ختم الشهيد السيد محمد باقر الصدر (رض) حياته الحافلة بالنشاطات الفكرية والعملية، ختمها بالشهادة التي صمم على نيلها ورحل الى الرفيق الاعلى، وبعد هذا السيل الكبير الذي صدر حوله من كتابات ومؤلفات، وبعد هذا النقاش الطويل الذي دار حوله في الندوات والمؤتمرات، بعد هذا كله ماذا سنكتب عنه؟ وماهي المحطات الرئيسية في حياتها التي يمكننا التركيز عليها؟ وماهي اهم العبر والتجارب التي نسير عليها في حياتنا الاسلامية المستقبلية؟ نحاول في هذه المقالة ان نضمد جراحنا التي ادمت صميم قلوبنا بفقده، نحاول ان نستعين بالسكينة والوقار والتحلي بالصبر والرضا بقضاء الله وتحمل الالم العظيم والمرارة، ونحاول اجتياز الصدمة التي هزّت المسلمين من الاعماق لفقدانه وحدوث الخسارة العظيمة باستشهاده «اذا مات العالم ثلم في الاسلام ثلمة لا يسدها شيء..».
الكثير من الناس يعيشون ويموتون ولا اثر لهم مثلهم كمثل الذي يضع يده في مياه البحر وحينما يرفعها تعود المياه الى مجاريها وكأن شيئاً لم يكن، وكثير من العلماء عاشوا وماتوا ولم يجددوا ولم يحدثوا اثراً عميقاً في تاريخ الامة الاسلامية ولكن الشهيد الصدر (رض) غير اولئك الناس وغير اولئك العلماء..
الشهيد الصدر ضحية من ضحايا الاستعمار البريطاني الذي لابد ان يقضي عليه ويتخلص منه كجزء من سياسته الاستعمارية في عمدة مساراتها لابادة كل فكر اصيل وعميق، ولا يعرف قيمة الشهيد السيد محمد باقر الصدر (رض) الاّ من رآه وجالسه وعايشه وقرأ كتبه واستوعب افكاره، ولذلك نحن نرثي وننظر بعين العطف والشفقة والاسى لهذا الجيل الذي لم يحالفه الحظ برؤية الشهيد الصدر وحُرِم من احاديثه وأجوبته على الاسئلة المتنوعة التي تطرح عليه في مجلسه الاسبوعي صباح يوم الجمعة من كل اسبوع، ان كل جلسة مع الشهيد الصدر تزيد الانسان علماً بالاسلام واملاً بالاسلام وعزماً واندفاعاً للعمل من اجل الاسلام، اضافة الى الاخلاق العالية واهتمامه بكل شخص في مجلسه وبشاشته وايمانه العميق ووقاره الرزين الذي يشع به على الحاضرين في مجلسه، وهذا امر يدركه كل من يمارس العمل السياسي الاجتماعي ويهمه حاضر الامة الاسلامية ومستقبلها، اذ كلما كانت القيادة عالمة عاملة قوية مؤثرة، فانّ ذلك ينعكس ايجاباً ويحدث تأثيراً عميقاً في النخبة خاصة وفي الامة عامة، لكن الضغوطات الاجتماعية في النجف الاشرف والضغوطات السياسية من قبل نظام صدام في العراق حاصرته، ومنعت من امتداد اشعاعاته الفكرية والعملية في اوساط الامة، وتوجت ذلك بقتله على تلك الطريقة الفجيعة، فغاب عنا سريعاً، وذوى كما تذوي الورود والازهار، نشأ السيد محمد باقر الصدر نشأة علمية مركزة ساعده في ذلك ذكاؤه الحاد وتوقد ذهنيته ونموه في وسط علمي عريق، فالمراجع العظام يحيطون به والجمعيات والمنتديات الثقافية والعلمية تتوزع في انحاء النجف الاشرف، والحوزة العلمية تعج بالعلماء من عراقيين ولبنانيين وسعوديين وايرانيين وباكستانيين وغيرهم، وكان الجو السياسي في العراق وفي البلاد الاسلامية يضج بالحركة والحماس، فالاحزاب السياسية متعددة والانقلابات والثورات متوالية، والحروب كثيرة، والنجف الاشرف اول ما تتأثر بالجو السياسي وبالضغوطات السياسية، وكان النشاط السياسي الاسلامي في بواكيره ووصل الى مستويات عاليه من النضوج والتوسع والامتداد وشمل شرائح واسعة من اوساط الامة.
انّ اول ما نستفيده من حياة السيد محمد باقر الصدر (رض) هو المواظبة على الدروس والعزم على استيعاب العلوم، وطي المراحل الدراسية بسرعة واستيعاب كامل كأنه يعرف ان مستقبلاً مؤلماً ينتظره، وان مهمة عظيمة يجب ان يؤديها وانّ دوراً كبيراً سيضطلع به، ومن خلال التأمل في المسيرة التاريخية للبشرية ومن خلال التمعّن في حياة العظماء والنابهين يظهر لنا تكامل عاملين مهمين في حياة هؤلاء العظماء «اولاً» مواهبهم الذاتية وقابلياتهم العلمية المكنونة لديهم بالقوة، الثاني: توفر الاجواء العامة والشرائط الخارجية التي صقلت مواهبهم وهيأت لهم كل عوامل النمو والتفتح والنضوج، وهذا ما تهيأ للشهيد السيد محمد باقر الصدر، فالعوامل الذاتية متوفرة لديه من نبوغ مبكر واستيعاب للعلوم بسرعة هائلة، وعزمه وحزمه على الدرس والتدريس، والرغبة الاكيدة لديه في الاطلاع على كل ما حوله من افكار وآراء واشخاص واحداث، وقد توفرت له الاجواء الخارجية الملائمة لنموه والمساعدة لتقدمه وتطوره ابتداءاً من عائلته العلمية وانتهاءاً بالحكومات الضعيفة، فالاجواء في عهد الملكية كانت هادئة بسيطة والارهاب والضغط والسجون والمعتقلات التي تغص بها سجون صدام في الوقت الحاضر لا اثر لها في ذلك الزمان الاّ ما ندر والاّ حوادث بسيطة هنا وهناك، وقد درس الشهيد الصدر (رض) على يد اساطين العلم والاجتهاد وعلى يد كبار مراجع التقليد امثال السيد محسن الحكيم والسيد ابو القاسم الخوئي والشيخ مرتضى آل ياسين، وحينما تفرّغ من ذلك كلّه بدأ بعملية العطاء واخذ بزمام القيادة، فالقى دروسه في البحث الخارج وربى جيلاً يعتدّ به من العلماء والفقهاء، ولم ينسَ العمل السياسي الاسلامي الذي ينقذ الامة من الفقر والعناء ويرفع عن كاهلها نير الظلم والاستبداد فشرع بوضع قواعد العمل السياسي للحركة الاسلامية، وكانت فاعليته الفكرية والعملية في جماعة العلماء ظاهرة بارزة، فقد كتب افتتاحيات مجلة الاضواء حتى العدد الخامس تحت عنوان «رسالتنا» ووضع الاسس العامة للافتتاحيات التي صدرت بعد هذا التاريخ، واستمر نشاط السيد محمد باقر الصدر فكرياً وعملياً، وبعد وفاة المرجع الديني السيد محسن الحكيم (رض) توجهت انظار الامة اليه، والتف الشباب المثقف حوله، وبدأ الدعاة تقليده سراً حيث قام حزب الدعوة الاسلامية بتوزيع فتاواه على الدعاة في جميع المناطق، وكان السيد محسن الحكيم ممن يثق بالشهيد الصدر ويدعمه وقد اشترك السيد الصدر بمظاهرة التشييع الكبيرة للسيد الحكيم التي ملأت شارع الرشيد ببغداد من اوله الى آخره، وبدأ السيد الصدر بامامة المصلين في الحسينية الشوشترية يومياً، واستمر في دروسه وازداد الحضور المكثف في بيته من قبل الناس يزورونه ويسألونه.
وتعتبر المحطة السياسية والاجتماعية للسيد محمد باقر الصدر (رض) من المحطات المهمة في حياته والتي اخذت منه وقتاً كثيراً وتفكيراً كبيراً، حيث التحم اكثر بالناس، ووزع الوكلاء، واصطدم بالنظام البعثي مباشرة، وجرت محاولات كثيرة لاعتقاله، وقام بالتصدي لأمور الامة، وجاءته الوفود الكثيرة لبيعته، وانطلقت المظاهرات الحاشدة لنصرته، وكان صدام التكريتي يراقبه فبدأ بقص اجنحته باعدام وسجن العلماء من طلبته ووكلائه في المحافظات العراقية، وكذلك سجن واعدام الوجهاء ممن يحبونه ويلتصقون به ويطيعونه وينفذون اوامره، وحينما خلت الساحة من الانصار والمريدين وغصت السجون والمعتقلات بالمؤمنين، خلا الجو للنظام الحاكم في بغداد، فأقدم على الجريمة الكبرى باعدام الشهيد السيد محمد باقر الصدر (رض)، فكان لذلك الحدث وقع اليم في نفوس الجماهير المسلمة في كل انحاء العالم الاسلامي، ولم تحدث انتفاضات كبيرة داخل العراق لأن اغلب المؤمنين هم داخل السجون الصدامية يتعرضون لأبشع انواع التنكيل والتعذيب.
كلما كانت القيادة عالمة عاملة قوية مؤثرة، فانّ ذلك ينعكس ايجاباً ويحدث تأثيراً عميقاً في النخبة خاصة وفي الامة عامة.
محمد سعيد