خصائص النص في فكر الإمام الشّهيد الصّدر

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

تتأكد أهمية النص الفكري من خلال تعبيره العلمي الدّقيق عن المفهوم الّذي يعالجه في أي حقل من حقول المعرفة الإنسانية، ولقد كان النص الفكري وما زال مشكلة أساسية في التعبير عن الفهم الإسلامي الدّقيق باعتباره الوجه والمؤشر لما يريده الإسلام من احكام وممارسات ومواقف; وتعتمد درجة التعبير في النص عن الواقع الإسلامي على ما تحمله شخصية المفكر الاسلامي من قدرة على تمثل الإسلام واستيعاب نظريته عن الكون والحياة.

ومن الطّبيعي هنا ان تأتي النصوص متباينة في التعبير عن الموقف الإسلامي قوة وضعفاً بناءً على تباين القدرة المعرفية والعلمية بين أوساط المفكرين والباحثين الإسلاميين واختلاف امكاناتهم وقدراتهم على استيعاب واحاطة النظرية الإسلامية، إضافة إلى ما تحمله من ربانية في آفاق طرحها وتكييفها ومن المفروض ان كل تلك الخصائص على مستوى الباحث أو النظرية تتفاوت في التعبير بالدرجة عن المفهوم الإسلامي، كأن يأتي طرح مفكر إسلامي عن المذهب الإقتصادي أو السّياسي في الإسلام بدرجة معينة من التعبير بناءً على أسس ومبادئ منهجية يعتمدها المفكر المذكور في حين يقوم آخر بتحقيق آفاق جديدة لكلا المذهبين بناءً على منهجيته الفكرية. وهكذا تتصاعد درجة الوضوح والفهم في تلك الحقول وغيرها من المعارف الأخرى، إلاّ ان هذا المعنى يُخرج تلك المفاهيم المسيسة لخدمة أهداف وأغراض شخصية لا غير.

وفي الواقع ان النصوص الفكرية تحتل إثارات لمن يأتي لاحقاً من المفكرين فينطلق منها في طروحاتها الفكرية الجديدة، ومن هنا تكون المفاهيم الإسلامية سلسلة مترابطة يدين بعضها للبعض الآخر باعتبارها لبنات تتكامل في الهيكلية الفكرية لعموم النظرية الإسلامية وفي الأعم الأغلب فإنَّ الاثارات الفكرية تتفاوت بنسب متقاربة في الجدة والابداع وحين تمثل الإثارة نسبة عالية عن المألوف فانها تشكل قفزة نوعية وظاهرة متميزة وتترتب عليها الكثير من النتائج في الموقف والسّلوك، وإذا كان بالامكان تطبيق تلك المقولة على الاثارات الفكرية للإمام السّيد الشّهيد رضي الله عنه فانها تمثل بحق قفزة نوعية كبيرة وعلامة متميزة في مسلسل الاثارات الفكرية الّتي تشكل مدرسة علمية رائدة استطاعت ان تترك بصمات عميقة على مسار الفكر الإسلامي في مرحلته المعاصرة، وليس لأحد ان ينكر ما آل إليه النص الفكري لدى السّيد الشّهيد رضي الله عنه من احداث نتائج نوعية في مجال التفكير الإسلامي على مستوى الموضوعات الّتي تطرق إليها في بحوثه المختلفة.

ان تلك الظّاهرة تدعو المعنيين إلى دراسة النص الصّدري والإمعان في خصائصه لاكتشاف مواطن الدّقة والعمق والاحاطة العلمية الّتي امتاز بها النص لدى السّيد الشّهيد رضي الله عنه ولما كان النص هو الافراز الفكري لتصور الباحث عن مهمة لدلالة الموضوع الّذي يعالجه لذا لا يمكن التفكيك بينهما وبالتالي فإن دراسة الخصائص الشّخصية والفكرية للإنسان المفكر تحتل بالضرورة المعالم المتميزة في مجموع طروحاته الفكرية والعكس صحيح أيضاً.

وما تجدر الإشارة إليه هنا هو إنَّ قراءة النص في فكر السّيد الشّهيد رضي الله عنه يعكس بشكل واضح المعالم الاساسية لشخصيته المتميزة على مستوى الذّكاء والاحاطة وعمق التفكير إضافة إلى الوسائل الّتي مارسها في توجيه النص وفاعليته من خلال جملة مناهج علمية طبقها في مساره الفكري.

وسوف نستعرض هنا بعضاً من تلك الخصائص العلمية وبالقدر الّذي تسمح به مساحة الموضوع.

أولا: الإحاطة والوضوح

حين يتعامل القارئ مع نصوص المدرسة الصّدرية فانه يلمس بوضوح تكامل المفهوم المطروح في جهاته المختلفة، وهذا يعني انه يبحث مختلف الاثارات الّتي يتعلق بها الموضوع، وفي كثير من الاحيان فانه يبدع اثارات جديدة إضافة إلى الاثارات المتعارفة عن الموضوع، ويوفر السّيد الشّهيد رضي الله عنه الكثير من الوقت للقارئ حين يعالج حيثيات الموضوع لأنه يطرحها بطريقة علمية منهجية تؤدي مرادها بسهولة متبعاً في ذلك المحايدة العلمية التامة في نقولاته عن الآخرين وان اختلفوا معه في الرّأي والمعتقد، وحين يتناول هذه الفكرة أو تلك بالرد أو الابطال فانه يمارس أرفع الأساليب العلمية دون المساس أو التجريح بشخصية صاحبها أو النيل منه، وبذلك يبرهن على سعة الأفق الإسلامي ومنهجه في تقويم الآخرين.

هذا من جانب ومن جانب آخر فإن الفكرة الّتي يتناولها السّيد الشّهيد رضي الله عنه سواء كانت على مستوى النظرية الإسلامية أو على مستوى الأفكار الوضعية للآخرين فإنه يبلورها بطريقة تؤكد درجة عالية جداً من الفهم والادراك والاحاطة التامة بجميع جوانبها وبذلك يؤكد الحرص التام على وضوح المفهوم لدى القارئ، وقلما نجد هذا المنحى لدى الأعم الأغلب من الباحثين خصوصاً في المطالب المعقدة ذات الدّرجة العالية من التعبير كالفقه والأصول والفلسفة. وقد عمد إلى تهذيب العديد من البحوث الّتي أثقلتها التعابير الاضافية والمداخلات والتفريعات والّتي أوجدت غربة حقيقية بينها وبين القارئ.

ثانياً: عمق الفكرة وطريقة الطّرح

من خصائص المفهوم الفكري الإسلامي انه يرفد الواقع الإجتماعي في أي عصر من العصور ويلبي حاجات الفرد رغم تباين الظّروف والأوضاع الإجتماعية وبذلك وصف الإسلام بانه فكر متجدد يتجاوز الحدود المكانية والظّروف الزّمانية. وليس بمقدور كل باحث ان يحرر الدّلالة الّتي يستبطنها المفهوم بعد دارسة المفردات العامة الّتي يزخر بها واقع الفرد والمجتمع إنَّ تحقيق هذا المعنى يتطلب النفوذ التام إلى عمق المفهوم الإسلامي وما يحمله من دلالات مختلفة، إضافة إلى وعي تام بمعرفة الواقع الإجتماعي وتفسير مفرداته المختلفة، وعند استعراض النصوص الفكرية الّتي خلفها الإمام الشّهيد الصّدر رضي الله عنه نجد إن تلك الخاصية ذات البعدين العلمي والإجتماعي تطبع جميع المفاهيم الّتي تطرق إليها من خلال بحوثه المختلفة بحيث امتازت بدرجة علمية عالية مستوعبة لكل الابعاد الّتي يتطلبها الموضوع، لذا استطاع السّيد الشّهيد رضي الله عنه أن يظفر بنتائج علمية دقيقة ومما زاد في قيمة الفكرة لديه إنه وجه بحوثه الفكرية وفق منهج متميز أشار إليه في مناسبات عديدة والّذي نعته بالمنهج الموضوعي وهو المنهج الّذي ينصب على دراسة الظّاهرة ككل والنظر إلى مفرداتها الجزئية في إطار موضوعها، فإذا تناولنا مثلا وظيفة الإمام المعصوم عليه السّلام باعتباره الامتداد الطّبيعي لظاهرة النبوة فإن تلك الوظيفة تحمل دلالة استخلاف النّبي صلى الله عليه وآله وسلّم في المجال التشريعي والإجتماعي مع فارق نزول الوحي على الرّسول صلى الله عليه وآله وسلّم، وعليه فإنَ أي مفردة فكرية أو سلوكية ينبغي النظر إليها من خلال تلك الوظيفة والّتي يلتقي عندها جميع أئمة أهل البيت عليهم السّلام رغم تنوع التعابير والممارسات الّتي تلتقي جميعاً في اطار المهمة الرّئيسية لوظيفة الإمام المعصوم عليه السّلام. وبهذا يأخذ المفهوم سعته الفكرية وتتعمق دلالته في دائرة ذلك الموضوع الكبير.

وهكذا واصل الإمام الشّهيد الصّدر «قدس سره» دراسته للفكر الإسلامي من خلال تلك المنهجية الموضوعية فحقق الكثير من النتائج الرّائدة، يتبين ذلك في دراسته الإقتصادية والتاريخية والقرآنية، وتعمقت تلك الدّراسة بشكل خاص في دائرتي الفقه والأصول والّتي أفرزت على يديه مدرسة جديدة في الفقه والأصول خرجت عن المتعارف المألوف في جملة مباني مبتكرة.

ثالثاً: الشّمولية والسّعة

من المتعارف جداً أن يتصف باحث معين فيما مضى من الزّمن بأنه باحث موسوعي بسبب محدودية الدّوائر الفكرية وتواضع مساحة بحثها، لذا نجد المفكر الإسلامي يطرق الفقه والأصول والتفسير إضافة إلى الطّب والفلك والموسيقى والرّياضة وما شابه من علوم ذلك العصر، وبعد تنوع البحوث واتساع المعارف واحتياج الموضوع الواحد إلى الكثير من العناء والجهد أصبح التخصص في الموضوع الواحد من أهم مميزات هذه المرحلة، وقد يستغرق ذلك الموضوع عمر الباحث دون أن يوفي غرضه النهائي.

إلاّ أن ظاهرة الشّمول والموسوعية عادت على يد الشّهيد الصّدر رضي الله عنه ولكن بطريقة أخرى، ذلك انه عالج الموضوعات المختلفة بناءً على هدف متميز، فقد وجد ركاماً من المفاهيم الخاطئة الّتي ساهمت كثيراً في تضليل الأمّة والعمل على ابتعادها عن جادة الإسلام كما عملت في الوقت نفسه على تشويه الحقائق واعطاء صورة قاتمة عن المفهوم الإسلامي فوجد نفسه مضطراً لمنازلة تلك الأفكار والمفاهيم وبيان تهافتها وفضح برامجها أمام الأمّة لكي يتاح لها تمييز الخطأ من الصّواب ومن ثم جعل الطّريق مفتوحاً أمام المفهوم الإسلامي المشرق ليأخذ طريقه إلى الأمّة من أجل بنائها وصيانتها في مواجهة تلك الأفكار.

ومن هنا نجد ان البواكير الفكرية الأولى للسيد الشّهيد «قدس سره» برزت على مستوى مناقشة الأفكار الفلسفية والنظريات الإجتماعية والإقتصادية وهي النظم الفكرية الّتي حملت الكثير من الأفكار المضللة بحيث مثلت مشكلة اجتماعية حقيقية اجتاحت عالمنا الإسلامي بشكل عام والعراق منه بشكل خاص.

كما ان السّيد الشّهيد رضي الله عنه لم يتوقف عند هذا الحد بل التفت إلى طريقة البحث العلمي الإسلامي وما اعتاد عليه المنهج الحوزوي الّذي التزم نمطاً في البحث دون المساس بالعلوم الأخرى الّتي اعتبرها العرف الحوزوي ترفاً فكرياً لا داعي للخوض فيه، ولهذا اضطر البعض من المفكرين الاعلام إلى كبح أقلامهم في التقرب من تلك البحوث رعاية لتلك النظرة الحاكمة في الحوزة، فحرم الفكر الإسلامي الشّيعي من الكثير من البحوث والّتي كان بامكانها ان تشكل رافداً عظيماً في نتاج مدرسة أهل البيت عليهم السّلام.

واستناداً إلى النظرة الّتي كان يحملها السّيد رضي الله عنه حول وظيفة المرجع الدِّيني باعتباره المرشد والموجه والقائد للأمة نحو تجذير الإسلام والدّفاع عنه، فانه أراد أن يطرح النموذج العملي لذلك التصور، فأخذ يتحرك في هذا الاطار على المستوى الفكري والعملي ومن داخل أروقة الحوزة. ولم تكن النزعة الّتي تبناها تمرداً على العرف الحوزوي وإنما هي في الواقع انتصاراً للحالة الإسلامية وإرجاع الحوزة إلى المهمة الأساسية الّتي ينبغي أن تقوم عليها.

وقد أراد رضي الله عنه أن يكوّن النموذج الحيّ لما ينبغي أن يكون عليه خريج الحوزة لمواجهة الواقع وتغييره باتجاه الإسلام ولم تكن الموضوعات الّتي عالجها تمثل ترفاً فكرياً وإنما هي حاجة أساسية ملحة تصب في الهدف الّذي تبناه، يتبين ذلك من خلال النتائج الّتي انتهى إليها حواره الفكري على مستوى الفلسفة والإقتصاد ومجمل بحوثه الفكرية والعقائدية والمنطقية اضافة إلى النتائج الكبيرة الّتي أفرزتها بحوثه الفقهية والأصولية.

وقد اكتسبت البحوث المتنوعة للسيد الصّدر رضى الله عنه ميزة قلما تتحقق لدى الكثيرين وهي انه استطاع ايجاد انجازات علمية في كل موضوع يطرقه ويدرسه ولا تختلف تلك الانجازات في موضوع دون غيره، فان جميع بحوثه العلمية حققت نتائجها وبرهنت على قدرتها من خلال احتلالها المكانة المرموقة في سلم التفكير المعاصر دون منازع.

رابعاً: الأصالة والإبداع

يصنف السّيد الشّهيد رضي الله عنه ضمن قائمة القلة المبدعة الّتي اثرت الفكر الإسلامي وذلك من خلال الانجازات الفكرية الكبيرة الّتي رفد بها الفكر الإسلامي المعاصر، فهو مفكر من الطّراز الأوّل في مجال العلوم الإسلامية وأبحاثها الفكرية واستطاع أن يطرح نظريات جديدة ذلل من خلالها الكثير من المشكلات الفكرية والّتي لازمت العقل البشري لفترات زمنية طويلة.

فعلى صعيد مشكلة المعرفة الإنسانية استطاع السّيد الشّهيد رضي الله عنه أن يفتح آفاقاً جديدة عالجت عقبة كبيرة في هذا المفهوم الفلسفي الشّائك، فمن المعلوم ان هناك عدة نظريات تحدثت عن تفسير ظاهرة المعرفة الإنسانية والمصادر الأساسية في تحديثها وانقسم الفكر الفلسفي في هذا الاطار إلى عدة تيارات طبع كل منها المعرفة بالاتجاه الّذي يؤمن به، كالاتجاه المثالي والاتجاه الواقعي المادي والحسي التجريبي اضافة إلى المدارس الفلسفية في الفكر الإسلامي وأشهرها المدرسة العقلية ذات الاتجاه الانتزاعي في توليد المعرفة.وقد برهن السّيد الصّدر «قدس سره» بالأدلة والبراهين القاطعة عدم قدرة تلك الاتجاهات باعطاء الجواب الحاسم على ردم مشكلات المعرفة خصوصاً في موضوع التعميم الاستقرائي الّذي ظل مشكلة معقدة مستعصية على الحل منذ أرسطو وحتّى قيام مدرسة التحليل الّتي تزعمها برتراند رسل الفيلسوف الإنجليزي في مطلع القرن العشرين.

وقد أدرك السّيد الصّدر رضي الله عنه ان السّبب الأعمق في غياب الحل هو عدم القدرة على التحليل الحقيقي لطبيعة مصادر المعرفة وبعد أن قام بهذه المهمة اكتشف ان هناك مصدر آخر في المعرفة، لم تهتدِ إليه عموم التيارات الفلسفية الّتي ناقشت الموضوع، ذلك هو موضوع «التوالدّ الذّاتي» وفيه يظفر الإنسان بمعارف جديدة تشكل القاعدة الرّئيسية في حسم مشكلة الاحتمال في التعميم الاستقرائي حيث تتحول تلك القيمة الاحتمالية إلى يقين تام بعد افناء درجة الاحتمال إلى الصّفر.

تلك هي واحدة من جملة نظريات جديدة حملتها نصوصه الفكرية، فهناك نظريته الجديدة في تفسير التاريخ عن طريق المفهوم القرآني في السّنن حيث جاءت النظرية بناء فوقي جديد في تفسير حركة التاريخ ودور الإنسان فيها.

كما ان هناك نصوص متناثرة في بحوثه المختلفة دوّن من خلالها جملة نظريات عن المجتمع والكون تمثل أساساً فكرياً لنظرية جديدة في تلك الموضوعات إضافة إلى ابداعه المتميز على مستوى الفقه والأصول حيث طرح من تلك البحوث مبان جديدة استطاعت أن تحل الكثير من العقبات الفكرية الّتي واجهت تلك العلوم في مجمل تاريخها العلمي، والمجال هنا لا يتسع لطرح نماذج تلك الابداعات الفكرية وإنما تدعو أصحاب الفكر والمعنيين بالتجديد أن يحيطوا بتلك النظريات لدراسة وتحديد دلالاتها الفكرية لانها تراث معرفي إنساني بامكانه أن يساهم في تطوير الكثير من البحوث الفكرية لصالح الإنسان والمجتمع.

وهكذا تبرز القيمة الحضارية للسيد الشّهيد «قدس سره» كما تؤكد من جانب آخر مدى الخسارة القادمة الّتي منيت بها الإنسانية حين فقدته إنساناً ومفكراً.

د.عبد الزّهرة البندر