الحمل الأوّلي والحمل الشائع

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

المقدّمة: ورد اصطلاح ((الحمل الأوّلي)) و((الحمل الشائع)) في بعض الكتب المنطقية في موردين:

أحدهما: في بحث ((الحمل وأنواعه)).

والآخر: في بحث ((العنوان والمعنون)) أو ((دلالة المفهوم على مصداقه)).

وقد أدّى ذلك إلى تخيّل أنّ المعنى المصطلح عليه لهذين الاصطلاحين متعدّد، ثمّ وقع الكلام في أنّ اُستاذنا الشهيد رحمه الله ماذا قصد بهذين الاصطلاحين في استعماله لهما في بعض الموارد من الأبحاث الأصوليّة، فهل قصد المعنى الوارد في بحث ((الحمل وأنواعه)) أو المعنى الوارد في بحث ((العنوان والمعنون)) أو قصد معنىً ثالثاً غير هذا وذاك، كما تخيّله بعض الأفاضل[1]؟

ولتحقيق هذه المسألة لابدّ أوّلاً: من عرض ما ورد في كلّ من الموردين في علم المنطق، لنعرف أنّ الفرق بينهما هل هو راجع إلى تعدّد المعنى المصطلح عليه لهذين الاصطلاحين كما أكّد عليه بعض الأفاضل[2] أو هو راجع إلى نوعٍ من الاختلاف في التطبيق كما نعتقده؟

ولابدّ ثانياً: من التأمّل في موارد استعمال هذين الاصطلاحين في كلمات أستاذنا الشهيد رحمه الله لنرى ماذا قصد بهما، وهل هو مغاير للمعنى المصطلح عليه أو المعنيين المصطلح عليهما في علم المنطق، أو غير مغاير لذلك؟.

الحمل الأوّلي والحمل الشائع عند المناطقة:

أمّا ما ورد في علم المنطق فهو:

أوّلاً: في بحث ((الحمل وأنواعه )) وحاصله: أنّ الحمل الأوّلي الذاتي عبارة عن الحمل الذي يعبر عن الاتحاد المفهومي بين الموضوع والمحمول رغم كونهما مختلفين اختلافاً اعتبارياً بالإجمال والتفصيل، كما في مثل: ((الإنسان حيوان ناطق)). والحمل الشائع الصناعي عبارة عن الحمل الذي يعبر عن الاتحاد المصداقي بين الموضوع والمحمول رغم كونهما مختلفين مفهوماً من حيث كون الموضوع دالاً على معنى الفرد والمحمول دالاً على معنىً كلي قابلٍ للصدق على ذلك الفرد، كما في مثل ((زيد إنسان))[3].

وببيانٍ مختصر: إنّ الحمل الأوّلي الذاتي عبارة عن حمل الشيء على نفسه على طريقة ((هو هو))، والحمل الشائع عبارة عن حمل الكلي على مصداقه.

وهذا هو المعنى المعروف للحمل الأوّلي الذاتي والحمل الشائع الصناعي.

وثانياً: في بحث ((العنوان والمعنون))، وحاصله ـ بنصّ العبارة الواردة في كتاب المنطق للشيخ المظفّر رحمه الله ـ : أنك ((إذا حكمت على شيء بحكم، قد يكون نظرك في الحكم مقصوراً على المفهوم وحده، بأن يكون هو المقصود في الحكم، كما تقول: ((الإنسان حيوان ناطق)) فيقال للإنسان حينئذ: الإنسان بالحمل الأوّلي ، وقد يعتدى نظرك في الحكم إلى أبعد من ذلك، فتنظر إلى ما وراء المفهوم، بأن تلاحظ المفهوم لتجعله حاكياً عن مصداقه، ودليلاً عليه، كما تقول: ((الإنسان ضاحك)) أو ((الإنسان في خسر)) ، فتشير بمفهوم الإنسان إلى اشخاص أفراده وهي المقصودة في الحكم، وليس ملاحظة المفهوم في الحكم وجعله موضوعاً إلاّ للتوصل إلى الحكم على الافراد، فيسمى المفهوم حينئذ (عنواناً) والمصداق (معنوناً) ويقال لهذا الإنسان: الإنسان بالحمل الشائع))[4].

وبالتأمل فيما ورد في هذين البحثين من علم المنطق نجد أنّ كلاًّ من اصطلاحي ((الحمل الأوّلي)) و((الحمل الشائع)) جعل في البحث الاول وصفاً للحمل الوارد في القضيّة بين موضوع القضيّة ومحمولها وجعل في البحث الثاني وضعاً لموضوع القضية لا للحمل الوارد فيها بين موضوعها ومحمولها.

فبمقتضى ما جاء في بحث ((الحمل وأنواعه)) نصف الحمل الوارد في قضيّة ((زيد إنسان)) بكونه حملاً شائعاً صناعيّاً.

وبمقتضى ما جاء في بحث ((العنوان والمعنون)) نصف (الإنسان) الوارد في قضيّة الإنسان حيوان ناطق بكونه حملاً أولياً ذاتياً ونصف الحمل الوارد في قضية ((الإنسان حيوان ناطق)) بكون ملحوظاً بالحمل الأوّلي، ونصف (الإنسان) الوارد في قضيّة ((الإنسان ضاحك)) أو ((الإنسان في خسر)) بكونه ملحوظاً بالحمل الشائع.

وقد جُعل ميزان الفرق بين الحمل الأوّلي والحمل الشائع فيما ورد في بحث ((الحمل وأنواعه)) عبارةً عن كون القضية دالةً على حمل المفهوم على نفسه، أو دالة على حمل الكلي على مصداقة، فيسمى الاول بالحمل الأوّلي والثاني بالحمل الشائع، بقطع النظر في كل منهما عن ان المفهوم الملحوظ في موضوع القضية هل هو ملحوظ بوصفه معبراً عن الخارج، أي باللحاظ التصوري الأوّلي حسب تعبير استاذنا الشهيد رحمه الله، أو هو ملحوظ بوصفه صورةً ذهنية في صقع ذهن المتكلم، أي بالنظر التصديقي الثانوي حسب تعبيره قدس سره.

فكلما كان الحمل معبراً عن الاتحاد المفهومي بين الموضوع والمحمول كان حملاً اولياً ذاتيا سواء لوحظ ذلك المفهوم المتحد في طرفي الموضوع والمحمول باللحاظ التصوري الأوّلي أو باللحاظ التصديقي الثانوي، وكلّما كان الحمل حملاً للكلّي على مصداقه كان حملاً شائعا صناعيا، سواء كان الموضوع في تلك القضية ملحوظا باللحاظ التصوري الأوّلي كما في قول القائل: ((النار محرقة))، أو كان ملحوظاً باللحاظ التصديقي الثانوي كما في قول القائل: ((النار كلي)).

وجعل ميزان الفرق بين الموضوع الذي يوصف بكونه ملحوظاً بالحمل الأوّلي، والموضوع الذي يوصف بكونه ملحوظاً بالحمل الشائع، فيما ورد في بحث العنوان والمعنون عبارة عن كون هذا الموضوع ملحوظا بوصفه صورة ذهنية في صقع ذهن المتكلم أي بالنظر التصديقي الثانوي حسب تعبير استاذنا الشهيد رحمه الله ، أو كونه ملحوظا بوصفه معبرا عن الخارج أي باللحاظ التصوري الأوّلي حسب تعبيره قدس سره، فالاول يوصف بكونه ملحوظا بالحمل الأوّلي، والثاني يوصف بكونه ملحوظاً بالحمل الشائع، بقطع النظر في كل منهما عن أنّ الحمل الوارد في القضيّة بين موضوعها ومحمولها هل هو من نوع حمل المفهوم على نفسه أو من نوع حمل الكلي على مصداقه، ولهذا قالوا: ((إنّ الجزئي ـ بالحمل الشائع ـ هو ما يمتنع صدقه على كثيرين)) و(( إنّ الجزئي ـ بالحمل الأوّلي ـ لا يمتنع صدقه على كثيرين))[5] بالرغم من أنّ الحمل الوارد في الجملة الأولى من نوع حمل المفهوم على نفسه فهو من الحمل الأوّلي الذاتي بحسب ما ورد في بحث ((الحمل وأنواعه))، والحمل الوارد في الجملة الثانية من نوع حمل الكلّي على مصداقه فهو  من الحمل الشائع الصناعي بحسب ما ورد في ذلك البحث.

وعلى أساس هذا الفرق بين ما ورد في بحث ((الحمل وأنواعه)) وما ورد في بحث ((العنوان والمعنون)) اتّجه بعض الأفاضل[6] إلى القول بتعدّد المعنى المصطلح عليه لهذين الاصطلاحين، فالمعنى المصطلح عليه الوارد في بحث ((الحمل وأنواعه)) ناظر إلى نوع الحمل الوارد في القضيّة بين موضوعها ومحمولها ـ كما ذكرناه نحن أيضاً ـ وأمّا المعنى المصطلح عليه الوارد في بحث العنوان والمعنون فهو غير ناظرٍ إلى الحمل بل إلى الموضوع، فهو مصطلح آخر تماماً لا ارتباطه له بالحمل.

ونحن في الوقت الذي نوافق هذا القائل في قسمٍ من كلامه لا نوافقه في قسمٍ آخر.

أمّا ما نوافقه فيه فهو: أنّ ما ورد في البحث الأوّل ناظر إلى الحمل، وما ورد في البحث الثاني ناظر إلى الموضوع.

وأمّا ما لا نوافقه فيه فهو: أنّ ما ورد في البحث الثاني غير ناظر أصلاً إلى الحمل وأنّه يعبّر عن مصطلح آخر تماماً لا ارتباط له بالحمل، فإنّنا نعتقد أنّ ما ورد في البحث الثاني ناظر إلى الحمل أيضاً بالإضافة إلى نظره إلى الموضوع، كما نعتقد أنّه تطبيق جديد لنفس المصطلح الوارد في البحث الاول وليس معبراً عن مصطلح آخر في قبال المصطلح الاول.

توضيح ذلك: أنّهم وإن وصفوا الموضوع ـ في البحث الثاني ـ بالحمل الأوّلي تارةً وبالحمل الشائع تارةً أخرى، ولكن هذا لا يعني نفي النظر إلى الحمل نهائياً، وإلاّ فما وجه تعبيرهم عنه بالحمل سواء بقيد الأوّلي أو بقيد الشائع؟ إذاً ففي ما ذكروه في بحث العنوان والمعنون لابدّ من وجود النظر إلى الحمل بوجهٍ من الوجوه، ولكنّ الحمل المنظور اليه عندهم في هذا البحث ليس هو الحمل الوارد في نفس تلك القضيّة التي يوصف موضوعها بالحمل الأوّلي تارةً وبالحمل الشائع تارةً أخرى، بل الحمل المنظور اليه في ذلك عبارة عن حمل عنوان ذلك الموضوع على مصداقه الخارجي تارة وعلى الصورة الذهنية لمعناه تارةً أخرى، والاول حمل شائع صناعي بنفس المعنى الوارد في البحث الاول ـ أي في بحث الحمل وأنواعه ـ والثاني حمل أولي ذاتي بنفس ذلك المعنى.

فقولهم: (( إنّ الجزئي ـ بالحمل الشائع ـ هو ما يمتنع صدقه على كثيرين)) إنّما يعني أنّ الجزئي ـ بالمعنى الذي يمكن حمله على مصاديقه الخارجيّة على طريقة حمل الكلّي على مصاديقه ـ يمتنع صدقه على كثيرين، وذلك لوضوح أنّ الجزئي إنّما يمكن حمله على مصاديقه الخارجيّة على طريقة حمل الكلّي على مصاديقه إذا لوحظ باللحاظ التصوّري الأوّلي الذي يعبّر عن الخارج، وهو بهذا اللحاظ يتمنع صدقه على كثيرين، لأنّنا نرى من خلاله مصاديقه الجزئيّة وهي ممّا يمتنع صدقها على كثيرين.

وقولهم: (( إنّ الجزئي ـ بالحمل الأوّلي ـ لا يمتنع صدقه على كثيرين)) إنّما يعني أنّ الجزئي ـ بالمعنى الذي يمكن حمله على الصورة الذهنيّة لمعناه على طريقة حمل المفهوم على نفسه ـ لا يمتنع صدقه على كثيرين، وذلك لوضوح أنّ الجزئي إنّما يمكن حمله على الصورة الذهنيّة لمعناه على طريقة حمل المفهوم على نفسه إذا لوحظ باللحاظ التصديقي الثانوي الذي يعبّر عمّا في صقع الذهن، وهو بهذا اللحاظ ليس جزئيّاً بل هو كلّي قابل للصدق على كثيرين.

وبهذا يظهر أنّ الحمل الأوّلي والحمل الشائع الواردين في البحث الثاني ـ أعني في بحث العنوان والمعنون ـ لا يختلفان من حيث المعنى المصطلح عليه عن الحمل الأوّلي والحمل الشائع الواردين في البحث الأول، أعني في بحث الحمل وأنواعه، وإنّما يختلفان عنهما في مورد تطبيق المعنى المصطلح عليه، فإنّه طُبّق في البحث الاول على نفس الحمل الوارد في القضية بين موضوعها ومحمولها، وطبق في البحث الثاني على حمل آخر غير مصرح به في تلك القضية، وهو عبارة عن حمل العنوان الوارد في موضوع تلك القضية على مصداقه الخارجي تارةً وعلى صورته الذهنية تارةً أخرى.

الحمل الأوّلي والحمل الشائع عند الشهيد الصدر رحمه الله:

وأما ما ورد في كلمات استاذنا الشهيد رحمه الله من الحمل الأوّلي والحمل الشائع، فما كان منها وصفاً للحمل الوارد في قضية معينة بين موضوعها ومحمولها المصرح بهما في الكلام، فلا شكّ أنّ المقصود به المعنى المصطلح عليه الوارد في بحث ((الحمل وأنواعه))، وأمّا ما كان منها وصفاً للموضوع الوارد في القضيّة فنجد أنّه رحمه الله استخدم فيه التعبير بالحمل الأوّلي للموضوع الذي لاحظه المتكلّم بالحاظ التصوري الأولي المعبر عن الخارج واستخدام التعبير بالحمل الشائع للموضوع الذي لاحظه المتكلم باللحاظ التصديقي الثانوي المعبّر عمّا في صقع الذهن، وهذا معاكس تماماً لما ورد في بحث العنوان والمعنون من علم المنطق.

في مثل قول القائل: ((النار محرقة)) يصف أستاذنا الشهيد رحمه الله عنوان (النار) المأخوذ في موضوع القضيّة بأنّه ملحوظ بالحمل الأوّلي، وفي مثل قول القائل: ((النار كلّي)) يصف نفس هذا العنوان بأنّه ملحوظ بالحمل الشائع، وذلك على أساس أنّ الأوّل ملحوظ باللحاظ التصوّري الأوّلي، والثاني ملحوظ باللحاظ التصديقي الثانوي.

وقد جاء تعبيره قدس سره بالنسق المذكور في مواضع عديدة من كلماته سواء في كتابه ((دروس في علم الاصول)) أو في تقريرات بحثه الخارج لعلم الاصول.

وإليك نماذج من عباراته الواردة بهذا النسق:

1 ـ ما ورد في ذيل البحث عن القضية الحقيقية والخارجية للأحكام من الحلقة الثالثة، ومن قوله رحمه الله : ((ولمّا كان ما في الذهن عين الموضوع الخارجي بالنظر التصوّري وبالحمل الأوّلي، صحّ أن يُحكم عليه بنفس ما هو ثابت للموضوع الخارجي من خصوصيات، كالإحراق بالنسبة إلى النار، وهذا يعني أنّه يكفي في إصدار الحكم على الخارج إحضار صورة ذهنيّة تكون بالنظر التصوّري عين الخارج وربط الحكم بها، وإن كانت بنظرةٍ ثانويّةٍ فاحصة وتصديقيّة ـ أي بالحمل الشائع ـ مغايرةً للخارج))[7].

2 ـ ما ورد في بحث المعاني الحرفيّة من الحلقة الثالثة من قوله رحمه الله: ((  غير أنّ الغرض من إحضار مفهومي النار والموقد في الذهن التمكّن بتوسّط هذه المفاهيم من الحكم على النار والموقد الخارجيين، وليس الغرض إيجاد خصائص حقيقة النار في الذهن، وواضح أنّه يكفي لتوفير الغرض الذي ذكرناه أن يكون الحاصل في الذهن ناراً بالنظر التصوّري وبالحمل الأوّلي، لما تقدّم منّا سابقاً في البحث عن القضايا الحقيقية والخارجية من كفاية ذلك في إصدار الحكم على الخارج))[8].أنأ،أـأنأ،

3 ـ ما ورد في بحث الاستصحاب من الحلقة الثالثة من قوله رحمه الله: (( إنّ المجعول الكلّي وهو نجاسة الماء المتغيّر مثلاً يمكن أن يُنظر إليه بنظرين، أحدهما: النظر إليه بما هو أمر ذهني مجعول في أفق الاعتبار، والآخر: النظر إليه بما هو صفة للماء الخارجي، فهو بالحمل الشائع أمر ذهني ، وبالحمل الأوّلي صفة للماء الخارجي، وبالنظر الاول ليس له حدوث وبقاء، لانه موجود بتمام حصصه بالجعل في آنٍ واحد، وبالنظر الثاني لـه حدوث وبقاء))[9].

4 ـ ما ورد في بحث الوضع العامّ والموضوع لـه الخاص من تقرير بحثه رحمه الله من قولـه: (( يكفي في مرحلة إصدار الحكم على موضوع إحضاره في الذهن ولو بالحمل الأوّلي، ولا يشترط إحضاره بالحمل الشائع))[10].

5 ـ ما ورد في بحث المعنى الحرفي من تقرير بحثه رحمه الله من قوله: (( وقد ذكرنا فيما سبق من بحوث الوضع أنّه يكفي من أجل إصدار الحكم على شيءٍ خارجيّ أن نستحضره في الذهن بالحمل الأوّلي فنحكم عليه، ويكون ثابتاً لما يكون مصداقاً له بالحمل الشائع))[11].

6 ـ ما ورد في بحث الاستصحاب من تقرير بحثه رحمه الله من قولـه:  (( لو نظرنا إلى ما اعتبره رسول الله (ص) كالنجاسة للماء المتغيّر مثلاً بالحمل الشائع، قلنا عن هذا المعتبر: إنّه اعتبار نفساني وجزء من نفس رسول الله (ص) وقائم به، وهو شريف طاهر نقي، وليس له حدوث وبقاء، وإنّما اعتبر نجاسة الماء المتغير في كل أزمنة نجاسته دفعةً واحدة، ولو نظرنا إليه بالحمل الأوّلي قلنا: إنه قذارة ونجاسة قائمة بالماء القذر المتغير، حادثة عند حدوث التغير، ولعلها باقية عند زوال التغير، فبهذه النظرة صار لـه حدوث وبقاء[12].

ففي هذه العبارات وغيرها تجد أنّ كلّ موضوع يراد الحكم عليه بما هو معبّر عن الخارج، يصفه استاذنا الشهيد رحمه الله بأنّه ملحوظ بالحمل الأوّلي، بينما يصفه المناطقة ـ حسب ما ورد في بحث العنوان والمعنون ـ بأنّه ملحـوظ بالحمل الشائع ، وكلّ موضوع يراد الحكم عليه بما هي صورة ذهنية، يصفه استاذنا الشهيد رحمه الله بأنّه ملحوظ بالحمل الشائع، بينما يصفه المناطقة ـ حسب ما ورد في نفس البحث ـ بأنّه ملحوظ بالحمل الأوّلي.

وهذه ظاهرة عامّة في عبارات استاذنا الشهيد رحمه الله التي وصف فيها الموضوعات بالحمل الأوّلي تارةً وبالحمل الشائع تارةً أخرى، فهي إذاً بحاجة إلى تفسير عام، ولا يصحّ الاكتفاء في تفسيرها بتوجيهاتٍ معينة في كل مورد بحسبه.

وكما اتّجه بعض الأفاضل إلى تفسير الفرق بين ما ورد في بحث الحمل وأقسامه وما ورد في بحث العنوان والمعنون من علم المنطق بأنّه نابع عن اختلاف المعنى المصطلح عليه في هذين البحثين، اتّجه أيضاً في تفسير الظاهرة المذكورة في عبارات استاذنا الشهيد رحمه الله بأنّها نابعة عن اختلاف المعنى المصطلح عليه عنده في تلك العبارات عن المعنيين المصطلح عليهما عند المناطقة[13].

ونحن لا نوافقه أيضاً في هذا التفسير، وإنّما نرى أنّ استعمال السيد الشهيد رحمه الله للحمل الأوّلي والحمل الشائع في أمثال العبارات المذكورة تطبيق جديد لنفس المصطلح الوارد عند المناطقة في بحث الحمل وأقسامه، كما كان استعمال المناطقة أنفسهم لهذين الاصطلاحين بالنحو الوارد في بحث العنوان والمعنون تطبيقاً لنفس المصطلح الوارد عندهم في بحث الحمل وأقسامه كما شرحناه، غاية الأمر أنّ المناطقة طبقوا ذلك المعنى المصطلح عليه بشكلٍ، والسيد الشهيد رحمه الله طبقه بشكلٍ آخر.

توضيح ذلك: أنّنا ذكرنا سابقاً أنّ المناطقة حينما وصفوا مووضع قضيةٍ من القضايا بالحمل الأوّلي تارةً وبالحمل الشائع تارةً أخرى ـ كما جاء في بحث العنوان والمعنون ـ لم يكن الحمل المنظور إليه عندهم الحمل الوارد في نفس تلك القضية، وإنما الحمل المنظور إليه عندهم في ذلك عبارة عن حمل عنوان ذلك الموضوع على مصداقه الخارجي تارة وعلى صورته الذهنية تارةً أخرى.

والآن نقول: أنّ استاذنا الشهيد رحمه الله حينما يصف موضوع قضية من القضايا بالحمل الأوّلي تارةً وبالحمل الشائع تارة اخرى ـ كما جاء في العبارات التي نقلناها عنه ـ فليس الحمل المنظور إليه عنده أيضاً عبارة عن الحمل الـوارد في نفس تلك القضية، فحاله من هذه الناحية كحال المناطقة في بحث العنوان والمعنون، ولكن الحمل المنظور إليه عنده ليس هو عبارة عن حمل عنوان ذلك الموضوع على مصداقه الخارجي تارة وعلى صورته الذهنية تارة اخرى، كما كان كذلك عند المناطقة، وإنما الحمل المنظور إليه عنده عبارة عن حمل ما يعبر عن ماهية المصاديق الخارجية على ذلك الموضوع تارة ، وحمل ما يعبر عن الصورة الذهنية عليه تارة اخرى.

ففي مثل قول القائل: ((النار محرقة)) يصف المناطقة عنوان (النار) بكونه ملحوظاً بالحمل الشائع، على أساس أن المعنى المقصود بالنار في هذه الجملة نوع معنى يمكن حمله على مصداقه الخارجي بالحمل الشائع الصناعي، لأنه ملحوظ باللحاظ التصوري الأوّلي الذي يرينا الخارج، بينما استاذنا الشهيد رحمه الله يصف نفس هذا العنوان في نفس هذه القضية بكونه ملحوظاً بالحمل الأولي على أساس ان المعنى المقصود به نوع معنى يمكن أن يحمل عليه ما يعبر عن ماهية مصاديقه الخارجية، وذلك بالحمل الأوّلي الذاتي، كأن يقال مثلاً: ((النار جوهر حار بذاته)) لو صح هذا التعريف عن المصاديق الخارجية للنار، فان النار إنما يمكن أن يحمل عليها ما يعبر عن ماهية مصاديقها الخارجية فيما إذا لوحظت باللحاظ التصوري الأوّلي المعبر عن الخارج أيضاً.

وفي مثل قول القائل: ((النار كلي)) يصف المناطقة عنوان النار بكونه ملحوظاً بالحمل الأوّلي على أساس أن المعنى المقصود بالنار في هذه الجملة نوع معنىً يمكن حمله على الصورة الذهنية لمعناه بالحمل الأوّلي الذاتي، لأنه ملحوظ باللحاظ التصديقي الثانوي المعبّر عمّا في صقع الذهن، بينما يصف استاذنا الشهيد رحمه الله نفس هذا العنوان في نفس هذه القضية بكونه ملحوظا بالحمل الشائع على أساس أن المعنى المقصود به نوع معنى يمكن أن يحمل عليه عنوان كلي معبر عن الصورة الذهنية لذلك المعنى، وذلك بالحمل الشائع الصناعي، كأن يقال مثلاً: ((النار صورة ذهنية غير محرقة))، فإنّ النار إنّما يمكن أن يحمل عليها مثل هذا العنوان الكلي المعبر عن عالم الذهن فيما إذا لو حظت باللحاظ التصديقي الثانوي المعبر عن عالم الذهن أيضاً.

وهذا يعني أنّ المناطقة افترضوا المعنى المقصود بالنار في كل من جملتي ((النار محرقة)) و((النار كلي)) محمولاً  في جملة حملية مقدرة موضوعها في التقدير المصداق الخارجي للنار في الجملة الأولى، والصورة الذهنية عن النار في الجملة الثاني، وبلحاظ هاتين القضيتين المقدرتين وصفوها في الجملة الأولى بالحمل الشائع وفي الجملة الثانية بالحمل الأوّلي .

وأما استاذنا الشهيد رحمه الله فقد افترض المعنى المقصود بالنار في هاتين الجملتين موضوعاً ـ لا محمولاً ـ في جملة حملية مقدرة محمولها في التقدير ما يعبر عن ماهية مصاديقها الخارجية في الجملة الأولى، وما يعبر عن صورتها الذهنية في الجملة الثانية، وبلحاظ هاتين القضيتين المقدرتين وصفها في الجملة الأولى بالحمل الأوّلي وفي الجملة الثانية بالحمل الشائع.

وبهذا يمكن تفسير الظاهرة التي وجدت في عبارات استاذنا الشهيد رحمه الله من توصيفه لكل موضوع يراد الحكم عليه بما هو معبر عن الخارج بأنه ملحوظ بالحمل الأوّلي، وتوصيفه لكل موضوع يراد الحكم عليه بما هي صورة ذهنية بأنه ملحوظ بالحمل الشائع ، بعكس ما جاء في بحث العنوان والمعنون من علم المنطق.

وبالإمكان تطبيق هذا التفسير على كل العبارات التي نقلناها عن استاذنا الشهيد رحمه الله كما يظهر بالتأمل.

وعليه فالظاهرة المذكورة التي وجدت في عبارات استاذنا الشهيد رحمه الله ليست نابعة عن تبنيه لمعنى اصطلاحي جديد لمصطلحي الحمل الأوّلي والحمل الشائع كما توهمه بعض الأفاضل، وإنما هي نابعة عن تطبيق جيد لنفس المعنى المصطلح عليه عند المناطقة في بحث ((الحمل وأنواعه)) رغم اختلاف شكل هذا التطبيق عن شكل التطبيق الذي قام به علماء المنطق أنفسهم في بحث العنوان والمعنون.

السيّد علي أكبر الحائري

[1]– الحلقة الثالثة في أسلوبها الثاني، الجزء الأول، في هامش الصفحة 106، وفي متن الصفحة 335.

[2]– المصدر السابق، الصفحة 335.

[3]– المنطق للشيخ المظفر رحمه الله ، ج1، ب2، تحت عنوان ((الحمل وأنواعه))، نقلاً بالمعنى.

[4]– المصدر السابق، في نفس الجزء ونفس الباب، تحت عنوان: ((العنوان والمعنون أو دلالة المفهوم على مصداقه)).

[5]– المصدر السابق، تحت نفس العنوان.

[6]– الحلقة الثالثة في أُسلوبها الثاني 1: 335.

[7]– دروس في علم الأصول، الجزء الأوّل من الحلقة الثالثة، في نهاية الأبحاث الواردة في التمهيد، تحت عنوان: ((القضيّة الحقيقيّة والخارجية للأحكام)).

[8]– نفس المصدر، ضمن الأبحاث الواردة في تحديد دلالات الدليل الشرعي اللفظي، تحت عنوان: ((المعاني الحرفية)).

[9]– دروس في علم الاصول، الجزء الثاني من الحلقة الثالثة، ضمن بحث الاستصحاب، تحت عنوان: ((عموم جريان الاستصحاب)).

[10]– بحوث في علم الأصول 1: 88.

[11]– نفس المصدر: 238.

[12]– مباحث الأصول، الجزء الخامس من القسم الثاني: 199.

[13]– الحلقة الثالثة في اسلوبها الثاني، الجزء الاول، في هامش الصفحة 106 وفي متن الصفحة 335.