توطئة
حينما أزمع على الحديث عن الصدر يأسرني الشعور بالعرفان، وتسرح الأفكار بالمتعلم الصغير بين أرجاء عالم رحيب ملأها معلم جيلنا بآيات العلم، وتوّجها بأخلاقية الأفذاذ والتزامات الأنبياء والمصلحين.
واعتقادي أن السياحة الحرة والمنظمة في أرجاء مدرسة السيد الشهيد تتيح للباحث فرصة يستطيع من خلالها أن يوضح للعالم والتاريخ المضمون الحقيقي لبرامج المعلم الكبير بآفاقها ومفرداتها وهو كذلك ـ أي التفكير الحر المنظم ـ المنهج المنسجم مع طريقة تفكير الشهيد وهذا ما يتبين لنا عبر هذا اللقاء الذي نحاول أن نسلط الضوء فيه على الملامح العامة لمدرسة السيد الصدر الفلسفية.
وبدأ السيد الشهيد مع الفلسفة والمنطق منذ صباه وواكبهما وهما يواكبانه حتى استشهاده… كتب وأبدع فيهما خلال مراحل استغرقت أربعين عاماً من عمر حافل بالحركة ومتسم بالنبوغ ولأجل أن تتضح الصورة الحقيقية لمدرسة وبرنامج أصيل قدمه المعلم الشهيد…
واستهدافاً للتعرف على ملامح الأصالة العبقرية من خلال عطاء السيد الشهيد كان لزاماً أن نواكب الصدر وهو يبتدئ مع الفلسفة ويتفاعل مع تياراتها ونقف عنده وهو يحلل مدارسها ويحدد مواقع التهافت والفشل في معالجتها لننتهي معه وهو يبني معالم مدرسة لها خصائصها المتميزة وأقفها الخاص ويغني الفكر العقيدي الاسلامي بطرح جديد.
1 ـ بدايات السيد الشهيد مع الفلسفة:
وتحدد هذه المرحلة زمنياً بالفترة منذ صباه حتى نهاية العقد الثالث من عمره رضوان اللّه عليه.
نشأ السيد الشهيد في بيئة علمية ذات رسالة، ولما يبلغ العقد الأول من عمره اطلع على عطاء هذه البيئة، وهضم مبادئ العلم فيها، فتفهم المنطق الأرسطي، وقواعد علم الكلام واطلع على تراث أهل البيت (عليهم السلام) كذلك توجه للتعمق الأساسي في دراسة علم أصول الفقه. والمطلعون على البحث الأصولي يعرفون مقدار التلاقح الكبير بين علم الأصول والمنطق ونظريات الفلسفة.
إذن، اتجاهات متعددة ـ لكل خصوصيته وتوجهه ـ كان لها تأثير على حركة الفلسفة في فكر الصدر.
لنلقي نظرة سريعة على خصوصيات هذه الاتجاهات :
أ ـ الاتجاه الاصولي :
تمثل بالجهد المتواصل والمبدع لعلماء الأصول في أبحاث فلسفة اللغة أولاً وبالأساس المنطقي لتكوين العلم في مباحث القطع والظن ثانياً وبالبحوث الأصولية الأخرى التي لابسها الكثير من مباحث الفلسفة كموقع العقل العملي من التشريع ونظرية الوجود والانتزاع وما إلى ذلك، وكان لعلماء الأصول دور كبير في تطوير هذه المباحث وتتويجها بنتائج يبقى فضلها مسجلاً لمدرسة علم الاصول.
وفي هذا الجو الحر عاش المعلم الشهيد وسجل نبوغاً تاريخياً لعلمأ هذه المدرسة.
ب ـ اتجاه الفلاسفة المسلمين:
رغم التأثير الذي كان لأرسطو على فلاسفة الإسلام فإن هناك اتجاهاً مستقلاً ومتميزاً نستطيع أن نسميه بـ (الفلسفة الإسلامية) التي تمثلت بجهود فلاسفة الإسلام على أساس التفكير الحر المجرد في قضايا الوجود والعالم، وما يتبعهما من أبحاث فرعية أخرى. عشق السيد الشهيد منذ شبابه فكر (صدر الدين الشيرازي) وتبنى نظريته في الحركة الجوهرية، وارتبط السيد الشهيد بالشيرازي واتجاهه الذي اتسم بالنبوغ والإبداع وبالتحول الموفق في استيعاب المدرستين المشائية والإشراقية بأفق صدر الدين الكبير.
ج ـ اتجاه علم الكلام:
الذي تمثل بجهود المطلعين على أبحاث الفلسفة والذين حاولوا الدفاع عن العقيدة الإسلامية بسلاح المنطق والفلسفة.
د ـ الاتجاه الارسطي:
أشرنا إلى أن جهود الفلاسفة المسلمين ظفرت في بناء مدرسة تخصهم، واستطاعوا إلى حد كبير أن يتخلصوا من تأثيرات فيلسوف اليونان الكبير.
ولكن بقي أرسطو في هذا الوسط عملاقاً بمنطقه وقياسه وتفسيره لأساس المعرفة البشرية والمعروف أن السيد الصدر بدأ حياته مع التأليف في كتاب ناقش المنطق الارسطي خلاله ولم ير هذا الكتاب النور.
ويبدو من هذا أن الشهيد ابتدأ حياته مبكراً مع أرسطو وكانت بدايته ايذاناً بنـزال طويل مع شيخ المناطقة.
هـ اتجاه مدرسة أهل البيت:
مفردات هذا الإتجاه تتمثل بالتراث الروائي الضخم الذي تركه لنا أئمة هذه المدرسة كما يتمثل بالمواقف والرؤى التي طرحها رجال هذه المدرسة في تحديد وتوجيه البحث العقائدي.
والجدير بالذكر أن أهم خصائص هذه المدرسة كان رسالتها في الحياة وشعارها (البحث الفلسفي في خدمة قضايا الإنسان) فنجد عزوفاً عن البحث العقيم وتوجهاً ملحوظاً لتطبيع البحث الفلسفي المشبع بمناخ اليونان المجرد بمناخ يتقرب لخدمة قضايا الحياة البشرية. ضمن هذه التوجهات المختلفة طوى المعلم الشهيد بدايات حياته الفلسفية، وقد استطاع السيد الصدر تثبيت أساس نظرياته في مطلع العقد الثالث من عمره حيث تبلور لديه خلال هذا السن المبكر أفق مدرسة واضحة، وأفلح بعبقرية نادرة في تنقيح الاصول الفكرية لفلسفة سوف يطلق عليها بعد حين فلسفة الصدر.
وتجد أصول الشهيد الفكرية وابتكاراته مثبتة خلال ما تبنى من نظريات في علم أصول الفقه.
2 ـ الصدر ناقد فلسفي:
في نهاية العقد الثالث من عمر المعلم الشهيد تفرغ لدراسة نظريات الفلسفة الحديثة فاحتك بديكارت، وكانت، وهيجل، والتقى بفكر هيوم وجون ستيوارت مل، والمناطقة الوضعيين وانكب على استيعاب الماركسية والمنطق الديالكتيكي.
وفي هذه المرحلة شرع السيد الشهيد في كتابة أول انتاجاته الفلسفية المنشورة، وكانت (فلسفتنا) كتابه الذي عرف به في الأوساط الإسلامية العالمية.
وعبر هذا الكتاب ناضل السيد الشهيد من أجل طرح منهج في دراسة العقيدة، وقارع مدارس التفكير ومناهج البحث غربية وشرقية، وليثبت من وراء كل هذا النضال الخط الإلهي في التفكير بقضايا العالم.
وبين دفات هذا الكتاب تلاحظ التتبع الواسع والنظم الفكري كما تجد الإجتهاد المبدع واللمحات المشيرة لمختارات الشهيد في نظرية الوجود والحركة، وتلاحظ القدرة الفائقة على تحديد مواطن ضعف الخصوم بروح الباحث الموضوعي.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن معالجة الشهيد في فلسفتنا لأصول المعرفة البشرية تأثرت إلى حد بجو أرسطو المسيطر على المنطق.
ولم يقف الصدر كناقد عند حدود فلسفتنا التي كتبها للدفاع عن العقيدة وصد الهجمة الأجنبية على المبادئ والأفكار الإسلامية، بل تستمر حركة الناقد الأصيل باتجاه إعادة النظر في عطاء التفكير الغربي ليغور في أعماق أضخم إنتاج انتهى إليه المنطق الغربي، ويبدأ في فتح صفحة جديدة من تاريخ الفكر الإسلامي والتي أطلق عليها رحمه اللّه (مرحلة التصدير).
3 ـ مرحلة التصدير في فكر السيد الشهيد…
في بداية عقده الرابع توجه الشهيد لدراسة الأساس المنطقي لتكوين العلم دراسة شاملة ومستوعبة: نتائج هذه الدراسة بالذات كانت واضحة في فكر الشهيد خلال ما تبناه من نظرية في فهم أساس العلم والظن في البحث الاصولي.
انكب على دراسة البرهان الارسطي، واطلع باستيعاب وعمق على نظريات المنطق الحديث في الإستقراء وأساسه المنطقي (حساب الإحتمال) فأوضح خلال الأسس المنطقية للإستقراء تهافت نظرية البرهان الأرسطية، كما عالج بنبوغ أخطاء التفكير الغربي في تفسيره لنظرية الإحتمال. وقدم بالتالي نظرية متكاملة في تفسير حساب الإحتمال أقام على أساسها بناء متكاملاً لفهم جديد لنظرية المعرفة البشرية بكامل تفاصيلها.
فثار على أرسطو في بيئة تقدس نظرية القياس الأرسطية، وهضم قمة الإنتاج الغربي واقفاً على نقاط الضعف في تفكير أساتذة المنطق الحديث أمثال راسل، وكينـز، وأعطى للبشرية طرزاً جديداً من التفكير، قال وهو يؤدي مضمون رسالته في عصر العلم :
((إما أن يقبل العلم، ويقبل أساسه المنطقي والذي هو أساس الايمان، وإما أن يرفض العلم والإيمان…))
آخر ما كتبه في مجال الفلسفة…
عكف السيد الشهيد في أخريات أيامه على كتابة بحث مفصل ومنهجي لدراسة العقيدة الإسلامية وللسيد رأي في المنهج الكلامي ـ قال لي رحمه اللّه يوماً:
إن لدي اشكالاً أساسياً على التفكير الكلامي بأسره…
ويلوح لي أن المعلم الشهيد أراد لعلم الكلام روحاً ومنهجاً، روحه المعاصرة والرسالية ومنهجه البحث الموضوعي الحر بعيداً عن العقم الجدلي الذي ابتليت به أغلب الدراسات الكلامية. فهو مع منهج أهل البيت في تسخير الفلسفة لخدمة قضايا الإنسان وهو مع الأفق الرحيب في مواكبة الأجيال، وحرية الفكر.
نظرة عامة لمدرسة المعلم الشهيد…
ماذا تعني المدرسة الفلسفية؟
المدرسة في الفلسفة تعني استقلالاً في التحقيق حول مشكلات الفلسفة وخروجاً بنتائج في نظرية المعرفة والوجود ـ وما إلى ذلك.
وللسيد الشهيد مدرسة مستقلة وأصيلة في عالم الفلسفة أغنت الفكر البشري بنتائج خصبة على صعيد نظرية المعرفة، كما أوضحت ذلك أبحاث ((الأسس المنطقية للإستقراء)).
ومدرسة غنية بالنتائج والآفاق والإنسجام في نظرية الوجود كما نلاحظ ذلك عبر آرائه المبثوثة في ثنايا الأبحاث الأصولية.
وفوق كل ذلك فإن السيد الشهيد فيلسوف متعدد الجوانب، فله في فلسفة التاريخ بحث ونظرية، وله في فلسفة اللغة نظام واجتهاد ورأي…
السيد عمار أبو رغيف