الأسس الإسلامية للدُّستور الإسلامي‏ عرضٌ وبيان لما وضعه الشَّهيد الصَّدر من أصول‏

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

الموضوع‏

يقتصر موضوعنا هذا على عرضٍ وبيانٍ للأسس الإسلاميَّة التي وضعها الشَّهيد السَّعيد السَّيِّد محمَّد باقر الصَّدر (قدَّس اللَّه نفسه الزكيَّة) أصولاً للدستور الإسلامي الذي كان ينوي وضعه، عند حلول وقته. وهذه الأسس هي باكورة أعماله الفكريَّة الإسلاميَّة.

نقاط الموضوع‏

وقبل البدء بالبيان نعرض متون الأسس ونصوصها، وذلك ليتسنَّى للقارى الكريم الاطّلاع عليها ومشاركة كاتب المقال في ما يدور حولها من بيان أو تعليق.

وبعد ذلك يأتي دور بيان النُّقاط الآتية:

تعريف الأسس. ـ بيان أهميتها. تحديد هدفها. ـ توضيح ظروف وضعها. ـ ذكر عددها. ـ استعراض محتوياتها. ـ تحديد مركزها القانوني. ـ تحديد موقعها التاريخي. ـ سرّيتها. ـ منظومتها القانونية. ـ شهرة الصَّدر العلميَّة.

النُّصوص‏

نقلتُ هذه النصوص عن كتابين هما:

الإمام الشَّهيد السَّيِّد محمَّد باقر الصَّدر: دراسة في سيرته ومنهجه، تأليف

محمد الحسيني، مصوَّرة عن الطبعة الأولى 1989م ـ 1410هـ، بيروت: دار الفرات، ص 336 ـ 359.

-تجديد الفقه الإسلامي: محمَّد باقر الصَّدر بين النَّجف وشيعة العالم، تأليف شبلي الملاَّط، ترجمة غسان غصن، بيروت: دار النهار للنشر، الطبعة الأولى في شباط 1998م، ص 33 ـ 48.وهي:

«الأساس الإسلام‏» رقم 1

الإسلام، في اللُّغة، هو الاستسلام والانصياع، وبهذا المعنى كان صفةً للدِّين الإلهي بشكل عام في قوله تعالى:«إنَّ الدِّينَ عندَ اللَّهِ الإسْلام» وآيات أخرى.

أمَّا المعنى الاصطلاحي للإسلام فهو «العقيدة والشريعة» اللتان جاء بهما من عند اللَّه تعالى الرسول الأعظم محمد بن عبداللَّه‏(صلي الله عليه و آله و سلم)، وهذا المعنى هو المقصود من الإسلام في قوله تعالى:«اليومَ أَكْمَلتُ لكُم دِينكُم وأَتْمَمْتُ عَلَيكُم نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً».

ونقصد بالعقيدة «مجموعة المفاهيم» التي جاء بها الرَّسول‏(صلي الله عليه و آله و سلم)، والتي تعرّفنا بخالق العالم وخلقه وماضي الحياة ومستقبلها ودور الإنسان فيها ومسؤوليته أمام اللَّه، وقد سُمِّيت هذه المفاهيم عقيدةً؛ لأنَّها معلومات جازمة يعقد عليها القلب.

ونقصد بالشَّريعة «مجموعة القوانين والأنظمة» التي جاء بها الرسول‏(صلي الله عليه و آله و سلم)، والتي تعالج شؤون الحياة البشرية كافة، الفكرية منها والرّوحية والاجتماعية بمختلف ألوانها من اقتصادية وسياسية وغيره.

فالإسلام إذاً مبدأ كامل؛ لأنَّه يتكوَّن من عقيدة كاملة في الكون ينبثق عنها نظام اجتماعي شامل لأوجه الحياة، ويفي بأمسّ وأهمّ حاجتين للبشرية، وهما: القاعدة الفكرية والنظام الاجتماعي.

«الأساس المسلم‏» رقم 2

المسلم على قسمين:

مسلم واقعي: وهو من استسلم عن إيمان ويقين باللَّه واليوم الآخر ورسالة النَّبي‏(صلي الله عليه و آله و سلم) ويعبَّر عنه في القرآن الكريم كثيراً بالمؤمن وعن مقابله بالكافر.

ومسلم ظاهري: وهو كلُّ من شهد الشهادتين، ولم يظهر منه إنكار لضروريٍّ من ضروريَّات الدين. ويُعَدّ كلُّ من أعلن الشهادتين في عرف الدَّولة مسلماً مساوياً في الحقوق والواجبات لسائر المسلمين.

والدَّليل الشَّرعي على ذلك:

أوَّلاً: سيرة النبي‏(صلي الله عليه و آله و سلم) والمسلمين مع مَن كان يسلم تحت ضغط التهديد بالقتل، فإنَّه كان يقبل إسلامه بمجرَّد إعلانه الشَّهادتين.

ثانياً: سيرة النبي‏(صلي الله عليه و آله و سلم) مع أشخاصٍ علم نفاقهم بشهادة القرآن الكريم.

ثالثاً: نصوص السنَّة المصرِّحة بأن أحكام الإسلام تدور مدار إعلان الشَّهادتين.

وعلى ذلك، فالدَّولة الإسلاميَّة تساوي في الحقوق والواجبات بين جميع المشتركين في إعلان الشَّهادتين، في أحكام الإسلام العامَّة: الطَّهارة، جواز التزويج، دخول المساجد، ونحو ذلك. وإن كان لا يجوز لها أن تسند إلى من تخشى نفاقه ورياءه شيئاً من الوظائف والمهام التي يشكِّل إسنادها خطراً على الإسلام، كما يجوز لها أن تضعه في رقابة وتحدِّد تصرُّفاته طبقاً لمقتضيات المصلحة الإسلاميَّة العلي.

كما ينبغي أن يُعْلم أن المرتدّ عن الإسلام، سواء كان ملِّياً أم فطرياً، إذا تاب وأناب، فإنَّ الدَّولة تقبل إسلامه واقعاً وظاهراً، وتعامله كبقية المسلمين، وذلك استناداً إلى رأي فقهي تتبنَّاه الدَّعوة.

«الأساس الوطن الإسلاميّ» رقم 3

الوطن الإسلامي هو «ما يسكنه المسلمون من أقطار العالم».

يجب أن نميِّز بين استحقاق الدَّولة الإسلامية للأرض وبين صفة الوطن الإسلامي التي يصحُّ أن نصف بها الأرض.

إنَّ استحقاق الدَّولة الإسلامية للأراضي نوعان:

النَّوع الأوَّل- فالإستحقاق السياسي، وهو ما تستحقُّه الدَّولة الإسلاميَّة من الأرض باعتبارها الإدارة السياسيَّة العليا للإسلام، أي باعتبارها المسؤولة عن الكيان السياسي للمبدأ الإسلامي والموظفة الشرعيَّة على تطبيقه ونشره وحمايته. ودائرة هذا الاستحقاق ليست محدودة بحدود؛ لأنَّ الكيان السِّياسي للدَّولة الإسلاميَّة قائم على مبدأ فكري عام لا تختلف في حسابه الأراضي والبلاد. ولذلك كان الإسلام المتمثِّل في الدَّولة الإسلاميَّة صاحب الحق الشرعي في الأرض كلها«ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون» ، فيحقُّ للدَّولة الإسلاميَّة إخضاع جميع أراضي العالم لها سياسياً. غير أنَّ طريقة استعمال هذا الحق وشكل تنفيذه يختلف باختلاف طبيعة الأشخاص المستوطنين للأرض من حيث كونهم مسلمين أو ذمِّيين أو كفاراً غير ذمِّيين الخ.. وتشرح ذلك الأحكام الشرعيَّة المتعلِّقة بسياسة الدولة الخارجيَّة.

النَّوع الثَّاني: استحقاق مالكي، وهو ما تستحقُّه الحكومة الإسلاميَّة من الأرض باعتبارها الممثِّل الأعلى للأمَّة الإسلاميَّة والوكيل الشرعي عنها في حقوقها وأملاكها. ودائرة هذا الاستحقاق هي الأرض الخراجيَّة فإنها أملاك عامة للأمَّة المسلمة وتقوم بولايتها أو وكالتها عنها بتولِّي شؤونها طبقاً لمصالح الأمة. وتشرح ذلك الأحكام الشرعيَّة المتعلِّقة بأملاك الأمَّة العامة.

ومن الواضح أنَّ صفة الوطن الإسلامي تختلف في طبيعتها عن صفة الاستحقاق السياسي والمالكي، فإنَّ استحقاق الدَّولة السياسي للأرض هو بسبب تحمُّل الحكومة حماية المبدأ، مما جعل لها الحق في تنفيذ إرادة الإسلام في الأرض طبقاً لتشريعاته. والاستحقاق المالكي سببه أملاك الأمَّة ممَّا جعل لها الحق في تنفيذ إرادة الأمة طبقاً لمصالحها، وهذا الاستحقاق بنوعيه حكم شرعي لا بدَّ في استنباطه وتحديد دائرته من الأدلَّة الشرعيَّة.

أمَّا تحديد الأرض التي يصح وصفها بالوطن الإسلامي فهو ليس حكماً شرعياً، فيكون المرجع فيه العرف السليم الذي يقضي في تعريف الوطن الإسلامي بأنه «كل ما يسكنه المسلمون من أقطار الأرض».

«الأساس الدَّولة الإسلاميَّة» رقم 4

الدولة ككل على ثلاثة أنواع:

النَّوع الأوَّل- فالدَّولة القائمة على قاعدة فكريَّة مضادَّة للإسلام كالدَّولة الشِّيوعيَّة والدَّولة الديمقراطية الرأسمالية، فإن القاعدة الفكرية الرئيسية للدولة الشيوعية تناقض الإسلام تماماً، وكذلك القاعدة الفكرية الرئيسية للدولة الديمقراطيَّة الرأسماليَّة، فإنها وإن لم تمس الحياة والكون بصورة محدَّدة إلا أنها تناقض نظرة الإسلام إلى المجتمع وتنظيم الحياة، فهي أيضاً قائمة على قاعدة فكريَّة مضادَّة للإسلام. وهذه الدَّولة دولة كافرة لأنها لا تقوم على القاعدة الفكرية للإسلام، وهي بسبب تبنِّيها لقاعدة فكرية مناقضة للإسلام تعدُّ كل إمكاناتها للتبشير بتلك القاعدة ومحاربة كل ما يناقضها، بما في ذلك الإسلام بعقيدته وأفكاره وتشريعه. وحكم الإسلام في حقِّ هذه الدَّولة أنه يجب على المسلمين أن يقضوا عليها وأن ينقذوا الإسلام من خطرها إذا تمكنوا من ذلك بمختلف الطرق والأساليب التبشيريَّة والجهاديَّة؛ لأن الإسلام في هذه الدولة حتى بصفته عقيدة موضع للهجوم وموضع للخطر، فتكون الحالة معها حالة جهاد لحماية بيضة الإسلام، غير أن وجوب جهاد هذا العدو لا يعني بطبيعة الحال القيام بأعمال تعرّض العاملين للخطر دون نتيجة إيجابية.

النَّوع الثَّاني- فالدَّولة التي لا تملك لنفسها قاعدة فكريَّة معيَّنة كما هو شأن الحكومات القائمة على أساس إرادة حاكم وهواه، أو المسخّرة لإرادة أمَّة أخرى ومصالحها. وهذه الدَّولة دولة كافرة وليست دولة إسلاميَّة وإن كان الحاكم فيها والمحكومون مسلمين جميعاً؛ لأن الصِّفة الإسلاميَّة للدَّولة لا تنبع من اعتناق الأشخاص الحاكمين للإسلام وإنَّما تنشأ من اعتناق نفس الدولة كجهاز حكم الإسلام، ومعنى اعتناق الدَّولة للإسلام إرتكازها على القاعدة الإسلاميَّة واستمدادها من الإسلام تشريعاتها ونظريتها للحياة والمجتمع، فكل دولة لا تكون كذلك فهي ليست إسلاميَّة، ولما كان الكفر هو النقيض الوحيد للإسلام صحَّ أن نعتبر كلَّ دولة غير إسلامية دولة كافرة وكل حكم غير إسلامي حكماً كافراً، لأن الحكم حكمان: حكم الإسلام، وحكم الكفر والجاهلية، فما لم يكن الحكم إسلاميَّاً مرتكزاً على القاعدة الإسلاميَّة فهو حكم الكفر والجاهلية وإن كان الحاكم مسلماً متعبِّداً بعبادات الإسلام، – في الحديث الشريف: إنَّ الحكم حكمان: حكم اللَّه عزَّ وجلَّ وحكم الجاهلية، فمن أخطأ حكم اللَّه فقد حكم بحكم الجاهليَّة.

والإسلام، في هذه الدَّولة، وإن كان لا يجابه منها حرباً مركَّزة على عقيدته وأفكاره إلا أنه حيث أُقصي عن قاعدته الرئيسية أصبح يفقد ضمان الدَّولة بكل وجهٍ من الوجوه، وأصبح وجوده في خطر.

والحكم الشَّرعي، في حقِّ هذه الدَّولة، أنَّها ليست دولة شرعيَّة ويجب على المسلمين هدمها وإبدالها بدولة إسلاميَّة، وكذلك فإن وجوب إبدالها لا يعني القيام بأعمال تعرّض العاملين للخطر دون احتمال نتيجة إيجابية، كما أن الطُّرق التي تستعمل في سبيل هدمها وإبدالها تقدَّر من حيث درجة العنف والقوة، طبقاً لمدى الخطر الذي يتهدَّد الإسلام منها، وطبقاً لإمكانات العاملين واحتمال عود جهادهم بنتيجةٍ على الإسلام.

النَّوع الثَّالث- فالدَّولة الإسلاميَّة، وهي الدَّولة التي تقوم على أساس الإسلام وتستمد منه تشريعاتها، بمعنى أنها تعتمد الإسلام مصدرها التشريعي وتعتمد المفاهيم الإسلامية منظارها الذي تنظر به إلى الكون والحياة والمجتمع.

والدَّولة الإسلاميَّة هذه على ثلاثة أنحاء:

النَّحو الأوَّل- فأن تكون جميع التَّشريعات التي تقوم بها الدَّولة مستمدَّة من القاعدة الفكريَّة، بحيث إنَّ سير الدَّولة التشريعي والتنفيذي يكون منسجماً ومتَّفقاً مع متطلَّبات الإسلام وأحكامه وبصورة مضمونة دون أي قصور أو تقصير. وهذا إنَّما يتأتى فيما إذا كانت السلطة الحاكمة معصومة من الخطأ والهوى كالسلطة الحاكمة أيَّام النبي ‏(صلي الله عليه و آله و سلم) وأمير المؤمنين(عليه السلام).

وحكم الإسلام بحقِّ الدولة من هذا النوع أنه يجب إطاعتها، ولا يجوز التخلُّف عن أوامرها وقراراتها التي تصدرها بصفتها سلطة حاكمة بحالٍ من الأحوال.

النَّحو الثَّاني- فأن تكون بعض التَّشريعات والتَّنفيذات متعارضة مع الإسلام تعارضاً ناشئاً عن عدم اطلاع السُّلطة الحاكمة على حقيقة الحكم الشرعي أو طبيعة الموقف. وحكم الإسلام بحقِّ الدولة من هذا النوع:

1ـ أنَّه يجب على العارف من المسلمين أن يشرح للدَّولة ما تجهله من أحكام الإسلام أداءً لوجوب تعليم أحكام الإسلام لمن يجهلها خاصة السلطة الحاكمة.

2ـ كما يجب على المسلمين إطاعة هذه السُّلطة في كل الحقوق والمجالات التي تشملها صلاحياتها الشرعيَّة.

3ـ وإذا أصرَّت السُّلطة الحاكمة على وجهة نظرها الخاطئة عن حسن نيَّة، ولم يمكن لمن يختلف معها في وجهة نظرها أن يثبت لها رأيه، فإن كانت القضيَّة من القضايا التي يجب فيها توحيد الرأي كالجهاد والضرائب وأمثالها وجب على المخالف إطاعة أمر الدولة وإن كان معتقداً خطأها، وإن لم تكن القضيَّة ممَّا يجب فيه توحيد الرَّأي كان للمخالف أن يطبق في مجاله الخاص اجتهاده المخالف لاجتهاد الدَّولة.

النَّحو الثَّالث- فأن تشذّ الحكومة، في تصرُّفاتها التَّشريعيَّة أو التَّنفيذيَّة، فتخالف القاعدة الإسلاميَّة الأساسيَّة عن عمد، مستندة في ذلك إلى هوى خاص أو رأي مرتجل، وحكم الإسلام في هذه الدولة:

1ـ أنَّه يجب على المسلمين عزل السلطة الحاكمة واستبدالها بغيرها؛ لأنَّ العدالة من شروط الحكم في الإسلام، وهي تزول بانحراف الحاكم المقصود عن الإسلام فتصبح سلطته غير شرعيَّة، ويشترط في ذلك أن يتوصّل المسلمون إلى عزل السلطة الحاكمة بغير الحرب الداخليَّة.

2ـ وإذا لم يتمكَّن المسلمون من عزل الجهاز الحاكم وجب عليهم ردعه عن المعصية، طبقاً لأحكام الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر في الشريعة المقدَّسة.

3ـ وإذا استمرَّت السلطة المنحرفة في الحكم فإنَّ سلطتها تكون غير شرعيَّة ولا يجب على المسلمين إطاعة أوامرها وقراراتها، في ما يجب فيه إطاعة ولي الأمر إلاّ في الحدود التي تتوقف عليها مصلحة الإسلام العليا، كما إذا داهم الدَّولة خطر مهدَّد وغزو كافر فيجب في هذه الحالة أن يقف المسلمون إلى صفها فبالرغم من انحرافهاف وتنفيذ أوامرها المتعلِّقة بتخليص الإسلام والأمَّة من الغزو والخطر.

والدَّولة، في كلِّ هذه الأنحاء الثلاثة، هي دولة إسلاميَّة لقيامها فكريَّاً على أساس الإسلام وارتكاز كيانها على القاعدة الإسلاميَّة، ومجرَّد حدوث تناقض بين القاعدة التي تقوم عليها وبعض معالم الحكم ومظاهره لا يخرجها عن كونها دولة إسلاميَّة، كما هو الشأن في كلِّ دولة تقوم على قاعدة فكريَّة، فإنها تحمل صفة تلك القاعدة وإن حصلت بعض التناقضات في جهاز الحكم.

ويترتَّب على الدَّولة الإسلاميَّة، في كل هذه الحالات، بعض الأحكام الفقهيَّة كسقوط الزكاة عن ذمَّة من تجب عليهم إذا أخذته الدَّولة منهم، كما نصَّت على ذلك أحكام الشَّريعة المقدَّسة.

«الأساس الدَّولة الإسلاميَّة دولة فكريَّة» رقم 5

لمَّا كانت الدَّولة هي المظهر الأعلى للوحدة السياسيَّة التي توجد بين جماعة من الناس، فلا بدَّ من أن تكون وحدتها انعكاساً لوحدة عامة قائمة بين الجماعة.

وهذه الوحدة العامَّة بين النَّاس التي تنعكس في الوحدة السياسيَّة تارة تكون وحدة عاطفية وأخرى وحدة فكرية.

فالوحدة العاطفيَّة هي العاطفة الواحدة التي يحسُّها ويشترك فيها جماعة من النَّاس بسببٍ من الأسباب، كاشتراكهم في إقليم متميِّز بحدوده الجغرافية، أو اشتراكهم في قوميَّة متميِّزة بلغة أو دم أو تاريخ معيَّن.

وأمَّا الوحدة الفكريَّة فهي عبارة عن إيمان جماعة من النَّاس بفكرة واحدة تجاه الحياة يقيمون على أساسها وحدتهم السِّياسيَّة، وهذه الوحدة هي الوحدة الطبيعيَّة والجديرة بأن ينشأ على أساسها كيان سياسي موحّد متمثِّل في دولة بعكس الوحدة العاطفية؛ لأنَّ العاطفة لما كانت لا تعني بطبيعتها الموقف السياسي للأمَّة ولا نظرتها العمليَّة نحو الحياة، فبالتالي لا يمكن أن توجد للأمَّة حكماً ونظاماً، لأنَّ الحكم والنظام إنما يوجده الفكر، ولذا كان الفكر هو القاعدة الطبيعية للحكم، وكانت الوحدة الفكرية هي الوحدة الصالحة لتعليل الوحدة السياسية المتمثِّلة في الدولة تعليلاً علمي.

على ضوء ذلك نستطيع أن نقسِّم الدولة، ولو بصورة غالبة، إلى ثلاثة أقسام:

1ـ الدَّولة الإقليميَّة: وهي التي تعكس في وحدتها السِّياسيَّة الوحدة الإقليميَّة.

2ـ الدَّولة القوميَّة: وهي التي تستمد وحدتها السياسيَّة من القوميَّة الموحدة.

3ـ الدَّولة الفكريَّة: وهي التي ترتكز في وحدتها السِّياسيَّة على وحدة فكريَّة معيَّنة.

والدَّولة الإسلاميَّة من القسم الثالث، ومن طبيعة الدَّولة الفكرية أنها تحمل رسالة فكريَّة ولا تعترف لنفسها بحدود إلا حدود ذلك الفكر، وبذلك تصبح قابلة لتحقيق رسالتها في أوسع مدى إنساني ممكن. وكذلك الدَّولة الإسلاميَّة فإنها دولة ذات رسالة فكريَّة التي هي الإسلام. والإسلام دعوة إنسانية عامَّة بُعث بها النبي محمد(صلي الله عليه و آله و سلم) إلى الإنسانية كافة في مختلف العصور والبقاع، بقطع النَّظر عن الخصائص القوميَّة والإقليميَّة وغيرها كما يدلُّ على ذلك قوله تعالى:« وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون »وقوله تعالى:« قل أيُّ شي‏ء أكبر شهادة قل اللَّه شهيد بيني وبينكم وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ »، مع آيات ونصوص أخرى كثيرة لا تدع مجالاً للشك بأن الإسلام رسالة عالميَّة لا إقليميَّة ولا قوميَّة.

«الأساس شكل الحكم في الإسلام» ‏رقم 6

تعريف الحكم في الإسلام:

الحكم في الدَّولة الإسلاميَّة هو «رعاية شؤون الأمَّة طبقاً للشَّريعة الإسلاميَّة»، ولذلك يُطلق على الحاكم كثيراً اسم الراعي وعلى المحكومين اسم الرعيَّة، كما في الحديث الشريف: «كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤول عن رعيته»، ولا بدَّ لكي تكتسب الرعاية صفة الشرعية من أن يتوفر فيها أمران:

الأوَّل: تنفيذ رعاية شؤون الأمَّة بالفعل وتطبيق أحكام الرِّعاية في الإسلام عليه.

الثَّاني: أن تكون الرعاية نفسها متَّفقة مع نظام الحكم وشكل الرِّعاية في الإسلام، فلا يكفي لأن تكتسب الرِّعاية الصِّفة الشَّرعية أن تقوم فعلاً بتطبيق الدستور والقوانين الإسلاميَّة في إدارة شؤون الأمَّة، من جهاد واقتصاد وعلاقات سياسية، بل لا بدَّ من أن يراعى تطبيق الدستور والقوانين الإسلامية في الرعاية نفسها؛ لأن رعاية شؤون الأمَّة من شؤون الأمَّة أيضاً، فيجب أن تكون بالشكل الذي حدّده لها الإسلام.

المهام التي تتطلَّبها الدَّولة الإسلاميَّة

تتطلَّب الدَّولة الإسلاميَّة عدة مهام هي:

أوَّلاً: بيان الأحكام، وهي القوانين التي جاءت بها الشَّريعة الإسلاميَّة المقدَّسة بصيغها المحدَّدة الثَّابتة.

ثانياً: وضع التَّعاليم، وهي التَّفصيلات القانونيَّة التي تطبَّق فيها أحكام الشَّريعة على ضوء الظروف، ويتكوَّن من مجموع هذه التَّعاليم النظام السائد لفترة معينة تطول وتقصر تبعاً للظُّروف والملابسات.

ثالثاً: تطبيق أحكام الشريعة -الدستور- والتعاليم المستنبطة منها فالقوانين‏ف على الأمَّة.

رابعاً: القضاء في الخصومات الواقعة بين أفراد الرعيَّة أو بين الرَّاعي والرعيَّة على ضوء الأحكام والتعاليم.

شكل الحكم الإسلامي‏

للحكم في الإسلام شكلان:

الأوَّل: الشكل الإلهي: وهو يعني حكم الفرد المعصوم الذي يستمدُّ صلاحيَّاته من اللَّه مباشرةً، ويمارس الحكم بتعيين إلهي خاص من دون دخلٍ لاختيار الناس وآرائهم. وهذا الشكل من الحكم ثابت في الإسلام من دون شكٍ وبإجماع المسلمين، فمن المتَّفق عليه لدى المسلمين كافة أن حاكميَّة رسول اللَّه‏ (صلي الله عليه و آله و سلم) كانت من هذا الشكل، كما يدلُّ عليه قوله تعالى: «النَّبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم» وقوله تعالى:«وأطيعوا اللَّه وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم» وقوله تعالى: «وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى اللَّه ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص اللَّه ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبيناً» وغير ذلك من النُّصوص، ولم تكن البيعة التي يأخذها الرسول ‏(صلي الله عليه و آله و سلم) من المسلمين تعني أنَّ الرسول يستمدُّ صلاحياته للحكم منها، ولا المشورة المأمور بها في قوله تعالى: «وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على اللَّه» تعني أنَّ حاكميَّته مقيَّدة برأي الأمَّة ومستمدَّة منها؛ لأن اللَّه تعالى لم يوجب عليه الأخذ بما يشار عليه وإنَّما علق الأمر على عزمه خاصَّة.

وعلى هذا فوجود الشكل الإلهي للحكم في الإسلام لا شكَّ فيه ولا نزاع بين المسلمين، وإنَّما النِّزاع في تحديد الأشخاص الذين ثبت لهم الحق في ممارسة الحكم بهذا الشكل، وهل ثبت بعده‏ (صلي الله عليه و آله و سلم) لأحدٍ أم لا، فيذهب السنة إلى انحصار هذا الشكل من الحكم برسول اللَّه‏ (صلي الله عليه و آله و سلم) ويذهب الشيعة إلى أنَّ هذا الشكل من الحكم ثبت بعد الرسول‏(صلي الله عليه و آله و سلم) للأئمَّة الاثني عشر المنصوص عليهم بصورة خاصة.

والضَّمان الأساسي في الشكل الإلهي من الحكم هو العصمة من الهوى والخطأ التي تشكِّل الضمان الحتمي لاستقامة الحكم ونزاهته.

وبملاحظة المهام الأربع التي يتطلَّبها الحكم في الإسلام، يتَّضح أنَّ صلاحيَّات الحاكم المعصوم تشمل المهمَّة الأولى، بوصفه مبلِّغاً للشريعة إلى الأمَّة، كما تشمل المهمَّة الثانية والثالثة بوصفه حاكماً، كما تشمل المهمَّة الرابعة للقضاء بوصفه قاضياً أعلى، فهو يمارس صلاحيَّات القيام بالمهام الأربع، بوصفه مبلِّغاً وحاكماً ورئيساً أعلى للقضاء، بينما يختلف الأمر في الحاكم غير المعصوم كما سنرى.

الثَّاني -الحكم الشوري أو حكم الأمة:

والمصدر التشريعيِّ لهذا الشكل من الحكم قوله تعالى: «وأمرهم شُورى بينهم »، فإنَّ هذه الآية الكريمة الواردة في سياق صفات المؤمنين التي تستحقُّ المدح والثناء تدلُّ على ارتضاء طريقة الشّورى وكونها طريقة صحيحة حينما لا يوجد نصٌّ من قبل اللَّه ورسوله، وأمَّا حيث يوجد النَّص فلا مجال لاعتبار الأمر شورى، لأنه سبحانه يقول: « وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنة إذا قضى اللَّه ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم»، فالأمر إنَّما يجوز أن يكون شورى بينهم فيما إذا لم يقض النصّ الشرعي بقضاء معيَّن، ومن الواضح أن مسألة شكل الحكم في الوقت الحاضر لم تعالج في نص خاص على مذهبي الشِّيعة والسنَّة مع.

وبكلمة أخرى إنَّ الشورى في عصر الغيبة شكل جائز[2] من الحكم فيصحُّ للأمَّة إقامة حكومة تمارس صلاحياتها في تطبيق الأحكام الشرعيَّة ووضع وتنفيذ التعاليم المستمدّة منها. وتختار لتلك الحكومة الشكل والحدود التي تكون أكثر اتفاقاً مع مصلحة الإسلام ومصلحة الأمَّة. وعلى هذا الأساس فإنَّ أي شكل شوري من الحكم يعتبر شكلاً صحيحاً ما دام ضمن الحدود الشرعيَّة، وإنَّما قيَّدنا الكيفيَّة التي تمارس بها الأمَّة حقَّ الحكم بأن تكون ضمن الحدود الشرعيَّة؛ لأنها لا يجوز لها أن تختار الكيفيَّة التي تتعارض مع شي‏ء من الأحكام الشرعيَّة، كأن تسلِّم زمام الأمر إلى فاسق أو فسَّاق، لأن الإسلام نهى عن الركون إلى فاسق بالأخذ بقوله في مجال الشهادة فضلاً عن مجال الحكم ورعاية شؤون الأمة.

فلا بدَّ للأمَّة، حين تختار كيفيَّة الحكم والجهاز الذي يباشر الحكم، من أن تراعي الحدود الشرعيَّة.

«الأساس تطبيق الشَّكل الشوري للحكم في ظروف الأمَّة الحاضرة» رقم 7

عرفنا أنَّ الشكل الشوري للحكم شكل صحيح في أساسه، في ظرف عدم وجود الشَّكل الإلهي المتقدِّم وعدم وجود النَّص الشرعي على كيفيَّة معيَّنة لممارسة الحكم.

ولا بدَّ من أن نعرف الشُّروط لممارسة الأمَّة اختيار شكل الحكم والجهاز الحاكم، وهي الشُّروط الثلاثة التالية:

1ـ أن يكون اختيار شكل الحكم واختيار الجهاز الحاكم ضمن الحدود الشرعيَّة الإسلاميَّة وغير متعارضٍ مع شي‏ءٍ من أحكام الإسلام الثابتة.

2ـ أن يكون اختيار شكل الحكم والجهاز الحاكم أكثر اتّفاقاً مع مصلحة الإسلام التي تعني الوضع الأفضل للإسلام باعتباره دعوةً عالميَّة وقاعدة للدَّولة.

3ـ أن يكون اختيار شكل الحكم والجهاز الحاكم أكثر اتفاقاً مع مصلحة المسلمين بوصفهم أمَّةً لها جانبها الرسالي والمادي.

ومن الواضح أنَّ ممارسة اختيار شكل الحكم والجهاز الحاكم بهذه الشروط تتوقَّف على وعي الأمّة للإسلام من جهة ووعيها للظروف الحياتية والدولية من جهة أخرى، فإذا تمَّ للأمَّة بشكل عام مثل هذا الوعي فإن باستطاعتها أن تختار شكل الحكم وأن تنتخب الجهاز الكف‏ء لرعاية شؤونها، ويتساوى حينئذٍ في ممارسة هذا الحق كل المكلَّفين بأحكام الإسلام من الأمَّة من بلغ السنّ الشرعية من المسلمين والمسلمات.

أمَّا إذا لم تكن هذه الشُّروط متوفرة في الأمَّة لعدم وجود الوعي العام للإسلام، وبالتالي عدم معرفة الحدود الشرعيَّة التي يجب أن تراعى في اختيار شكل الحكم والجهاز الحاكم، بما يتفق مع مصلحة الإسلام والأمة، فإنه لا بدَّ للدعوة بوصفها طليعة الأمة الواعية لحدود الإسلام ومصلحته والواعية لظروف الأمة ومصالحها، من أن تقيم في الأمَّة شكلاً للحكم الإسلامي وتختار جهازاً حاكماً، حتى يجي‏ء الظرف المناسب لاستفتاء الأمَّة لاختيار شكل الحكم.

«الأساس الفرق بين أحكام الشَّريعة والتَّعاليم» رقم 8‏

أحكام الشَّريعة الإسلاميَّة المقدَّسة هي الأحكام الثَّابتة التي بيِّنت في الشريعة بدليل من الأدلة الأربعة: الكتاب والسنّة والإجماع والعقل. فلا يجوز في هذه الأحكام أي تبديل أو تغيير؛ لأنها ذات صيغة محدَّدة وشاملة لجميع الظروف والأحوال، فلا بدَّ من تطبيقها من دون تصرُّف.

ولنضرب لذلك مثلاً بإلزام الأمَّة الإسلاميَّة بإعداد ما تستطيع من القوَّة في مواجهة أعداء الإسلام، فهو حكم شرعي نصَّت عليه الشريعة في بعض أدلَّتها كما في قوله تعالى: «وأعدُّوا لهم ما استطعتم من قوة»، ولذلك فهو حكم ثابت شامل لجميع الظروف والأحوال.

أمَّا التعاليم أو القوانين فهي أنظمة الدَّولة التفصيليَّة والتي تقتضيها طبيعة الأحكام الشرعيَّة الدستوريَّة لظرف من الظروف، ولذا فهي قوانين متطوِّرة تختلف باختلاف ظروف الدَّولة. ومنشأ التطوّر فيها أنها لم ترد في الشريعة مباشرة وبنصوص محدَّدة، وإنما تستنبط من أحكام الشَّريعة على ضوء الظروف والأحوال التي هي عرضة للتغيير والتبدُّل.

ويدخل في الأحكام الشرعيَّة كل حكم دلَّ عليه الدليل الشرعي بصفته المعيَّنة، كحكم وجوب الصَّلاة والزكاة والخمس والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكافة التفاصيل المحدَّدة التي جاءت بها الشَّريعة المقدَّسة.

ومثال التَّعليم إلزام المسلمين القادرين بالتدريب على القتال، فإنَّ هذا الحكم ليس حكماً شرعيَّاً ثابتاً في كلِّ الأحوال ولم يدل عليه من الأدلة الأربعة بهذه الصفة المعيَّنة، ولذا لم يوجد إلزام بالتدريب أيام الرسول‏(صلي الله عليه و آله و سلم) إلا قليلاً حيث كانت وسائل الحرب بسيطةً ومتداولة والحاجة إليها والتدرُّب عليها يكاد يكون عامَّاً، وأمَّا في الظروف الحاضرة فقد أصبح التَّدريب من أسباب القوى التي يجب رصدها وإعدادها، فهو لذلك تعليم تقتضيه طبيعة الحكم الدستوري الذي هو وجوب إعداد القوَّة القتاليَّة.

وهكذا يدخل في التَّعاليم كل أحكام القوانين التي تقتضيها طبيعة الأحكام الشرعيَّة، كقانون الشرطة وقانون الاستيراد والتصدير وقوانين التعليم والتخصُّص وقانون العمل وأمثالها؛ ممَّا تقضي به طبيعة الأحكام الشرعيَّة في ظرف من الظروف.

وعلى ضوء ما سبق، نعرف أنَّ اصطلاح «الدُّستور الإسلامي» حينما يطلق على الشريعة المقدَّسة هو أوسع من المصطلح المتعارف للدُّستور؛ لأنه يشمل كافة أحكام الشريعة الخالدة؛ حيث تعتبر بمجموعها أحكاماً دستورية، كما أن وصف التعاليم والقوانين بالأحكام الشرعيَّة هو وصف صحيح وإن كانت أحكاماً ظرفية لأنها تكتسب الصفة الشرعيَّة ووجوب التنفيذ شرعاً من الأحكام الشرعيَّة التي اقتضتها، ولأنَّ الجهاز الحاكم العادل قد تبنَّاها من أجل رعاية شؤون الأمَّة والحفاظ على مصلحتها ومصلحة الإسلام العلي.

كما نعرف أنَّ المرونة التشريعيَّة التي تجعل أحكام الإسلام صالحة لجميع الأزمان ليس معناها أنَّ الإسلام قد سكت عن الجوانب المتطورة من حياة الإنسانوفسح المجال للتطوُّر أن يشرِّع لها من عنده، وإنما معناها أنَّ الإسلام أعطى في تلك الجوانب الخطوط العريضة الثابتة، بحيث إنَّ التَّطوُّرات المدنيَّة للإنسان لا توجب تغير هذه الخطوط وتبدلها، وإنما تؤثر في القوانين والتعاليم التي تباشر تنظيم الحياة في ظروف تقصر أو تطول.

«الأساس» رقم 9

مهمّتا بيان أحكام الشَّريعة وتعيين القضاة ليستا من مهام الحكم.

عرفنا أنَّ قيام الدَّولة الإسلاميَّة يتطلب مهامّ أربع، وهي:

1ـ بيان أحكام الشَّريعة «الدُّستور».

2ـ وضع التَّعاليم «القوانين التي تقتضيها طبيعة أحكام الشريعة في ضوء الظروف الراهنة».

3ـ تنفيذ أحكام الشَّريعة والقوانين.

4ـ القضاء في الخصومات.

وهذه المهام، وإن كانت لازمة للدَّولة، غير أنَّها ليست جميعاً من شؤون رعاية الأمَّة حتَّى تدخل في صلاحيات الحكومة بوصفها حكومة.

فقد عرفنا أنَّ بيان المعصوم(عليه السلام) لأحكام الشريعة لم يكن منه بوصفه حاكماً، بل بوصفه مبلِّغاً مأموراً بالتبليغ وكذلك قضاؤه بين الناس وتنظيمه لجهاز القضاء وعزل من لا يرى صلاحيته من القضاة كان بوصفه قاضياً أعلى. وفي الشكل الشوري للحكم، الشكل الذي تقيمه الأمَّة في غياب المعصوم(عليه السلام) لا تملك الحكومة الحقَّ في حصر ممارسة بيان أحكام الشريعة وتبليغها، كما لا تملك الحقَّ في حصر ممارسة القضاء في الخصومات، كما لا يملك أحد من الحكومة أو غيرها حقَّ القاضي الأعلى الذي يستطيع عزل القضاة وتعيينهم.

والشَّكل الذي تؤدَّى به هاتان المهمَّتان كما يلي:

1ـ مهمَّة بيان الأحكام الشرعيَّة هي من حقّ وواجب كل من يتوفر، من الناحية العلميَّة، على درجة الاجتهاد، ومن ناحية السلوك والصفات على درجة العدالة. فالمجتهد العادل فقط من حقِّه أن يبين الأحكام الشرعيَّة في ضوء الأدلَّة الأربعة، ويسمَّى بيانه للحكم الشرعي على هذا الأساس «إفتاءً». فإن كان لا يوجد في الأمة إلا مجتهد عادل واحد، وكان هو الذي وقع عليه اختيار الأمة وأُسندت إليه مهمة الحكم، فقد اجتمعت عليه مهمة الحكم ومهمة الإفتاء معاً، وإن تعدَّد المجتهدون العدول، فإن لم يختلفوا في نتائج استنباطهم فلا مشكلة وإن كان بينهم اختلاف في بيان الأحكام الشرعيَّة وجب أن ينظر إلى طبيعة الحكم المختلف فيه، فإن كان حكماً يلزم على الدَّولة أن تتبنَّى فيه اجتهاداً معيَّناً وتجعله الاجتهاد السائد في المجتمع الإسلامي كالأحكام التي تتصل بمجالات السياسة والاقتصاد والجهاد، فإن على الحاكم إمَّا أن يكون مجتهداً أو يختار اجتهاداً من تلك الاجتهادات ويتبناه؛ لأن هذا الانتخاب والتبني لاجتهاد معيَّن داخل في رعاية شؤون الأمَّة ومن الواجبات الشرعية على الحاكم، غير أن تبنِّي الدولة لاجتهاد معيَّن لا يعني منع المجتهدين المخالفين لذلك الاجتهاد من استنباطهم أو إبداء آرائهم، وإنما يعني اختصاص ذلك الاجتهاد المختار بالعمل والتنفيذ.

أمَّا إذا كان الحكم الذي اختلفت فيه وجهات نظر المجتهدين من الأحكام التي لا يجب على الدَّولة توحيد الاجتهاد فيها عملياً، ولا يضرُّ بكيان الأمة والمجتمع اختلاف الأفراد في سلوكهم طبقاً لاختلاف المجتهدين في آرائهم، فلا يجوز للدَّولة والحالة هذه أن تتبنَّى اجتهاداً معيناً، بل توكل كل مسلم إلى رأي مقلّده الخاصّ أو رأيه إن كان مجتهد.

2ـ القضاء وتعيين القضاة: القضاء في نظر الإسلام لونٌ خاص من الحكم؛ لأنه رعاية لشؤون الأمَّة لدى وقوع المخاصمة، ولكن السَّائد في لسان الشريعة هو التعبير عنه بالقضاء وعمَّن يباشره بالقاضي لا بالحكم والحاكم.

غير أنَّ حقَّ القضاء لا يثبت للحاكم بمجرَّد كونه حاكماً، بل يثبت لمن نصَّت عليه الشَّريعة نصَّاً خاصاً كالقضاة الذين كان يعيّنهم المعصوم (عليه السلام) في زمانه، أو نصاً عاماً كما هو الحال في المجتهد العادل بصورة عامة، فكل مجتهد عادل يتمتع بحق ممارسة القضاء. ويستمدُّ القاضي في المجتمع الإسلامي هذا الحق من نصوص الشريعة التي دلَّت على جعل هذا الحقِّ لكلِّ مجتهد عادل وليس من جهاز الحكم.

وممَّا يتصل بذلك:

أ ـ لا يجوز للدَّولة أن تمنح حقَّ القضاء لغير المجتهد العادل الذي ثبت له هذا الحقّ في الإسلام، كما لا يجوز لها أن تمنع مجتهداً من ممارسة هذا الحقّ، بل يجب عليها إمضاء قضائه وتنفيذه.

ب ـ يجب على الدَّولة توفير المجتهدين العدول لممارسة القضاء بالدرجة التي تسدُّ احتياج الأمَّة في قضاياها وخصوماتها؛ لأنَّ ذلك يندرج ضمن الرِّعاية الواجبة لشؤون الأمَّة.

ج ـ إذا تعدَّد المجتهدون العدول وقع الاختلاف في أقضيتهم، فلذلك صورتان إحداهما: أن يكون مردّ الاختلاف بينهم إلى الاختلاف في استنباط الأحكام الشرعيَّة. والصورة الثانية: أن يكون الاختلاف بسبب التطبيق، فإن كان اختلاف الأقضية بسبب اختلاف الاجتهاد وكانت مصلحة الأمَّة تتطلَّب إقامة القضاء على حكم شرعي معيَّن كان على الحاكم أن يتبنَّى اجتهاداً معيَّناً ويفرض على جميع المجتهدين العدول أن يقضوا على أساس ذلك الاجتهاد، فمن كان منهم مصوّباً لذلك الاجتهاد قضى طبقاً لرأيه ومن كان منهم مخالفاً قضى بالوكالة عن المجتهد الذي يَرْتَئِي نفس الاجتهاد المتبنى للدولة، وهذا التبنِّي يكون واجباً على الحاكم لأنَّه من شؤون الرعاية الواجبة للأمَّة، أمَّا إذا كان اختلاف الأقضية لا يضرُّ بنظام المجتمع واستقراره فيجب أن يُعطى لكلِّ مجتهد حرية القضاء طبقاً لاجتهاده.

وإن كان اختلاف الأقضية بسبب اختلاف المجتهدين في تطبيق الحكم الشرعي مع وحدة الرأي فيه أساساً، كما إذا كان هذا القاضي يرى شهادة زيد وعمرو بيِّنة شرعية ولا يراها القاضي الآخر بيِّنة لاعتقاده بفسقهما، فإن هذا الاختلاف لا يولِّد مشكلة تستوجب تدخُّل الحكومة فيجب أن يسمح لكلٍّ منهما بممارسة حقِّه في القضاء وأن يباشر القضاء حسب رأيه، وإذا قضيا في مسألة واحدة بقضاءين تنفذ الحكومة القضاء الأسبق زماناً منهما وتفصيل الكلام في بحوث القضاء في الفقه».

تعريفها

الأسس الإسلاميَّة فكما قرأناها في أعلاه‏- هي مجموعة من القواعد والمفاهيم الإسلاميَّة المقنَّنة والموثَّقة.

وأعني ب ـ «المقنَّنة» أنها كتبت بلغة هي إلى لغة القانون أقرب، وبأسلوب تعبيري هو بالأسلوب القانوني العلمي ألصق.

وأقصد ب ـ «الموثَّقة» أنها قرنت بما يثبت شرعيَّتها من أدلَّة فقهيَّة تفصيليَّة مشروعة، صراحةً أو إشارةً.

أهمِّيتها

تأتي أهميَّة هذه الأسس من ناحية فقهيَّة، وكذلك من ناحية قانونيَّة، من أنها أوَّل مجموعة أصول للدُّستور الإسلامي، إذ لم يعهد فقبلهاف أن وضعت أصول للدستور الإسلامي، ذلك أنَّ الدُّول الإسلامية المتعاقبة طوال التَّاريخ الإسلامي لم يدوّن فيها دستور إسلامي، فضلاً عن وضع أسس له وتدوينها، فلم نعثر في الوثائق السياسية التي وصلت إلينا منذ عهد دولة الخلفاء الراشدين في المدينة المنوَّرة حتى نهاية الخلافة العثمانيَّة باستانبول على أعمال فكريَّة متكاملة تمثِّل الوصول للدُّستور الإسلامي.

فقد كان الحكَّام، خلال هذه المدَّة الممتدَّة من القرن الأول الهجري حتى القرن الرابع عشر الهجري، يعتمدون في تشريعاتهم الفقهيَّة السياسيَّة التي ترتبط بالحكم الإسلامي وشؤونه على فتاوى الفقهاء واجتهادات الحكام أو اجتهادات مستشاريهم.

فلم تكن هناك مواد فقهيَّة سياسيَّة مقنَّنة منبثقة عن أصول مدوّنة، أو على الأقل متوارثة شفهيَّ.

وقد ذكرت في بحث لي سابق عن «الاجتهاد الشرعي» أنَّ المؤلَّفات الفقهيَّة المبكّرة، أمثال:

– المجموع الفقهي المروي عن الشَّهيد زيدبن علي (ت 122هـ).

– الموطَّأ، للإمام مالك بن أنس (ت 179هـ).

– دعائم الإسلام، للقاضي النعمان المغربي (ت 363هـ).

– من لا يحضره الفقيه، للصَّدوق (ت 381هـ).

– المقنعة، للمفيد (ت 413هـ).

التي كانت الأساس في تفصيلات المواد الفقهية وتبويباتها لم تتناول المواد الفقهيَّة السياسيَّة، التي لو كانت لربما كانت العامل في التفكير بوضع الأسس العامَّة له.

وقد كانت هذه المؤلَّفات المبكّرة الأنموذج المحتذى لما جاء بعدها من مؤلَّفات فقهيَّة.

وعلَّلتُ ذلك بموقف السُّلطات الحاكمة التي حالت دون هذ.

وقد كان هذا سبباً في انزواء الفقه الإسلامي عن الحياة الاجتماعيَّة، وبخاصة السياسيَّة منها، الأمر الذي أعطى المجال للدكتاتوريَّة أن تسود طابع الحكم الإسلامي منذ عهد بني أميَّة.

ويكفينا للتَّدليل على هذا حكم الخليفة الأموي عمربن عبد العزيز الذي عُدَّ استثناءً من طبيعة الحكم الأموي، ولهذا لُقِّب بالخليفة العادل، هذا اللَّقب الذي يشير وبوضوح إلى جور الآخرين وظلمهم.

هدفها

والهدف من وضع هذه الأسس يرتبط بواقع الظَّرف الذي وضعت فيه والذي سأشير إليه في ما يليه، وملخَّصه: أن حركة الدَّعوة الإسلامية (حزب الدَّعوة الإسلامية) التي اختارت الشَّهيد الصدر المفكر المرجع لها تعتمد آراءه الفقهية وتسترشد بأفكاره التوجيهية، كان أهم هدف لها -آنذاك‏- هو إقامة الحكم الإسلامي في العراق، والحكم لا بدَّ له من دستور، وأنظمة تنبثق عن الدُّستور.

ومن الطَّبيعيِّ أن الدُّستور الإسلامي يتطلَّب وضع أصول له تعتمد في وضعه، ويستند إليها المقننون له حال وضعه، فكان لا بدَّ من البدء بها أوَّلاً، ثم يأتي دور وضع الدستور.

والخلاصة: أنَّ الهدف من وضع هذه الأسس هو لتكون الأصول التي ينبثق عنها الدُّستور ويقوم بناؤه عليه.

ظروف وضعها

في أوائل القرن العشرين الميلادي؛ حيث انفتح علينا الغرب بحضارته الحديثة، ورأينا فيها الدِّراسات عن الحكم وطبيعته وأنواعه، ورأينا فيه العمل المتواصل لاستعمار البلاد الإسلاميَّة وإخضاع المسلمين لحضارته، بغية الاستئثار بخيرات بلدانهم كالثروات المعدنيَّة وخلافها، واستغلال أسواقهم لترويج منتوجاته وتسويقها، ذهبنا نبحث من ناحية نظريَّة عن الحكم الإسلامي في ما لدينا من تراث فكري، ونسعى من ناحية عملية إلى إخراج المستعمرين من بلاد المسلمين، ورأينا في حينه أنَّ من أقوى العوامل لإخراج المستعمرين من بلادنا هو أن نتوسَّل بالوسائل الحديثة المشروعة التي تساعد على ذلك، وكان من أبرزها وأقواها تأثيراً آنذاك هو العمل السِّياسي الحركي.

وحيث أصبحت بلاد المسلمين، في النِّصف الثَّاني من القرن العشرين الميلادي، هدفاً لأطماع النِّظامين العالميَّين: الرأسمالي الغربي والاشتراكي الشرقي، كان لا بدَّ للجماعات الحزبيَّة الإسلاميَّة، أو قل الحركات الإسلاميَّة التي تريد أن تدخل معترك الصراع الفكري مع هذين النظامين، من أن تنطلق من المنطلقات الآتية:

1ـ فهم الإسلام بوصفه مبدأً (عقيدة وتشريع).

2ـ فهم النُّظم الاجتماعيَّة الأخرى أمثال: الرأسماليَّة والاشتراكيَّة.

3ـ المقارنة والموازنة بين الإسلام بوصفه مبدأً (عقيدة ونظام) والنظم الاجتماعيَّة الأخرى، وسائر الفلسفات السَّائدة.

وللسَّبب المذكور في أعلاه انبثق حزب الدَّعوة الإسلاميَّة في أواخر الخمسينات من هذا القرن الميلادي (القرن العشرين)، وكان لا بدَّ له من منظّر من الفقهاء المجتهدين المنفتحين على الحياة فهماً وعلى كيفية التفاعل معها من حيث التعامل، فكان أن وقع الاختيار على الشَّهيد الصَّدر لما يمتلك من مؤهِّلات وراثيَّة؛ لأنه نتاج الأسرتين العلميتين آل الصدر الأعمام وآل ياسين الأخوال، الأسرتين اللتين جمع علماؤهما ومثقفوهما بين الثَّقافتين الجامعيَّة والجوامعيَّة، ولما يمتلك أيضاً من مؤهِّلات بيئية لأنه ابن الحوزة العلمية في النجف بما تضمُّ من ثقافات علميَّة وأدبيَّة، قديمة وحديثة.

وفوق هذين العاملين كانت لديه الموهبة الفكريَّة التي تضعه في مصاف أولئكم النوادر من المفكّرين الذين يمرون في هذه الحياة على فترات متباعدة، ويتركون بصماتهم الفكرية واضحة وخالدة، أمثال: أفلاطون وأرسطو وابن سينا والفارابي وديكارت وأنشتاين وسواهم.

فمثلُ هؤلاءِ أناس ملهمون -أعني أنَّهم إلى جانب عمقهم في التَّفكير- تمرُّ بهم لحظات ولمحات إلهام تخصب الفكر منهم بالجديد المفيد.

فالدَّعوة – في ضوء ما أشرت إليه‏- كانت بحاجةٍ إلى الدُّستور، وكان هذا يقتضي أن يسبق بوضع الأسس له.

من هذا المنطلق جاءت هذه الأسس.

ومجيئها يعدُّ الخطوةَ الأولى في التسلسل الفكري لتنظيم الحياة الإسلاميَّة للمسلمين من أروع ما يكشف لنا عن عبقريَّة الشَّهيد الصَّدر، ذلك أنَّ التسلسل الطبيعي يقتضي الخطوات الآتية:

أولاً: وضع أصول الدُّستور الإسلامي.

وثانياً: وضع الدُّستور الإسلامي مبنيَّاً على تلك الأصول.

وثالثاً: وضع القوانين والأنظمة الإسلاميَّة وفق مبادى الدستور وقواعده.

على أن يسبق كل واحد من تلك القوانين والأنظمة بدراسة عن المذهب الاقتصادي الإسلامي وأخرى عن هيكلة المجتمع الإسلامي، وسيأتي هذ.

عددها

عدد المنشور من الأسس الإسلاميَّة تسعة، كما في الكتابين المذكورين في أعلاه:

– الإمام الشَّهيد السيد محمد باقر الصدر، محمد الحسيني.

– تجديد الفقه الإسلامي، شبلي الملاط.

ومتى أُضيف إليها المخطوط من الأسس يرتفع العدد إلى أكثر من ثلاثين، فإنِّي أتذكَّر أنَّنا درسنا لديه أكثر من هذه التسعة.

كما أتذكَّر أنه (قده) قام بشرحها وحاضر فينا بأوائل شروحه.

ولا أعلم مصير هذا المخطوط بعد أن أفرغت الامبرياليَّة العالميَّة جام حقدها على النَّجف والشِّيعة ومرجعهما القائد السَّيد الصَّدر.

محتوياتها

يحتوي الأساس الأوَّل:

– تعريفاً لمفهوم الإسلام في المعجم اللغوي العربي.

– تعريفاً لمفهوم الإسلام في الاصطلاح الشرعيِّ.

– تعريفاً للعقيدة الإسلاميَّة وللتشريع الإسلامي، والربط بينهما؛ حيث يرتكز التشريع على العقيدة وينبثق عنه.

الاصطلاح على الإسلام باسم (المبدأ)، وتعريف المبدأ بأنَّه عقيدة كاملة عن الكون والحياة والمجتمع والإنسان، ينبثق عنها نظام اجتماعي شامل لجميع أوجه الحياة، ويفي بأمسِّ حاجتين للبشريَّة وأهمِّهما، وهما: القاعدة الفكرية، والنظام الاجتماعي.

ويضمُّ الأساس الثاني: تقسيم المسلم على أساسٍ من مدى التزامه بالإسلام إلى قسمين: واقعي وظاهري، وتعريف كلِّ واحد من هذين القسمين.

كما يبيِّن مَن هو المسلم في رأي الدُّستور الإسلامي، والدَّليل الشرعي على ذلك من سيرة النبي‏(صلي الله عليه و آله و سلم) وسيرة المسلمين، ومن النصوص الشرعيَّة.

كذلك يبيِّن كيفيَّة تعامل الدَّولة الإسلاميَّة مع كل واحد من هذين القسمين؛ حيث تساوي في الحقوق والواجبات بين جميع المشتركين في إعلان الشَّهادتين في أحكام الإسلام العامَّة، ولكن لا يجوز لها أن تسند إلى من تخشى نفاقه ورياءه شيئاً من الوظائف والمهام التي يشكِّل إسنادها خطراً على الإسلام، كما يجوز لها أن تضعه تحت الرَّقابة وتحدّ من تصرُّفاته طبقاً لمقتضيات المصلحة الإسلاميَّة العلي.

وأخيراً: ينصُّ هذا الأساس على أنَّ المرتدَّ عن الإسلام، سواء كان ملِّياً أم فطرياً، إذا تاب، تقبل الدَّولة توبته، وتعامله كبقية المسلمين.

وينطوي الأساس الثالث على:

– بيان الوطن الإسلامي وتعريفه.

– وبيان الفرق بين استحقاق الدولة للأرض، وبين صفة الوطن الإسلامي التي يصحُّ أن نصف بها الأرض، وذلك من خلال تنويع استحقاق الدَّولة الإسلاميَّة إلى نوعين: الاستحقاق السياسي، والاستحقاق المالكي.

– وتعريف كلّ نوع وبيان الدليل الدالّ عليه.

وفي الأساس الرابع تحدّد نوعية الدَّولة الإسلاميَّة من خلال النَّظرة إلى الأساس الذي تقوم عليه في سنِّ أنظمتها وإصدار قراراتها وكيفيَّة تعاملها مع المواطنين وسواهم.

وهي على هذا قد تكون ذات قاعدة فكريَّة، وقد تكون غير ذات قاعدة.

والدَّولة ذات القاعدة الفكريَّة قد تكون قاعدتها الإسلام، وقد تكون قاعدتها غير الإسلام.

وفي ضوئه: تعرّف الدَّولة الإسلاميَّة بأنها الدَّولة التي تقوم على أساس الإسلام وتستمدُّ منه تشريعاته.

ويتناول الأساس الخاصّ بيان الوحدة السياسيَّة التي تقوم عليها الدَّولة الإسلاميَّة، وهي الوحدة الفكريَّة التي تعني إيمان المسلمين بفكرة واحدة تجاه الحياة، يُقيمون على أساسها وحدتهم.

ويقابل الوحدة الفكريَّة الوحدة العاطفيَّة.

ويستعرض الأساس السادس شكل الحكم الإسلامي.. فيعرِّفه ب ـ «رعاية شؤون الأمَّة طبقاً للشريعة الإسلاميَّة»، ثم يوضِّح المهام التي تتطلَّبها الدَّولة الإسلاميَّة.

وبعده يعرض شكلين للحكم الإسلاميِّ: الشكل الإلهي، وهو يعني حكم الفرد المعصوم، والشكل الشوري، وهو حكم الأمة.

وفي الأساس السابع: يبيِّن كيفيَّة تطبيق الشكل الشوري في ظروف الأمَّة المعاصرة.

ويتطرَّق الأساس الثامن لتبيان الفرق بين الأحكام والتَّعاليم في الشَّريعة الإسلاميَّة، فينصُّ على أنَّ الأحكام هي تلك التشريعات الثابتة التي بنيت في الشريعة بدليلٍ من الأدلَّة الأربعة: الكتاب، والسنَّة، والإجماع، والعقل.

ولا يجوز في هذه الأحكام أي تبديل أو تغيير؛ لأنها ذات صيغة محدَّدة وشاملة لجميع الظروف والأحوال.

أمَّا التَّعاليم، فهي قوانين الدَّولة التَّفصيلية وأنظمتها التي تقتضيها الدُّستورية لظرف من الظروف، ولذا فهي قوانين متطوِّرة تختلف باختلاف ظروف الدَّولة.

وأخيراً، في الأساس التاسع ينصُّ على استثناء مهمَّة بيان أحكام الشريعة وتعيين القضاة من مهام الحكم التي يتطلَّبها قيام الدَّولة الإسلاميَّة.

هذه هي خلاصة، أو قل، فهرست لمحتويات الأسس الإسلاميَّة التسعة التي تسنَّى للباحثين الوقوف عليها، ومن ثم نشره.

مركزها القانوني‏

قلت – في ما سبق‏-: لم تُوضع أصول للدستور الإسلاميِّ قبل هذه الأسس كي يسير المقننون له على هديها وفي ضوء نتائجه.

ذلك أنَّ جُلَّ الدُّول قديماً لم تعتمد الدستور المكتوب، وإنما كانت تأخذ بما يعرف بالدُّستور العُرفي غير المكتوب، «ويُعتبر الدُّستور الأمريكي (عام 1787) أوَّل الدساتير العصريَّة المكتوبة»‏[3].

وقد سبقت مرحلة تدوينه دراسات لأسس القانون وأصوله، تلك الدِّراسات التي اتخذت -بعد ذلك‏- طابع العلم الذي اصطلح عليه ب ـ «علم أصول القانون»، وعرّف حديثاً بأنَّه «العلم الذي يتَّخذ من القانون الوضعي موضوعاً له، فيبحث في ما يحكمه من أصول كليَّة ونظريات مشتركة بين القوانين الوضعيَّة المختلفة»‏[4].

وهو «من ابتكار العصر الحديث بعد أن مرَّ بمرحلتين اجتازهما في تطوُّره:

المرحلة الأولى بدأت في منتصف القرن السادس عشر.

وقد انحصرت خلالها مباحث هذا العلم في نطاق مصادر القانون وفكرة العدل الطبيعي التي تمتدُّ جذورها إلى الفكر الإغريقي.

وأما الثانية فقد افتتحها الفيلسوف الألماني كانت (1724 ـ 1804م) الذي وضع أسس الفلسفة الوضعيَّة ونهج بها نهجاً عقليَّاً نفذ من خلاله إلى البحث في القانون وأصوله.

وقد تتابعت بعد ذلك الدِّراسات في أصول القانون على يد العلماء الإنكليز والألمان الذين كانوا السبَّاقين في تطويره»‏[5].

ولم يكن لدى المسلمين التَّفكير في تدوين دستور إسلاميِّ للدَّولة الإسلاميَّة القائمة، خلال المدَّة الممتدَّة من القرن الأوَّل الإسلامي حتى عصرنا هذا، للأسباب التي أشرت إليها، ولم يكن لدينا ما يماثل أصول القانون.

أما الآن، وقد وضع غير دستور إسلامي لغير دولة إسلامية هي: الجمهوريَّة الإسلامية في إيران، والمملكة العربية السعودية، والجمهورية السودانية، أصبحت الحاجة ماسة لوضع علم لأصول الدستور الإسلامي تكون هذه الأسس الإسلاميَّة مركزه ومحوره الذي تدور حوله وتنطلق منه، ليأخذ هذا العلم مكانه ومكانته في مجالات الدِّراسات القانونيَّة وحقوله.

من هذا نتبيَّن أيضاً مدى أهميَّة هذه الأسس وتاريخ ريادة الشَّهيد الصَّدر لهذا العلم؛ حيث يعدُّ (قدِّس سره) الرَّائد الأوَّل له.

موقعها التاريخي‏

وهذه الأسس -كما رأينا في أعلاه‏- تُعَدُّ الأولى في مجال وضع علم أصول الدستور الإسلامي أو قل «علم أصول القانون الشرعي».

وبتعبير مختصر: هي أوَّل أصول مدوَّنة للدستور الإسلامي.

سرّيتها

وقد يقال: إذا كانت هذه الأسس بهذا المستوى من الأهميَّة لماذا لم تأخذ شهرتها في الوسط القانونيّ على الأقل؟!

وإجابةً نقول: إنَّ هذه الأسس -كما ذكرت في سبب وضعها- كتبت لتكون أصولاً للدُّستور الإسلاميِّ الذي كان يُزْمَعُ وضعه عندما تقوم الدَّولة الإسلاميَّة في العراق، ولأن حركة الدَّعوة الإسلاميَّة التي كانت تتبنَّى هذه الأسس هي في مرحلتها السرية كان كل ما يمتُّ إليها بصلة سريَّاً، ومنها هذه الأسس.

وبعد استشهاد السَّيِّد الصَّدر وانتقاله إلى الرفيق الأعلى، وقيام بعضهم بالكتابة عنه والتأليف في سيرته، خرجت هذه الأسس من سرِّيتها ونشرت مع بعض النِّتاج العلمي لسيِّدنا الصدر (قدِّس سره).

وحيث لم تعد هذه الأسس -الآن‏- سرَّاً، كان لا بدَّ من تعريفها وإعطاء صورة مصغَّرة وواضحة عنها، لتكون تمهيداً لدراسات أعمق وأشمل تنتهي في خاتمة المطاف إلى وضع علم كامل لأصول القانون الشرعي.

منظومتها القانونيَّة

أَعني بالمنظومة القانونية التي تعدُّ الأسس الإسلامية واحدة منها: مجموعة المعارف والتَّشريعات الإسلاميَّة التي توضع وتشرَّع بغية تنظيم الحياة الإسلاميَّة بمختلف أنماطها الفكريَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسِّياسيَّة.

وهي تترتَّب، من حيث التسلسل التدرجي، وفق الجدول الهرمي التالي:

يقوم هذا الجدول الهرمي على أساسٍ من أنَّ الإسلام مبدأ (عقيدة وشريعة).

وأنَّ العقيدة هي نظرة فلسفيَّة عن الكون والحياة والمجتمع والإنسان.

وهي -أعني العقيدة- القاعدة التي يقوم عليها وتنبثق عنها كل المعارف والتشريعات الإسلاميِّة.

فمنها – في البدء- تنبثق أصول الدستور الإسلامي التي ينبثق عنها ويقوم عليها الدستور الإسلامي.

وقد غطّى السيِّد الصدر الفكر العقيدي بكتابه «فلسفتنا».

وفي «الأسس الإسلاميَّة» وَضَعَ الأصول للدستور الإسلامي.

وحيث لم يأت الظرف الذي يفرض وضع الدستور توجَّه إلى دراسة ما يعرب عن المذهب الاقتصادي الإسلامي؛ فصدر عنه كتاب «اقتصادنا» الذي غطَّى به هذا الجانب، وكان في صدد الكشف عن المذهب الاجتماعي الإسلامي في ما كان ينويه من تأليف كتاب بعنوان «مجتمعنا»، ومن بعد ذلك يؤلف في المذهب السياسي الإسلامي.

وذلك كلّه لكي تكون هذه الكتب الإطار أو القاعدة التي تقوم عليها وتتحرَّك داخل محيطها القوانين والأنظمة.

فالمنظومة -إذاً- تضمُّ:

1ـ العقيدة، وقد أعدَّ لها كتاب «فلسفتنا».

2ـ أصول الدستور، وتمثَّلت في «الأسس الإسلاميَّة» التي هي موضوع حديثنا هذا.

3ـ الدستور، ولم يقدر له أن يوضع؛ لأنه لم يأت الظرف الذي يفرض وضعه.

ولكن -والحمد للَّه‏- لدينا الآن دستور الجمهورية الإسلامية في إيران الذي وضع وفق فقه أهل البيت (عليهم السلام). وهو تجسيد حي للدُّستور الإسلامي الذي كان الشَّهيد الصَّدر يهدف إلى وضعه، بل لقد رسم خطوطه العريضة والتفصيليَّة في ما كتبه تحت عنوان: «لمحة فقهيَّة تمهيديَّة عن مشروع دستور الجمهوريَّة الإسلاميَّة في إيران»، فهذا الكرَّاس يُعدُّ النّواة الأساسيَّة لمشروع الدستور الإيراني الذي وضع في ما بعد، لأنه عرض فيه وجهة نظره في نظام الحكم الإسلامي بنوع من التفصيل جاء ليتمم ما عرضه في الأسس الإسلامية، لقد انتهى السيِّد الصَّدر من كتابة هذه اللمحة في 4 شباط 1979م، أي قبيل الانتصار الأخير للثورة الإسلامية، وبالتالي فقد هيأ للثورة مقترحات وصيغ قانونية ودستورية مكتوبة، لمفهوم الدَّولة الإسلامية، لذلك فقد عُدَّت اللمحة إحدى المخططات الأولى لدستور الجمهوريَّة الإسلاميَّة، ولأهميتها فقد ترجمت إلى الفارسية مباشرة بعد كتابته.

وعند المقارنة بين ما جاء فيها وبين بنود الدستور الإيراني في صيغته النهائية، نجد هذا الدستور قد اقتبس الكثير من هذه اللمحة الفقهية التي كشفت عن الصورة الكاملة للدولة الإسلاميَّة في الفقه الإسلامي، والتي تقوم على مبادى أساسيَّة أهمها، كما جاء في اللمحة:

1ـ لا ولاية بالأصل إلاَّ للَّه تعالى.

2ـ النِّيابة العامَّة للمجتهد المطلق، العادل الكفؤ عن الإمام وفقاً لقول إمام العصر(عج): «وإن الحوادث الواقعة..».

3ـ فكرة أهل الحلِّ والعقد التي طُبِّقت في الحياة الإسلاميَّة، والتي بتطويرها على النحو الذي ينسجم مع قاعدة الشورى، وقاعدة الإشراف الدستوري من نائب الإمام، إلى افتراض مجلس يمثِّل الأمة وينبثق منها بالانتخاب..

ومن الأمثلة على اقتباس الدستور الإيراني من لمحة السَّيِّد الصَّدر، كذلك، نجد مثلاً أنّ البند الأوَّل من المادَّة الثانية في الدستور يؤكِّد: «أنّ الجمهوريَّة الإسلاميَّة نظام مبني على الإيمان بولاية اللَّه..». وفي المادة (56) نجد أنَّ «السيادة المطلقة على العالم وعلى الإنسان هي للَّه، فهو يمنح الإنسان حق السيادة على قدره الاجتماعي..». وهذه المبادى أشارت إليها اللمحة بوضوح كما ذكرنا. كذلك هناك التأكيد على دور الفقيه المفسر والوصي على الشريعة، فقد جاء في المادة الخامسة من الدستور: «في زمن غيبة الإمام المهدي تكون ولاية الأمر إمامة الأمَّة بيد الفقيه العادل..». وأكَّد السيِّد الشَّهيد على قانونيَّة الحكومة وتقيّدها بالقانون، وخضوع الحاكم والمحكوم للشريعة والقانون، وهذا ما أشارت إليه المادة (112) من الدستور عندما نصّت على أن: «يتساوى القائد وسائر أعضاء مجلس القيادة أمام القانون، شأنهم شأن أي مواطن آخر في البلد..». كذلك نجد أوجه أخرى للتشابه في مجال الفصل بين السلطات ومقترحات السيد الصدر حول إنشاء مجلس شورى، وإجراء الانتخابات التي سيختار فيها الشعب مباشرة نواباً للمجلس ورئيساً للجمهورية، يقول السيِّد الصَّدر: «السُّلطة التَّشريعيَّة والسُّلطة التَّنفيذيَّة قد أسندت ممارستهما إلى الأمَّة، فالأمَّة هي صاحبة الحق في ممارسة هاتين السلطتين بالطريقة التي يعيّنها الدستور..». وهناك أمثلة أخرى كثيرة تظهر التوافق بين ما كتبه الشهيد الصدر في اللمحة الفقهيَّة وبين ما جاء في بنود الدستور الإيراني، لذلك لا بدَّ من الرجوع لدراسة أصول الدستور الإيراني إلى ما جاء في هذه اللَّمحة التي جاءت جواباً كتبه الشَّهيد الصَّدر لبعض علماء لبنان الذين كانوا يرغبون في معرفة المزيد عن طبيعة نظام الحكم الإسلامي، والدَّولة الإسلاميَّة التي بدأ الإمام روح اللَّه الموسوي الخميني ينادي بقيامها في إيران آنذاك.

وما يتفرَّع عن هذا الدستور الإسلامي الإيراني من قوانين وأنظمة ولوائح تمثِّل الحلقة الأخيرة من هذه المنظومة.

ويبقى منها -كما هو واضحٌ من الجدول المذكور- ما يوضح المذهب السياسي الإسلامي والمذهب الاجتماعي الإسلامي اللذين يمكن استخلاصهما من الفكر الإسلامي السِّياسي والفكر الإسلامي الاجتماعي.

وأرجو أن يوفق لذلك من هو أهلٌ لذلك.

وأخيراً: إن هذه المنظومة، بما صدر منها عن قلم أستاذنا العظيم الشَّهيد السَّيد محمَّد باقر الصَّدر (طيب اللَّه ثراه)، تعدُّ الإضافة الأهم للفكر الإسلامي بعامَّة وفقه أهل البيت بخاصَّة.

وبها يرتفع السَّيد الصَّدر إلى مصاف العباقرة الذين تركوا بصماتهم واضحة خالدة في مجال الفكر الفقهي والقانوني.

شهرته العالميَّة

وبما صدر من هذه المنظومة جاءته شهرته العالميَّة التي تعدَّت نطاق الحوزة العلمية في النجف الأشرف وربوع العالم الشيعي والعالم الإسلامي غير الشيعي، لأن يعدُّ -وبحق‏- من المفكرين العالميِّين.

الدكتور عبد الهادي الفضلي[1]

مجلّة المنهاج / 17

[1] أحد أبراز علماء المنطقه الشرقيه في السعودية، و استاذ جامعي في جامعتي المللک عبد العزيز في جدَّة و الجامعة الإسلامية في لندن.

[2] كان هذا رأيه في البدء، ثم عدل عنه إلى القول بولاية الفقيه المطلقة.

[3] موسوعة المورد: مادة (constitution).

[4] علم القانون والفقه الإسلامي للدكتور سمير عالية، ص 9، نقله عن المدخل لدراسة القانون والشريعة الإسلامية للدكتور عبد الباقي البكري، 1/5.

[5] م.ن. 10.