أنجز الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر العديد من المقارنات الفكرية المهمة بين أطروحات الفكر الإسلامي وأطروحات الأفكار الأخرى من ماركسية ورأسمالية وغيرهما، ومن مقارناته المثيرة التي أنجزها في السنوات الأخيرة من عمره الشريف والمبارك هي مقارنته بين المرتكزات النظرية للتجربة النبوية التي تعتمد الوحي والشريعة مبدأين أساسيين في مسارها الحياتي “الديني والدنيوي” والمرتكزات النظرية للتجربة البشرية المنفصلة عن الوحي والشريعة الإلهية، التي تعتبر “القانون الوضعي” هو أساس تنظيم كل شؤون الحياة والمجتمع وهو الحاكم في مجال العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع وفي مجال العلاقات السياسية بين المواطن والدولة. وهذه الدراسة التي قام بها الشهيد الصدر أدرجها تحت عنوان “خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء”[1]، وقد سعى الشهيد السعيد في هذه الدراسة القصيرة لتحديد معالم مفهومي شهادة الأنبياء وخلافة الإنسان كمفهومين يمثلان المبدأ والمنطلق النظري لمختلف الممارسات العلمية والحياتية التي ينبغي أن يقوم بها البشر على هذه الأرض، وما نرغب في إيضاحه ضمن هذه المقالة وهو تسليط الضوء على الخلفيات النظرية والفكرية التي تنطلق منها التجربة النبوية المقارنة مع الخلفيات النظرية والفكرية التي تنطلق منها التجربة البشرية، وتجد هذه المقارنة أهميتها من موقع التحدي المستجد الذي تصر بعض التوجهات الفكرية على ممارسته من خلال الدعوة المفتوحة لتأسيس ممارسات التجربة الإنسانية من منطلقات بعيدة كل البعد عن المنطلقات الدينية، في الوقت الذي تؤكد هذه التوجهات أنها لا تقدم ولا تتبنى سوى الفهم الواقعي لوظيفة الدين ودوره في الحياة، وأنها لا تطلق دعوتها من موقع الرغبة في عزل الدين عن المجتمع، ولا من موقع الرغبة في إبعاد المجتمع عن الدين.
وستتم مقارنتنا بين التجربتين عبر استعراض الأفكار الرئيسية التي أثارها الشهيد الصدر من جهة بوصفه مفكراً إسلامياً يتبنى الدعوة لتأسيس المسار الحياتي للإنسان انطلاقاً من دعوات الأنبياء ورسالات السماء،ومن جهة أخرى عبر استعراض الأفكار الرئيسية أيضاً التي تبنى الدعوة إليها الباحث محمد أركون باعتباره واحداً من أشهر دعاة العلمانية في عالمنا العربي والإسلامي ممن يؤمنون بضرورة تحديد وتقليص فعالية الدين ضمن مجالات ضيقة استلهاماً من معطيات التجربة البشرية التي أُنجزت في العصر الحديث في العالم الغربي.
منطلقات تجربة النبوة عند الشهيد الصدر
لا نجد مناصاً – ونحن نريد الحديث عن المسارات العلمية والمهام الحياتية التي تكفل كل واحدة من التجربتين النبوية والبشرية بتحقيقها وإنجازها – من أن نعطي توضيحاً دقيقاً للطبيعة الأولية التي تصبغ بصبغتها كل واحدة من التجربتين المذكورتين، وبتعبير أدق إن علينا أن نتعرف على الفروقات التي تميز كل تجربة عن الأخرى من خلال المقارنة بين المنطلقات التي تنطلق منها كل واحدة من التجربتين والأهداف التي تتبنى كل واحدة منها الدعوة لتحقيقها، وقد سعى الشهيد الصدر من خلال بحثه في “لافة الإنسان وشهادة الأنبياء” أن يلقى الضوء على الأسس النظرية التي تمثل مبادئ النظرية الإسلامية في تسيير التجربة البشرية، وسنقوم أولاً بإستعراض الأفكار الرئيسية التي أثارها الشهيد في هذه المجال ومن ثم سنسعى للمقارنة بين هذه الأفكار التي مثل منطلقات التجربة النبوية المرتبطة بالله تعالى من خلال الوحي والتسديد الإلهي، والمتواصلة مع تجربة الإنسان من موقع التصحيح والإرشاد والسعي لتمثل القيم الإلهية العليا وبين التجربة البشرية المنفصلة عن تعاليم السماء، والتي تعتمد الخبرة الإنسانية والسعي البشري كأصلين في صياغة الموقف الإنساني في مجالات الحياة المتنوعة.
يبدأ الشهيد الصدر حديثه عن معالم التجربة النبوية عن طريق البحث في “خط الخلافة وركائزه العامة”، وفي مستهل حديثه عن هذه التجربة يفصح الصدر عن (أن الله – سبحانه وتعالى – شرف الإنسان بالخلافة على الأرض فكان الإنسان متميز عن كل عناصر الكون بأنه خليفة الله على الأرض، وبهذه الخلافة استحق أن تسجد له الملائكة وتدين له بالطاعة كل قوى الكون المنظور وغير المنظور)[2].
ويضع الشهيد الصدر جملة من الآيات تحت عنوان: “الخلافة العامة في القران الكريم” وهي الآيات التالية:
1- (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لاتعلمون* وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين* قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم* قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون (البقرة: 30-33).)
2- (… إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح (الأعراف: 69).)
3- (هو الذي جعلكم خلائف في الأرض (فاطر: 39).)
4- (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق… (ص:26).)
5- (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً (الأحزاب: 72).)
وتحت عنوان: “الشهادة في القرآن الكريم” يدرج الشهيد الصدر الآيات التالية:
(فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً (النساء: 41).)
(وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على النساء ويكون الرسول عليكم شهيداً (البقرة – 143).)
(… وكنت عليهم شهيداً ما دمتم فيهم فلما توفيتني كنت أنا الرقيب عليهم وأنت على كل شيءٍ شهيد (المائدة: 117).)
(ويوم نبعث في كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيداً على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمةً وبشرى للمسلمين (النحل: 89).)
(هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس (الحج: 78).)
6- (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يُحب الظالمين (آل عمران: 140).)
7- (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء (المائدة: 44).)
8- (وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون (الزمر: 69).)
ويعتبر الصدر أن هاتين المجموعتين من الآيات القرآنية تجسدان “الأساس الإسلامي لخطي الخلافة والشهادة”، وذلك يعنى أن الرؤية القرآنية تؤسس لحركة الإنسان بالاعتماد على مفهومي “الخلافة” و “الشهادة”. والاستجابة لمقتضى الاستخلاف الإلهي وتحمل مسؤولية الخلافة الربانية ليست مهمة منوطة بآدم فحسب، وذلك لأن (..الخلافة التي تتحدث عنها الآيات الشريفة المذكورة ليست استخلافاً لشخص آدم – عليه السلام – بل للجنس البشري كله ؛ لأن من يفسد في الأرض ويسفك الدماء وفقاً لمخاوف الملائكة ليس آدم بالذات بل الآدمية والإنسانية على امتدادها التاريخي فالخلافة إذن؛ قد أعطيت للإنسانية على الأرض، ولهذا خاطب القرآن الكريم ففي المقطع الثاني والمقطع الثالث المجتمع البشري في مراحل متعددة، وذكرهم بأن الله جعلهم خلائف في الأرض، وكان آدم هو الممثل الأول لها بوصفه الإنسان الأول الذي تسلم هذه الخلافة وحظى بهذا الشرف الرباني فسجدت له الملائكة ودانت له قوى الأرض)[3]
ومن مبدأ “الخلافة” ينطلق الإنسان في الحياة ليمارس مهمة الحكم والإدارة، باعتبارها وظيفة حياتية مهمة لا يتصور خلو مجتمع متحضر منها (وعلى هذا الأساس تقوم نظرية حكم الناس لأنفسهم وشرعية ممارسة الجماعة البشرية حكم نفسها بوصفها خليفة عن الله)[4]
ويرى السيد الصدر أن عملية الاستخلاف الرباني للجماعة البشرية على الأرض ضمن هذا الفهم الواسع لها تعنى:
أولاً: توحيد الانتماء البشري إلى إله واحد هو الله تعالى.
ثانياً: تخصيص العبودية بالله عز أسمه ورفض عبودية من سواه.
ثالثاً: تحكيم مبدأ الأخوة العامة في كل مجالات العلاقات الاجتماعية.
رابعاً: أن الخلافة تقوم على الاستئمان والمسؤولية.[5]
والمسؤولية التي تستلزمها عملية الاستخلاف ينظر إليها الشهيد الصدر على أنها علاقة ذات حدين (فهي من ناحية تعنى الارتباط والتقيد فالجماعة، البشرية التي تتحمل مسؤوليات الخلافة على الأرض إنما تمارس هذا الدور بوصفها خليفة عن الله ؛ ولهذا فهي غير مخولة أن تحكم بهواها أو باجتهادها المنفصل عن توجيه الله سبحانه وتعالى لأن هذا يتنافى مع طبيعة الاستخلاف، وإنما تحكم بالحق وتؤدي إلى الله تعالى أمانته بتطبيق أحكامه على عباده وبلاده وبهذا تتميز خلافة الجماعة بمفهومها القرآني والإسلامي عن حكم الجماعة في الأنظمة الديمقراطية الغربية، فإن الجماعة في هذه الأنظمة هي صاحبة السيادة ولا تنوب عن الله في ممارستها)[6]
(وتعنى المسؤولية من ناحية أخرى أن الإنسان كائن حر إذ بدون الاختيار والحرية لا معنى للمسؤولية، ومن أجل ذلك كان بالإمكان أن يستنتج من جعل الله خليفة على الأرض أنه يجعل الكائن الحر المختار، الذي بإمكانه أن يصلح في الأرض، وبإمكانه أن يفسد أيضاً، وبإرادته واختياره يحدد ما يحققه من هذه الإمكانات)[7]
كانت هذه ملامح ألية للمطلقات الأساسية، التي يفترض أن تتأسس على ضوئها التجربة النبوية، والتي تتواصل معها تجربة الإنسان وحركته مع موقع الاستهداء بنور الله تعالى، الذي يتحمل مهمة إبلاغه والتعبير عنه الأنبياء والرسل والربانيون من عباد الله الصالحين. ولنسعى الأن لبيان الأسس النظرية التي تتأسس انطلاقاً منها التجارب البشرية المنفصلة عن وحي السماء وشريعة الله عز شأنه.
منطلقات التجربة البشرية عند أركون:
تبدو مهمة مقايسة التجربة النبوية بالتجربة البشرية مسألة ضرورية جداً ولا سيما في الوقت الراهن، وانطلاقاً من المعطيات السياسية والاجتماعية والقانونية والاقتصادية، التي استطاعت أن تجسدها التجربة البشرية في العصر الحديث، ومما ينبغي التنبيه عليه أن التجربة البشرية التي تتخذ موقع المنافسة والمواجهة للتجربة النبوية هي التجربة الإنسانية في صورتها الغربية الحديثة والتي تتبنى شعار “العلمنة” واعتبار الدين في فضل الأحوال رؤية تجريدية وممارسة روحية ليس من شأنها أن تقدم حلاً عملياً ولا حتى برنامجاً نظرياً يمكن أن يساهم في تحديد المسار العملي لإنسان العصر، وإذا كان للدين من دور في الحياة فهو دور قد أدته الأديان في وقت مضى، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يستعاد هذا الدور، أو أن يفسح المجال من جديد لإنسان الحاضر أو المستقبل أن ينطلق في تحديد تصوراته ومفاهيمه وتأسيس أعماله وتصرفاته من الدين.
وفي الوقت الذي تؤسس التجربة النبوية لمساراتها انطلاقاً من الدين والوحي والشريعة، فأن التجربة البشرية الحديثة (الغربية) تؤسس مساراتها بالاعتماد على العلم والعقل والقانون، فالنظرة العلمية تحل محل النظرة الدينية في تفسير الوجود والتعرف على حقائقه، وفي التعامل مع الطبيعة والسيطرة على الكون، إذ إن (الإنسان الجديد يخالف الإنسان السابق في أنه لا يقنع بمجرد تقديم تفسير للعالم ولا يرى نفسه مجرد موجود ساكن ومنفعل في هذا الوجود، بل هو يعتقد بقدرته على التصرف والفاعلية ولذا فهو لا يقبل بالوضع السائد في هذا العالم، ويرى أن من واجبه أن يسعى لتحقيق ما يستطيعه من تغييرات في هذا العالم، وليس هناك شيء في نظر الإنسان الجديد يستحيل على التغيير ويمكن اعتباره أمراً ثابتاً وقطعياً)[8] ويخلي الوحي محله للعقل من أجل أن يبنى أفكاراً وتصورات الإنسان بعيداً عن الرؤية الغيبية الأسطورية، التي تتناسب ومستوى التفكير الإنساني الساذج الذي يعجز عن تفسير الأمور فيكلها إلى الوحي، الذي يؤكد عجز الإنسان وقصوره العلمي والعملي، وفي هذا الشأن يقول محمد أركون: (لقد أُنجزت في أوروبا الغربية وليس في أي مكان آخر في العالم عملية الإنتقال من “العالم المغلق إلى الكون اللامحدود” بحسب تعبير عالم الابستمولوجيا الفرنسي أليكسندر كرابري. وقد حصلت هذه العملية بدء من القرن السادس عشر (ويمكن اعتبار عام 1492 نقطة علام جيدة بهذا الخصوص). وبدءاً من ذلك التاريخ حصلت أيضاً عملية الانتقال من مرحلة الكائن في العلم المخلوق[9] والمرتبط بالميثاق الإلهي والمغذى بالأمل بالنجاة الأبدية، إلى مرحلة الذات السيدة والمستقلة عن كل قوة خارجية والحرة في اختيارها وتقرير مصيرها)[10]، وأما الشريعة فمهما قيل في أهميتها وضرورتها فهي لم تستطع أن تنجز طول تاريخ فاعليتها وتواجدها عبر إيمان الناس بها ما استطاع القانون الحديث أن ينجزه في مجال ضبط وتحديد وتقنين العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع والعلاقات السياسية بين المواطن والدولة. وهذا ما يؤكده أركون بالقول: (إن مفهومي الفرد والمواطن حديثان في التفكير التشريعي والسياسي، إذ يرتبطان بالثورات الأوروبية التي أدت إلى الإعلان بحقوق الإنسان والمواطن)[11] و(إن التعاقد والتفاعل بين دولة القانون والمجتمع المدني يشكل خبرة تاريخية لم يختبرها العقل الإسلامي في أية مرحلة من مراحل تاريخ الإسلام والمجتمعات التي انتشرت فيها؛ بل هي خبرة ظهرت وانتشرت في المجتمعات الأوروبية فقط، دون غيرها من المجتمعات البشرية المعروفة في التاريخ)[12]
ويعطي أركون توضيحاً للفارق بين النظرة الدينية القديمة والنظرة العلمانية الحديثة في مسألة التقنين والتشريع بالقول: (تعود اللاهوتيون والفلاسفة والمشرعون بصفة خاصة أن ينظروا إلى الدين والدولة والدنيا من فوق، أي انطلاقاً من المبادئ المثالية والأحكام المنزلة إما من عند الله المشرع الأول، وإما من عند ذوي الأمر، فيستنتجون من ذلك أحكاماً فرعية مرتبطة بالأصول المعرفية أو التشريعية. فلا يتساءلون عن نتائج هذا الموقف التنظيري والاستنباطي على تكوين الإنسان كفرد ومواطن وشخص، بل يكتفون بالافتراض العقائدي بأن المبادئ صالحة وسليمة وكاملة ومتعالية، وأن الاستنباطات – مهما كانت الظروف التاريخية والآلات العقلية المستخدمة والأطر الثقافية – سليمة وصالحة في كل زمن وفي كل مكان.
بدأت العلوم الاجتماعية تعكس هذا الموقف في الإدراك والتعبير والتنظير، فعالم الاجتماع والانتربولوجي والمؤرخ ومحلل النفس ينظرون أولاً إلى الشخص كنتيجة للغة من اللغات ولنظام اجتماعي من النظم العديدة. ولتقاليد وعقائد واتجاهات إكراهية فرضها التاريخ الخاص بكل جماعة أو طائفة أو فرقة أو أمة… ثم بعد التصفح والاستقرار والإحاطة بجميع ما يمكن الإحاطة به في هذه المجالات الواقعية للوجود الإنساني، يراجع الباحث المبادئ والأصول التي طبقت فأدت إلى النتائج الموصوفة)[13].
مقارنة أولية بين منطلقات التجربتين:
قبل أن نسعى لتقديم مقارنة بين منطلقات التجربتين البشرية والنبوية لابد من القول إن تقديم رؤية مفصلة لجميع المستويات النظرية التي أنتجتها الفكر الحديث “العلماني” مقارنة بالمستويات النظرية التي قدمها الفكر الديني بشكل عام والفكر الإسلامي بشكل خاص في المجالات المختلفة العقائدية والتشريعية والأصولية وغيرها يعد أمراً مستحيلاً في مثل هذه المقالة القصيرة، ولذا لن تتجاوز المقارنة المعقودة هاهنا عن أن تكون مقارنة أولية وموجزة جداً بين منطلقات وأهداف التجربتين النبوية والبشرية من خلال المقايسة بين آراء الشهيد الصدر بوصفه مفكراً إسلامياً وآراء محمد أركون بوصفه مفكراً علمانياً، ومن هنا سنسعى لإيضاح المنطلقات والأهداف التي تمايز بين كل تجربة والأخرى عبر بيان المفارقات الأساسية التي تميز كل تجربة عن الأخرى، والتي تتمثل في اعتقادنا في الأسس الفلسفية والتشريعية والإخلاقية، والتي يشكل مجموعها الصياغة النظرية الكلية التي تتميز من خلالها كل تجربة عن الأخرى، فنقول:
أولاً: الأساس الفلسفي: باعتقادنا أن المقارنة المحددة بين الأساس الفلسفي الذي تعتمده كل واحدة من التجربتين البشرية والنبوية هو أمر لم ينجز لحد اليوم بالمقدار الكافي والشكل المطلوب، فبالنسبة إلى التجربة البشرية الحديثة التي تبنت مبدأ علمنة الدولة وفصل الدين عن السياسة، قامت ومنذ عصر النهضة الحديثة في أوروبا بغلق ملف الدين بشكل كلي، ولم تسع للانفتاح على الأفكار الغنية والمتنوعة التي يمكن أن يثيرها الدين في حياة البشر، وإذا كانت عملية إقصاء واستبعاد الدين التي جرت في أوروبا مبررة جداً على ضوء الموقف العائق للنهضة والتحرر الذي كانت تمثله الكنسية ورجالاتها حينذاك، فليس من الضروري أبداً أن يكون موقف الإسلام هو ذلك أيضاً، وفي واقع الأمر أن الموقف الكلي السلبي الذي تبنته النهضات الأوروبية الحديثة من الدين حرمها من السعي لمعرفة الأساس الفلسفي، الذي تتبناه الأديان الإلهية في صورتها الواقعية لا المحرفة تجاه تشكيل رؤية وجودية وفلسفية للحقيقة يتلاقى فيها العقل والوحي معاً، وإذا كانت أوروبا الحديثة تستطيع أن تزعم لنفسها أنها قد أرست مبادئ العقل في كل تصوراتها الفكرية وممارساتها العلمية، فإنها من المؤكد لا تتمكن من القول أنها قد انفتحت على الوحي الديني ودرسته بالشكل الكافي والمطلوب، وهو الأمر الذي يقرره أركون بضرس قاطع في قوله: (إن الوحي لم يدرس في أي مكان ولا أي جامعة من جامعات العالم حتى يومنا هذا من خلال تجلياته اللغوية الثالثة: العبرية، والآرمية، والعربية. كما أنه لم يدرس من خلال الظروف التاريخية والأنتربولوجية لهذه الأنبثاقات أو التجليات الثلاثة. ولا ريب في أن ذلك يشكل نقصاً في العلوم المقارنة للأديان، والعلوم الاجتماعية، وعلوم الإنسان التي تتخلى لشيوخ كل طائفة أو لاهوتيتها على هذه المسألة …)[14].
وإذا كان أركوان يركز على عدم دراسة الوحي من الجهات المذكورة فإننا نركز وبضرورة أكثر على أن الوحي، الذي مثل الفارق الأساسي بين التجربة البشرية والتجربة النبوية على المستويين النظري والعملي لم يدرس من قبل رواد ومؤيدي التجربة البشرية المقطوعة عن الدين والوحي من جهة الأجوبة المهمة التي يقدمها لتساؤلات العقل الإنساني فيما يرتبط بمبدء ونهاية ومسؤوليات الإنسان، وتلك الأجوبة التي يسعى الوحي بالتوافق مع العقل لتقديمها لا تفقد أهميتها ولا واقعيتها من موقع الإعراض والإهمال الذي تتمثله التجربة البشرية تجاه تلك التساؤلات وأجوبتها، وذلك لأن الرؤية الفلسفية والعقلية التي ينطلق منها الوحي في تأسيس مقولاته عن الله والوجود والإنسان قد يمكن للإنسان أن يتجاهلها لوقت ما وأن يفترض نفسه غير معني بها، ولكن هذا لا ينفي حقيقتها وواقعيتها. وأن الإنسان سيجد نفسه في يوم من الأيام معنياً بالمساءلة عنها وعن تحمل نتائج مواقفه الإيجابية أو السلبية التي كان يتبناها تجاهها … صحيح أننا كبشر نستشعر في هذه الحياة الدنيا ضغوطات احتياجاتنا المادية والمعيشية أكثر مما نستشعر ضغوطات المواجهة المحتومة لنتائج أعمالنا وعقائدنا في مستقبلنا الأخروي، ومن هذا المنطلق يندفع أكثرنا للسعي بكل جدية وإصرار لتطوير وتحسين أوضاعه المعيشية، وفي أفضل الأحوال يعتبر المستقبل الأخروي للإنسان قضية مؤجلة يمكن تدارك التقصير الحاصل فيها في اللحظات الأخيرة من العمر، ولكن ليس هذا هو واقع المسألة، لأننا من خلال مدركاتنا العقلية ندرك أن لهذه الحياة نهاية وأمداً، وأن الإنسان لا بد وأن يواجه نتائج أعماله في هذه الحياة الدنيا، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، ولا يستطيع الإنسان إن يتنكر لواقعية هذا الأمر أو أن يقلل من أهميته، لأن الإنسان سواء آمن بالله وأطاعه أم كفر به وعصاه سيجد نفسه في نهاية المطاف أمام خالقه ومبدعه، وسيحاسب على كل صغيرة وكبيرة عملها في دنياه، ولن يستثنى من هذا الأمر من يعتقد خطأً أن لا خالق لهذا الوجود وأن لا ثواب ولا عقاب، ومن هنا يذكر القرآن المجيد الناس بهذه الحقيقة حينما يقول: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيأً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب (النور: 39).)
وإذا كان خطابنا الفلسفي هنا يصطبغ بصبغة أخلاقية فليس ذلك يعني تحولاً في بيعة الأساس الفلسفي، الذي نعتمده في نقد التجربة البشرية المنفصلة عن الوحي ورسالة السماء، والذي نعتمده أيضاً في الدفاع عن مبادئ التجربة النبوية، التي ترتكز إلى الوحي، وتقيم التواصل بين ممارسات الإنسان وقيم السماء المتعالية انطلاقاً من مفاهيمه ومبادئه، بل هذه الصبغة الخلقية التي تصبغ دائماً الخطاب الفلسفي المتواصل مع وحي السماء هي أمر تستدعيه أحكام العقل، التي لا يمكن أن تتنكر لأي من مقولات الوحي الأساسية التي تشكل المنظومة العقائدية المشتركة بين الأديان الموحاة من الله.
أضف إلى ذلك أن الحصاد الاجتماعي والسياسي للتجربة البشرية الحديثة والمعاصرة التي تدعى أنها لا تعتمد غير العقل في تشكيل منظومتها الفكرية وممارساتها العملية قد أثبتت عجزها عن تأمين مبادئ العدل والمساواة والحرية في العديد من نقاط عالمنا الحديث والمعاصر، مما يدلل على أن الوحي لا يمكن استبعاده كمكون أساسي في تجربة ناجحة وموفقة يريد الإنسان أن ينجزها ويحققها على وجه الأرض، وهو ما يدعو الشهيد الصدر للقول: (.. فالوحي وحده هو القادر على أن يؤمن التربية الثورية والخلقية النفسية الصالحة التي تنشئ ثائرين لا يريدون في الأرض علوا؟ً ولا فساداً …)[15]
ولأجل ذلك يعطى الشهيد الصدر للثائر الذي ينطلق في صنع ثوراته من فلسفة النبوة ومعطيات الوحي، تمايزاً عن بقية الثائرين بالقول: (إن الثائر على أساس نبوي ليس ذلك المستغل الذي يؤمن بأن الإنسان يستمد قيمته من ملكية وسائل الإنتاج وتمكنه في الأرض، ويسعى من أجل ذلك في سبيل انتزاع هذه القيمة من يد مستغليه والاستئثار بها لنفسه؛ لكي تفرض طبيعة هذا الصراع أن يكون الانتماء إلى طبقة المستغلين أو المستغلين هو الذي يحقق موقع الإنسان في الصراع، بل الثائر النبوي هو ذلك الإنسان الذي يؤمن بأن الإنسان يستمد قيمته من سعيه الحثيث نحو الله، واستيعابه لكل ما يعنيه هذا السعي من قيم إنسانية ويشن حرباً لا هوادة فيها على الاستغلال باعتباره هدراً لتلك القيم وتحويلاً للإنسانية من مسيرتها نحو الله وتحقيق أهدافها الكبرى وإلهائها بالتكاثر وتجميع المال[16]. والذي يحدد هذا الموقع للثائر النبوي مدى نجاحه في الجهاد الأكبر لا موقعه الاجتماعي والانتماء الطبقي)[17]
وإذا كان الشهيد الصدر يعتقد أن الوحي وحده هو القادر على تأمين تربية ثورية صالحة للإنسان، لا تجعله ممن يريدون العلو والفساد في الأرض عبر ممارساتهم السياسية والاجتماعية، فهو إنما ينطلق في ذلك من ملاحظة حصاد التجارب البشرية الحديثة والمعاصرة في الحكم، التي إن استطاعت أن تحقق بعض آمال وطموحات الإنسان في الحرية والعدالة وكرامة العيش، فهي إنما انجزت ذلك ضمن نطاق محدود ولبشر معينين ضمن ما يمكن أن نسميه بتجربة العالم الغربي، الذي يعيش اليوم التمتع بأرقى مستويات العدالة والحرية والمساواة والأمن والاستقرار والرفاهية التي يمكن لتجربة بشرية أن تحققها، ولكن هل هذا هو أقصى ما يستطيع الوحي أن يحققه أيضاً عبر تجربته النبوية المتواصلة مع تعاليم وتوجيهات السماء لو قدر له أن يحكم وأن تستجيب الناس بكل طواعية لكلماته بعد أن تتعقلها وتعيها تمام الوعي؟ وهي التجربة التي لم تستطع البشرية أن تتحقق من نتائجها بصورة فعلية إلى وقتنا الراهن، وإلى أن تنجزها البشرية على أرض الواقع سيبقى من الخطأ القول: إن التجربة البشرية استطاعت أن تنجز ما عجزت عنه التجربة النبوية.
ثانياً: الأساس الأخلاقي: تفارق التجربة النبوية التجريبية البشرية في تحديدات مصيرية ومهمة للغاية، فالأولى تتحرك في مستوييها النظري والعملي من إيحاءات الوحي ومن موقع الارتباط والاتصال بتعاليم السماء، ومن هنا فهي تطمح على الدوام أن تجسد قيم الوحي المتعالية ضمن ممارسة إنسانية تتمكن من الارتقاء بفكر ومشاعر وأحاسيس وتطلعات البشر إلى مستويات عالية من التجرد والنزاهة والطهارة الخلقية والمعنوية، بينما تنطلق التجربة الثانية من إيحاءات السعي لتجسيد نموذج بشري يحكي صورة تجربة اجتماعية منتظمة في مساراتها الدنيوية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وإذا قدر للمعنيين بمهمة تجسيد وإنجاح التجربة الإنسانية أن يتوسعوا في فهم ضرورات الدور الحضاري والإنساني، الذي يتحمل الإنسان مسؤولية القيام به وإنجازه في هذا العالم، فإنهم سيعطون للقيمة الأخلاقية نصيباً في عملية إنجاز التجربة البشرية، وإن كانت التجارب التاريخية المتعددة والمتنوعة للإنسان تدلل على عدم إمكانية التوفيق بين التحلل من الدين وقطع الرابطة بين الإنسان والله المتعالى الذي هو مبدأ كل فضيلة إنسانية وكمال خلقي والاحتفاظ بالقدرة على تجسيد ممارسة أخلاقية في الواقع الحياتي، ويحق لنا أن نعد هذا الأمر أحد أهم النواقص التي تعتري التجربة البشرية في حال انفصالها عن تعاليم السماء وانقطاعها عن المطلق سبحانه.
وهذه المهمة التي ينجزها الوحي من خلال تعاليمه الخلقية لم يجد دعاة العلمنة مناصاً من الاعتراف بها، ومن التأكيد على ضرورة تواجدها في حركة المجتمع، فأركون حينما يتحدث عن فاعلية خطاب الوحي في المجتمعات البشرية يقول: (ومن وجهة نظر تاريخ الفكر فإن خطاب الوحي كان دائماً يطرح أفكاراً ومفاهيم ورؤى ثورية للعالم بالقياس إلى الرؤى والأنظمة الشرعية أو القيم السابقة أو المعاصرة. ذلك أن الوحي هو كلام متجه نحو الفعل والممارسة. إنه يؤثر على تاريخ البشر بشكل دائم وفعال؛ لأنه يقدم حلولاً عملية للحالات القصوى للوضع البشري. نقصد بالحالات القصوى هنا: الحياة، الموت، العدالة، الحب، السيادة (أو الهيبة) الشرعية، السلطة الظالمة، العلاقات الاجتماعية، التعالي، الخ)[18]
ويفصح أركون عن دور القرآن بشكل خاص في هذا المجال بالقول: (إن القرآن يلبي كل هذه الحاجيات ويملأ كل هذه الوظائف على أفضل وجه. فهو قد انتشر في أوساط عديدة ومجتمعات متنوعة. وقد برهنت هذه البيئات الثقافية والتاريخية الأكثر تنوعاُ على أجوبته ونماذجه العليا، ورمزانيته، وقوته الاحتجاجية ضد القيم المزيفة والسلطات الجائرة والتصرفات الفاسدة)[19]
ودور الوحي في رفد التجربة البشرية المؤسسة على التواصل مع خطاب الوحي بهذه القيم هو الأمر الذي يشير إليه الشهيد الصدر بقولة: (والنمو الحقيقي في مفهوم الإسلام أن يحقق الإنسان الخليفة على الأرض في ذاته تلك القيم التي يؤمن بتوحيدها جميعاً في الله عز وجل، الذي استخلفه واسترعاه أمر الكون، فصفات الله تعالى وأخلاقه من العدل والعلم والقدرة والرحمة بالمستضعفين والانتقام من الجبارين والجور الذي لا حد له هي مؤشرات للسلوك في مجتمع الخلافة وأهداف للإنسان الخليفة فقد جاء في الحديث “تشبهوا بأخلاق الله” ولما كانت هذه القيم على المستوى الإلهي مطلقة ولا حد لها، وكان الإنسان الخليفة كائناً محدوداً فمن الطبيعي أن تتجسد عملية تحقيق تلك القيم إنسانياً في حركة مستمرة نحو المطلق وسير حثيث إلى الله)[20]
ويتنبه الصدر إلى الدلالات التي يوحيها اعتبار “العدل” قيمة أساسية وأولية في حركة المجتمع المسلم من خلال النظر إليه كأصل ثاني بعد “التوحيد” في المنظمة العقيدية عند الفرد المسلم، فيقول: (ولم يكن من الصدفة أن يوضع العدل أصلاً ثانياً من أصول الدين ويميز عن سائر صفات الله تعالى بذلك، وإنما كان تأكيداً على أهم صفات الله تعالى في مدلوله العلمي ودوره في توجيه المسيرة الإنسانية – كما أشرنا في حلقة سابقة –[21] وذلك لإن العدل في المسيرة وقيامها على أساس القسط هو الشرط الأساسي لنمو كل القيم الخيرة الأخرى، وبدون العدل والقسط يفقد المجتمع المناخ الضروري لتحرك تلك القيم وبروز الإمكانات الخيرة)[22]
ثالثاُ: الأساس التشريعي: تعتمد التجربة النبوية “الشريعة” كمبدأ ضروري في تحديد ضوابط الممارسة العلمية بين أفراد المجتمع، وفي رسم السلوك الشخصي والاجتماعي للفرد المؤمن في مجمل علاقاته الإلهية والإنسانية والطبيعية، بمعنى أن الإنسان يتحرك في أية علاقة يؤسسها ضمن ثلاثة محاور:
الأول: محور العلاقة مع الله عز وجل.
والثاني: محور العلاقة مع أخيه الإنسان.
والثالث: محور العلاقة مع الطبيعة.
وفي هذه المحاور الثلاثة يتعين المسار الحياتي العام لكل إنسان، إذ كل إنسان لابد وأن يدخل في علاقة إيجابية أو سلبية مع كل واحد من الأطراف الثلاثة المذكورة، ومن هنا تبرز ضرورة الشريعة التي تحدد طبيعة وضوابط العلاقة، التي تربط بين الإنسان وبين كل واحد من الأطراف الثلاثة المعنية.
ومن المعلوم أن الشريعة تمثل بعداً مهماً من الأبعاد الأساسية، التي جاءت كل رسالة سماوية تحملها إلى البشر من أجل تهذيبهم وتزكيتهم ـ وفي الوقت الذي تتحمل الرسالات السماوية مسؤولية توعية الناس، وتشكيل رؤاهم الفكرية والعلمية بشكل يطابق حقائق الأنبياء وواقعيتها فيما يرتبط بالمنظومة العقيدية للرسالات الإلهية[23]، فإنها تتحمل أيضاً من خلال الدور الذي يقوم به الأنبياء والرسل، ومن يهتدي بهداهم من الربانيين وعباد الله الصالحين بوظيفة التزكية وتهذيب مشاعر وأحاسيس وممارسات الإنسان، وهي الوظيفة التي على أساسها يصير “العمل الصالح” إضافة إلى “الإيمان” المظهرين البارزين في تحديد هوية وشخصية الفرد المؤمن والملتزم بالرسالة الإلهية، وتثبيت ضوابط الإيمان وتأسيس قواعد العمل الصالح هما أهم وظيفتين يتحمل الأنبياء والمرسلون ومن بعدهما المؤمنون برسالة الله وكلماته مسؤولية تحقيقها وانجازهما في مسارات التجربة النبوية، ومن هنا تبرز أهمية “دور الشهادة” الذي ينضم إلى”دور الخلافة” في التجربة النبوية، ليعطي الإثنان ضمانات حقيقية لإنجاح مسعى الإنسان وحركته في الحياة الدنيا وعند الله في عالم الآخرة، وهو الأمر الذي تنبه إليه الشهيد الصدر وأشار إليه قائلاً: (وضع الله سبحانه وتعالى إلى جانب خط الخلافة – خلافة الإنسان على الأرض – خط الشهادة الذي يمثل التدخل الرباني من أجل صيانة الإنسان الخليفة من الإنحراف وتوجيهه نحو أهداف الخلافة الرشيدة فالله – تعالى – يعلم ما توسوس به نفس الإنسان وما تزخر به من إمكانات ومشاعر وما يتأثر به من مغريات وشهوات وما يصاب به من ألوان الضعف والانحلال، وإذا ترك الإنسان ليمارس دوره في الخلافة بدون توجيه وهدى كان خلقه عبثاً ومجرد تكريس للنزوات والشهوات وألوان الاستغلال.
وما لم يحصل تدخل رباني لهداية الإنسان الخليفة في مسيره فأنه سوف يخسر كل لأهداف الكبيرة التي رسمت له في بداية الطريق. وهذا التدخل الرباني هو خط الشهادة …)[24]
هذا بالنسبة إلى الدور الذي تحتله “الشريعة” في التجربة النبوية، أما التجارب البشرية فهي لما لم تجد بداً من تنظيم أمورها، وتسيير حياتها ضمن ضوابط معينة فقد تبنت وضع دساتير وقوانين معينة لها صفة الإلزام والفرض، ولكن من خلال عقد اجتماعي بين أفراد وتشكلات المجتمع الواحد، وبذلك ألغيت “الشريعة الالهية” لصالح “القانون الوضعي”، وهو ما حدث في أثناء عملية العلمنة التي تبنتها الثورات الأوروبية الحديثة في عصر النهضة، ويشرح محمد أركون هذا الحدث التاريخي بالقول: (إن النقد الوضعي للدين بصفته مؤسسة وبنية سلطوية قد قلل من الأهمية الثورية للدين وحط من قدرها وهمَّشها، هذا إذا لم يكن قد يكن حذفها تماماً، فمن المعروف أن كل نضال الثورات العلمانية في أوروبا كان موجهاً ضد المؤسسة الكهنوتية، التي صارت لوحدها ذروة الهيبة أو السيادة العليا التي تخلع المشروعية. كما وصادرت كل السلطات من سياسية واقتصادية وثقافية. وكان الفصل بين الكنيسة والدولة قد أدى إلى رمي كل التراثات الدينية ومصدرها الأساسي (الوحي) في دائرة البالي، القديم، المستهلك)[25]
ويصف أركون طبيعة العقد الاجتماعي الذي أنتجته الثورات العلمانية والدنيوية الحديثة بأنه نوع من التحالف (ولكنه لم يعد تحالفاً بين الإله الطوباوي والمخلوقات المدعوة لطاعته، وإنما أصبح عبارة عن عقد اجتماعي بين الشعب السيد والمستقل الذي يمثل المصدر الكلي لكل شريعة، وبين ممثلي الشعب المنتخبين والمفوضين بتنفيذ برنامج سياسي يلبي الحاجيات والآمال)[26]
والآن بعد أن أدركنا اعتماد التجربة النبوية “الشريعة” في رسم المسارات العملية للإنسان في المجتمع التوحيدي، في علاقته بالله وبأخيه الإنسان وبالطبيعة، وأدركنا أن التجربة البشرية الحديثة للإنسان – والتي تعتبر ضمن موازين العصر أرقى تجربة إنسانية يستطيع أن ينجزها الإنسان خلال تارخه الطويل في المجالات الحقوقية والاجتماعية والاقتصادية – اعتمدت “القانون” في مقابل الشريعة، فهل استطاع القانون الوضعي الذي يمثل المصدر الكلي لكل شريعة وسيادة يمارسها الإنسان الحديث والمعاصر أن يحقق للبشرية ما اعتقدت خطأً أنها لا تجده في الشرائع الإلهية؟
نترك أركون يجيبنا بنفسه على هذا السؤال، إذ يقول في معرض حديثه عن الكتاب الجماعي الذي أصدرته “اليونسكو / unesco” في عام 1986م بعنوان: “الأسس الفلسفية لحقوق الإنسان” ما نصه: (ونلاحظ أن كل المفكرين المشاركين في الكتاب من أصول قومية وإيديولوجية متنوعة، يتفقون على الاعتراف بأن الإعلانات المتتالية لحقوق الإنسان، منذ عام (1789) وحتى اليوم، قد بقيت حبراً على ورق بالنسبة لملايين البشر، وذلك لأن إعلان حقوق الإنسان لم يرفق بقائمة عقوبات تصدرها وتطبقها محكمة عليا مستقلة عن كل الدول الموجودة، وخارجة عن أُطر كل المحرمات والتحديات الضيقة للثقافات المحلية)[27]
ومهما يكن من أمر فإن هذه المقارنة المستعجلة التي قدمناها ضمن هذه المقالة، لا تعدو أن تكون مقارنة أولية بين آراء مفكرين بارزين أحدهما إسلامي والآخر علماني في منطلقات وأسس التجربتين النبوية والبشرية، وأما المقارنة المفصلة بين الأسس الفلسفية والأخلاقية والتشريعية والحقوقية التي تعتمدها كل واحدة من التجربتين فهي مهمة لابد وأن يستعجل المفكرون والباحثون المسلمون إنجازها في أسرع وقت، وذلك لأن عالمنا الإسلامي يشهد دعوات محمومة ومركزة لإحياء مشاريع العلمنة على المستويات الفكرية والسياسية والاجتماعية وغيرها في مواجهة استقواء نفوذ وفاعلية العودة إلى الإسلام، التي صالت مجتمعاتنا الإسلامية تشهدها بصورة مكثفة منذ ما يقرب العقدين من الزمن، وهي عودة توعد بفجر تجربة بشرية جديدة يلتقي فيها العقل الإنساني مع الوحي الإلهي في مجالات تكشف عن القدرات والطاقات الكامنة في الذات الإنسانية، والتي من خلال تنميتها واستثارتها فقط تستطيع أي تجربة أن تدلل على إنها تمتلك الأسس العقلية والأخلاقية والشرعية الأكثر واقعية وفعالية ونجاحاً، وهذه المجلات الإنسانية التي تحيها وتنميها التجربة النبوية في شخصية الإنسان هي ما تدلل كل المسارات التاريخية للتجارب البشرية المنفصلة عن تعاليم الوحي وإرشادات الدين أنها أخفقت في إنمائها وإحيائها، ولا نعتقد أن التجربة البشرية الحديثة في العالم الغربي رغم كل إنجازاتها المادية والصناعية والتقنية بل وحتى الفلسفية والاجتماعية والتشريعية استطاعت أن تثبت لحد اليوم أنها تمثل استثناء خاصاً في مسار التجارب البشرية المتعددة والمتنوعة، وفي اليوم الذي يتمكن الغرب ودعاة العلمنة فيه وفي خارجه من صياغة الإنسان كما يريد الله تعالى وكما هو مقتضى طبيعة الإنسان وفطرته وكما يطلب منه عقله ووجدانه فإن الوقت سيكون حينذاك قد حان للحكم على تجربتهم بالموفقية والنجاح، أما مادام الغرب عبر تجربته البشرية الأخيرة مشغولاً باستثارة المادة والتراب وتطوير صناعته ومستوى تقنيته فحسب فسيكون من السابق لأوانه جداً أن يستطيع أحد أن يزعم أن تجربة الغرب هي أفضل تجربة حياتية استطاعت البشرية أن تحققها خلال تاريخها الطويل، ولا سيما أن الكثير من الشواهد بدأت تدلل على أن الغرب يعيش الكثير من الانهيارات والانتكاسات في المجالات الاقتصادية والمعيشية ومجال العلاقات الاجتماعية والممارسات اللأخلاقية، هذا إضافة إلى ممارسات الاستبداد والتسلط السياسي التي يمارسها الغرب بحق الشعوب والدول التي ترغب في الاستقلال عن مساراته الفكرية والسياسية،وهي الممارسات التي يشهد التاريخ الحديث للغرب أنها لم تتغير عنا كانت عليه منذ عصر النهضة وبداية مرحلة الاستعمار السياسي والعسكري لدول العالم الأخرى إلى يومنا هذا، ويكفي في تقييم التجربة الغربية الحديثة أن نعي أنها دشنت عصر نهضتها بعملية استعمار الدول الضعيفة، واستلابها حقها في الحرية والاستقلال والعيش بكرامة وعزة، في الوقت الذي كانت قد نجحت الثورات الأوروبية الحديثة ولا سيما الثورتان الفرنسية والإنكليزية في اعتبار هذه المبادئ حقوقاً مشروعة لكل فرد لا يمكن المساومة عليها أو التنازل عنها، ولكن على ما يبدو أنها لم تكن حقوقاً مشروعة وضرورية إلا للفرد والمواطن في أوروبا والعالم الغربي فحسب… !!!
كامل الهاشمي
[1] طبعت هذه الدراسة عدة طبعات مع جملة من الأبحاث القصيرة القيمة، التي كتبها الشهيد الصدر على أثر انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979م، وقد استهدف من هذه الأبحاث تقديم صورة أولية للأسس والمبادئ التي يقوم عليها مشروع الدولة الإسلامية، التي كانت حينذاك في طور التأسيس ووضع لبناتها الأولى، ونحن نعتمد في مقالتنا هذه على الطبعة التي صدرتها وزارة الإرشاد الإسلامي في جمهورية إيران الإسلامية لهذه البحوث بعنوان “الإسلام يقود الحياة”، إيران – طهران، الطبعة الثانية، 1403هـ.
[2] الإسلام يقود الحياة، ص 133.
[3] المصدر نفسه، ص 133.
[4] المصدر نفسه، ص134.
[5] أنظر المصدر نفسه، ص 135-136.
[6] نفس المصدر، ص 136-137.
[7] نفس المصدر، ص 137.
[8] عبد الكريم سروش: معنى ومبنى العلمانية، مقالة بالفارسية في مجلة “كيان”، السنة الخامسة، العدد 26.
[9] يفسر هاشم صالح المعلق والمترجم لكتابات محمد أركون عبارة “الكائن في العالم المخلوق” بأنها (مصطلح فلسفي يدل على مناخ عقلي خاص بالعصور الوسطى. إنه مطابق بشكل ما لعبارة ” العالم المغلق “الذي يتحدث عنه أليكسندر كوايري في كتابه الشهير. أما عبارة الكائن في العالم فقط فتدل على التصور الحديث للعالم، وكذلك عبارة الكون اللانهائي. هنا اصطدمت التصورات اللاهوتية الموروثة عن العالم بالاكتشافات الفلكية والعلمية الحديثة. ونتج عن ذلك فلسفتان متمايزتان: فلسفة لاهوتية، فلسفة علمانية. الأولى تعتقد بأن العالم مخلوق، والثانية تعتقد بأنه أزلي ناتج عن تحولات فيزيائية في الطاقة والكون. وعملية الانتقال من مرحلة الكائن في العالم المخلوق/ إلى مرحلة الكائن في العالم فقط، أو من مرحلة العالم المغلق/ إلى الكون اللامحدود هي التي صنعت الحداثة في أوروبا. عندئذ استطاع الإنسان – وللمرة الأولى – أن يكون سيد نفسه مستقلاً بذاته، غير محتاج لإرادة خارجية عنه لكي يعرف كيف يتصرف ويقرر مصيره. لقد بلغ الإنسان سن الرشد، وأصبح لأول مرة مسؤولاً بشكل كلي عن ذاته. أصبح الإنسان هو الذي “يخلق قوانينه” كما يقول كاستورياديس بعد أن كان يتصورها نازلة من السماء أو آتية من قوة جبروتية خارجية عليه. هذا التصور للعالم أنقذ الإنسان من التواكل والاتكالية التي عاش عليها طيلة قرون عديدة، ولكنه ألقى عليه مسؤولية ثقيلة. هذا التطور حصل لأول مرة في أوروبا). أنظر: أين هو الفكر الإٍسلامي المعاصر؟، ص106. ولقد رغبنا في نقل هذا الهامش رغم طوله لأنه يشرح وجهة نظر العلمانيين ويبين منطلقاتهم النظرية في تأسيس تجربتهم البشرية المنفصلة عن الوحي وعن الارتباط بالإله والخالق، وهي الفكرة التي عبرت عنها أوروبا الحديثة بـ”موت الله”.
[10] محمد أركون: أين هو الفكر الإسلامي المعاصر، ترجمة وتعليق: هاشم صالح، ص 94، دار الساقي، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1993م.
[11] المصدر نفسه، ص 21.
[12] المصدر نفسه، ص 22.
[13] نفس المصدر، ص 23 – 26 .
[14] محمد أركون: الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، ترجمة وتعليق: هاشم صالح، ص 41، دار الساقي، لبنان – بيروت، الطبعة الثانية، 1992م.
[15] الإسلام يقود الحياة، ص 159.
[16] وهو الأمر الذي فعلته التجربة البشرية الأوروبية الحديثة بالضبط.
[17] المصدر نفسه، ص 29- 30.
[18] المصدر السابق، ص 92.
[19] المصدر نفسه، ص 92 – 93.
[20] الإسلام يقود الحياة، ص 141.
[21] يشير إلى ما ذكره في البحث الثاني من أبحاث سلسلة “الإسلام يقود الحياة” والمعنون بعنوان: “صورة عن اقتصاد المجتمع الإسلامي”، وقد أشار هناك إلى دور “العدل” في توجيه مسيرة المجتمع الإسلامي بالقول: (وينبغي أن نشير هنا إلى أن العدل الذي قامت على أساسه مسؤوليات الجماعة في خلافتها العامة هو الوجه الاجتماعي للعدل الإلهي الذي نادى به الأنبياء وأكدت عليه رسالة السماء كأصل من أصول الدين يتلو التوحيد مباشرة.
ولم يكن الاهتمام على هذا المستوى بالعدل الإلهي وتمييزه كأصل مستقل للدين من بين سائر صفات الله تعالى من علم وقدرة وسمع وبصر وغير ذلك إلا لما لهذا الأصل من مدلول اجتماعي وارتباط عميق بمغزى الثورة التي يمارسها الأنبياء على عيد الواقع، فالتوحيد يعني اجتماعياً أن المالك هو الله دون غيره من الآلهة المزيفة، والعدل يعني أن هذا المالك الوحيد بحكم عدله لا يؤثر فرداً على فرد ولا يمنح حقاً لفئة على حساب فئة، بل يستخلف الجماعة الصالحة ككل على ما وفر من نعم وثروات). راجع المصدر المذكور، ص 33-34.
[22] نفس المصدر، ص142.
[23] وهو الأمر الذي يمكن أن نلمح الإشارة إليه في العديد من التعبيرات القرآنية كقوله تعالى: (.. قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم (المائدة: 15-16).) وقولة عز شأنه: (الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد (إبراهيم: 1). وقوله سبحانه: (هو الذي ينُزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرؤف رحيم (الحديد: 9).)
[24] الإسلام يقود الحياة، ص143-144.
[25] أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟ ص 93.
[26] المصدر نفسه. وتعليقاً على كلام أركون هذا يقول هاشم صالح في الهامش: (هذا وصف دقيق لجوهر الثورة العلمانية الناتجة عن عصر التنوير والثورة الفرنسية في آن معاً. فقد أسقطت الشرعية الكهنوتية التي حكمت فرنسا طيلة قرون وقرون (شرعية عمودية نازلة من فوق إلى تحت) وأحلت محلها الشرعية الشعبية الناتجة عن حق التصويت العام (شرعية أفقية ديمقراطية قائمة على التعاقد الاجتماعي). وقد ارتبط تطور أوروبا ونهضتها بهذا الحدث الخطير وتلك القطيعة المعرفية والسياسية الكبرى. وهدف أركون هو التمهيد لهذه القطيعة بالنسبة إلى الإسلام عن طريق بلورة فكر نقدي جذري-ولكن متدرج-للاهوت الإسلامي القديم). أُنظر المصدر نفسه، ص106.
[27] محمد أركون: الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، ص 118.