مباني نظرية تباين أوتخالف مباني الجناح الآخر. وعند هذه النقطة بالذات نصل إلى الفكر الاقتصادي للشهيد الصدر، الذي كان له حضوره المكثف في رؤية الجناح الثاني ( اقتصاد الدولة وإعطاء قيمة ضئيلة للاقتصاد الخاص ).
وهذا الكلام لا نسوقه على سبيل الادعاء أوالاستنتاج، بل هذا هوالشيخ أحمد آذري قمي يحدثنا برقم له دلالته الخطيرة، حيث يقول في لقاء صحفي مثير: ” في أوائل انتصار الثورة كنا نحارب على جبهات مختلفة. فقد كان هدفنا حاكمية الإسلام، وفقه الإسلام وقوانينه. فمن جهة كان يساريونا، حيث كانت الحكومة بأيديهم [يعني حكومة مير حسين موسوي]، وكانت الصحافة تنبع نهجهم إلى حد ما. ويسار هؤلاء كان بالطريقة التالية: أنهم اطلعوا على كتب الشهيد الصدر، وقد نفذ فيهم فكره نفوذاً كبيراً، بحيث أنهم أعطوا لمسألة المستضعفين والفقراء لوناً اشتراكياً في قالب الأفكار الإسلامية،
طبيعة أن الشهيد الصدر هوفقيه مستنير، أقبل شخصياً أصل اطروحته، بيد أني اختلف وإياه في بعض مقترحاته في باب الاقتصاد، وفي مواطن أخرى “[8].
أما الآن فقد أضحى لفكر الصدر في الساحة الفكرية الإيرانية حضور مكثف ومستمر، كما سندلل على ذلك من خلال الإشارات اللاحقة.
المفكر العربي الكبير د. حسن حنفي يشتهر في العالم العربي بكونه أحد أصحاب المشاريع الكبرى. وأهمية مشروعه الفكري أنه يؤكد فيه المحتوى والجدوى، أكثر مما ينساق وراء اصطناع المناهج، وهويشتغل على الواقع الحالي، أكثر مما يهرب منه بهذه الذريعة وتلك.
الفكر بين يديه أداة للتغيير والنهضة وبناء حاضر الأمة، ولذلك ترى أغلب كتاباته يطغى عليها هذا الهم، وهي تنبض بالحيوية والحركة. لا يعيش الأزمة من دينه وإسلامه، ولا يحس بالاستلاب أمام الغرب، والخصلة الأولى قادته للانفتاح على المفكرين الإسلاميين من أي مذهب واتجاه والإفادة من أعمالهم والإشادة بها بما تستحق، أما الخصلة الثانية فقد قادته لإنجاز – ربما – أهم أعماله الفكرية ” مقدمة في علم الاستغراب ” الذي ما يزال لم يأخذ موقعه بعد في اتجاهات الفكر في البلدان العربية والإسلامية، ولم ينفذ إلى مكونات وعي الجيل الراهن، وحين يكتشف الكتاب – ليس بمادته بل بالمسعى الذي يبغيه والهدف الذي يتوخاه – سنربح الكثير. ففي هذا الكتاب، كان المسار الذي تحرك فيه الكتاب، يعتمد منطق الهجوم، وتحديد الغرب وتحويله إلى موضوع، وبالتالي القضاء – نظرياً ومنهجياً – على أسطورة عالمية الغرب.
انفتح حسن حنفي من موقع المفكر المهموم بقضايا واقعه وأمته على فكر سيد قطب، وذكر صراحة أنه يعد نفسه تلميذاً له، وما يقوم به فكرياً هومواصلة لما انقطع بموت سيد قطب. وكان من بين من أطل عليهم بدون عقد، الإمام الخميني في كتابيه “الحكومة الإسلامية” و”الجهاد الأكبر”، فقدم للكتابين مقدمتين دراسيتين، حيث طبعا في القاهرة، فكان أن نفذت طبعة كتاب “الحكومة الإسلامية” خلال شهر واحد، ليأخذ حسن حنفي طريقه أثر ذلك، وعبر مباحث أمن الدولة، إلى المعتقل.
لم ينته الاعتقال والغربة والهجرة من بلد إلى آخر، بل عاد لينفتح على فكر الشهيد السيد الصدر، ويسجل فيه شهادات كبيرة.
فهوفي كتابه “مقدمة في علم الاستغراب” كما في الكثير من مؤلفاته الأخرى، يشير إلى أن مشروعه يتحرك على ثلاث جبهات، يطلق على الأولى تحديد الموقف من ” التراث ” في محاولة لبعث الروح في الأمة وإعادة بناء أصول العقيدة كي تتحول إلى مبادئ للثورة في الواقع الراهن، أما في الجبهة الثانية فيسعى لتحرير الأمة من التأثيرات المهيمنة للغرب عبر ما يطلق عليه بتحديد الموقف من التراث الغربي، أما الجبهة الثالثة فتتصل بالواقع المعاش أوبصياغة نظرية التفسير كما يقول.
وعند استعراضه لأبرز المشاريع العربية المعاصرة، يسجل في تقويمها، أنها وإن كانت معنية بهذه الجبهات الثلاث، إلا أنها لا تنطوي على تمييز واضح بينها، إلا ما حصل في مشروع الشهيد الصدر. يكتب: “وتدور كل المشاريع العربية حول هذه الجبهات الثلاثة بطريقة أوبأخرى دون التمييز بينها ؛ لأن التعارض بين مسار الأنا ومسار الآخر فيها، ليس قائماً باستثناء باقر الصدر”. ثم يضيف في هامش الصفحة نفسها:” وذلك مثل “فلسفتنا”، “اقتصادنا”، “التفسير الموضوعي للقرآن الكريم”[9].
ثم يعود إلى الصدر ليقرأ إنجازه في ” فلسفتنا ” و” واقتصادنا ” في حدود بناء نطاق خاص لهوية الأنا ؛ هوية الأمة الخاصة في مواجهة الآخر ( الغرب والشرق ) والتحول مع ” الأسس المنطقية للاستقراء ” إلى التحدي والهجوم. يكتب: ( وفي إطار جدل الأنا والآخر، وجدت الأنا هويتها في ” فلسفتنا ” و” اقتصادنا ” من أجل التركيز على خصوصياتها في مواجهة الآخر. وفي نفس الوقت تنقد الآخر الذي قام بإثبات طرف وإنكار طرف آخر في ” الأسس المنطقية للاستقراء “[10].
وفي مقابلة مهمة مع مجلة ” الوحدة ” التي تصدر من المغرب، وتعد من أهم المجلات التي يطغى عليها الفكر العلماني رموزاً ومنهاجاً وإطروحات، يتحدث خلال الحوار عن جبهات مشروعه الثلاث، وحين يصل إلى الثالثة، يجعل هدفه نفس هدف الشهيد الصدر في التفسير الموضوعي، الذي يعد من أواخر أعماله.
يقول: ” أما البعد الثالث في مشروعي أوالمرحلة الأخيرة، فسوف اخصصها لتفسير القرآن تفسيراً موضوعياً، ليس تفسيراً معتاداً طويلاً يبدأ بالفاتحة حتى سورة الناس، ولكن تفسيراً بحسب الموضوعات، يجمع مثلاً كل الآيات التي تبحث في الإنسان، وفي الإرادة، في العقل، في المجتمع، في التاريخ، وكان هذا العمل هوهدف أساسي لعمل الشهيد محمد باقر الصدر، فقد كان له تفسير موضوعي، وأنا أريد الشيء نفسه “[11].
والآن لنا أن نقارن بين هذه الرؤية الاستنهاضية التي تحرص على جميع الجهود من أجل التغيير والتحرر، فلا تستوعب أعمال الشهيد الصدر في إطار مشروعها وحسب، بل وتنفتح على فكر الإمام الخميني والثورة الإسلامية، وبالتالي لا تقع ضحية منهج الإقصاء على أساس نوع المنهج، ولا الإلغاء على أسا الانتماء المذهبي، وبين رؤية أخرى تمثلت في عمل الباحث الأردني ( فلسطيني الأصل ) فهمي جدعان، الذي أقصى فكر الصدر في الدولة برميه بشيعية المذهب تارة، وبإيرانية الانتساب تارة أخرى![12].
لا بأس أن يبقى الصدر محتفظاً في إطروحات المحتفين به بإنتمائه إلى المدرسة الفكرية الإسلامية في العراق، وإلى الحوزة العلمية للنجف الأشرف بالذات، خصوصاً في ظل أجواء تفرض باحباطاتها على العراقيين من كلا جانب، وهي تكاد تسلبهم حتى محاسن أنفسهم، إن لم تكن قد سلبتهم كماً كبيراً من ذلك فعلاً.
بيد أن هذا المنحى لا يسوغ التقوقع، كما أن انتماء الصدر إلى العراق ليس معناه الإنغلاق على امتداداته في العالم العربي والإسلامي، أوكف اليد عن متابعة أصداء التفاعل مع آثاره الفكرية وإهمال رصدها أيضاً.
ففي ساحة إسلامية فكرية متاخمة للساحة الفكرية الإسلامية العراقية، وأعني بها ساحة الفكر الإسلامي في إيران، شهدنا ضروباً من التفاعل المكثف والتواصل الخلاق مع فكر الصدر، خصوصاً في السنوات الأخيرة، حيث أضحى الصدر حاضراً على صفحات الدوريات الفكرية المتخصصة، وفي الندوات، وعلى صفحات الكتب والصحف.
لا أعتقد أننا نبالغ – وبين أيدينا مادة مكثفة على ما نقول – في كون الصدر تحول في الساحة الفكرية الإيرانية إلى ظاهرة كبيرة في مناخ الحوزة، وإلى حد ما في الأوساط الثقافية والجامعية.
وهذه مسألة تستحق دراسة مستقلة ننتظر من ينهض بها، لنكتفي هنا بذكر إشارات مختصرة تنسجم مع روح هذه المتابعة.
ربما كان أول من انفتح على فكر الصدر علمياً ونقدياُ هود. عبد الكريم سروش حين كتب في العدد الثالث من المجلة العلمية ” نشر دانش ” تعريفاً بالسيد الصدر من خلال كتابه ” الأسس المنطقية للاستقراء ” إذ وصف محاولته بأنها أروع ما أنتجه العقل الإسلامي على مر التأريخ، ثم تحول لتسجيل ما عنى له من نقد، ولم ينس أن يذكر أن هذا الكتاب للصدر هومن أهم كتبه وفي الوقت نفسه أكثرها تجاهلاً[13].
لم يكتف سروش بذلك،بل انتقل بفكر الصدر وبنموذج شخصيته إلى صالات الجامعة الإيرانية، حيث يشتغل بالتدريس، وذكر ضمن إطروحة له حول العلاقة بين الفقيه والمثقف، بأن المجتمع الإيراني لا يحتاج راهناً إلى الفقيه هكذا بشكل مطلق،بل إلى الفقيه – المثقف، كما أنه لا يحتاج إلى المثقف هكذا بشكل مطلق،بل إلى المثقف الملتزم دينياً، وقد عد الشهيد الصدر في طليعة النماذج الدالة على مثال الفقيه – المثقف في الحياة الإسلامية المعاصرة[14].
المثقف الإيراني اللامع بهاء الدين خرمشاهي، يعتقد أن الصدر من ألمع مفكري العصر، ومن أبرز الشخصيات الإصلاحية في العالم الشيعي.
ولكنه يرى أن الإنجاز الأبرز للصدر أن أعماله الفكرية وبالذات في الحقلين الفلسفي والكلامي، استطاعت إلى جوار أعمال الطباطبائي ومطهري، أن تفتح للدراسات الفلسفية والكلامية أفقاً جديداً تمثل بما بات يطلق عليه بـ ” علم الكلام الجديد “[15].
وفي حقل الدراسات المقارنة عرض الباحث الشيخ محسن كديور، في دراسة عن نظريات الدولة في الفقه الشيعي المعاصر، إلى نظرية الشهيد الصدر حول الدولة،ثم عاد ليتوسع بالدراسة ويمدها إلى الفكر السياسي عند الصدر[16].
وفي حقل الدراسة المقارنة أيضاً طلع علينا رئيس تحرير مجلة “حوزة” التي تصدر عن الحوزة العلمية في قم برؤية تنظر إلى نقاط الاشتراك بين الصدر ومطهري، وتعدهما مفتاحاً لحل معضلات الفكر والثقافة في الساحة الإيرانية[17].
من الدراسات الجادة عن فكر الصدر، هي تلك التي كتبها وزير الإرشاد الإسلامي السابق د. محمد خاتمي قبل حوالي عشر سنوات، وأصدرها تحت عنوان دال هو (بعد الترجمة): ” وعي العصر والتحلي بهاجس الدين “، إذ هويعتقد أن أبرز ركنين تقوم عليهما شخصية الصدر هما وعيه لمقتضيات عصره، وحسه المرهف بالمسؤولية الدينية، إذ هوكان يحمل الدين هماً دائماً وتوجعاً يملأ نفسه وعقله ويأخذ عليه حياته.
ودراسة السيد خاتمي هذه تتحلى بطابع علمي – تحليلي أقرب ما يكون للروح الأكاديمية[18].
وعلى صعيد المؤتمرات، انعقدت في الشتاء الماضي (1995م) ندوة فكرية مركزة حملت عنوان ” الثورة الإسلامية: الجذور والخلفيات ” استضافت عدداً من الباحثين تقدموا بدراسات مستفيضة إلى الندوة، صدرت في ثالثة مجلدات ضخمة.
من بين هذه الدراسات تقدم الباحث محمد حسين جمشيدي – الذي يشتغل على إنجاز شهادة دكتوراه في العلوم السياسية – ببحث تحت عنوان ( بعد الترجمة ): ” العلاقة المتبادلة بين الثورة الإسلامية في إيران والحركة الشيعية في العراق: الفكر السياسي للشهيد الصدر كقاعدة ” بادرت قضايا إسلامية إلى نشرها في هذا العدد. ثم عاد الباحث نفسه لتقديم دراسة ثانية عن أصول الفكر السياسي عند الشهيد الصدر.
وأحسب أن دراسة جمشيدي تحمست ربما أكثر مما يتحمله الواقع في بيان تأثير الفكر السياسي للشهيد الصدر وحضوره في بنية فكر الثورة الإسلامية، وفي دستورها، حيث وصف الصدر بأنه ” أبوالدستور الإيراني “[19].
وفي ربيع هذا العام (1996م) تبنت مؤسسة الإمام الخميني والحوزة العلمية في قم مؤتمراً عن المباني الاجتهادية عند الإمام الخميني انطلاقاً من مقولتي المكان والزمان وما لهما من تأثير في الاستنباط.
أهم علامات المؤتمر،هي المادة العلمية التي قدمها ( 14 مجلداً ضخماً ) بالإضافة إلى المجلات التي صدرت في أعداد خاصة حول المؤتمر، وما اضطلعت به الأمانه العلمية من إجراء (33) لقاءاً مع شخصيات علمية حول الموضوع.
والشيء الذي يلفت النظر أن الشهيد الصدر عبر من خلال فكره الحوزوي ورؤاه في هذا المضمار، حضوراً عظيماً، حتى يمكن أن يقال أن نصيبه في بحوث الدارسين، ولقاءات المتخصصين جاء بالمرتبة الثانية بعد الإمام الخميني.
وأحسب أننا نحتاج إلى بحث مستقل يتقصى مواطن حضور الصدر في مادة هذا المؤتمر ومداراته المختلفة.
أما على صعيد المجلات،فقد صدرت دورية ” آينة بزوهش ” بعدد خاص عن المؤتمر بدراسة طويلة تناولت أفكار الصدر ورؤاه[20].
ومن جهتها صدرت مجلة ” نقد ونظر ” (بالفارسية ) بعدد خاص عن المؤتمر من (328) صفحة، وجدت أن نسبة حضور أفكار الصدر باسمه وبشكل مباشر في بحوثها بلغ ( 90% ) من مجموع المجلة[21].
والذي يمكن أن يقال بحق عن هذه الدورية التي صدر منها حتى الآن (5) أعداد أنها صدرية المنهج والخط، فالصدر لا يكاد يغيب عن مادة أي عدد من أعدادها،بل هوأحد ثوابت مشروعها.
وعلى صعيد الحوزة العلمية في قم، وفي نطاق كبار العلماء الإيرانيين، نجد أن الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي، والشيخ جعفر سبحاني والشيخ مكارم شيرازي أبدوا آراء في شخصية الصدر تستحق التأمل والدراسة، وهي تشجع لاستضافة هؤلاء الثلاثة _ وآخرين غيرهم _ في ندوة متخصصة عن الجانب الحوزوي في شخصية الصدر.
والغريب أن تهمل آراء هؤلاء الثلاثة ولا يشار إليها رغم أنها نشرت في صحيفة عربية[22]!
وعلى صعيد المثقفين، والتيار الليبرالي بالذات، فالغريب أني وجدت باحثاً أقرب في معالجاته إلى العلمانية، هومجيد محمدي يعود إلى فكر الصدر كمرتكز في بناء رؤيته النقدية حول المسار الفقهي الراهن. والغريب في الأمر هوتتبع هذا الكاتب الذي وإن كان عارفاً بالآثار الفكرية النقدية في بلده، إلا أنه يفترض أن يكون بعيداً عما كتبه الآخرون في بقية البلدان، ومع ذلك يعود إلى ما كتبه الصدر كمرجع[23].
المستشرقة الإيطالية السيدة بيانكاسكارسيا ( ولدت: 1938 ) لها موقف سلبي من الاستشراق الأوروبي والأمريكي، وهي تصف نفسها من المتعاطفات مع قضايا العالم الثالث وبضمنه العالم الإسلامي، وهي أيضاً داعية إلى حوار متوازن بين الشرق والغرب، يقوم على قاعدة تصحيح العلاقة بينهما[24].
لها الكثير من المؤلفات التي ترجم بعضها إلى العربية، وقد تميز اهتمامها العلمي بالبحث في موضوع الشيعة والتشيع، فجاءت إلى إيران قبل الثورة ودرست في جامعة طهران، ثم أصدرت مجموعة كتب، آخرها كما ذكرت في لقاءٍ صحفي معها ( شتاء 1995م ) يحمل عنوان ” الشيعة في العالم “.
من بين أفكارها الاساسية أنها تحارب النظرة التي تحصر الشيعة في إيران، وتنظر إلى الشيعة في كل مكان كامتداد للوجود الشيعي في إيران. كما تعتقد أن التشيع هوبنيان أساس متراص مع الإسلام في بواكير دعوته، وبالتالي فهوليس ظاهرة طارئة في الإسلام.
عن الشهيد الصدر، بادرت بنفسها للقول: ” كتبتُ عن محمد باقر الصدر، وتناولت تأثير كتاباته، الذي لم يقتصر على العراق ولبنان وإيران فقط، بل امتد إلى العالم الإسلامي برمته “.
ثم أشارت إلى أن مجال بحثها عن التشيع وعن تأثيرات فكر الصدر شمل: لبنان، السعودية، البحرين، العراق، شمال الشام وحلب، وأفغانستان، آسيا الوسطى، باكستان والهند، وكذلك بلدان أفريقيا الشرقية.
وهي تطمح أن تمتد بمجال الدراسة كي تشمل الوجود الشيعي وتأثيرات فكر الصدر فيه، في أوروبا وكندا وأمريكا[25].
فطالما كنا نتحدث عن دارسين غربيين فمن المفيد أن نشير إلى كتاب الفرنسي ” اؤليفيه روا ” في دراسة ما اسماه بتجربة الإسلام السياسي، حيث صدر الكتاب بالفرنسية سنة 1992م، وترجم إلى العربية وصدر عن دار الساقي تحت عنوان ” تجربة الإسلام السياسي ” سنة 1994م.
الخطير في هذا الكتاب هومنهج المؤلف القائم على تثبيط الإسلاميين وإلقاء اليأس والإحباط بين المسلمين[26].
وأبرز أسلحة المؤلف هي كثافة المعلومات، فهوراجع عشرات بل مئات المصادر من كتابات الإسلاميين باللغتين العربية والفارسية وأطلع عليها مباشرة.
فهويُعرض بروحٍ مستخفة بيد أنها تتلبس العلم والمعرفة، بجميع محاولات الإسلاميين في بناء أطر مذهبية بل وحتى مفاهيمية للاقتصاد، ليخلص بلغة التثبيط نفسها: ” أن أسلمة الاقتصاد إذاً هي مسألة بلاغية إلى حد بعيد “[27].
وما يعنينا أن هذا الباحث أكد في نقده لرؤى الإسلاميين في الاقتصاد على منجزات رموز فكرية من أبرزها محمد باقر الصدر، ومحمود الطالقاني، وأطلع على أعمالهم باللغتين العربية والفارسية مُباشرة[28].
تنتشر في إيران مشاريع فكرية وثقافية واسعة تعبر عن نفسها من خلال مجلات أومؤسسات. ومن بين أبرز المشاريع مركز الدراسات الاستراتيجية التابع لرئاسة الجمهورية، هذا المركز الذي تصدر عنه فصلية محكمة تحمل عنوان “راهبرد”.
ومن بين أهداف المركز اضطلاعه بسلسلة من الدراسات التحتية التأسيسية في البنية الفكرية لكبار رموز الفكر الإسلامي. وفي طريق هذا الهدف أعد المركز سلسلة من الدراسات خصص من بينها واحدة عن فكر الشهيد الصدر، وتحديداً عما يمكن أن نطلق عليه بفلسفة الدين عند الشهيد الصدر[29].
تحمل دراسات المركز، ومن بينها هذه الدراسة، طابع البحث المنهجي التحليلي، الذي يتجاوز عرض الأفكار، إلى تحليل بناها، ونقدها. نكتفي بهذه الإشارة الوجيزة لهذه الدراسة التي بلغت (50) صفحة من القطع الكبير، نظراً لكون مجلة ” قضايا إسلامية ” قد بادرت إلى تقديم أبرز أفكار الدراسة ومحتوياتها في هذا العدد.
وما نذكره أخيراً، أن دراسات هذا المركز ليست – بأغلبها – للنشر العام، بل هي دراسات تأسيسية تُراد لتوجيه عقول الباحثين.
وظف الغرب علم دراسة الإنسان ( الانتروبولوجيا ) من بين ما وظف من معارف في خدمة مركزيته وتعزيز سلطته، التي أراد لها أن تكون عالمية، وعلى حساب بقية شعوب العالم وثقافاته.
وانطلاقاً من “الأنتروبولوجيا” أنطلق عدد كبير من الدارسين الغربيين، تابعهم بعض أبناء العالم الإسلامي، باختزال تأريخ الثقافات والحضارات،بل وتأريخ الإنسانية والشعوب، بالتاريخ الغربي بوصفه بثقافته وحضارته وإنسانه، يمثل وحده خط التقدم، وما دونه من شعوب وحضارات وثقافات، يصنف في خانة ” البدائية ” ويدرج ما تحت – مادون – التأريخ وخارج نطاق الثقافة المكتملة الناضجة.
انطلاقاً من هذه النظرة الأحادية اللاغية لما سوى الغرب، انطلقت أقلام بعض الدارسين حتى في الغرب نفسه لنقد “الانتروبولوجيا” بل وبلغ بعضهم للنظر إلى هذا “العلم” ومن خلال كونه معرفة تتجه صوب الاستعمار، تمهد له وتغذيه بذرائع المشروعية والاستمرار.
وفي اتجاه البحث العلمي النقدي المنطلق من ساحتنا العربية عبر رؤية إسلامية، انبثقت محاولة رائدة للباحث د. محمد حسين دكروب جاءت في كتاب تحت عنوان “الانتروبولوجيا: الذاكرة والمعاش”.
لم تقتصر دراسة دكروب على جانب نقد الرؤية الغربية في هذا العلم، وإنما تحولت للتأسيس في محاولة من الباحث لبناء رؤية إسلامية حول موضوع العلم (الإنسان)، تقوم من خلال استلهام أعمال فكرية لمفكرين إسلاميين بارزين، حول مقدمات هذا العلم كما تتمثل في الموقف من الإنسان والطبيعة، والمجتمع والتأريخ، والحضارة والثقافة.
شكلت أفكار الشهيد الصدر، بالذات كتابه ” مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن ” الأساس الأكبر لقواعد هذه المحاولة، تلتها أفكار علي شريعتي ثم مرتضى مطهري، وثمة إشارات لآخرين[30].
هذه الدراسة التي تقع في ( 150 ) صفحة من القطع المتوسط، بودي أن يطلع عليها أكثر عدد من القراء المعنيين بشؤون الفكر الإسلامي من أصحاب المؤهلات الحوزوية والأكاديمية الثقافية، نظراً لما تحمله من ثقة بالنفس، واعتزاز بالإسلام وبإنتاج مفكريه، ونظراً لمهجها الذي يمكن تكراره في أكثر من بعد ومجال ثقافي. وعلينا أيضاً أن لا ننسى الأهمية التي يحظى بها بنيانها المنهجي والأسلوبي، حيث استطاع كاتبه أن يصدرها في إطار سلسلة تصدر عن معهد لا صلة له من قريب أومن بعيد بالفكر الإسلامي، مما حقق لها نجاحاً إضافياً جاء هذه المرة من طبيعة المنبر الذي تولى طبعها ونشرها.
اختلفت الفكر الإسلامي المعاصر في مسألة الموقف من المعارف والعلوم (السلوكية والاجتماعية بالذات) إلى اتجاهين رئيسيين يؤمن الأول بإمكانية تأسيس منظور إسلامي للعلم من خلال ما تتيحه إمكانات الإسلام في نصوصه وأحكامه ومفاهيمه الأساسية، فيما آمنت الثانية بمنهجية الأسلمة.
وبين الأول والثاني ظهرت عشرات المحاولات لصياغة اقتصاد إسلامي، أدب إسلامي، علم نفس إسلامي، علم اجتماع إسلامي وغير ذلك. وقد تعرضت هذه الممارسة الفكرية والمنهجية بين الإسلاميين، إلى نقد من الآخرين بعضه حق، وبعضه الآخر لا يقوم على أساس، وإنما ينطلق من دوافع مشوبة بالغرض.
كان أغلب ما يتمسك به الناقدون لأتجاه تأسيس منظورات إسلامية للعلوم أوأسلمتها، أن العلوم تقوم على “مسلمات ” ليس لها وطن ولا تعرف الانتماء، بل هي أقرب إلى روح ” القانون ” الذي يقبل الانطباق على الظواهر بشكل متساوٍ، منها إلى لرؤية المذهبية الخاصة التي تخضع لأساس فلسفي أولنظرة كونية.
والسيد الصدر تحدث عن ” اقتصادنا ” بعنوان كونه مذهباً وليس علماً، وقد أعلن ذلك صراحة في المقدمات المنهجية للجزء الثاني من اقتصادنا[31]. ولكنه مع ذلك لم ينف إمكانية أن يكون للمذهب الاقتصادي الإسلامي علم يختص به، ولوبعد حين، أي بعد اكتمال التطبيق ونضج التجربة واستمرارها.
على أي حال، هذه النقطة المنهجية التي استبعد الصدر على أساسها أن يكون الاقتصاد الإسلامي علماً (أي قوانين تفسر الظواهر الواقعة والجارية) جذبت انتباه الباحث اللبناني د. وجيه كوثراني، الذي أشار لها بشيء كبير من الفخر والاعتزاز، حين كتب: ” تجد الملاحظة هنا أن فقيهاً ومفكراً كمحمد باقر الصدر، كان قد نبه إلى ضرورة الانتباه إلى هذه المسألة المنهجية لجهة عدم الانزلاق إلى القول بعلم اقتصاد إسلامي،فقال بوجود مذهب اقتصادي إسلامي على موازاة مذهب الاشتراكية والرأسمالية. أما العلم كموضوع ومنهج وطرائق تجريبية واستدلالية فهومستقل نسبياً عن المذهب. كما أن المفكر نفسه سبق ونبه الذين يحاولون أن يتعاملون ما القرآن الكريم ككتاب “علمي” بقوله إن القرآن هو “كتاب هداية” للسلوك الإنساني والأخلاقي والاجتماعي وليس كتاب علوم تستخرج منه النظريات العلمية على اختلافها “[32].
طفتُ في التراث الفكري للشهيد مرتضى مطهري، واطلعت على أغلب مؤلفاته، وكان وما يزال يثير دهشتي عدم إشارته ولومرة واحدة للشهيد الصدر.
لقد رأيته يشير إلى كتاب عرب كثيرين، وإلى كتب عربية بعضها غير مشهور أولا ينطوي على أهمية إلا لعدد من الباحثين، وقد ذكر شبلي شميل وطه حسين وسيد قطب وشكيب أرسلان، والسيد عبد الزهرة الخطيب فيما كتبه عن أسانيد نهج البلاغة، وغيرهم الكثير. والسؤال المحير! هل من المعقول أن مطهري لم يطلع على كتب الصدر؟ ما أزال لا أجد لهذه الظاهرة جواباً، خصوصاً وأن الذي يزيد تعقيد المسألة أن الأثنين كتبا في مواضيع مشتركة، وانطلاقاً من هموم متقاربة!
على أي حال، بدلاً من مطهري طلعت علينا مفاجأة لم تكن متوقعة أبداً، انطلقت هذه المرة من علي شريعتي، فقد كنت استبعد أن يكون في عمره ومنحاه الفكري وطبيعة اهتماماته ونشاطاته، قد اطلع على كتابات الشهيد الصدر، فضلاً عن أن يكون تفاعل معها وأبدى بها وبصاحبها موقفاً إيجابياً للغاية.
ولكن هذا الذي حصل، إذ يكتب في وثيقة نادرة إلى صديقه الشيخ علي حجتي كرماني الذي قام بترجمة بحث الصدر “التشيع والإسلام” (بحث حول الولاية ): “وأما ما يتعلق بكتاب “تشيع مولود طبيعي إسلام” [ترجمة: التشيع والإسلام] لأستاذنا المفكر والباحث الواعي البصير بإوضاع عصره السيد محمد باقر الصدر، فأول ما أقوله: إنه من حسن الحظ أن أكون مطلعاً على كتاباته الإبداعية القيمة مثل ” فلسفتنا ” و” اقتصادنا “. لقد أثبت السيد محمد باقر الصدر في هذه الكتابات أنه علاوة على تأصله بالثقافة الإسلامية، يتوفر على فهم واعٍ لعصرنا، يحس بهمومنا وأوجاعنا، ويحيط بمقتضيات زماننا.
إضافة إلى أنه يتحدث بلغة أهل هذا العصر وأسلوبهم، فهوأيضاً على دراية بمنهاج البحث العلمي المعاصرة. وهذه العناصر بمجموعها هي ما يحتاج إليها في الواقع ” العالم الإسلامي ” (بكسر اللام) في زماننا، وفي المقابل لا يحتاج عصرنا إلا إلى ” عالم إسلامي ” يكون على مثل هذا الطراز، وبمثل هذه الخصائص “.
يضيف في الرسالة _ الوثيقة التي تعود إلى ما قبل انتصار الثورة بسنوات: ” لقد تناول الكتاب في موضوعه كيف ولد التشيع في إطار الإسلام، وكونه نتيجة طبيعية للإسلام نفسه، وإن مسألة رعاية النبي لمستقبل الدعوة على أساس مبدأ الوصية، هوضرورة منطقية ومصيرية لتحديد مستقبل الثورة ( الدعوة ) الإسلامية والأمة الثورية … “[33].
لم يقتصر جهد شريعتي على الإعجاب بالشهيد الصدر والإطلاع على كتبه، بل مضى للتفاعل معها، كما هوالحال مع كتابه ” التشيع والإسلام “، وكان من ثمرة هذا التفاعل إن كتب نقداً مطولاً على بحث الصدر يصل إلى (25) صفحة مطبوعة، وقد ذكر المترجم، أنه بعث بنسخة من نقد شريعتي إلى السيد الصدر في النجف لكي يرد عليه، ولكن يبدووفاة المرحوم شريعتي المفاجأة في لندن، واندلاع أحداث الثورة، والأوضاع التي ألمت بالشهيد الصدر في النجف، كلها عوامل لم تسمح بتجسير العلاقة بين الاثنين، ونموها على أساس الحوار النقدي.
لقد كان في خطتنا أن نترجم نقد شريعتي كاملاً وندرجه في إطار هذه الشهادات، وقد بدأنا بالترجمة فعلاً، ولكن طول النقد وامتداده إلى ما يساوي حجم هذه المتابعة، منعنا دون تحقيق هذه الرغبة.
لذلك نأمل أن تتاح لنا فرصة أخرى مؤاتية لنشر النقد، الذي يتكون من ثلاث نقاط أساسية في وقت مستأنف إن شاء الله.
كانت الشهادات التي مرت، لمحات تجمعت من خلال ممارسة العمل الثقافي، وهي لم تصدر عن استقصاء مسبق، وبالتالي هي ليست استقراء شاملاً لكل ما كتب عن الشهيد الصدر[34].
[35]أما الهدف الذي يتجاوزه هذه المعلومات ويخترقها إلى ما هووراءها، فيتمثل بالنقاط المختصرة التالية:
1- إن نعرف بموضوعية هل اتخذ الصدر مكانه اللائق داخل أروقة الفكر في العالم الإسلامي، وبين صفوف الفكر العالمي؟
2- هل تم استنفاد التركة الفكرية للصدر كاملاً؟
3- هل قمنا بإنجاز مراجعة دقيقة وواضحة لموقع الصدر في مسار الفكر الإسلامي من جهة، وتعرفنا من جهة ثانية على حاجات المسلمين الفكرية الراهنة، لتتوفر لنا رؤية دقيقة عما ينبغي مواصلته والانفتاح عليه من آثار الصدر، وما ينبغي تجاوزه؟
4- وبعد، تبدوالدراسات النقدية لفكر الصدر مطمحاً عالياً، بيد أنه ضروري على أي حال.
خالد التوفيق
[1] صحيفة جمهوري إسلامي، العدد (19) السنة الأولى، المصادف الخميس 26/رجب/1399هـ، أثناء انتفاضة رجب وفرض الحصار على بيت الشهيد الصدر.
[2] يلاحظ في نصوص رسالتي الشهيد الصدر، ونص رسالة دار التقريب: تشيع مولود طبيعي إسلام (وهوترجمة كتاب السيد الصدر: التشيع والإٍسلام) علي حجتي كرماني، الطبعة العاشرة، ص6، 8، 9.
[3] تشيع مولود طبيعي إسلام، ترجمة علي حجتي كرماني، ص19، 20.
[4] شهادات هؤلاء سمعتها مباشرة، وسجلتها في حوارات معهم نشرت في صحيفة كيهان العربي، مجلة الوحدة الشهرية، صحيفة الشهادة الأسبوعية. وأوكد أن ثمة غيرها الكثير مما سجلته، أوسمعه وسجله غيري.
[5] قضايا مهمة في حوار طويل، لقاء مع د. ظفر الإسلام خان، أجراه خالد توفيق، مجلة سروش للعالم العربي، العدد (108)، شعبان، 1410هـ ,
[6] مرزداران حماسة جاويد در كفتكوباستاد علي دواني، مجلة كيها فرهنكي (بالفارسية) العدد ( 109 )، ارديبهشت 1373 (حسب التقويم الإيراني).
[7] يراجع في هذا المجال المقال القيم الذي كتبه د. عبد الرحيم حسن بعنوان ” الإمام الشهيد محمد باقر الصدر: مراجعة لما كتب عنه باللغة الإنكليزية “، الفكر الجديد، العدد السادس، محرم 1414هـ، ص186 فما بعد.
[8] صحيفة عماد ( بالفارسية ) العدد 122، 18 جمادي الآخرة، 1416، لقاء مع آية الله آذري قمي، ص6.
[9] مقدمة في علم الاستغراب، د. حسن حنفي، بيروت 1992م، ص534.
[10] (10) المصدر السابق، ص535.
[11] (11) الدين والتراث والثورة في فكر حسن حنفي، مجلة الوحدة، ص138، تقديم وحوار: قيس خزعل جواد.
[12] يلاحظ: د. فهمي جدعان، نظرية التراث، نظريات الدولة في الفكر العربي الإسلامي المعاصر، ص 100.
[13] جدد سروش نشر هذه المقالة التي نشرها مطلع الثمانينات، في كتابه: تفرج صنع (بالفارسية). ص 426، وقد رد عليه في حينها السيد عمار أبورغيف في كتاب مستقل، تضمن ترجمة نقد سروش إلى العربية.
[14] عبد الكريم سروش، رازداني وروشنفكري ودينداري (بالفارسية) ص 40.
[15] تفسير وتفاسير جديد، بهاء الدين خرمشاهي، مؤسسة كيهان، ص 48. وكذلك يلاحظ: تشيع سيري در فرهنك وتأريخ تشيع، الفصل الثالث، ص 66.
[16] مجلة ” راهبرد ” (بالفارسية)، العدد ( 4 )، نظريه هاي دولت در فقه شيعه، محسن كديور ص 16، وكذلك يلاحظ للكاتب نفسه دراسة عن الفكر السياسي للشهيد الصدر في: صحيفة بهمن، العدد 16.
[17] مجلة ” حوزة ” (بالفارسية)، دواحياكر، العدد ( 67 ).
[18] بيم موج (بالفارسية) سيد محمد خاتمي، ص 97 فما بعد.
[19] انقلاب إسلامي وريشه هاي آن، المجلد الثاني، ص 359.
[20] آينه بزوهش، العدد 36، ص11.
[21] نقد ونظر، العدد الخامس، السنة الثانية، خصصت دراسة حملت (بعد الترجمة) عنوان ” دور الزمان والمكان من وجهة نظر الشهيد الصدر “، ص222، إضافة إلى الاعتماد على فكر الصدر أوالإشارة أليه في بقية المواضيع.
[22] يلاحظ: فقهاء الحوزة العلمية وعلماؤها يتحدثون عن أبعاد شخصية الإمام الشهيد الصدر، صحيفة المبلغ الرسالي، العدد ( 69 ) 10/ نيسان / 1955م.
[23] آسيب شناسي ديني، تأليف مجيد محمدي (بالقارسية) ص 103.
[24] يلاحظ: عن حياتها د. رضوان السيد في مراجعته لكتابها المترجم إلى العربية ” العالم الإسلامي وقضاياه المعاصر “، مجلة الحوار، العدد ( 1 )، 1406 هـ، ص 111.
[25] يلاحظ: نص الحوار المطول معها في: كيهان فرهنكي (بالفارسية)، العدد (124) آذر ودي 1374 (التاريخ الفارسي)، ص 13.
[26] يلاحظ: هذا المنحى من عنوان الفصل الذي خصصه للاقتصاد الإسلامي حيث جاء: الاقتصاد الإسلامي بين الأوهام والبلاغة!
[27] تجربة الإسلام السياسي، أوليفيه روا، دار الساقي، لندن 1994 م، ص 137.
[28] المصدر السابق، ص 207_208.
[29] انتظار ازدين از ديدكاه شهيد صدر، معاونت انديشه إسلامي، مركز الدراسات الاستراتيجية، الدفتر الثالث، ص201 فما بعد.
[30] الانتروبولوجيا الذاكرة والمعاش، د. محمد حسين دكروب، معهد الإنماء العربي، بيروت 1984م، يلاحظ بالذات الفصلين الثاني والثالث، ص47، 71.
[31] اقتصادنا، محمد باقر الصدر، الاقتصاد الإسلامي ليس علما، ص 330.
[32] ثلاثة أزمنة في مشروع النهضة العربية والإسلامية، د. وجيه كوثراني، المستقبل العربي، العدد 120، شباط 1989م، ص22.
[33] نشيع مولود طبيعي إسلام [ترجمة: بحث حول الولاية، بالفارسية]، ترجمة: علي حجتي كرماني، الطبعة العاشرة، ملحق الكتاب نقد بقلم الدكتور علي شريعتي، ص123_124.
[34] من هذه الشهادات ما ذكره الكاتب الماركسي فالح عبد الجبار في كتابه “بنية الوعي الديني والتطور الرأسمالي: دراسات أولية” حيث كتب في ص21: (ويمكن القول بوجه عام، أن ميدان الفكر الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والإسلامي المعاصر يتضمن نهجين في البحث: نهج تلقيني، يقوم على مصادرات وتبسيطات لا تتصف بأدنى مقومات البحث، ونهج آخر يحاول بجد أن يرتقي إلى مصاف بحث نظري. قارن على سبيل المثال بين “مناهج الاستقراء” للشهيد الصدر من حيث بنائه ومنهجه العلمي، بكتاب “المنطق الإسلامي: أصوله ومناهجه” للسيد محمد تقي المدرسي، فهذا الكتاب الأخير ليس أكثر من وصف معطيات ناقصة، تفتقر إلى أية منهجية أودراية كافية في هذا الميدان، أولنقارن بين “اقتصادنا” للسيد الصدر، وبين الخليط المكدس من أحكام لا ينظمها أي ناظم في كتاب ” الفقه: الاقتصاد ” لآية الله الشيرازي).