أسئلة الذكرى والواقع الفكري الراهن

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

1_ مقومات الإحياء الفكري وشروطه

منذ سنة 1980م ونحن نحتفي في نيسان من كل علم بذكرى رحيل المفكر الإسلامي الفقيه الشهيد السيد محمد باقر الصدر، إلا أن السؤال الذي ما يزال يجبهنا بعد أكثر من عقد من رحيل الصدر، هو: هل استطعنا أن نوفر _ على الصعيد الثقافي من الذكرى _ صيغة للإحياء الفكري تنسجم مع عطاء هذا المفكر، وما يحمله من معالم مدرسية في اتجاهات الفكر الإسلامي؟

يحتاج السؤال قبل الإجابة عنه إلى قسطٍ من الإبانة والتوضيح، وهذا ما ينتهي بنا إلى تفكيك السؤال الأصلي إلى ثلاثة أسئلة فرعية، هي:

أولاً: هل اكتسب الصدر موقعه اللائق على الخريطة الفكرية داخل العالم الإسلامي وبين صفوف الفكر الإنساني العالمي؟

ثانياُ: هل تمَّ استنفاد التركة الفكرية للصدر كاملة لما يخدم توظيفها في حركة الوعي الإٍسلامي، ولما هي جديرة به من مكانةٍ في الصرح العام للفكر الإسلامي المعاصر؟

ثالثاً: هل قمنا بمراجعة دقيقة وواضحة لفكر الصدر في مسار الفكر الإسلامي من جهة، وحاجات المسلمين الفكرية الفعلية من جهة ثانية، لتتوفر لدينا رؤية واضحة في مواصلة ما يجب مواصلته من بدايات وآفاق، واستئناف الجهد في مناطق الفراغ وما أكثرها الآن في حياتنا الفكرية والثقافية، خصوصاً بعد التحولات العظيمة التي شهدها الواقع الإسلامي إبان العقد والنصف العقد الأخير؟

قد يعيد بعض ترتيب طرح الأسئلة وقد يضع بعض آخر صياغات جديدة، إلا أنَّ الحقيقة التي يجب أن تلتزم الإعلان عنها بصراحة فائقة، هي أنه لم يُبذل لحد الآن الجهد الفكري الذي يتناسب مع موقع الصدر وفكره برغم كثرة الضجيج الذي يلهب الحماس ويكاد يغطي حتى على تلك المبادرات الفردية ذات الطابع الفكري الجاد التي ظهرت خلال السنوات الماضية.

ومن نافلة القول أن الحوار النقدي مع فكر الصدر ومنهجه لا يزال مهمة مؤجلة ومسكوتاً عنها، طالما بقيت الأسئلة آنفة الذكر في حيز الانتظار. فالقراءة النقدية الواعية المنفتحة هي مهمة لا تتوقف على توافر الشروط الموضوعية المناسبة وحدها، وإنما تحتاج إلى مقدمات وبذل جهود فكرية تأتي بموازاة الشروط الموضوعية.

وطبيعي أن أثارت هذا المقال لا تزعم أنها تملك القدرة على النهوض بمهمة عجز واقعنا الثقافي والفكري عن الإيفاء بها خلال أكثر من عقد ونصف من السنوات، بل غاية ما يرمي إليه (المقال) هو أن يحرك بعض السواكن ويثير الانتباه من خلال تركيزه على وقائع ومقارنات وشواهد مختارة تتسق مع الإجابة التي ننتظرها عن الأسئلة الثالثة، أو تقع على الأقل في أفقها.

عالمية الفكر والمفكر

كون الصدر لم يكتسب بعد موقعه اللائق على خريطة الفكر داخل العالم الإسلامي.. هذه حقيقة لا نحتاج إلى الاختلاف عليها قدر ما نحتاج إلى تحليلها تحليلاً موضوعياً مستوعباً، لنفهمها ونحاول أن نوفر البواعث الكافية لتجاوزها.

صحيح أن هناك أسباباً تعود إلى دواعي الإقصاء السياسي والإلغاء على أساس الانتماء المذهبي[1]، حيث تحرص اتجاهات فكرية وأنظمة وقطاعات معروفة على حجب أسم الصدر من خلال الإعلان عن انتمائه إلى المدرسة الفكرية لمذهب أهل البيت عليهم السلام، ومن خلال الإشارة إلى موقفه السياسي المعارض لنظام صدام حسين العلماني من جهة والمؤيد من جهةٍ ثانية للنظام الإسلامي في إيران[2]. إلا أن هذه الدواعي لا تلغي مسؤوليتنا بقدر ما تؤثر على تقصير مسعانا الثقافي في التعريف بهذه الشخصية الفكرية الفذة في إطار رؤية منهجية واضحة.

أما بعض الامتداد الذي حظي به الصدر على نافذة الفكر العام في العالم العربي والإسلامي فقد كان يعود في الكثير من مظاهره إلى تأثيرات فردية وعفوية، وهو على أي حال لم يكن في جلّه بل ربما في كله ثمرة لتخطيطنا ولمسعانا الثقافي، بل ولد بعيداً عنا، ولم نحسن التعامل معه، لأننا بصراحة لم نعرف الكثير منه.

ولا شك في أن حادث الكويت وما ترتب عليه من تقلبات في العلاقات السياسية وَفر مناخات ساهمت إلى حد بعيد في الامتداد باسم الصدر إلى صفوف الوعي العام، دون أن يتبع ذلك من جانبنا سعي حقيقي لترسيخ هذا الحضور وتعميقه، وإرسائه على أصول صحيحة ثابتة.

أما على صعيد مفكري العالم ومسار الفكر العالمي، فإن الصدر ما يزال في الهامش أسوة بأقرانه ومن سبقه من علماء المسلمين وفقهائهم ومفكريهم. فمن ناحيتنا لم نبذل جهوداً، ولم نوفر أبسط مقتضيات التعريف بمفكرينا، و الامتداد بوجودهم الفكري إلى أفاق الدنيا. فما نزال مثلاً عاجزين عن عقد حلقة فكرية ندعو إليها بضعة عشر مفكراً من بلدان العالم لمناقشة جانب أو أكثر من مساهمات الصدر والطباطبائي وأضرابهما، وما نزال _ وهذا مثال أتعس ! _ تعوزنا حتى هذه اللحظة، الترجمات الكفوءة لفكر هؤلاء، وبذلك فإن الامتداد بمفكرينا عالمياً ما يزال أُمنية تراود أذهاننا دون أن تشحذ همتنا لتوفير شروطها الموضوعية، حتى تخرج من دائرة الأمنية إلى دائرة العمل.

صحيح إن الامتداد الفاعل يحتاج إلى تكافؤ في العلاقة بين المسلمين والغرب، والتكافؤ لا يتوقف بدوره على شروط الإبداع الفكري والنباهة الثقافية وحدهما، وإنما يحتاج إلى أرضية متقدمة على أكثر من صعيد، بيد أنَّ الصحيح أيضاً أن في العالم اليوم الكثير من القنوات التي يمكن أن ننفذ منها ونوظفها لما يخدم حضورنا، كما تبقى الثغرات موجودة في أشد النظم إغلاقاً ومركزية، ثم لماذا نذهب بعيداً وأمامنا تجربة بعض مثقفي العالم الثالث وأدبائه ممن توفرت لهم فرص الامتداد العالمي رغم إن بلدانهم لا تملك من الطاقات والقدرات أكثر مما نملك، وليس لها من أبنائها _ خصوصاً المتعلمين وذوي القابليات _ المنتشرين في أرجاء العالم، مثلما لأبناء الجالية الإسلامية العراقية. وبعد ذلك فإن الغرب ليس كل العالم.

إن من يملك إرادة العمل يستطيع أن يفتح أمامه الآفاق، وبمقدوره أن يستخدم أدنى ما يتوفر له من قدرات، إذ لا أحد ينكر أن أقلاماً عربية وإسلامية استطاعت أن تنفذ إلى واجهات الفكر والثقافة في عواصم العالم بكفاءاتها وبحسن تخطيطها، دون أن ننكر أن مسألة الامتداد والشهرة العالمية على صعيد الفكر والثقافة، كانت وما تزال عُرضة للمزايدات السياسية والدعائية، وهي تخضع في مواقع مهمة منها لنفوذ مؤسسات ومراكز تنحاز سلفاً ضدها.

إننا نعرف جيداً أن المواقع التي نعنيها أسقطت معنى عالمية الفكر والمفكر في معايير تافهة مبتذلة، فأصبح كاتب كسلمان رشدي عنواناً للامتداد العالمي، بل ربما تحول مغنٍ أو سينمائي وحتى عارضة أزياء لا تملك من مقومات الشهرة سوى الجمال، إلى عنوان للامتداد العالمي يغزو الإذاعات والصحف، ويتجاوز ذلك للنفوذ إلى حياة شبابنا ووعهم وبيوتهم دون أن يحسن صياغة جملة فكرية واحدة.

ونعرف لهذه المؤسسات أيضاً نفوذاً في تلميع أسماء لا تستحق عنوان شهرتها العالمية، كما فعلوا وما يزالون مع الشاب الياباني المتأمرك فرانسيس فوكوياما صاحب كتاب “نهاية التأريخ ومصير الإنسان” رغم أن كتابه لا ينطوي على إبداع فكري ونظري عميق، وإنما يخدم أهداف الحضارة الغربية ويفر لها المزيد من التحكم العالمي.

في التدليل على هذا المتاع السقط في انحدار معايير العالمية في الفكر والمفكر وسقوطها في هوة مربعة يكتب مفكر إسلامي معاصر حين يتحدث عن الصدر مفكراً عالمياً: “ربما يسقط البعض في التفاهة أو في السهولة فيعطون هذا اللقب لبعض الأسماء المشهورة التي تشتغل بعالم الفكر والكتابة وهي لا تستحق بالتأكيد هذا اللقب، وإنما تكون الشهرة راجعة لوسائل الدعاية العصرية التي نعرفها، ولشركات العلاقات العامة التي نعرف تأثيرها الواسع النطاق في هذا العصر”[3]. ثم ينعطف إلى الصدر بعد أن يحدد لعالمية المفكر معايير، فيقول: “من هذا المقياس نعتبر السيد محمد باقر الصدر وأمثاله مفكراً على مستوى عالمي، ولا يؤثر في الحقيقة كونه لم يكن ي نطاق نضام سياسي يخدم شهرته، وكونه لم يملك الوسائل العالمية التي تخدم شهرته، إذ المهم أنه أعطى فكراً أصيلاً يعبر عن شخصية أمته، وعاش حياة ملتزمة بهذا الفكر وختم هذه الحياة بأعلى مستوى للالتزام بهذا الفكر، وهو مستوى الشهادة”[4].

ومع ذلك كله _ المصادرات والإلغاء والحصار _ نحن نملك الثقة الكاملة بطاقاتنا الفكرية، ونعرف أن لدينا الكثير ممن يستحق لقب المفكر العالمي، إلا أن ما نفتقد إليه هو الإرادة الكافية للعمل، وإذا توفرت الإرادة  فقد لا تتوفر الرؤية الدقيقة الناضجة للامتداد بهؤلاء عالمياً مما يُساهم في إثراء الفكر الإنساني.

وليست قضية المفكر السيد الصدر هنا سوى مثال على هذا اللون من المعاناة، وما تكشف عنه من تقصير فاضح رغم وفرة الإمكانات والفرص المناسبة أحياناً، بل وبرغم وعينا للعقبات أيضاً!

استنفاد التركة الفكرية

سنُقصي جانباً التراث الأصولي والفقهي للسيد الصدر ونتعامل فقط مع الجانب الفقهي، لنختار نافذة واحدة نطل عبرها على أحد كتبه.

ففي مطلع السبعينات أصدر الصدر كتابه “الأسس المنطقية للاستقراء” وبرغم مرور ربع قرن على صدوره، ورغم مرور ما يزيد على العقد ونصف العقد على غياب مؤلفه شهيداً، إلا أننا ما نزال لا نملك إزاء هذا الكتاب إلا إن نردد مع الشيخ محمد مهدي شمس الدين قوله: “هو كتاب أعتقد أنه لم يُكتشف حتى الآن”[5] ومع مفكر معاصر آخر وهو يكتب ما ترجمته: “يحوي كتاب الأسس المنطقية للاستقراء أبدع الأفكار والابتكارات الفلسفية للشهيد السيد محمد باقر الصدر، وهو إلى ذلك من أحلى ثمرات ذهنه الوقاد وعقله الباحث المبدع، وما نستطيع أن نقوله بجرأة هو أن هذا الأثر يمثل أول كتاب يصدر من يراع عالم وفقيه مسلم طوال التأريخ الإسلامي يتناول واحدة من أهم المسائل المصيرية في “فلسفة العلم” والمنهج المعرفي العلمي، تعاطاها المؤلف ببصيرة وإحاطة كاملة ترافقت مع عقل وآراء حكماء (فلاسفة) الشرق والغرب والتعامل معها نقدياً. وفي الوقت نفسه ما يزال “الأسس المنطقية” هو أكثر كتب هذا العظيم خفاءً وعدم شهرة، فهو ما يزال مجهولاً خفياً لا يعرف أسمه ولا قدره رغم أنه ترجم إلى الفارسية”[6]. ولا أحسب أن حظ هذا الكتاب في الساحة العربية أوفر من حظه في الساحة الفارسية.

إن حديثنا عن “الأسس المنطقية للاستقراء” الذي هو من أبرز مؤلفات الصدر يشبه الحديث عن ألغاز أسفار صدر الدين الشيرازي وحكمته المتعالية، إذ ما زلنا رغم ما يفصلنا من قرون عن زمان تأليف الفيلسوف الإٍسلامي لأسفاره وحكمته المتعالية، نعيش مرحلة الغزل الخجول بأفكار صدر الدين الشيرازي عن “الحركة الجوهرية” ونتداول إِشارات عنها وعن بقية مقولات هذه المدرسة، أوضحها وأكثرها شيوعاً هي أقرب إلى الألغاز منها إلى الأفكار الكاملة؛ وكأن تأليف كتب ثقافية عامة تتوفر على شرح الأفكار المعقدة وبيانها هو من المعجزات بالنسبة لنا.

إن في ذهن كل واحدٍ منا مثالاً أو أكثر حول هذه الحالة، التي تعكس وجهاً من أوجه الأزمة التي تعيشها ثقافة الفكر الإسلامي في وقتنا الراهن.

لقد أراد الصدر لكتابه “الأسس” أن يحقق للفكر الإسلامي نقلة كبيرة على طريق العالمية والمبادأة بالهجوم بدلاً عن حال الدفاع أمام اتجاهات الفكر الغربي. وبتعبير أحدِ أكبر مثقفي العالم العربي ومفكريه: “وجدت الأنا هويتها في “فلسفتنا” و”قتصادنا”، من أجل التركيز على خصوصياتها في مواجهة الآخر، وفي نفس الوقت تنقد ثقافة الآخر الذي قام بإثبات طرفٍ وإنكار طرف آخر في الأسس المنطقية للاستقراء”[7].

بيد أن الذي حصل _ كما تدل أغلب مؤشرات الواقع إلا من إستثناءات قليلة _ أن الإسلاميين أنفسهم عجزوا عن الاستفادة من هذا الأثر، فكيف بتسويق معطياته إلى ساحة الفكر الإنساني!

وفي الواقع إن كتاب “الأسس” هو مجرد مثال، إذ مشكلة عدم استنفاد التركة الفكرية للسيد الصدر تمتد لتشمل الكثير من نواحي الإبداع الفكري والمنهجي في آثاره، إذ ما تزال المساعي تشهد تقصيراً كبيراً على هذا الصعيد.

الموقف الفكري الراهن

لكل مرحلة من حياة المسلمين، ولكل حقبة فيها لون خاص من ألوان التحدي الفكري المضاد، وبالتالي لها أدواتها ووسائلها، التي قد يمتد بعضها ويشترك مع مراحل أخرى، وقد يُهمل بعضها الآخر أو يعاد النظر فيه، فيما المعركة مستمرة.

فعندما سقطت دولة الخلافة العثمانية بوصفها آخر رمز للكيان السياسي الموحد للمسلمين، صعدت في منطقتنا فعالية تيارات العلمنة والتغريب التي اشتغلت في مُوازاة المخطط السياسي الذي ارتكز على مبدأ التجزئة وفقاً لما قرره أقطاب النظام العالمي إنذاك في خريطة سايكس _ بيكو.

ومع النحول الذي أعقب انتصار الثورة الإسلامية في إيران بدت دعوات العلمنة والتقريب مرفوضة في أدائها الفاقع المباشر، فظهرت الحاجة إلى تخطيط آخر يحق هدف التخريب الفكري في أوساط المسلمين دون أن يستخدم الأداء المباشر، ومن غير أن يصدم الوعي وأن يضع المبضع على الجسم الإسلامي مرة واحدة؛ بل وشاء لنفسه أن يستخدم اللغة الإسلامية، ويرفع شعاراتها، ويتمرس في طرح مفاهيم الإسلام حتى كأنه يلبس من الألوان ما يكاد يتطابق في النظرة الظاهرية  مع اللون الإسلامي الأصيل. (تنظر مثلاً “إسلاميات” محمد آركون وهشام جعيط وحسين مروة والجابري وأخيراً شحرور ونصر أبو زيد وأضرابهم).

لقد بدأنا نوجه في العقد ونصف العقد الأخير اطروحات بعضها جديد والآخر منها قديم، بيد أنه مدعم بتقنية معرفية جديدة. لذلك فإن التواضع من ناحية، والاستبصار بالأمور من ناحية ثانية، يدعونا إلى عدم المبالغة في الجهود السابقة  بما فيها كتاب “الأسس المنطقية” مجمل الجهود الفكرية للسيد محمد باقر الصدر والشيخ المطهري وأضرابهما، وما يقع في دائرة الإنتاج الثقافي قبل التحولات الأخيرة.

وما نحتاج إليه قبل أن تأخذنا الاتهامات من كل صوب، هو أن نفكك عناصر هذه الرؤية ونعاين مكوناتها بهدوءٍ وتروٍ من دون انفعال واتهام وصخب لنصل إلى المعطيات التالية:

الأول: أن جهود المفكرين الإٍسلاميين قبل منعطف الثمانينات كانت منصبة _ في جانب المواجهة الفكرية _ على شبهات الأعداء الفكريين للأمة في تلك المرحلة.

ثانياً: طرح قيام الدولة الإسلامية واستئناف الكيان السياسي للمسلمين في الإقليم الإيراني، قضايا جديدة تركز من خلالها خط الهجوم الفكري، حتى أننا لا نكاد نشهد حركة عميقة وجذرية بعمق وجذرية الضغوطات الفكرية الراهنة على وعي المسلمين وقضاياهم، وبالتالي وجودهم. ومع ذلك فهناك من الاشكالات والشبهات ما لا يزال مستمراً ومشتركاً في مضمونه ومحتواه بين المرحلتين ومثل هذه الاشكلات تنفع في مواجهتها الكتابات السابقة، الأمر الذي يتطلب إعادة طبعها أو الإشارة إليها، أو إعادة كتابتها.

ثالثا: ثمة مجموعة من الاشكالات والشبهات والإثارات لم يعد يكفي فيها الاستشهاد بكتابات ملك بن نبي وسيد قطب وعبد القادر عودة ومرتضى مطهري ومحمد باقر الصدر ومحمد حسين الطباطبائي ومحمد مهدي شمي الدين ومحمد حسين فضل الله وغيرهم من الرموز والأقطاب على أهمية ما كتبه هؤلاء وقيمة معالجاتهم.

فهؤلاء لم يواجهوا في بعض ما كتبوا، أو في الكثير منه _ على درجة تختلف تبعاً لاختلاف المعالجات _ قضايا مثل تلك التي بات الوعي الإٍسلامي يواجهها اليوم في إثارات الجابري وآركون ومروة وتيزيني وشحرور وشرابي وأبو زيد وزكريا وجعيط وعشرات أمثالهم. ولم تكن معالجاتهم تقترب بعمق من اشكاليات الإنعتاق والتنمية والتغيير والاستقلال الحضاري والهوية والعلاقة مع الغرب وما إلى ذلك.

فما تحتاج إليه إذاً لمواجهة هذا التيار موجة جديدة من الكتابات الإسلامية التي تتوفر على عمقٍ وإحاطة كاملين في مواجهة الأفكار والمناهج الجديدة التي تختبئ خلف دعوات التجديد والاجتهاد ونقد العقل وتأويل النص، وتركن وراء عناوين العقلانية والقراءات المتكاثرة لـ “التراث” بغية إعادة تطويعه بما يوائم متطلبات العصر، أو الدخول في قطيعة معه كشرط للحداثة والدخول في العصر، إلى آخر ما هناك من لافتات وعناوين في الساحة الفكرية والثقافية من حولنا!

رابعاً: في الحال التي لم يتعرض فيها المفكرون الإسلاميون _ في أعمالهم الفكرية السابقة _ إلى الأسئلة والاشكالات التي أثيرات جديداً، نستطيع أن نستفيد من أعمالهم من غير منظور النقطة الثانية التي وقفنا عليها قبل قليل، ذلك بأن نوظف مناهجهم وطرقهم في مواجهة الخصوم الفكريين.

بمعنى أننا نستطيع أن نستثمر منهج الصدر أو بعضه في مناقشة الماركسية، ونوظفه في معالجة التيارات والنزعات الجديدة. أو أننا نستطيع أن نطور بعض البدايات في أعمال هؤلاء الرواد في مواجهة اطروحات مضادة جديدة، بالإفادة من عدتهم المنهجية وأدواتهم في هذا المضمار.

بمثال واضح، لا أحد ينكر القيمة الفائقة في عمل المرحوم محمد محمد حسين في كتابه المهم “حصوننا مهددة من داخلها” ولا أحد ينكر قيمة معالجة محمد البهي في “الفكر الإٍسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي”، وبالتالي فإن إمكانية الإفادة من هذه الأعمال ما تزال قائمة على أساس استثمار معلوماتها وعدتها المنهجية في المناقشة، والثابت المستمر من نتائجها، ثم مواصلة معالجاتها بشكل متصاعد مطرد يستكمل ما بدأته هي من خلال استيعاب الحلقات الجديدة في أعمال الهجوم الفكري المضاد.

خامساً: ما يزال الكثير من أعمال الإسلاميين ونتاجاتهم الفكرية قبل الثمانينات، يملك _ إضافة إلى قيمته الذاتية بوصفه إنجازاً في حركة الثقافة والفكر الإسلامي _ قيمته الفائقة في تربية الأجيال الجديدة على الإسلام، وتعريفها بمرحلة مهمة من مراحل الحياة الثقافية الإسلامية وما واجهته.

فمن واجبنا أن نعترف هنا بأن حركة الفكر الإسلامي في طورها الراهن، وحاجة الأمة إلى الثقافة، لا يمكن أن ينحصرا في نطاق الحديث عن حركة التغريب الفكري والاتجاهات المضادة، وأن كان من المناسب أن نولي هذا الجانب ما يستلزمه من الاهتمام القائم على أساس التقدير الصحيح لمخاطره.

التجاوز والتواصل

في ضوء الملاحظات آنفة الذكر نحتاج إلى تحديد معيار سليم للتعامل مع الرصيد الفكري لمفكرينا لا يضعنا في دائرة المبالغة والتمجيد الفارغ بحيث تتعطل الهمم ويتباطأ الإنتاج الفكري، ولا ينأى بنا عن روح الإنصاف بحيث نبخسهم أشياءهم ونهمل إبداعاتهم، ونزويهم في دائرة محلية أو مذهبية ضيقة.

والذي يبدو أن أحد ثوابت هذا المعيار هو حاجتنا لتطبيق آلية التجاوز والتواصل؛ حيث نتجاوز ما لا نحتاج إليه ونواصل ما نحتاج إليه، لنضمن استمرارية الفكر الإسلامي وديمومة مساره.

ومن الطبيعي أننا لا نستطيع تطبيق مبدأ التجاوز والتواصل إلا على أساس الاستنفاد الكامل لإنتاج مفكرينا، والأستبصار الدقيق بحاجة واقعنا، كي لا يتملكنا إحساس وهمي فارغ بالاكتفاء.

ثم أن حركة الفكر وإنتاج الثقافة الإسلامية لا تقتصر على جانب مواجهة التحديات الفكرية، بل هناك متطلبات أخرى للفكر على صعيد البناء والتغيير الداخلي في مجتمع الدولة الإسلامية وخارجه، إضافة إلى ما تتطلبه أطر الدولة مما يستدعي توافر رؤية متكاملة تأخذ بحسابها ما ترك لنا مفكرونا من آثار، وما ينبغي أن نشحذ الهمة لإنتاجه سداً للفراغات.

وحين نصل إلى هذا المستوى سيكتسب المفكر الراحل السيد الصدر وأضرابه من مفكرينا مواقعهم اللائقة في وعينا ووجودنا.

2_ الدراسة المقارنة.. مجالات مقترحة

من الضروري أن يتوفر الفكر الإسلامي على ممارسة دراسات مقارنة بين الأفكار والرموز والتيارات التي تتعايش في داخل مساحته، ومع الذكرى السنوية لاستشهاد الفقيه والمفكر الإسلامي السيد محمد باقر الصدر، تكون الحاجة ماسة لممارسة هذا اللون من الدراسة الفكرية، لما فيها من فوائد جمة تعود بالنفع على المحصلة الأخيرة لمسار هذا الفكر.

بديهي أن الدراسة المقارنة لو أنجزت بجدية ستقودنا خطوة إلى الأمام نحو ممارسة النقد الذي يعد اليوم حاجة ماسة لواقعنا الإسلامي، وإذا أخذنا الدراسة المقارنة من جهة كونها ضرب الرأي بالرأي، فأنها ستولد لنا الصواب أو تقربنا منه، وتحقق لنا وضوحاً أشد ورؤية أوفر نقاءً وأشد تماسكاً من غيرها.

ومن معطيات الدراسات المقارنة داخل فكر المدرسة الإسلامية، هو ما توفره لنا من حوافز لمعاينة الواقع على نحوٍ أفضل، حيث تجعلنا نتحسس، ولو بقدر حاجات الواقع، ونقاط الفراغ التي لا زالت كثيرة فيه، وهي تستدعي الملء دون تأخير. ثم هناك التفاعل والخصوبة وقدرتهما على إمداد مسارنا الفكري بثراءٍ يسوق إلى التكامل.

ومع السيد الصدر الذي يمثل عنواناً عريضاً وكبيراً، قد يغلب على مرحلة كاملة وربما يتجاوزها، تأتي نتائج الدراسات المقارنة أوفر عطاءً. والذي نراه أن الفكر الإسلامي سجل تخلفاً كبيراً في هذا اللون من الممارسة الفكرية، رغم أن العطاء الفكري للسيد الصدر يُهيئ أرضية ممتازة لممارسة هذا الضرب من ضروب الفكر، إذ لم نلمس خلال عقد ونصف مر على استشهاده سوى لمحات خاطفة تمثلت في دراسات مقارنة قليلة أطلت في مدد زمنية متفاوتة.

بديهي أن الدخول في لجة الدراسات المقارنة يحتاج إلى مقتضيات وشروط، وإذا أردنا أن نجعل المدرسة الفكرية للشهيد الصدر مداراً ومنطلقاً، فإن تنشيط هذا المدار يحتاج بين أبرز ما يحتاج إليه، إلى:

أولاً: إحاطة كافية بالمدرسة الفكرية للشهيد الصدر واستيعاب عطاءاته في مختلف ضروب المعرفة الإسلامية.

ثانياً: استيعاب الزمن الثقافي الذي مارس فيه الصدر نشاطه الفكري، والتوفر على متابعة دقيقة لشروط المرحلة في رموزها وتياراتها، فالعقدان اللذان قدم خلالهما الشهيد الصدر أوج عطاءاته الفكرية، شهدا أيضاً _ في الساحة الفكرية في العراق وفي غيرها _ بروز أسماء لامعة أخرى، منها في الساحة الفكرية الإيرانية كمثال السيد محمد حسين الطباطبائي والشهيد مرتضى مطهري، ثم الكثير من الأسماء والتيارات التي ساهمت في إغناء حركة الفكر خلال هذين العقدين، بحيث لازال زخم ذلك العطاء لم يستنفد في بعض عناصره حتى اللحظة. وما هو مطلوب استيعاب كل ذلك تفصيلاً.

ثالثاً: دراية بالواقع الراهن، ذلك أن الذي يأخذ على عاتقه ممارسة الدراسة المقارنة إنما ينطلق من حاجات واقعة، هادفاً إلى تفحص حاجاته وإغناء مساحات الفراغ فيه وسدها عبر ما ينتج من تفاعل الآراء وتلاقحها.

وبطبيعة الحال يُعيننا البحث المقارن، على أن نصل إلى تقدير أدق لما يجب أن نستأنف العمل به، وما يجب أن نواصله، وما يجب أن نؤسس له من جديد، لأنه يضع أيدينا على ما نملك من أرصدة، فلا نبذل عندئذٍ جهوداً جديدة في مجالٍ طرقته أقلام كفوءة فيما سبق، وإنما نتجه بدلاً من ذلك لملء مساحات الفراغ وسد الثغرات وإكمال النواقص وما أكثرها، أخيراً من معطيات البحث المقارن أنه يوفر زخماً فاعلاً لدفع مسار الفكر الإسلامي قُدما بحيث لا يقف عند اسمٍ معين، مهما كان تأثيره عميقاً ونافذاً.

مجالات مقترحة

قد يتساءل البعض عن المجالات التي يمكن أن يطرحها البحث المقارن، وطبيعة نقاط الاشتراك أو الافتراق بين المدرسة الفكرية للسيد الصدر والاتجاهات والمدارس والرموز الأخرى، والذي نراه أن بمقدور الباحثين أن يقترحوا مجالات عمل واسعة على هذا الصعيد، وما نقدمه في هذا المقال هي مدارات وجيزة مقترحة قابلة للبحث والنقاش بما يعزز متانتها ويقود إلى نضجها، مشيرين في الوقت نفسه إلى بعض الدراسات التي أنجزت حول بعضها مما قدر لنا الوقوف عليه. وفي هذا المجال يمكن ملاحظة الحقول التالية:

أولاً : نظرية الثابت والمتغيّر

يمكن للباحث المقارن أن يتقصى هذه النظرية بين استخدام الشهيد الصدر لها في المجال الفقهي، واستخدام الآخرين لها في المجال نفسه. وقد تكون أغنى دراسة في هذا السياق هي تلك التي تتوفر على الإحاطة برؤيتي الصدر والطباطبائي والمقارنة بينهما، لأن السيد الطباطبائي يعد أقدم من طرق الموضوع خلال العقود الأخيرة، وقد تناوله في أكثر من بحث وكتاب باللغتين العربية والفارسية.

وكامتداد لمدرسة الطباطبائي يمكن أن نتحدث عن رؤية الشهيد مطهري عن الفكرة ذاتها ثم ما كتبه عنها جوادي آملي. ثم يمكن إغناء البحث بعد ذلك بإدخال رؤية الإمام الخميني إلى حيز الدراسة، وجملة الآراء الجديدة التي دخلت حيز الفكر الإسلامي بعد أن مارس الإسلاميون تجربة التطبيق في مدار الدولة.

والذي لاحظته من خلال دراسة تمهيدية عن الفكرة، أن ثم التقاء كبيراً بين الصدر والطباطبائي في المحاور الأساسية لفكرة الثابت والمتغير من الأحكام الشرعية، إذ كلاهما يذهب إجمالاً إلى أن الأحكام الشرعية الثابتة والكاملة (التي لا تمس) هي أحكام الشريعة وحدها. وحين نقول إن الإسلام جاء بأحكامٍ كاملة وثابتة فالمقصود من ذلك أحكام الشريعة، ولكن إلى جوار ذلك ثمة أحكام متغيرة يختلف الصدر والطباطبائي جزئياً في التنظير لها على مستوى الملاك والممارسة وحدود الممارسة.

لا أظن أن هناك من يختلف معنا على أهمية هذا الموضوع في مثل الظرف الراهن الذي تمر به التجربة الإسلامية فكراً وممارسة.

فلو شئنا أن ننظر إلى المسألة من جهة معينة، لوجدنا أن التيار العلماني دفع الكثير من شبهاته وصاغ الواسع من أفكاره من خلال مسألة الثابت والمتغير هذه، حتى حول إلى إِشكالية نظرية سجالية لا ينتهي الحديث عنها.

ولو أردنا أن نعطي لمحات سريعة لتاريخية طرح التيار العلماني لها خلال العقود الأخيرة، لوجدنا أن أفضل من قدمها في صياغة نظرية متماسكة هو د. محمد النويهي في سلسلة مقالات نشرها مطلع السبعينات في مجلة الآداب، جمعت بعدئذ وصدرت بكتاب _ مرجع يحمل عنوان “نحو ثورة في الفكر الديني”[8].

والملاحظ أن محمد النويهي ألهم الكثيرين من بعده، وتحول كتابه إلى مرجعية يستمد منها الرموز الآخرون في التيار العلماني. لذلك لا غنى للرؤية المقارنة من أن نأخذ إثارات هذا الكتاب الذي تحول إلى اتجاه، بنظر الاعتبار، مضافاً إلى الاشكالات الجديدة التي دخلت الساحة من زاوية دعوة الإسلاميين إلى تطبيق الشريعة.

أما إذا أردنا أن ننظر إلى المسألة من زاوية تطببيقية ترتبط بالتجربة العلمية الراهنة في الجمهورية الإسلامية، فسنجد أن الدراسة المقارنة في هذا المجال تحمل فوائد كثيرة، خصوصاً إذا أخذ الدارس آراء الإمام الخميني (الأحكام الأولية والأحكام الثانوية، صلاحيات الفقيه ولي الأمر، دور الزمان والمكان في الاجتهاد المعاصر، تبلور الفقه المقاصدي وأخيراً موقع وتأثير مجلس تشخيص المصلحة) والآراء الخصبة الأخرى التي أفرزتها الممارسة والجهد النظري أيضاً على هذا الصعيد.

وكآخر حدث له دِلالته الخصبة في هذا المجال هو المؤتمر الذي عقد أخيراً في مدينة قم لبحث المباني الفقهية للإمام الخميني انطلاقاً من النظر إلى دور المكان والزمان في الاجتهاد. إذ سجلت أفكار الشهيد الصدر ورؤاه في هذا المضمار حضوراً كبيراً عبر جميع المدارات العلمية للمؤتمر؛ في الكلمات التي ألقيت وفي البحوث التي كتبت، وفي الدراسات التي نشرتها المجلات في أعدادها الخاصة. وكانت الإطلالة على مدرسة الشهيد الصدر في هذا المجال، تنطلق من رؤيته لمنطقة الفراغ تارة، وتنطلق تارة أخرى من نظريته في الثابت والمتغير، أو من الأفكار التجديدية التي تحملها مدرسته حول تطوير الممارسة الفقهية كي يخرج الاجتهاد من إطاره الفردي إلى الإطار الاجتماعي، ويؤخذ البعد الاجتماعي في فهم النص، وبالتالي يدخل الزمان عنصراً ملموساً في الممارسة الفقهية.

وما يمكن أن نسجله باطمئنان هو أن الحضور المكثف لأفكار الشهيد الصدر في هذا المؤتمر العلمي المهم، يمكن أن يشكل مادة لدراسة مستقلة قائمة بنفسها.

ثانياً: نقد منهج الفقه الفردي

اهتمت مدرسة السيد الصدر بنقد منهج الفقه الفردي، ودعت إلى إنشاء ممارسة فقهية تندك بالواقع وتتماس مع قضايا المسلمين ومشكلاته الراهنة[9]. وقد ألهمت مدرسة الصدر الكثير من الباحثين المهتمين بالموضوع، بحيث تحولت أفكار الصدر النقدية إلى رقم له حضوره الثابت في دراسات هذا الحقل. وقد كان شيئاً لافتاً للنظر أن يتوفر ناقد إيراني أصدر أخيراً كتاباً نقدياً للفكر الديني أثار الكثير من النقاش، على أن يجعل فكر الصدر أساساً لنقده لمنهج الفقه الفردي، من بين مناهج نقدية أخرى أتى على ذكرها[10].

أما حيز الدراسة المقارنة فيمكن أن يتم بين السيد الصدر وبين الشيخ مطهري والإمام الخميني، وكذلك يمكن أن تدخل في حيز الدراية بعض اللمحات الدالة والرؤى النقدية للشيخ محمد جواد مغنية.

ولكن بمقدور الباحث أن يعطي دراسته خصوبة نظرية كبيرة إذا أخذ بنظر الاعتبار الرؤى النقدية التي أفرزتها الساحة الإيرانية لمنهج الفقه الفردي، حيث حفلت هذه الساحة بدراسات واسعة على هذا الصعيد بلغ بعضها مئات الصفحات[11]. ومن الطبيعي أن تعود نتائج هذه الدراسة بفوائد نظرية ومعطيات علمية مهمة تُساهم في حل بعض إشكالات الواقع الإسلامي الراهن، وهو يواجه مسألة تفقيه الحياة بكل سعتها وشمولها، ومع كل التعقيد الذي تنطوي عليه.

وجدير بأية دراسة جادة أن تأخذ بنظر الاعتبار أبرز العناصر التجديدية في مدرسة الصدر، ومن بينها تأكيده على البعد الاجتماعي في فهم النص كما أشار لذلك من خلال إشادته بكتاب المرحوم الشيخ محمد جواد مغنية “فقه الإمام الصادق”. ثم تركيزه الكبير على ضرورة فقه الواقع ووعيه والإحاطة به أثناء الاشتغال على النص، بما أفرزته المعرفة الإنسانية من معطيات كما تحدث عن ذلك في محاضراته التفسيرية وتأكيده على فقه النظرية بدلاً من الفقه الفردي، وفقه النظرية هو محصلة لتطورين أحدهما يطال منهجية الممارسة الفقهية، والآخر يأخذ بنظر الاعتبار تطورات العصر وضرورة أن ينهض الاجتهاد بـ “تمكين المسلمين من تطبيق النظرية الإسلامية للحياة والتطبيق” لا يمكن أن يتحقق ما لم تحدد حركة الاجتهاد معالم النظرية وتفاصيلها[12] “كما ينص الصدر”.

ومن العناصر البارزة التي تدرج بين بقية العناصر الاهتمام الذي أولاه الصدر لأثر الزمان والتحولات الحضارية وهو ما يمكن أن يدخل في عنصر فقه الواقع وإدراكه ووعيه.

ومن العناصر الجديدة بالعناية هي اعتناء الصدر بمسألة التطبيق وقيام الدولة، على حركة الفقه والتفقيه، كما أشار لذلك أولاً وبصورة منهجية في كتاب “اِقتصادنا” أثناء حديثه عن المقدمات التمهيدية في تأسيس أو اكتشاف المذهب الاقتصادي في الإسلام، حيث ميَّز في هذه المهمة بين مجالين؛ بين أن يتم الاكتشاف في إطار تجربة إسلامية شاملة تطبق الإسلام بكامله، ومن بينه الجانب الاقتصادي، وبين محاولة تريد أن تطبق المذهب الاقتصادي في إطار حياة المسلمين العادية خارج نطاق وجود نظام سياسي إسلامي، أي بعيداً عن حاكمية الإسلام الشاملة، المهم في هذا العنصر هو الوعي الذي أولاه الصدر لقضية التطبيق وقيام الدولة كمنعطف حاسم له مدخله الكبير في الممارسة الفقيه وطبيعة التكييفات التي تخرج بها هذه الممارسة، ثم عاد إليه في محاضرات التفسير وبحوث “الإسلام يقود الحياة”.

أخيراً ربما دخل التمييز الذي أقامه الشهيد الصدر بين الفهم الذاتي والفهم الموضوعي لدى الفقيه وهو يمارس الاجتهاد، وطبيعة التحليل الذي أبانه في هذا المضمار، وطبيعة العوامل التي ذكرها، في عداد العناصر البارزة التي يجب الانتباه إليها في الكتابة عن هذا الجانب من مدرسة الصدر، خصوصاً وأنه عاد إلى هذا الجانب في تقريرات بحثه الخارج، بصيغة لها مساس بقضية قراءة النص وفهمه والظهورات المستلهمة منه.

ثالثاً: التجديد في النبوة

من البحوث النظرية التي بلورها الفكر الإٍسلامي في العقود السابقة، هي تقديم صياغات تنظيرية لتفسير ظاهرة التغيير والتجديد في النبوة، إلى أن انتهى المسار بالنبوة الخاتمة، وفي دراسة تمهيدية مقارنة عن الموضوع لاحظت أن أربعة من كبار رموز الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر تناولوا الفكرة. إذ توفر عليها إقبال في بحث من بحوث كتابه “تجديد الفكر الديني” وكذلك مر عليها السيد الطباطبائي في بحثٍ خاص، ثم فصل بها مطهري في كتاب مستقل. أما السيد الصدر فقد كان تناولها في بحث مستقل طبع ضمن كتاب “أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف”.

الدراسة المقارنة بين الصدر والطباطبائي وإقبال ومطهري تنطوي على خصوبة كبيرة وتكشف للباحث نتائج مهمة على صعيد تطور الفكر الإسلامي وتداوم أشواطه.

رابعاً: منهج التفسير الموضوعي

من المعطيات التي يقف عليها الدارس لمدرسة الصدر الفكرية، هي ارتباط أسمه بمنهج التفسير الموضوعي. صحيح أن فكرة هذا المنهج موجودة قبل هذا التاريخ بكثير، إذ عرضتها الدراسات الأوربية الحديثة ونظرت لها منهجياً، كما عرفتها الدراسات الإسلامية أيضاً. بيد أن المهم هي الصياغة التي قدمها السيد الصدر وخصوبة الأمثلة التطبيقية التي ساقها على هذا الصعيد.

ففي مجال الدراسات القرآنية بالذات، سبق الشيخ جعفر سبحاني من إيران الدعوة إلى اعتماد هذا المنهج وممارسته في تفسير القرآن، ثم أصدر كتباً عديدة تحت هذا العنوان. أما الشيخ ناصر مكارم الشيرازي فقد تجاوز الدعوة إلى المنهج ولم يكتفِ بها، بل مارسه بالفعل عبر تفسيره الموضوعي[13].

وما هو مطلوب أن يتوفر الدارس على بحثٍ تحليلي مقارن بين منهج الصدر والمناهج الأخرى، لكي تنضج الممارسة القرآنية في هذا الحقل، وحتى يتم الانصراف إلى المنهج الأجدى الذي يتصل بواقع المسلمين أكثر من سواه، وإلا فالدعوة إلى المنهج الموضوعي لتفسير كتاب الله ليست ضرباً من الترف النظري أو المنهجي، بل تمليها حاجة ماسة، والمطلوب أن تنكشف عبر البحث المقارن أكثر السُبل نفعاً وجدوى من بين المناهج المطروحة.

خامساً: الفقه السياسي

في الواقع هُناك لمحات من الفقه السياسي أنتجه الشهيد الصدر قبل رسائله الأخيرة حول الدولة الإسلامية، التي طبعت بعنوان “الإسلام يقود الحياة”.

فأدبيات حزب الدعوة الإٍسلامية تشير إلى أن الشهيد الصدر هو الذي كتب نشرة “الأسس” وفيها لمحات من فكره السياسي حول الدولة والحكومة.

والذي يبدو من بعض الدراسات المقارنة كتلك التي أنجزها السيد محمد باقر الحكيم في كتابه المهم عن النظام السياسي، إن فكر الصدر شهد تحولاً أو تطوراً في مجال الفقه السياسي حتى استقر أخيراً عند الآراء، التي يمكن استخلاصها من رسائله الأخيرة التي سبقت استشهاده.

وفي كل الأحوال، فأن حيز الدراسة المقارنة يمكن أن يشمل مقارنة بين أفكار الصدر والطباطبائي والإمام الخميني، ثم يتحول البحث المقارن إلى منعطفٍ أعمق إذا قدِّر للباحث أن ينجز دراسته على أرضية الاتجاهات الجديدة، التي برزت ونمت في الساحة الإيرانية غداة انتصار الثورة الإسلامية.

على الصعيد العلمي يمكن أن نشير إلى دراسة السيد محمد باقر الحكيم في كتابه عن النظام السياسي[14]، كما لاحظت أن الشيخ عباس عميد زنجاني يذكر آراء الصدر في موسوعته الكبيرة عن الفقه السياسي[15]. وثم دراسة أكاديمية صدرت أخيراً عن نظريات الدولة في الفقه الشيعي المعاصر، مارس فيهما كاتبها الشيخ محسن كديور النهج المقارن بين الصدر وبقية أصحاب النظريات، بعد أن أشار في الرتبة الأولى إلى المعالم الأساسية لنظرية الصدر في الفقه السياسي[16].

وفي صالة ندوة “الثورة الإسلامية: الخلفيات والجذور” قدم أحد الباحثين الإيرانيين تحليلاً وافياً عن آثار الفكر السياسي للشهيد الصدر في بنية الدستور الإيراني والهيكلية السياسية للدولة، ثم أعقب ذلك بدراسة ثانية عن الفكر السياسي للشهيد الصدر بمعناه العام[17].

وعن مفهوم الدولة في فكر الشهيد الصدر قدم الباحث عقيل سعيد دراسة موسعة عن الموضوع بمقدوره أن يتقدم فيها خطوة إلى الأمام من خلال المقارنة بينه وبين بقية أصحاب النظريات في العقود الأخيرة[18].

سادسا: المجتمع والتأريخ

هذا حقل ثري يقود في حال التوفر على إنجازه، إلى نتائج خصبة. فالفكر الإسلامي طرق موضوع المجتمع والتأريخ كثيراً، وحاول أن يقدم صياغته لعناصر الرؤية الإسلامية على هذا الصعيد. على سبيل المثال ثم للسيد الطباطبائي رؤية في الموضوع وللشيخ مطهري دراسات واسعة (أكثر من كتاب) وأخيراً صدرت دراسة واسعة للشيخ محمد تقي مصباح اليزدي، وكتابات لباحثين آخرين.

وبالتالي بمقدور البحث المقارن أن ينطلق من أرضية صلبة تهيئ له الوصول إلى نتائج مكثفة على هذا الصعيد. والشيء الجميل أن نجد في القريب العاجل مُبادرة _ أو أكثر _ تتحرك بمنهج البحث المقارن لدراسة رؤية الفكر الإٍسلامي للمجتمع والتأريخ من خلال الأعمال الفكرية للأسماء المشار لها، وأسماء أخرى ساهمت في إثراء الفكر الإسلامي في هذه الدائرة.

بديهي أن المنهج السنني الذي تحدث عنه الصدر وصاغ قواعده يدخل هو الآخر في مجال هذه الدراسة، بل يمكن مد حقل المقارنة كي يشمل مساهمات ثرية أخرى شاركت بجد في إثراء المنهج السنني خصوصاً وأن حقل الدراسات الإسلامية يبدو أنه حقق تقدماً ملموساً في هذا المضمار.

ويمكن للدراسة في هذا الجانب أن تكتسب بعداً أكثر جذرية وخصوبة إذا شاءت أن تنحدر إلى البدايات في ثقافة الفكر الإسلامي. إذ يمكن أن نكون أمام دراسة شاملة للمنهج السنني تبدأ بتعريفه وتمييزه عن المنهج الغيبي، وربما استطاع الباحث في هذا الحقل أن يكتشف أساساً فلسفياً أو كلامياً للمنهجين (السنني _ الغيبي) فيما هي عليه أنماط التفكير لدى المسلمين (الاتجاه الأشعري، الاعتزالي، الشيعي). ثم تتناول الدراسة في فصل استعراضي سريع تأريخ هذا المنهج (السنني) في كتابات الإسلاميين. وإن كانت المشكلة هنا أننا لا نملك أوضح من أبن خلدون وقبله أبن الأزرق وابن مسكويه مما يملي على الباحث أن يبذل جهداً في الاستقصاء والبحث، ربما قاده إلى اكتشافات جديدة في تأريخ الفكر الإسلامي.

في خطوة تالية، وهي الأهم ينتقل البحث إلى الفكر الإسلامي الحديث فيما احتواه من عناصر هذا المنهج لدى رموز من قبيل محمد إقبال، محمد عبده، عبد الحميد بن باديس (في تفسيره) عبد الحميد صديقي، ثم تأتي بعدهم المرحلة المعاصرة ومن رموزها مالك بن نبي، عماد الدين خليل، مرتضى مطهري، جودت سعيد، الطباطبائي علي شريعتي، وكل من له مساهمة جادة في مضمار المنهج السنني.

لا تقتصر الدراسة التي ننتظرها على الاستعراض رغم ما للاستعراض من أهمية وما يبعث به من خصوبة، بل من الضروري أن تقف على دواعي ظهور المنهج السنني وبواعث تطوره، ثم الحقول التي ظهر بها، وهي فيما نعتقد ثلاثة (حقل القرآن، المجتمع، التاريخ) لتنقل على أرضية هذه المقدمات جميعا هذه جميعاً إلى المنهج السنني لدى الشهيد الصدر، ونقارن بينه وبين من سبقه، ثم نختم بالإشارة إلى المعطيات الراهنة لهذا المنهج على صعيد:

أ _ حركة التفسير القرآني.

ب_ حركة التغير الاجتماعي

ج _ الوضع الحضاري لحال الأمة بين التصور الغيبي والدخول في معترك الواقع.

مقاصد دراسة مثل هذه يمكن أن تتمثل بما يلي:

1_ الاحتفاء الواقعي بفكر الصدر وتكريمه.

2_ ربط فكر الصدر بالمسار العام للفكر الإسلامي.

3_ إثارة الحافز النقدي وتنشيطه عبر النهج المقارن.

4_ تقويم الحصيلة عبر مفهوم التواصل والتجاوز أي ترك ما لم نعد الآن بحاجة إليه، وتأكيد ما نحتاج إليه ومواصلته.

5 _ إعطاء القيمة العلمية لهذا المنهج من خلال بلورة معطياته في حقل الدراسات القرآنية والفكر الاجتماعي والتاريخي.

سابعاً: المرجعية والدرس الحوزوي

للشهيد الصدر مشروع تجديدي للمرجعية الشيعية، كما له تصور لتطوير منهج الدرس الحوزوي تجلت واحدة من خطواته البارزة في ثلاثيته عن علم الأصول. وفي مجال المرجعية تشتهر عنه أطروحة “المرجعية الرشيدة” كما له رؤية حول “الرسالة العلمية” وتطويرها بما يحقق صدق تسميتها حيث تكون “عملية” بالفعل من حيث أسلوب الأداء، والمحتوى الذي يجب أن يتصل بحاجة الإنسان المسلم المعاصر، لا أن تبقى رسالة المرجع اللاحق استنساخاً مع تطوير طفيف لرسالة المرجع السابق.

وهذه العناصر يمكن أن تخضع لبحث مقارن يبدأ باستعراض مشاريع الإصلاح المرجعي والحوزوي خلال العقود الأخيرة، ويتوقف عند أسماء لامعة ربما كان أبرزها في محيط حوزة النجف الأشرف الشيخ محمد جواد البلاغي، والشيخ كاشف الغطاء، والشيخ محمد رضا المظفر، وثمة لمحات للشيخ محمد مهدي شمس الدين. كما يمكن للدراسة أن تلتحم في أفق البحث المقارن في حوزة مدينة قم، وبدأت خيوطها الأولى ربما مع الشيخ عبد الكريم الحائري فالسيد البروجردي، ثم الأفكار المهمة والجريئة للشهيد مطهري، هذه  الأفكار التي انطلقت بصيغة مشروع جماعي بعد وفاة البروجردي، كان من أركانه مطهري، الطالقاني، بهشتي وغيرهم كما تكشف محتويات كتاب خاص عن المشروع[19].

وبمقدور الدراسة أن تنتقل بعدئذ إلى معالم التجديد في مشروعها الإمام الخميني، هذا المشروع الذي آمن به آية الله السيد علي الخامنئي ونهض به بجرأة ومثابرة، وهو يواصل السير فيه على نهج جميع رواد الإصلاح فيما كانوا يطمحون إليه من تجديد في المرجعية والاجتهاد والحوزة.

ثامناً: الحقل الفلسفي

لا يمكن أن ننصاع لنظرةٍ ساذجة تصادر بعض جوانب الفكر الإسلامي بهذه الحجة أو تلك، كما يفعل البعض مع الفلسفة. فالفلسفة والبحث العقلي إجمالاً يبقى في نهاية المطاف أحد معطيات الحياة الإسلامية حاضراً وعلى مر التأريخ أيضاً، إذ لم تستطيع جميع الهجمات المضادة أن تقضي على العطاء الفلسفي والبحث العقلي عموماً في المجال الإسلامي.

المدرسة الفكرية للسيد الصدر لها مساهماتها على هذا الصعيد، بحيث يمكن إنجاز دراسات مقارنة مكثفة بين الصدر والطباطبائي ومطهري ومع رموز آخرين أيضاً، كما يمكن للبحث المقارن أن يطرق مجالات أخرى.

الباحث الإيراني د. عبد الكريم سروش نفذ دراسة نقدية لكتاب “الأسس المنطقية” وأثار في الساحة بداية سجال ثقافي لم يتطور _ مع الأسف _ رغم تدخل السيد عمار أبو رغيف ورده على سروش بكتاب، بل ربما لم تنتبه إلى النقد والرد إلا قلة قليلة، تماماً كما حصل من قبل حين تعرض الكاتب الماركسي ماجد عبد الرحيم لنقد كتاب “فلسفتنا” فرد عليه أيضاً أبو رغيف، الذي عاد فيما بعد لتقديم دراسة مقارنة لنظرية المعرفة بين الصدر ومطهري.

بالأمكان تنشيط الدراسة المقارنة في هذا المجال كي تشمل دائرة أوسع وتمتد إلى معطيات البحث العقلي في مدرسة الصدر فلسفياً وأصولياً وفي إطار بعض البحوث العقيدية أيضاً.

تاسعاً: الموضوع العقائدي

يمثل الموضوع العقائدي الآن شاغلاً مباشراً للساحة الإسلامية على أكثر من صعيد ولساحتنا الشيعية خاصة، انطلاقاً من زوايا متعددة لا مجال التفصيل القول فيها الآن، والذي علينا أن تنتبه إليه أن الموضوع العقائدي يمثل اليوم فرصة لنفوذ بعض الأفكار المنحرفة والمناهج الخاطئة، والمطلوب تحصين المسلمين ببيان العقيدة السليمة، وقبل ذلك صياغة المنهج المعرفي الصحيح الذي تنهض عليه أركان العقيدة وأصولها.

للسيد الصدر مساهمة على صعيد منهج البحث العقائدي وعلى صعيد ممارسة هذا المنهج من خلال بعض بحوثه العقيدية القصيرة. وهذا المنهج يمكن أن يدخل في مجال دراسة مقارنة مع السيد الطباطبائي والشيخ مطهري، كما يمكن أن يعود البحث التحليلي المقارن إلى طبيعة نظرة كل واحد من هؤلاء للمنهج العقائدي، الذي يدور بين المنهج الفلسفي والكلامي والنصوصي، وربما استطعنا أن ندخل المنهج الاجتماعي الذي نجد له لمحات في فكر الصدر.

وهذه الدراسة لها مدخلية أيضاً بمقولة علو الكلام بين القديم والجديد، وما تذهب إليه اتجاهات فكرية معاصرة من ضرورة إنشاء علم كلام جديد، بل ثم من ذهب من الباحثين إلى أن الكلام الجديد أنشئ _ ولو لم ينظر له تحت هذا العنوان _ مع انبثاق الأعمال الفكرية للطباطبائي والصدر ومطهري، كما يسجل ذلك الباحث الإيراني بهاء الدين خرمشاهي.[20]

وفي كل الأحوال، يمكن للبحث المقارن أن يصل إلى جهات اختلاف واتفاق، تعود جميعاً بالنفع على حاجاتنا الراهنة لصياغة منهج سليم في البحث العقائدي، وكتابة عقائد واضحة تبعث على حصانة الإنسان المسلم فكرياً ونفسياً، وتلهم الأمة العمل الفاعل المثابر بأحكام الإسلام.

ومن طريق ما عثرنا عليه في هذا المضمار، مما لم يطلع عليه أحد هو نقد مطول كان قد كتبه علي شريعتي على دراسة الصدر “بحث حول الولاية” وقد رأينا أن نقدم ترجمة كاملة لهذا النقد مع ما قد يعنو لنا من ملاحظات[21].

عاشراً: التحليل الحضاري وقضايا التخلف والتنمية

لا يمكن للشخصية الدينية أن تتحول إلى رمز من رموز الإحياء والنهضة في حياة المسلمين ما لم يكن لها رؤى محددة في قضايا الأمة. فشخصيات من قبيل الأفغاني وإقبال والبلاغي وهبة الدين الشهرستاني وكاشف الغطاء وابن باديس والمظفر وغيرها لم تكن تستحق ألقابها في كونها عناوين كبيرة في حركة الإحياء الإسلامي المعاصر، لو لم تكن لها رؤى محددة في قضايا المسلمين، ولو لم تتوفر على إبانة تحليل واضح إزاء قضايا التخلف والتقدم والعلاقة مع الغرب وغير ذلك مما يمكن أن يدخل في الإطار الحضاري.

والسيد الصدر كان كبيراً في هذا المجال وقد انتبه في بواكير حياته إلى هذه الدائرة، وقدم اسهامات مجيدة ارتفعت به بجداره إلى أن يكون أحد رموز الإحياء الكبار في حياتنا الإسلامية.ولكن فكره لقي الإهمال في دائرة ؛ وكان في دائرة أخرى ضحية الإقصاء على أساس الهوية وطبيعة الانتماء المذهبي، كما راح في دائرة ثالثة ضحية المناهج المغلقة.

والخسارة في هذا المجال عادت كبيرة ليس على العراق وحده بل على الأمة جمعاء، خصوصاً إذا عرفنا أن شخصية إحيائية مثل شخصية الصدر لا تطل على أفقنا إلا بعد أن تجتمع عشرات الشروط، وربما احتاج الأمر إلى عقود كي نعثر في حياتنا على شخصية تتمتع بنفس مقاسات شخصية الصدر أو تقاربها.

وكما تتعدد قضايا النهضة والمفردات التي تدخل في العنوان الحضاري، وجدنا أيضاً أن انجاز الصدر في هذا المجال جاء منوعاً يتسم بالكثافة الكبيرة، وهو بالتأكيد يستحق دراسة مستقلة، ولكنا بانتظار هذه الدراسة ونكتفي هنا ببعض الإشارات السريعة.

في التحليل الحضاري لواقع الأمة المسلمة، والمجتمع العراقي المسلم من بينها، قدم الصدر عملاً مبكراً تجلى في المقدمة المختصرة التي ذكر فيها بواعث مبادرته لتأليف كتاب “فلسفتنا”. وحين نعود الآن لنطل على تلك المقدمة من مشارف أربعة عقود مضت، نجد أنها تنطوي على فهم ممتاز لواقع الأمة في طبيعة معاناتها، وما آلت إليه بعد غياب الكيان السياسي الموحد، ووقوعها ضحية المطامع الغربية.

وفي المقدمة الفكرية للكتاب التي جاءت تحت عنوان “الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية” قدم الصدر تحليلاً حضارياً ليس لواقع الإنسان الإسلامي وحده، بل لواقع الإنسانية في العالم.

الصدر رجل من رجال الإحياء والنهضة، لذلك لم يكتف بالبعد التحليلي النظري دون الأبعاد التي تمنح الأمة الفاعلية وتغذيها بالطاقة الحركية، فتقطع خطوات باتجاه البناء الحضاري لشخصيتها، في هويتها الفكرية العقيدية، وفي وجودها العملي وطبيعة الموقع الذي تتجلى به بين أمم العالم.

لذلك نراه تحرك خطوات إلى الأمام وهو يرسم في المقدمات التي كتبها لمجلة “الأضواء” التليدة برنامج العمل في الكلمات الافتتاحية تحت عنوان “رسالتنا” ونحن نعرف أن هذا البرنامج العملي لتحريك الأمة بشكل عام جاء متزامناً مع عملين فاعلين أحدهما تشكيل جماعة العلماء التي تعد العقل الفاعل لتوجيه الأمة في العراق، والآخر تأسيس حزب الدعوة الإسلامية، الذي عد آنئذ النواة الأساس في حركة الإحياء الإسلامي في العراق أساساً وفي أقاليم إسلامية أخرى تفاوت فيها تأثير هذا الحزب بين هذه الدرجة وتلك.

وفي مقدمة كتاب “اقتصادنا” التي لم تجد العناية الكاملة ها بعد، طرق الشهيد الصدر في تحليل وجيز ومكثف قضية من أخطر قضايا الأمة يعبر عنها بمشكلة التخلف والتنمية، لكي تأتي هذه المعالجة إضافة نوعية لما كان ذكره من عناصر النهوض في “رسالتنا” وفي التحليل الذي ساقه للمشكلة الاجتماعية في المقدمة الفكرية لـ “فلسفتنا”.

والذي نراه أن مقدمة “اقتصادنا” لا زالت تنطوي على أهمية كبيرة في طبيعة العناصر التي تضمها، والتحليل الذي ساقه الصدر لمشكلة التخلف في العالم، والعلاقة مع الغرب، وحقيقة مع الغرب وحقيقة إمكانات أنظمة سايكس بيكو وأنظمة مشروع الدولة القومية على أن تكون أطروحة إنقاذ للامة. ولأهمية هذه المقدمة وما تضمه من أفكار وجدنا أن الصدر عاد بنفسه إليها بعد عقدين كاملين، ليأخذ أفكارها بالنص، ويزيد في تفصيلها في سلسلة البحوث التي قدمها تحت عنوان “الإسلام يقود الحياة” وبالذات البحث الذي حمل عنوان “منابع القدرة في الدولة الإسلامية”.

هناك لمعات بارزة في فكر النهضة قدمها الصدر في ثنايا محاضراته القرآنية “المدرسة القرآنية” أشار فيها إلى واقع الأمة الديني والاجتماعي، وإلى ضرورات تحديث الفكر الإسلامي بما يرفعه إلى مستوى حاجات المسلمين في العصر لا في التأريخ، كما أشار في تحليلات وجيزة إلى علاقة المسلمين بالغرب، وواقع الحضارة الغربية، واقترح المزيد من الأفكار العملية التي تضع الأمة في دائرة النهوض الشامل.

هذه الأفكار عاد إليها الصدر مجدداً، وطرحها على نحو أكثر دقة وتنظيماً في مجموعة بحوثة التي ساهم بها في دعم التجربة الإسلامية في إيران، خصوصاً بحث “منابع القدرة في الدولة الإسلامية” و “خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء”.

والذي يعود إلى أبرز رجال النهضة الذين احتضنهم العالم الإسلامي خلال المائة والخمسين سنة الماضية، لا يجد أنهم قدموا أكثر مما قدمه الصدر على صعيد الرؤية والتحليل والمحصول الفكري والمواقف العملية في المجال الديني والسياسي والاجتماعي، ومع ذلك ترى هذا البخس الكبير لحظ هذا الرجل من قبل الباحثين والدارسين. إذا قدر لنا أن نرجع مثلاُ إلى عملين مرجعيين في مضمار دراسات فكر النهضة ورموزها في العالم الإسلامي، هما كتاب البرت حوراني “الفكر العربي في عصر النهضة” وكتاب فهمي جدعان “أسس التقدم عند مفكري الإسلام” نجد أن في الأول إهمالاً موجعاً لرموز المدرسة الشيعية في العراق وغيرها، وفي الثاني إقصاءً عجيباً لفكر الصدر وغيره، يمارس الإلغاء البشع على أساس الهوية والانتماء المذهبي!

إزاء هذا الواقع المر ننتظر أن يتقدم الباحثون في ساحتنا بمبادرات واسعة تسد مواطن التقصير في جانبنا وتواجه لغة الإقصاء والحذف على أسس منهجية ومذهبية التي تبرز في أعمال الآخرين، خصوصاً أن ما يعين الباحث في مجال تقديم الصدر كشخصية إحيائية ونهضوية كبيرة، هو توفره على منظومة متماسكة في فكر النهضة وفي التحليل الحضاري، وفي وضع منطلقات الفعل الحضاري للأمة.

كما يمكن لهذه الدراسات أن تمارس البحث المقارن بين الصدر وإقبال، وبين الصدر ومالك بن نبي على أساس ما يقدمه كل واحد من هؤلاء من تحليل لواقع الأمة، ومن فكر في النهوض الحضاري، كما يمكن الامتداد بالبحث المقارن ليشمل أسماء ومواضيع كثيرة أخرى، كما علينا أن لا ننسى الإشارة إلى كراسة “المحنة” وما تضمه من أفكار للشهيد الصدر على صعيد العنوان الحضاري وفكر النهضة.

نشير أخيراً في الدوائر المقترحة للدراسة المقارنة إلى مجال الدراسة المقارنة في الجانب الفقهي والأصولي لمدرسة الصدر، التي يمكن أن تساهم في إغناء الفكر الإسلامي على صعيد ممارسته داخل هذا الحقل من حقول المعرفة، وبودي هنا أن لا أترك هذه الأسطر من دون استعادة إشارة شمس الدين وهو يقول عن هذا الجانب: “اوجه الأنظار إلى فكره الأصولي والفقهي الأكاديمي الذي كان يلقيه كدروس”[22] كما سمعت من السيد كمال الحيدري إشارات في هذا المضمار بمقدورها أن تتحول إلى دراسات مقارنة مفيدة على صعيد الفكر الأصولي والفقهي للشهيد الصدر.

3 _ فلسفة ختم النبوة … لمحات مقارنة

هذه محاولة في الكتابة الثقافية تعيد إلى الأذهان مساهمات بارزة لرموز إسلامية فكرية كبيرة إزاء القضية اكتسبت في ثقافة المسلمين أكثر من اسم، وطرحت من خلال أكثر من عنوان وسؤال. كما أنها تأتي في السياق الذي تكون فيه مثالاً تطبيقياً _ ولو مختصراً_ لواحدٍ من المجالات المقرحة التي أشرنا لها في الفقرة آنفة الذكر، بين مدرسة الصدر والاتجاهات الأخرى في الفكر الإسلامي.

والقضية كما يبلورها أحد هؤلاء الكبار؛ السيد محمد باقر الصدر، تشكلت في أطروحة عنونها بنعت “التغيير والتجديد في النبوة” فيما خصص لها الشيخ مرتضى مطهري كتاباً صدر بعنوان “ختم النبوة” وذلك في إزاء مساهمات بارزة أخرى نلمسها في كتاب محمد إقبال الشهير “إحياء الفكر الديني في الإسلام” وكذلك في النتاج الفكري للسيد محمد حسين الطباطبائي.

ومهما تباينت المواقع وتعددت المعالجات، فإن الفكر الإٍسلامي واجه في مدّه الحديث مضمون هذه القضية من خلال منطوق السؤال التالي: لماذا شهد الخط البشري عبر مراحل تأريخه الطويل اطراداً في بعثة الرسل والأنبياء، التي ربما بلغت عشرات الآلاف من الرسالات والنبوات، ثم توقف الخط مرة واحدة ببعثة رسول الله صلوات الله علیه واغلق الخط وختم إلى الأبد؟

قدم الفكر الإسلامي _ كما أشرنا _ في القديم والحديث اجتهادات فكرية متنوعة في تحليل السؤال والإجابة عنه. ومن البديهي أن المساهمات لم تأت على درجة واحدة من العمق والنضج والإبداع، كما يُلفت النظر ما تميز به بعضها من عناصر مشتركة، جاءت برغم تباعد المفكرين بعضهم عن بعض وانفصالهم الزماني.

وإذا كان من المفيد أن يتوفر أحد الدارسين على رصد إجابات الإسلاميين وتنظيراتهم إزاء هذه القضية ؛ ليخرج بحصيلة قيمة تكون ثمرة للدراسة، فإن هذه المناسبة _ استشهاد السيد الصدر _ أتاحت لنا تحقيق جزء يسير من هذه الرغبة، تمثل بمتابعة إجابات أربعة مفكرين إسلاميين بارزين إزاء ما قدموه حول فلسفة النبوة الخاتمة، وهؤلاء هم:

1_ المرحوم محمد إقبال (الهند).

2_ السيد محمد حسين الطباطبائي (إيران).

3_ السيد محمد باقر الصدر (العراق).

4 _ الشيخ مرتضى مطهري (إيران).

أطروحة الصدر في التغيير والتجديد

لم نختر أطروحة الصدر ونقدمها على غيرها، لأنها الأقدم، ولا بداعي الحكم على تقدم محتواها الفكري على ما سواها، وإنما مرد انتخابها وتقديمها على غيرها يعود لسهولة عباراتها ووضوح منهجها، وتميزه على غيره من مناهج الدراسات الأخرى[23].

يبدأ الصدر موضوعه بما يلي: “فكرة التغيير والتجديد التي عاشتها ظاهرة النبوة في تأريخ الإنسان على مر الزمن، واضع لها الحد النهائي على يد الرسالة الإسلامية الخاتمة”.

ثم يسوق أربعة أسباب يراها معقولة لتفسير ظاهرة التغيير والتجديد في النبوة، بحيث يمكن أن يساهم سبب أو أكثر في ذلك وهذه الأسباب:

السبب الأول: يتمثل باستنفاد النبوة لأغراضها، واستكمالها لأهدافها، فحينئذ لا يكون أمامها إلا أن تخلي الميدان لنبوة تحمل أهدافاً جديدة، وتشرع بشوط جديد، إلى أن تستنفد هي الأخرى تاركة المجال لغيرها وهكذا. ومثل هذه النبوات غالباً ما تكون في حياة الإنسان لمعالجة أمراض طارئة في حياة البشرية، ونقاط ضعف؛ تنشأ في بعض الأزمنة والأمكنة تعاني منها بعض المجتمعات البشرية. وعندها تأتي النبوة لتكون وصفة علاجية بحيث ينتهي دورها بارتفاع المرض وانتقاء حال الضعف. ومن الطبيعي أن الوصفة المؤقتة لا يمكن أن تصبح كما يقول الصدر “غذاءً اعتيادياُ للإنسان في كل زمان ومكان”.

المثال الذي يضربه على مثل هذه النبوات المحددة بمعالجة مرض طارئ، هي المسيحية وما يقال من توجهها نحو نزعة روحية مفرطة، جاءت لتعالج الانغماس المطلق الذي عاشه بنو إسرائيل نحو الدنيا وعلائق الدنيا. وبذلك كان لابد من أن تستنفد المسيحية دورها بمجرد معالجتها للمرض؛ من دون أن تملك مقومات التحول إلى نبوة دائمة مستمرة في المكان والزمان، وينص الصدر: “كان في المسيحية هذا النوع من الإفراط المناسب مع حالة موضعية زمانية معينة في التأريخ الطويل للإنسان. أما هذا النوع من الإفراط حينما يؤخذ كخط عام للإنسان يُعتبر شذوذاً وانحرافاً؛ لأنه دواء للمرض وليس طعاماً للصحيح”.

السبب الثاني: أن لا يبقى من تراث النبوة ما يقام على أساسه العمل والبناء. إذ يحصل في بعض النبوات أن تظهر انحرافات تأتي على كل التراث الروحي والمفاهيمي الذي خلفه النبي، والمفروض في النبوة أنها “الدفعة الإلهية” التي لا يمكن “أن تواصل عملها بدون مصباح منير، وبدون كتاب منير” وحينئذ تضمحل النبوة، ولا تكون سوى مناسبة تاريخية لا أثر لها في حياة الناس، مما يتوجب أن ينفتح أفق الحياة الإنسانية على نبوة جديدة.

ومرة أخرى تعود المسيحية لتكون هي المثال الشاخص لهذه الحال. يقول الصدر: “إذن لم يبق من السيد المسيح عليه السلام بعد انتهاء دوره على المسرح حصيلة مضيئة يمكن القيام على أساسها”. يمكن أن نقول: إن هذا السبب يرمز إلى عدم توفر الضمانة لمثل هذه النبوات، لكي تحفظ كتبها السماوية وتدوم، إذ نعرف أن هذه الضمانة لم تتوفر لكتاب سماوي غير القرآن الشريف.

السبب الثالث: أن يعود التغيير في النبوة إلى محدودية الرسالة باعتبار محدودية نفس النبي المبعوث بها. فالصدر يسجل بوضوح: “أن الأنبياء كغير الأنبياء، يتفاوتون في درجات تلقيهم للمعارف الإلهية عن طريق الوحي”. لذلك لا يمكن للنبي الذي يكون مُهيأً لهموم عصره أن يكون مؤهلاً لأن يحمل هموم البشرية في كل زمان ومكان.

إزاء ذلك كان لابد من أن تتخلى مثل هذه النبوة عن الميدان فاسحة المجال لنبوة جديدة ؛ لأن: “محدودية الكفاءة القيادية في المجالين الفكري والعملي، مما يؤثر في تحديد الرسالة التي يحملها النبي”.

السبب الرابع: ويتمثل بتطور البشرية “وتطور نفس الإنسان المدعو، لا محدودية الإنسان الداعي” كما السابق.

فالإنسان يتطور على مر الزمان، ويتربى تدريجياً من خلال الرسالات الإلاهية، فيكتسب من كل رسالة إلهية درجة من النمو تهيأه، وتُعدُه لكي يكون على مستوى الرسالة الجديدة التي تأتي بعد الرسالة السابقة وتكون مسؤوليتها أوسع نطاقاً.

ولكن إذا كان تطور البشرية ونموها سبباً لتغيير النبوة فإن ذلك يصطدم كما هو معروف مع مبدأ “النبوة الخاتمة” التي نؤمن بها نحن المسلمين، ونجعلها دائمة للإنسان في كل مكان وزمان. فكيف يكون التطور سبباً في تغير النبوة، ونحن نقول فعلاً بختم النبوة؛ وبالتالي كيف نوفق بين التطور الإنساني المفتوح وخط النبوة الذي أغلقته النبوة الخاتمة؟

عند هذه النقطة بالذات يسجل تحليل السيد الصدر للقضية المثارة انعطافة باتجاه توليد فكرة جيدة تحل المعضل وتوفق بين استمرار خط التطور والنبوة الخاتمة.

وفي الواقع أن الذي يلفتنا في تحليل السيد الصدر ليس الإجابة في المقدمة التي يقدمها في حل المعضل وحسب، وإنما ما تتضمنه الفكرة من تمييز بين ثلاثة خطوط للتطور، يستطيع الفكر الإسلامي أن يوظفها في أكثر من مجال، ويفيد منها في غير الحقل الذي تنتمي إليه المسألة المطروحة للدرس كما سنرى.

ثلاثة خطوط للتطور

يعتقد السيد الصدر بأن هناك ثلاثة خطوط تتطور على وفقها الإنسانية، هي:

خط وعي التوحيد.

خط تحمل المسؤولية الأخلاقية للدعوة.

خط سيطرة الإنسان على الكون والطبيعة.

والذي يذهب إليه الصدر أن النبوة ترتبط بالخطين الأول والثاني وليس لها علاقة بالخط الثالث. ومعنى ذلك أن النبوة تتغير مع تقدم الوعي التوحيدي للإنسان؛ ومع ازدياد تحمله لأعباء المسؤولية الأخلاقية للدعوة. فكلما ارتقى في وعي التوحيد واتسم إيمانه بالغيب وعلاقته به بالعمق والنقاء، وكلما أبدى صلابة في تحمل مسؤولية الدعوة واستعداداً في التضحية من أجلها، كلما كان مستحقاً لنبوة جديدة تأتي أكثر اتساعاً ورقياً من التي سبقتها.

أما التطور على الخط الثالث الذي يسجل فيه الإنسان انتصارات على مستوى السيطرة على الطبيعة، فلا يستدعي تجديداً في النبوة. فالنبوة تستطيع أن تغذي الإنسان في أي شوطٍ كان من أشواط تقدمه المادي، والديني حاجة أساسية بالنسبة إليه، بصرف النظر عن موقعه على هذا الخط. والسيد الصدر يسجل إيمانه العميق في قدرة الإنسان على أن يتحرك دون انقطاع على صعيد التقدم في الخط الثالث. فالإنسان “سوف لن تقف سيطرته بإذن الله جل جلاله، عند مرحلة من مراحل الاستيلاء على الكون والطبيعة؛ إن انتهى استيلاؤه على الأرض، سوف يفكر بالاستيلاء على السماء.. في الاستيلاء على كل أبعاد الكون، إذن هو في نموٍ مستمر لا ينقطع ولا توضع له حدود مفترضة من هذه الناحية”.

وبالنسبة إلى تطور الوعي التوحيدي، يرى أن هذا الخط يتحكم كأقوى عامل من غيره في تغيير النبوات، لكونه كما يقول الصدر مرتبطاً بالقاعدة الفكرية الأساسية التي تعمل بموجبها كل النبوات، فكلما صعدت درجة الوعي التوحيدي لدى الإنسان، كلما بعثت السماء بصيغة رسالة تكون أوسع من التي سبقتها،. على هذا الأساس دفعت النبوات الأولى بوعي توحيدي من مرتبة معينة، ومع تفاعل الإنسان وتعمق وعيه تدرجت النبوات إلى أن بلغت النبوة الخاتمة التي جاءت في أوج ما أحرزه الإنسان من وعي على هذا الصعيد. وكذا الخال بالنسبة لخط المسؤولية وتحمل الأعباء، فالأمم السابقة كانت أدنى بمراتب من الأمم اللاحقة، ومع وصول هذا الخط إلى ذروته جاءت النبوة الخاتمة.

ولكن ثمة سؤال يعترض هذا التحليل رغم ما ينطوي عليه التمييز بين خطوط التطور الثلاثة من فوائد جمة في حل الكثير من الاشكالات فيما يواجهه الفكر الإسلامي. والسؤال هو: أن البشرية التي كانت تسير على خط مطرد في نمو وعيها التوحيدي، وفي ازدياد قدرتها على تحمل مسؤولية أعباء الدعوة، لماذا توقفت عند نقطة معينة فجأة، تمثلها لحطة بعثة النبوة الخاتمة؟ وكيف تفسر افتراضنا في أن البشرية لم تتقدم خلال أربعة عشر قرناً من الزمان على الخطين الأول والثاني بما يؤهلها لتستحق نبوة جديدة، خصوصاً حين نأخذ بنظر الاعتبار النضج الكبير الذي أحرزته البشرية خلال القرون الأخيرة؟

لا ننظر في أطروحة السيد الصدر للتجديد والتغيير في النبوة إجابة مفصلة لهذا السؤال، رغم تنبيه السيد إليه. وإنما نراه يفترض أن للخطين الأول والثاني نهاية لابد وأن يبلغها الإنسان، وقد بلغها فعلاً مع مجيء الإسلام. وبتعبيره: “هذان الخطان لهما حد نهائي يصل إليه الإنسان، هذا الحد النهائي، هو الحد النهائي الذي وصل إليه الإنسان حينما جاء الإسلام”.

ثم يحيل كل شيء إلى الواقع الذي لم يسجل برأيه أي تغير ملموس على صعيد تقدم الإنسان على الخطين يزيد عما كان استعداده قد بلغه في لحظة بعثة النبوة الخاتمة. وينص تعبيره مرة أخرى: “نحن باستقراء تاريخنا المنظور، منذ جاء الإسلام إلى يومنا هذا، لا نجد أي تغيير حقيقي في هذين الخطين، لا في مدى اتساع الوعي التوحيدي عند الإنسان، ولا في اتساع التحملات الأخلاقية في أعباء الدعوة. نعم نجد التغير الواسع جداً في الخط الثالث الذي يعتبر خارجاً عن نطاق عمل النبوة ورسالتها”.

ومن الواضح أن افتراض أن يكون للتطور البشري على الخط الأول والثاني نهاية لابد وأن يبلغها، يعكس الخط الثالث الذي يبقى مفتوحاً، وهو افتراض يحتاج إلى الإثبات والبرهنة لكي تنسق الأطروحة.

وفيما يتعلق بعدم وجود تغير حقيقي في مستوى الوعي التوحيدي للإنسان، بالقياس إلى ما كان مستعداً له في زمن البعثة قبل أربعة عشر قرناً، هناك من الأحاديث ما يوحي ظاهره بعكس ذلك، وربما كان أشهرها الحديث الشريف إن الله عز وجل علم أنه يكون في آخر الزمان أقوام متعمقون فأنزل الله تعالى “قل هو الله أحد” والآيات من سورة الحديد، إلى قوله “وهو عليم بذات الصدور” فمن رام وراء ذلك فقد هلك[24].

يعلق مطهري على هذا الحديث بأن الناس لم يكونوا يستوعبون الآيات المشار إليها بالحديث “قبل بضعة ألآف من السنين؛ بل حتى قبل ألف سنة”. ومعنى ذلك أن هناك من يستوعبها آخر الزمان، مما يدلل على تطور الوعي التوحيدي.

إذا صح هذا الإشكال، فإن الأطروحة تحتاج إلى استئناف نظر في هذا الجزء من أجزائها، إلا أن يقال: إن تجليات العمق التي يبلعها الوعي التوحيدي آخر الزمان تجد ما يشبعها في مراتب التوحيد التي تنطوي عليها النبوة الخاتمة نفسها، على تفصيل يذكر في محله. وربما استطعنا القول أيضاً: إن في مساهمات المفكرين الآخرين ممن سنعرض لهم في هذه اللمحات المقارنة ما يغني في الجواب.

أطروحة مطهري

تناول الشيخ مطهري المسألة في بحث صدر بكتاب مستقل[25]. وبحث مطهري وإن كان لا يرقى في مستوى الوضوح والتحديد المنهجي إلى مستوى التميّز الذي بلغته أطروحة الصدر، إلا أن سعته النسبية أهلته لسد الكثير من الثغرات، وما يمكن أن يثار على الأطروحة من أسئلة واستفهامات.

يشير مطهري _ كما فعل الصدر _ إلى مفهوم مقطعية بعض النبوات لباعث كونها جاءت لمعالجة أمراض طارئة. وكذلك يشير إلى تحريف كتب النبوات واندثارها كداع أخر لانتفاء النبوة وتجديدها بنبوة أخرى. يقول: “من أسباب تجديد الرسالة وظهور الأنبياء الجدد هي التحريفات التي كانت تطال تعاليم الأنبياء وكتبهم المقدسة، بحيث تفقد صلاحيتها في هداية الناس، فكان يُبعث أنبياء جدد يحيون السنن المنسية لأسلافهم ويصلحون التعاليم المحرفة لمن سبقهم”.

ثم يصل إلى أصل الأطروحة، وهي لا تختلف في روحها عما رأيناه لدى الصدر، إذ يرى مطهري هو الآخر أن البشرية تتحرك منذ فجرها الأول على خط متقدم، بحيث تكمل فيه الحلقة التالية ؛ الحلقة التي سبقتها. وهذا الخط لابد من أن يبلغ الذروة ويتحقق معنى التكامل عند لحظة معينة، تمثلت فعلاُ في بعثة النبوة الخاتمة لنبينا محمد صلوات الله عليه.

لذلك كانت كل نبوة حلقة في برنامج التكامل العام، لها حضها في إنضاج البشر ودفعهم نحو الرشد إلى يؤهلهم لتقبل الرسالة الخاتمة. البشرية في مسيرها التكاملي كالقافلة التي تتحرك في طريق معين نحو مقصد معلوم _ كما يمثل مطهري _ فهذه القافلة لا تعرف الطريق، وإنما تستدل عليه بإرشاد من يعرفه، فهي مع كل دليل تطوي مسافة من الطريق، وبتجدد الدليل تتقدم أكثر وتقترب من مقصدها، وتستمر هكذا إلى أن تكتسب القابلية تدريجياً على التعلم، فتأخذ من آخر دليل “الخريطة الشاملة” فتستغني بها عن دليل جديد.

والدليل في المثال هو كناية عن الأنبياء والنبوات، والدليل الأخير هو خاتم النبيين صلوات الله عليه.

ومرة أخرى لا نجد الشيخ مطهري يقيم البرهان على الفرضية الأساسية التي تنهض الأطروحة بواسطتها. وهي وجود نهاية للتكامل.

يبدو أن إقامة البرهان يحتاج إلى توظيف الفلسفة، مما يدعو الباحثين إلى أن ينأوا عنه لكي لا يتسم البحث بالتعقيد، ويخرج عن دائرة الفائدة العامة[26]، وأن كان يستخدم إيضاحاً يذعن له الوجدان ببساطة. فالنبوة لابد من أن تختم يوماً لأنها تروم إلى تحقيق مقصد معين، ببلوغه ينغلق خطها، وبتعبير مطهري: “فالنبوة تكتمل تدريجياً طبقاً لسنه الله. فكما أن الهدف في العمارة ليس السلالم أو الجدران، وإنما الشكل الكامل للبناء هو الهدف، فإن النبوة كذلك، والهدف فيها صورتها الكاملة حيث تتحقق الصورة حين تُختم ولا يُزاد عليها، لأن الزيادة على الكمال نقص”. ثم يشير إلى حديث اللبنة مدللاً على ما يقول[27].

نبوة التشريع والتبليغ

يقسم مطهري النبوة إلى قسمين: النبوة التشريعية؛ والنبوة التبليغية.

والقليل من الأنبياء هم الذين يأتون بنبوة التشريع، فيما الكثرة تنهض بنبوة التبليغ. ففي الفترة بين إبراهيم إلى موسى، بعث الله أنبياء كثراً جاءوا ليبلغوا للشريعة التي جاء بها إبراهيم. وهكذا كان الحال في أعقاب كل نبوة من النبوات التشريعية.

والسؤال: لماذا حتمت السماء على البشرية أن تسد عنها مع بعثة النبوة الخاتمة، النبوة التبليغية؟ ولماذا لم تغلق نبوة التشريع، وتبقي المجال مفتوحاً أمام الأمة الإسلامية لتستفيد من توجيه أنبياء مرشدين، ومن تبليغهم؟

يجيب مطهري عن هذا السؤال بتفصيل مسهب خلاصته أن حاجة البشرية إلى الوحي أو النبوة التبليغية كانت قائمة؛ طالما لم يبلغ الإنسان درجة من الرشد تجعله ينهض بنفسه بمهمة الدعوة والتبليغ والاجتهاد في أمر دينه. بيد أن “ظهور العلم والعقل، وبعبارة أخرى نمو الإنسانية وبلوغها، يختم بنفسه الوحي التبليغي، فيحل العلماء محل هؤلاء الأنبياء التبليغيين”.

فالعقل والعلم والاجتهاد في أمر الدين لا تحل بديلاً عن نبوة التشريع التي ختمت الإسلام آخر الشرائع، وإنما تحل _كما يرى مطهري_ محل الوحي التبليغي. وذلك بحكم بلوغ البشرية إلى مستوى رشيد من القدرة على تحمل العبء والمسؤولية.

وهذا الشطر من الإجابة يذكرنا بما أسماه الصدر بالخط الثاني في التقدم.

بعد ذلك يطرح مطهري مشكلة ثبات الشريعة وتغير الواقع الاجتماعي، فيحلل المسألة أولاً، ويثبت وجود عناصر ثابتة في البنية الاجتماعية، إلى جوار العناصر المتغيرة، ثم يشير إلى أن العناصر الثابتة في التشريع الإسلامي (الشريعة) تلبي الثوابت البشرية في كل حين، أما الجانب المتغير فيتوفر عليه الاجتهاد.

وفي مسألة الاجتهاد يطالعنا الشيخ مطهري بأفكار جريئة تتسم بالحيوية والحركية، بحيث تستحق وقفة مستقلة بذاتها.

أطروحة الطباطبائي

ذكر السيد الطباطبائي في أحد حواراته أنه لم يكن يأسف على درسٍ يحضره المرحوم مطهري، لما كان يتحلى به الأخير من ذهن مستوعب وإذن واعية، إذ كان الطباطبائي يعتقد أن شيئاً من درسه لا يضيع بوجود مطهري الذي يسجل كل شيء.

وربما لم يستفد مطهري من أستاذ كاستفادته من الطباطبائي خصوصاً في جانب البحث الفلسفي. لذلك تجد مطهري في بعض أبحاثه شارحاً لأفكار الطباطبائي كما حصل مع كتاب “أصول الفلسفة” الذي قدمه مع تعليقاته في كتاب ضخم من خمسة أجزاء، كما كان مطهري يردف أسم الطباطبائي حين ذكره بعبارة “روحي له الفداء” كناية على شدة تأثره به.

وما نريد أن نصل إليه من هذه الإشارة، أن بحث مطهري في “فلسفة النبوة الخاتمة” قد يكون شرحاً وتطويراً لأفكار الطباطبائي بحكم ما بينهما من علاقة فكرية متينة.

وعليه لا نجد حاجة إلى الإطالة في بيان أطروحة الطباطبائي، إذ تقوم هي الأخرى على فكرة التكامل الذي لا بد من أن ينتهي عند نقطة تتحقق فيها الغاية منه. وبنص تعبيره : “فالتكامل مهما بلغ من السعة والتفصيل لا يمكن أن نفترضه لا متناهياً، بل لابد له من أن يتوقف حين يبلغ مداه ونهايته”[28].

وبذلك تكون فكرة التكامل الإنساني هي بنفسها، كما يقول الطباطبائي: “دليلاً على ضرورة تحقق الدين الثابت الأبدي، وليست دليلاُ على نفي وجود مثل هذا الدين”، والدين الثابت تشير إليه النبوة الخاتمة.

الطباطائي يقيم البرهان على ضرورة التكامل، وعلى ضرورة أن يتوقف عند نقطة معينة، بيد أنه لا يفعل ذلك في بحثه الذي قدمه عن النبوة الخاتمة وإنما في بحوثه الأخرى، وإن كان في بحث النبوة الخاتمة لمسات استدلالية في هذا المضمار.

وفي الوقت نفسه يهاجم الاتجاهات التي تحاول أن تفسر القول بنظرية النضج والتكامل على الأساس الذي يدع العقل والعلم بديلين عن الدين، ويسهب في مناقشة لهذا الاتجاه والنقض عليه.

ثم يعالج كسلفيه الصدر ومطهري، مشكلة الدين الثابت والواقع المتغير باستفاضة، ليصل إلى التوفيق بين إمكان ختم النبوة وقدرة النبوة الخاتمة على استيعاب العناصر المتغيرة في خط التقدم البشري، من خلال تصور يستقل به في هذا المجال.

مع إقبال

يبدو من متابعة كتابات الإسلاميين، وبالذات من عرضنا لهم في هذه اللمحات، أن جلهم إن لم يكن كلهم أفاد في مبحث النبوة الخاتمة من أفكار العلامة اللاهوري محمد إقبال، والذي ينكر أنه قد استفاد من عمل إقبال الذي تضمنه كتابه ذائع الصيت “تجديد التفكير الديني في الإسلام” فلا ريب في أنه اطلع عليه.

ولكن ليس ثمة شك في أن المفكرين اللاحقين، وبضمنهم من عرضنا لأفكارهم، تجاوزوا إقبال برفض فرضياته، وترميم بعضها الآخر، والقبول ببعضٍ ثالث، كما يشير مطهري إلى ذلك مفصلاً في كتابه “ختم النبوة”.

ومع ذلك هناك مشكلة في التعامل مع فكر إقبال، تعود لأحد سببين أو لكليهما معاً. السب الأول هو المنحى العرفاني أو ما يطلق عليه هو بالصوفي الباطني الذي تتسم به شخصيته في بنائها الخاص، وهذا البعد يولد الكثير من التشوش والارتباك. فهو في كتاباته يحاول أن يكون عقلياً برهانياً، أي يبرهن ما شُبع به وجدانه وامتلأ به ضميره، فيصاب في عرض أفكاره بالاضطراب الناتج عن التصادم بين لغة البرهان وأدواته ولغة الباطنية والعرفان وأدواتهما، هذا إذا صح أن تكون هناك لغة ترتقي في قدرتها فعلاً إلى التعبير عن العرفان والباطن.

وفي هذه النقطة بالذات يتقاطع أسلوب إقبال بشكلٍ كامل مع الصدر والطباطبائي ومطهري.

أما السبب الثاني فيعود إلى عدم كفاءة الترجمة، ورقي المترجم إلى مستوى تجربة إقبال الباطنية والإدراكية. فالمترجم لا يفلح في إبراز المعاني التي يروم إقبال بلوغها وإيصالها للآخرين، ما لم يدرك البناء النفسي والعقلي الذي تنطوي عليه شخصيته.

لذلك تبدو الحاجة ماسة لإعادة ترجمة إقبال مجدداً اِنطلاقاً من الملاحظة المشار إليها.

حين نأخذ الملاحظتين بنظر الاعتبار نستطيع أن نتفهم الإبهام الذي يسود أفكار إقبال حول “النبوة الخاتمة” التي تناولها في المحاضرة الخامسة من محاضرات كتابه “تجديد التفكير الديني”، فبرغم مراجعة المحاضرة أكثر من مرة، ومتابعة أكثر من دراسة تناولت أطروحة إقبال، لم نستطع أن نخرج بأكثر من نتيجتين:

الأولى: أن ختم النبوة لا يعني انقطاع المعرفة الباطنية، بل يفتح _ كما يقول إقبال _ سبيلاً جديداً في ميدان الرياضة الصوفية. ولمطهري يعود الفضل في توضيح مراد إقبال من ذلك، الذي يقصد أن النبوة الخاتمة أوجدت زخماً تجاوز حدود نفسها، إلى توجيه طاقات الحياة الاجتماعية توجيهاُ جديداُ.

الثانية: أن بعثة نبي الإسلام صلی الله علیه وآله وسلم فصلت _ بتعبير إقبال _ بين العالم القديم والعالم الجديد. والعالم القديم يشير _ حسب إقبال _ إلى الطفولة التي كانت تعيشها البشرية بحيث تحتاج إلى قيادة ومدد من الخارج. أما العالم الجديد فيشير إلى اعتماد البشرية على العقل والتجربة والتاريخ كمصادر ثلاثة للمعرفة تغني المسار البشري وتقوده.

إذن ما حاجة الإنسانية للإسلام إذا كانت قد بلغت الرشد على أساس تلك المصادر الثلاثة؟ يجيب إقبال؛ أن الإسلام بالقرآن الذي حمله الرسول الخاتم صلوات الله علیه هو الذي وجه البشرية إلى هذه المصادر؛ وبالتالي فإن توجيه القرآن للإنسان نحو العقل والتجربة والطبيعة والتأريخ، إن هي إلا مظاهر مختلفة فكرة ختم الرسالة. بيد أن ذلك لا يعني “أن مصير الحياة النهائي يتمثل في الإحلال الكامل للعقل محل العاطفة، فإن شيئاً كهذا ليس ممكناً ولا مطلوباً” كما يقول إقبال.

والذي يبدو جليا أن الفكر الإسلامي استفاد مما تضمنته النتيجة الثانية في اطروحة إقبال، ثم طور عناصرها في صورة الإطروحات اللاحقة. ولا ريب في أن هذا التفاعل بين الأفكار يجسد صورة تطبيقية حية ومفيدة لمبدأ التواصل والتجاوز في مسار الفكر الإسلامي الذي أشرنا إليه فيما سبق، والذي نحتاج لتفعيله الآن أكثر من أي وقتٍ مضى.

4_الصدر ومطهري رمزان كبيران في الإحياء الإسلامي

دعا هذا المقال في أكثر من فقرة من فقراته إلى ممارسة الدراسة المقارنة في حقل الفكر الإسلامي وبين رموزه، وقد تجاوز الدعوة إلى اقتراح بعض المجالات، ثم توفر بنفسه على بعض المقارنات.

وهذه الفقرة تهدف إلى أن تضع القارئ في إطار رؤية تبنتها واحدة من أبرز الدوريات التي تصدر في إيران عن مركز الحوزة العلمية، وهي مجلة “حوزة” (بالفارسية)، تناولت من خلالها الشهيدين الصدر ومطهري في أبرز مرتكزات فكرهما ودورهما في صياغة الفكر الإسلامي المعاصر، إضافة إلى عرض الأركان الأخرى في دورهما الإصلاحي والإحيائي في الحوزة والأمة.

والذي نريد أن نقدم به بين يدي هذا المقال المترجم أن الساحة الفكرية في إيران سجلت انفتاحاً كبيراً على مدرسة الصدر، ومع تقادم الزمن أخذ اهتمام هذه الساحة يزداد بمكونات مدرسة الصدر، وتكثر الدراسات من حوله.

وإذا أردنا أن نقارن بين العقد الأول الذي تلى استشهاد الصدر، والعقد الثاني لرأينا بسهولة أن العقد الثاني تميز على الأول بضخامة الاهتمام وكثافته.

والشيء المهم أن الساحة الفكرية في إيران تحررت إلى حد كبير من الاهتمامات الطارئة والمؤقتة بفكر الصدر ومدرسته، التي ترتبط عادة بالمناسبات، وتكتفي بالاحتفاء بالذكرى، وتحولت إلى الانفتاح المنهجي.

وهذا الاهتمام اكتسب طابعاً مطرداً في المدة الأخيرة، وبالذات بعد دراسة مجلة “حوزة” التي تعدها بمثابة البيان الأول والإعلان الأكثر جدية للانفتاح على فكر الصدر ومدرسته، إذا ازدادت الدراسات بعدها حول الشهيد الصدر بحيث أصبحت تشكل ما يشبه الظاهرة التي يمكن تلمسها بوضوح على صعيد الحياة الفكرية الإيرانية، خصوصاً ي المجال الحوزوي المتنور وفي دائرة المثقفين الإسلاميين المتأصلين.

فالدائرة الحوزوية وجدت في مدرسة الصدر، وبالذات في مكوناتها الفقهية والأصولية، وفي مناهج التجديد التي سادت هذه المدرسة، وفي الأفكار الإصلاحية على مستوى الاجتهاد والحوزة والمرجعية، ملاذاً لتطلعاتها في هذا المضمار، كما وجدت أنها تقع في السياق الذي انطلقت منه كبرى مشاريع الإصلاح الحوزوي والمرجعي في إيران.

وكمؤشر على هذا الاهتمام ومثال له، ترجمنا دراسة مجلة “حوزة” والذي نستطيع أن نكتبه باطمئنان من خلال مطالعة هذه الدراسة، أن الجو الحوزوي في إيران، استطاع أن يكشف بعمق المرتكزات الأساسية في مشروع الصدر للإصلاح الحوزوي والمرجعي، بل تجاوز ذلك للنفوذ إلى الأبعاد التكوينية الأخرى في فكر الصدر الإحيائي.

أخيراً نشير إلى أن ما نشرته مجلة “حوزة”[29] جاء في عاطفته المتدفقة وحماسه الكبير، أعمق وأكثر وهجاً مما استطاعت الترجمة أن تعبر عنه، وتنهض به، فالترجمة في نهاية المطاف تبقى لغة ثانية، لا تستطيع أن تعكس جميع الظلال والإيمائات التي ينطوي عليها النص الأصلي، مهما جاءت قوية ومتماسكة.

نص دراسة مجلة “حوزة”

ترتهن ولادة الحضارات والثقافات الأصيلة بمساعي مفكرين كبار، يرسون من خلال فكرهم الواسع ورؤاهم الخلاقة قاعدة الأفكار الجديدة.

وهؤلاء الرجال الكبار لا يخشون شيئاً في هذا السبيل، لا قوة سلطة ولا ما يثيره السطحيون (العوام) من ضجيج، كما لا يبالون بحسد الخواص.

وهؤلاء المفكرون الكبار وإن كانوا قلة في كل حقبة، إلا أنهم بثباتهم في طريق أهدافهم وبإيمانهم بالسبيل الذي سلكوه، يضعون قواعد الحضارات العظيمة، ويبنون صرح الأفكار الجديدة.

ولكون هؤلاء حملة هدي السماء ورسالتها، ترى وجودهم يبث النور على مسرح الإنسانية طوال تأريخ البشر وينير السبيل للضالين.

ولم يمض هؤلاء الكبار في مهمتهم العظيمة في طريق سهل بحيث تلقى أعمالهم الترحاب من الخاص والعام، بل مضوا في هذا السبيل يتجرعون المرارات في كل آنِّ آن، ويعانون الغصص في كل لحظة، تحفهم المخاطر من كل صوب، وتحيط بهم ألتُهم.

ومع ذلك فقد كان للقضية وجهها الآخر، إذا فتحت أفكار هؤلاء طريقهم إلى قلوب أهل الاستقامة والصلاح، فكان لها مستقرها المكين في نفوسهم، فتبنوها بقوة، ونهضت بالدعوة إليها همتهم المثابرة، فأخذوا يطوفون بها الأرجاء، ويحملوها هماً يتنقلون به من أرض إلى أرض. بحيث اكتسبت هذه الأفكار الخلاقة التي تدخل في صناعة الحضارة، صيغة عالمية.

وهذه الثلة التي آمنت بتلك الأفكار وحافظت عليها في مكنونات النفوس والقلوب، وطافت بها في كل أرض، هي التي أوصلت رسالة أولئك الكبار إلى الأجيال والعصور التالية.

إن ما يمثل النواة المركزية للأمم، هو ما تبديه من احترام لكبارها بحيث تضعهم بالمكان اللائق، وتبادر إلى تحويل مفكريها إلى أسوة لها تقتدي بهم أجيال الأمة، وتستعين بمعين فكرهم الصافي على صروف الدهر، وتتحرك في خط التقدم والرقي من خلال توظيف ذخائرهم المعرفية.

واحترام الأمم لمفكريها ووضعهم في موقعهم اللائق، لا يكون إلا بالتعرف على حياتهم وحفظ آثارهم، وبيان مواطن التوفيق في سلوكهم ومعرفة دقائق حياتهم وأسرارهم، وتحويلهم بالتالي إلى أسوة، وتحويل فكرهم إلى ذخيرة للتقدم والفلاح.

وحينما نطوف بتاريخ العالم، ونتمعن تأريخ حضارات الأمم خاصة، نجده أفضل شاهد على صحة هذا الادعاء.

أن الأمم التي تنطوي على حضارة كبيرة، لا تكتفي بالارتقاء  بمفكريها ومصلحيها إلى القمة، بل تعمد إلى تحويل هؤلاء إلى شخصيات عالمية وتاريخية من خلال الامتداد بأفكارهم في أرجاء الدنيا. وأمتنا وإن كانت تحترم شخصياتها، وتستلهم المدد من مزاراتهم، إلا أن هذا المستوى من التكريم يبقى سطحياً لا ينفذ إلى الأعماق، ولا تمتد خارج الحدود، كما أنه لا يتحول إلى مرهم لمعالجة معضلات الحياة، حيث لا يستعان بأفكار هذه المجموعة في مسار الحياة.

المتعلمون من أبناء جيلنا المعاصر، يعرفون “كانت”، “هايدجر”، “بوبر” وغيرهم أفضل مما يعرفون الشخصيات المبدعة البارزة التي كان لها الفضل في إحداث تغييرات، من كبار الأمة ومفكريها.

لقد عشنا بعيداً عن مفكرينا، وقد بلغ من بعدنا عنهم، أن أضحت آثارهم القيمة عرضة للإندثار والنهب من شدة إهمالنا لها. ولولا صروح عظيمة من ميراث بناه كبار من أمثال الشيخ اقا بزرك الطهراني، والسيد محسن الأمين واضرابهما، لكنا اليوم مقطوعين عن تاريخنا، ولبقينا محرومين مما تزخر به حياتنا اليوم من حركة ونشاط في مجالات العلم، المعنوية والثقافة.

واليوم، إذ قامت بين ظهرانينا “الدولة الكريمة”. وتوافرت الإمكانات لمعرفة الثقافة الإسلامية والشخصيات الإسلامية، والتعريف بها وبهم، يجب علينا أن نشمر مناكبنا، ونمارس جهداً مثابراً واسعاً يغطي ما فاتنا من نواقص وتقصير، وننطلق بالتعريف بما لنا من مفاخر وذخائر ثقافية ومعنوية، على أفضل وجه.

يجب اليوم أن نسجل حضور ثمار مفكرينا وعطائاتهم في متون المناهج الدراسية، لكي يكون بمقدور طلاب العلم في الحوزة والجامعة، أن يستفيدوا منها، ويكونوا على وعي بماضيهم المجيد.

إذا حصل ذلك، يمكن أن ننتظر ظهور جيل بناء واعٍ له قصب السبق في مضمار الثقافة والحضارة الإسلاميتين، مما يقود لتحقيق المجتمع القرآني الموعود، الذي تكون فيه الحاكمية للمستضعفين في الأرض.

ولا ريب في أن طي هذا الطريق يحتاج إلى مجاهدات ومعاناة مخلصة في مجالات مختلفة، أهمها التأسي بأولئك الكبار الذين مثلوا في فكرهم وجهادهم العلمي والفكري ـ أساس هذه الثورة. فقد بسط أولئك راية التجديد في الثقافة والفكر الديني، وأشادوا الأصول والقواعد الفكرية التي نهضت عليها هذه الثورة.

لقد مثل الإمام الخميني في الأبعاد جميعها، والعلامة الطباطبائي، والشهيد مطهري والشهيد الصدر، والشهيد بهشتي وغيرهم من المفكرين من ذوي المنهج المنور في مضمار الفكر الإسلامي أسوات رفيعة لأمة رسول الله صلوات الله علیه. والمسؤولية كبيرة على الذين ارتضعوا فكر هؤلاء الكبار، وساروا على نهجهم بأبعاده كلها، وأخذوا من أهدافهم طاقة لحركتهم، إذ عليهم أن ينيروا السبيل لطلاب العلم، فيما كان عليه أولئك الكبار من المسير وخط السير، وفي المنهج الفكري، وكيفية التلقي، وسبل مواجهتهم وتعاملهم مع المؤامرات الفكرية والثقافية للأعداء، كما عليهم أن يقتفوا آثار أولئك في الفكر والعمل، وأن يفكروا كما كانوا يفكرون، ويترسموا أولياتهم في العمل، بحيث لو كان أولئك أحياء لالتزموا بالعمل بها.

وغياب أولئك الكبار، بقي الدور لفكرهم. فلو لم تكن أفكارهم ورؤاهم قد بسطت بظلالها على ساحة الثقافة والفكر في هذا البلد، في حالٍ شبيه لما حصل في بداية الثورة، بحيث تحولت إلى دليل ومنار هداية للشباب والجامعيين وطلبة الحوزة وبقية الفئات، لسقط الجيل الحوزوي الجديد، والأجيال الإسلامية الآتية في هوة الانحراف وطريق الضلال. وحينئذ يأتي دور العدو وهو يتحرك بوعي في تحريف نهج أولئك الكبار ويشوه ما كانت عليه شخصياتهم، وإلى جواره تتحرك مجموعة من الصف الداخلي تحسب على الأصدقاء، بيد أن ضيق أفقها يوقعها في ذات الشراك، فهذه بدلاً من أن تستفيد من أفكار أولئك في إنضاج فكريها وتعميقه، واستكمال فهمها وتكامل إدراكها الثقافي، تراها تعود لأفكار أولئك بما تتسم به من عمق وبصيرة وإنارة، فتسطحها عبر صبها في أوعيتها الضيقة ونظرتها القصيرة، وإدراكها المحدود، والأدهى من ذلك أنها تنصب نفسها مرجعاً يقعد لتفسير فكر أولئك العظام ويكون قيماً عليه، وعندئذ تعاد الكرة للأفكار الجاهلية التي كانت سائدة قبل الثورة الإسلامية، وتطل برأسها مجدداً، فتنطمس المعالم الفكرية والثقافية للمجتمعات الإسلامية ويضيق الميدان على الفكر الإسلامي النير المستبصر، فتذهب هدراً جهود ضخمة وآلام كبار، تجرعتها شخصيات عظيمة ساقمة كمطهري والصدر، بذلتها في طريق إحياء الإسلام، وتضيع آلامهم في مستنقع الجهل، بحيث تختفي معالم رؤيتهم ومشاق طريقهم الصعب عن القلوب المشتباقة لزلال نبع الإسلام والنفوس اللهفى إليه.

في ضوء ذلك، ما نحتاج إليه اليوم أمام جيوش الجهل، وهي تهجم على المجتمع الإسلامي من كل جانب، في مسعى منها لملء أركان وجوده بالظلام، أن نتحرك بمبادرة حاسمة نتعرف فيها على أصحاب الأفكار المتنورة اليقظة، التي تبعث على الحركة والنهوض، ونرفع رموزها منارات تعليمية وأسوات تربوية للجيل الجديد، لكي تتألق أبداً سماء قلاع الوعي، وتبقى محصنة دائماً من غيوم الجهل ورياحه السوداء. في اعتقادنا لو أن الشهيد مطهري والشهيد الصدر عُرَّفا جيداً لشعبنا فيما تنطوي عليه شخصية هذين العظيمين من أبعاد فكرية، بحيث تُشرح هذه الأبعاد وتبان بمجموعها لأبناء شعبنا، وبحيث تتحول هذه الأبعاد الفكرية إلى محور في الحوزة، يكون مداراً لبحوث تحليلية جادة وعميقة، على أن يركز بشكل خاص على نقاط الاشتراك الفكري بين الاثنين وتتلبث الحوزة في دراسة ذلك كله بدقةٍ وجد، فإن مسار الفكر والثقافة في مجتمعنا [الإيراني] سيسير لا ريب في الطريق الصحيح.

وهذا المقال يحتفي بهذين العظيمين اللذين يوفران في واقعنا المعاصر _ بفكرهما ورؤاهما _ حلولاً لمعضلاتنا الراهنة، ويفتحان أمام الأنفاق المسدودة آفاقاً لنا، بحيث تستند حركتنا الثقافية على قواعد فكرهما، وتكتسب منه سمتها ووجهتها، وذلك من خلال تركيزه _ المقال _ على الخصائص المشتركة بين هاتين الشخصيتين المنيفتين.

التفكير الموحد

كأن الله (جل علاه) اختار لهذين الأرضين المتجاورتين (إيران والعراق) داعيتين رسولين، لكي يحملان للعالم المعارف الإسلامية الأصيلة، وينفضان عن الفكر الديني غبار سنوات طوال من العزلة والانزواء. وكأنه (سبحانه) أراد للشعبين المسلمين في هذين البلدين، أن يحملا في هذا العصر المظلم، مشعل الهداية بأيديهما، وينهضان بحملة عن معاناة والتزام، وهما يفتحان قلوب شباب المسلمين بأمواج متدفقة من ثقافة تنبض بحرارة الإيمان، وفكر مضمخ بالقيم الدينية، فتنجذب القلوب إلى معين المعارف الإسلامية الصافية، ويحدث في مكوناتهم الفكرية _ شباب المسلمين _ انقلاب عميق.

ومع أن هذين العالمين الربانيين أمضيا حياتهما في التعلم والتعليم وتجديد الفكر الديني، وهما بعيدان عن بعضهما، يعيش كل واحد منهما في بلد، إلا أنهما كان ينطويان على طريقة متقاربة جداً في التفكير. ومرد ذلك أن كليهما تجاوز السطح ونفذ إلى العمق، فبلغ البذرة الأساس ولمس بكلتا يديه روح الإسلام، تشرّبها في روحه وقلبه، وعاشها في حياته وخط مشيه، فترك ذلك كله أثره العميق في وجودهما، فغدا يفكران بطريقة تكاد تكون واحدة.

هذا التوحد والتواصل، بلغ بين الأثنين حداً، بحيث أن الناظر إليهما من الخارج، وهو لا يعرف أنهما درسا في مجالين حوزويين منفصلين، يحسب أنهما تلقيا تعليمهما معاً على يد أستاذ واحد تربيا عليه، يمتاز بالدقة وشمولية الرؤية، ثم جلسا معاً، وهما يترسمان للإسلام مقولاته المختلفة، ويلتمسان له طريقه للإحياء والحركة، وقد وضعا معاً بناء الصرح العظيم لإحداث التحول الفكري في دينا الإسلام.

عندما نقوم بجولة في الآثار الفكرية لهذين العلمين تمتلأ حواسنا بعطر الإسلام المحمدي يبث شذاه في الأرجاء. هما يتحركان على نسقٍ واحد في طريقة  العرض ومنهج الاستدلال، وفي ترسم اتجاه الحديث وتحديد مساره ومنحاه.

هواجسهما واحدة، ولهما ذات الهموم والآلام. يتحليان كلاهما بقدرة على التمييز المبكر السريع بين الأفكار الصحيحة وغير الصحيحة، فيقومان بعرض الصحيح على الساحة العلمية والثقافية، ويحذران من المنبت السقيم.

نهض كلاهما بمهمة نقد الفكر الوارد من الشرق جاء أم من الغرب، وقد جاء النقد عن علم، وهو يتسم بالدقة والعمق. فعل الأول ذلك وهو يكتب “اقتصادنا”، حيث وضع فيه النظامين الاقتصاديين الشرقي والغربي على طاولة التشريح، فاضطلع بدراسته اضطلاع العالم المتضلع، ونقد بعيداً عن الهوى والضجيج، فأشار إلى مواطن الضرر التي تصيب المجتمع بأذى، وأبان مواقف الإسلام ورؤاه. في حين فعل الثاني ذلك في دروسه عن الماركسية، وفي رؤاه العميقة الواقعية التي أبان من خلالها القواعد التي يقوم عليها الاقتصاد الإسلامي، فميز بين الحقيقة والسراب، وكشف عن الطريق الصحيح للمعاش.

ونهض الأول بالمهمة من خلال توفره على رؤية صحيحة لتأريخ الإسلام، أثبت من خلالها أن التشيع هو مولود طبيعي ولد في أحضان الإسلام، حيث وضع النبي قواعده وأرسى صلوات الله علیه أركانه بيديه، بأمر من الله. والثاني فعل ذلك من خلال جولة تحليلية عميقة أمضاها في إفناء نهج البلاغة، ودراسة توفر من خلالها على بيان شخصية الإمام علي علیه السلام بحيث أطل من خلال ذلك على فترة من تأريخ الإسلام تعد أكثرها حساسية، فتوفر على تحليلها، ورسم لشخصية الإمام على علیه السلام من خلال ذلك التحليل التأريخي، دوراً لا يسع أية فرقة من فرق المسلمين إلا أن تذعن إليه، وهي تدرك _ عن قناعة _ أن الحياة الإسلامية من دون الحضور الجدي لعلي علیه السلام ما هي سوى ظلام واضطراب.

وبتوفره على دراسة الحماسة الحسينية، وسيرة الأئمة، وبتحليله للقيادة في الإسلام، وللولاء والولاية، ميز الطريق الصحيح من المنحرف المعوج، وأزال غبار الخرافة عن وجه الأئمة وشخصياتهم، بعد أن لحقهم الذي لحقهم على مر السنين، وترسم معالم حياتهم بطريقة، يستطيع فيها أي إنسان يريد أن يقتفي آثارهم، أن يتمثل هذه الإرادة عملياً ويعيشها بسهولة.

لم يكن يطرح الإمام وهو محاط بهالة مضخمة من التقديس ترفعه إلى درجة، بحيث يفتقد في وجوده معنى الأسوة والمثال القابل للاحتذاء.

واجه الواقع الشيعي بعد غيبة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف موجاً من الأسئلة التي انبثق بعضها من داخل الصف الشيعي وبعضها الآخر جاء من خارج الصف. ومن ملامح تلك المرحلة ظهور فرق مختلفة، اختار بعضها جانب الإنكار، فيما انحاز بعضها الآخر إلى جانب الدفاع. في مثل هذا الجو نهض علماء الشيعة المستنيرون ببذل ما عندهم من مساع علمية في الطريق إلى رفع موارد الغموض، والدفاع عن حياض التشيع وما أصاب الشيعة عبر إيمانها بهذه العقيدة المقدسة _ الغيبة _ حيث أصبحت في ضائقة وقد ألمت بها التهم وأحاطتها من كل جانب، وأخذت ضربات الآخرين تنهال على الكيان الشيعي، وتضيق الخناق على الشيعة.  وقد آتت جهود أولئك العلماء أُكُلها، حيث استطاعوا أن يبلغوا بالركب ساحل الأمان، ويخرج الكيان الشيعي مرفوع الرأس وهو يتجاوز المنعطفات الخطيرة، بعد أن استطاع الدفاع عن عقائده عبر جهود أولئك العلماء. لقد استمرت الجهود تُبذل على هذا الطريق منذ غيبة الإمام المهدي وحتى عصرنا الحاضر. وقد نهض بهذه المهمة الخطيرة، في كل عصر ثلة من العلماء، كانت تجيب عن الأسئلة وتتناول مواطن الغموض بما ينسجم مع ذلك العصر.

وفي زماننا هذا، كان هذان العزيزان، هما من بين الثلة التي وضعت خطواتها على هذا الطريق بأسلوب علمي، فأعطت للشيعة مكانة مرموقة، من خلال الأبعاد العلمية التي نهضت بها. ومن خلال ما قدماه من جهود فكرية تحليلية في هذا المضمار.

هذان الرمزان الكبيران توفرا كلاهما على عرض الفلسفة الإسلامية وبيان نقاط قوتها على أحسن وجه، كما اهتما بإبراز تفوقها على فلسفة الغرب والشرق، فواجها عبر هذه الأدوات الفعالة (المعرفة الصحيحة وبيان نقاط القوة وإبرازها) الشبهات التي كانت تحيط هذا المجال، وأجابا عن الأسئلة المختلفة بما تستحق.

كان لهما مع القرآن علاقة خاصة، فقد أنِسا بكتاب الله، وثابرا عل تعميم فهم القرآن بين الناس، وسعيا إلى أن تكون لكتاب الله القيمومة على الحياة، من خلال ما بذلاه من جهدٍ مثابر، لإنزال القرآن إلى صميم حياة المجتمع، وأن يكون له حضوره في النظام التعليمي للحوزات، فابتكرا مناهج جديدة في تفسير القرآن.

الاثنان معاً وقفا إلى جانب الحركة الثورية العظيمة لشعب إيران المسلم بقيادة مفجر الثورة وقائدها الكبير الإمام الخميني، وتفاعلا معها من أعماق قلوبهما، ثم وضعا أنفسهما في خدمة هذه النهضة، فامدّها بالغذاء الفكري، ومنحاها ثمرات قلبيهما وعقليهما، وقدما لها على طبق الوفاء ما يملكاه من رصيد وذخائر علمية.

لقد قدم الشهيد الصدر بشجاعة فائقة تثير الدهشة جميع إمكاناته في خدمة الثورة، وقد فعل ذلك في عراق الخوف والهول، وفي عصر حاكم هو أكثر حكام العصور ظلماً وبغياً، وتحرك بإرادة كبيرة ومثابرة عجيبة لتدوين مجموعة من الدراسات العميقة، التي جاءت دواءً للمعضلات المغلقة، ولكي يوفر للمجتمع الإسلامي الرؤية التي يقوم على أساسها.

لقد عبر في أصعب الأوضاع عن علاقته الوحيدة بالإمام الخميني، ودعا جميع الحوزويين والأحرار لتذويب وجودهم في الوجود النوري الملكوتي للإمام الراحل. وكان يتضرع إلى ربه بإخلاص أن يمد الجمهورية الإسلامية، لكي تتسع رقعتها وتشمل جميع الأقاليم الإسلامية.

الشهيد مطهري حمل هو الآخر ما يملكه واضعاً إياه على كفيه، وقد قدمه إلى الشعب الإيراني.

لقد كان يؤمن أن الجمهورية الإسلامية هي الأطروحة التي تحقق له أهدافه. لذلك بذل جهوداً كبيرة في طريق صوغ المباني الإسلامية لهذه الحركة العظيمة وعرضها. لقد وظف رصيده العلمي العظيم في سبيل بيان أهداف الثورة الإسلامية وبرامجها، وقد واجه من خلال هذا الموقف المحسوب الأفكار المنحرفة والباطلة، واستبسل في تثبيت حاكمية القيم الإسلامية الأصلية.

لقد كان هذان العظيمان يعتقدان أن الحركة الفكرية ستبقى عقيمة من دون سند يمثله لها الجهاد الأكبر، والحركة المعنوية العميقة والتحول الروحي العظيم، لذلك بذلا مساع كبيرة لكي تنبض الروح المعنوية في المجتمع، ولكي تكتسب الحركة الفكرية الإسلامية خصوصيتها عن هذا الطريق، وتتميز عن بقية الاتجاهات الفكرية الأخرى، بحيث يكون المسار واضحاً بين الطريق المؤدي والمسار العقيم الذي لا يفضي لشيء. وفي سبيل ذلك نهضا بمسعى حثيث من أجل أن ينتبه إلى هذه الحقيقة جميع أنصار الإسلام الذين يتحركون على طريق التغير، فالحركة الإصلاحية في الإسلام، والجهاد السياسي وبقية ضروب النشاط الإسلامي الأخرى لا تقبل الانفصال أيضاً عن الجانب الأخلاقي والمعنوي.

أجل لقد دشن الشهيد مطهري والشهيد الصدر حركة فكرية جديدة ووضعا قواعد بناء حضاري جديد، من مكونات مشروعهما الذي جاء من جهة يجيب عن أسئلة العصر، وتصدى من جهة ثانية لحل المعضلات الفكرية الجديدة، ففيما تحرك في الخط الثالث لعرض الأفكار المبتكرة الخلاقة المستمدة من أصول الإسلام ومنابعه.

وبضلوعهما في بيان قدرات الدين وإمكاناته الخلاقة في إدارة الحياة البشرية وتوجيهها، ومن خلال التفسير العصري الذي اضطلعا به للدين، تحولا في هذا العصر إلى معمارين في الثقافة والحضارة الجديدة.

والاستمرار على خط هذين الرمزين الكبيرين يتمثل في معرفة أهدافهما، ووعي وإدراك ما تركاه من مناهج استخدماها في تفسير الدين وفهمه والتنظير لفكره، كما يكون من خلال وعي وإدراك القواعد التي أسسا لها في تشييد قواعد حركة الإحياء العصري للدين.

لقد التقى هذان الكبيران على هموم وهواجس مشتركة، ومعرفة هذه الهواجس والهموم والتعبير عنها في الملاء العام، هي مهمة تقع على عاتق مفكري إيران واللوامع من باحثيها. إذ يجب على هؤلاء أن يستفيدوا من الإمكانات المتوافرة الآن ويضعوا هذه المهمة في رأس أولويات عملهم الفكري، لكي ننتظر من خلال ذلك ولادة جيل جديد مفكر، هادف، ينطوي عل طريقة سليمة في التفكير، يكون سنداً للثورة الإسلامية وعضيداً لها.

وما نفعله الآن، هو أن نشير إلى بعض الموضوعات المشتركة بين هذين المفكرين الإسلاميين، مما يعبر عن هموم خاصة بالنسبة إليهما، بحيث يمكن تلمس آثارها في كل مكان من مصنفاتهما وتركتهم الفكرية. ثم نعرض بشيء من التفصيل، إلى بعض هذه الجوانب.

والموضوعات المشتركة التي تعكس اهتماماً استثنائياً في المنحى الفكري لمطهري والصدر، هي:

1_ هاجس تفعيل الدين وبيان قدراته وما يكتنزه من طاقات في إدارة المجتمع وحل مشكلات الحياة.

2_ إصلاح الحوزات العلمية وتنظيم شؤونها وترتيبها.

3_ التعامل الدقيق على أساس موازين محسوبة مع رؤى وأفكار الآخرين.

4_ الإيمان بطريقة التفكير الحر ؛ وبالحرية.

5_ حماية الحدود العقيدية والقيمية للإسلام وصون ثغوره.

6_ اختيار طريقة المواجهة الجذرية الأساسية مع علل الانحراف وأصوله، والتوقي من الدخول في المعارك الجانبية في الساحة التي تعكس معاليل العلة.

7_ النظر إلى الإسلام كمنظومة والتعاطي وإياه كبناء شامل مترابط الأجزاء.

8_ إحياء الأبعاد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في الإسلام، وبث الحركة والحماسة في بنية الفكر الديني.

9_ هاجس حل المشكلات الفكرية للنظام والتفكير الدؤوب بما يوفر السلامة لحركة النظام الإسلامي.

10_ نصب الطريقة البرهانية في الثقافة والنظام التعليمي الإسلامي، وإحياء موقع العقل الإنساني في حركة الفكر والاستنباط، وفي نظم المعرفة الإسلامية.

11_ بذل المساعي من أجل أن يكتسب القرآن موقع القيمومة الجادة في صميم المجتمع، وفي بنية الحوزات العلمية بعنوان كونها إطاراً مرجعياً للأدلة والمنابع الأخرى.

12_ الانتباه إلى دور الزمان والمكان، وأخذ مقتضيات الزمان بنظر الاعتبار في حركة الاستنباط وبناء المعارف الدينية، والأحكام والتعاليم الإسلامية.

13_ استنباط وبلورة قواعد وأصول جديدة ومبتكرة تبعث على تألق المعارف الإسلامية وتفتح العلوم الدينية.

هم تفعيل الدين

الهم الديني وهاجس حفظ عزة الإسلام وصلابته، وتوفير الضمانات لتفوق منطق القرآن على جميع ضروب المنطق الأخرى، وعلى بقية الفلسفات والاتجاهات الأرضية، كان من خصوصيات هذين العلامتين. كما كان من همومهما الجادة التي تأخذ عليهما حياتهما العملية، هو تنفيذ أحكام الإسلام في المجتمعات، وبيان حقائق الدين وبث معارف الوحي وتفهيمها بأسلوب معاصر فاعل بين بني البشر.

لقد كان الهاجس الذي يؤرق هذين العالمين الربانيين هو إثبات المنطق الذي يطويه الشعار الكريم: )ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم صادقين(. لذلك كان ما يؤذيهما ويعانيان منه هو بروز حالة النفاق وعدم الصدق، والمسافة بين العمل والعنوان الإسلامي، التي أخذت تضرب حياة المسلمين، لذلك بذلا مسعاهما على طريق إعادة بناء الحياة على أساس الفكر والقيم الإسلامية.

لذلك جاءت بحوثهما من قبيل الكتابة حول الأسرة ونظام حقوق المرأة، لتعبر بالدرجة الأولى عن فاعلية الدين وحضوره في صميم الحياة، قبل أن تكون إجابات للأسئلة التي كان يثيرها بعض المتقولين على الدين،وهم يرمونه بالرجعية والقدم، ويزعمون أنه أصبح جزءاً من الماضي، وبذلك فهو لا يصلح للتطبيق.

كانا يعتقدان أن أية مهمة لبيان فاعلية الدين وإظهار قدراته يجب أن تأخذ بنظر الاعتبار مجموعة من الأصول تعنى بإحيائها، وهذه الأصول، هي:

1_ الطابع الفطري لأحكام الدين وقيمه وتعاليمه: وقد توفرا في مضمار هذه النقطة على بيان أفكار مهمة ومعارف أساسية تتطلب لوحدها بحثاً مستقلاً.

كان كلاهما يعتقدان في هذا المجال أن الحقائق الدينية ومعارف الدين الصافية لو عرضت على النفس الإنسانية النقية والعقل الإنساني السليم، ولو أوقظ في الإنسان إحساسه بالحاجة إلى الدين، لاتجهت الإنسانية إلى الدين تلقائياً، وتحولت إلى خط تنفيذه وحمايته والمنافحة عنه.

يكتب أحدهما: “أن مسؤوليتنا هي أن نوقظ في البشر حس الحاجة إلى الدين، وأن نعرض لهم هذه المسألة التي تشكل اليوم حاجة للإنسانية. ثم نعرض الإسلام نقياً من أية زيادة وإضافة، لو فعلنا ذلك لكفانا ولما احتجنا _ أنا وأنت _ لحمايته والمنافحة عنه، بل سيفتح الطريق بنفسه، إلى الناس تلقائياً[30].

بث روح الحماسة ونبض الحركة في الإسلام: الإسلام دين الحماسة، والمذهب الذي يقود الإنسانية نحو القيم المتعالية. أن رب الإنسان يحب الأمور المتعالية المنيفة، لذلك ساق خلقه إلى هذا الاتجاه هو دعاهم إليه.

والقرآن نفسه والإسلام أكدا عزة الإسلام والمسلمين )ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين(.. وكتاب الله اهتم بالكرامة الإنسانية وأفضلية البشر، وتحركت دعوة القرآن في الاتجاه الذي يوظف جميع إمكانات الخلقة وطاقات عالم الوجود من أجل الصعود والتقدم.

ثم الكثير من هذه النصوص والتعاليم في القرآن والسنة، تؤكد جميعها الموقع الكبير للحماسة وروح الكرامة والعزة في بنية الإسلام.

وفي هذا المضمار ذهب الشهيدان الصدر ومطهري كلاهما إلى أن أحد أسباب انحطاط المسلمين، وواحدة من علل تخلفهم، هو إهمال روح الحماسة وإسقاط نبض الحركة والعزة والكرامة من بنية الدين.

وفي هذا المسار، وحين استبدلت الحماسة الحسينية وتركت مكانها لمحض الحزن على بيت الحسين، انبرى مطهري لتدوين “الحماسة الحسينية” وكشف إلى الملإ ما أصاب سيرة عاشوراء_في الأمة_من تحريف وما حل فيها من ركود. وفي حياة الأئمة علیهم السلام نهض ليكشف عن مواقع هؤلاء الهداة في كونهم أسوات في الطريقة والنهج، وأسوات في المعاد والمعاش، وأسوات في الحركة والعمل، وفي مواجهة النفاق والتصدي لأولئك الذين يعوقون حركة الكمال.

وفي طريقه للنهوض بهذه المهمة في تعريف الأمة بالأئمة، واجه ما كان مستقراً في النفوس والأذهان طوال سنوات متمادية، من إيجاد مسافة شاسعة بين الإثنين، وذلك من خلال الكلمات المتداولة على الألسن: أين نحن وإين الأئمة، إذ لا سبيل لنا إلى عظمتهم ومجدهم وساحة قدسهم؟! وقد كان هذا الارتفاع بمواقع الأئمة مبرراً للمسلمين في عدم التأسي بهم والاقتداء بهديهم، في حين أزال مطهري في نهجه الذي اختاره لدراسة حياة الأئمة، هذا التصور من صفحات ذهن المسلمين.

وقد كان الشهيد الصدر ينظر إلى المشكلة من هذه الزاوية أيضاً. فقد كان يرى أن السبيل لتجاوز حال الركود والخمول، والتنكب عن الطريق، يتمثل في كيفية ارتباط الشيعة وصلتهم بأئمتهم. لذلك بذل مسعاه لكي يستأصل هذه الحالة من الوجود الشيعي، ويطهرهم من المعتقدات التي تثقل بهم إلى الأرض. وقد كان سبيله إلى ذلك هو بث روح الحركة والحماسة في المعتقدات، بحيث اطل على حياة جميع الأئمةعلیهم السلام النابضة بالحركة والعز والكرامة، وتعاطى معها في منهج يجعلها مفيدة _ على سموها ورفعتها _ إلينا نحن الأرضين.

لقد صب الشهيد الصدر عبر هذا النهج، حياة الأئمة في إطار كونها نهضة لمواجهة الظلم، ولإنعاش المظلوم وتغذيته بالأمل، فانتهت حياة أئمة الهدى إلى أن تكون جميعاً حماسة هادفة.

والآن تقع على كاهلنا نحن بلورة روح الحماسة الدينية في السلوك، والنهج التعليمي والتربوي، وفي النظم الاجتماعية، وحقل السياسة، وفي إدارة الحوزات والجامعات وبقية ضروب المناشط، من خلال قراءة آثار أولئك الكبار واستمداد العون منها، لكي يتسنى لنا أن نصنع في ظلال هذه الحماسة، جيلاً يعيش الكرامة ويتفيء العز، ويصنع المواقف الحماسية الشجاعة، وهو يأخذ موقعه في ميدان الحياة وسوحها.

3_ تنقية معالم الدين من الخرافة: من أعقد العناصر المعوقة لحركات الإصلاح هو ما يتمثل بالدور الذي تقوم به الخرافة، وبقايا الثقافة الجاهلية وترسباتها، والعادات والتقاليد المتعارضة مع القيم الدينية، بالأخص حين تكتسب صبغة دينية، ويكون لها دور في فهم الدين وبيانه، ومدخل إلى تفسيره.

أصعب ألوان المواجهة التي خاضها الأنبياء، الأئمة، وكبار المصلحين في التأريخ؛ هي مواجهتهم للخرافة.

أجل كانت المهمة الصعبة في خط أولئك العظام، هي مواجهة ثقافة تكتسب ظاهراً مقدساً، التقت فيها رغبات عناصر تتظاهر بالتقدس، وَرُوّج لها في المجتمع من خلال روح حركية وسعي مؤمن بها، فأفضت بالإنسان إلى أن يكون خالياً من الطاقة الحركية البناءة التي يهبها الدين للبشر.

لقد نهض الشهيدان الصدر ومطهري بمنتهى الشجاعة في مواجهة الخرافة وخوض المعركة مع أصحابها، ولم يخشيا ضجيج العوام، كما لم يرتعبا من الخواص. هما لم ينكصا عن هذه المبارزة الشجاعة رغم التهم والإِحَن وضروب التكفير، بل استمرا بسبيلهما المستبصر، ووضعا إصبعهما على مواطن الخرافة التي أخذت مكانها في كل مكان من المعارف الإسلامية، فأبرزا الدين بصورته الوضاءة البعيدة عن الخرافة، وميزا بين الحقائق النقية الصافية ومستنقعات الخرافة.

وهكذا استمرا يخوضان المعركة مع الخرافة وحماة الخرافة، وهما يدعوان الآخرين للنهوض في هذا السبيل.

4_ العقل كمرتكز: كان الشهيدان يعتقدان أنه ليس بمقدور أولئك الذين يجمدون على الظاهر، ويبقون في إسار النقل وحده، أن يكون لهم أثر يذكر في معترك صراع الثقافات، وفي ميدان الأفكار، وبالتالي لن يكون بمقدورهم أن يتركوا بصماتهم وهم يفتقرون إلى الشجاعة وتضطرب أرجلهم.إنما يكون الميدان لأولئك الذين عرفوا مواقع ذواتهم جيداُ، وأفادوا من هذه الثقة بالنفس، ودخلا معترك الأفكار بالمنطق، فهؤلاء هم الذي سيأخذون مواقعهم في سوح الفكر، ويحسب لهم الحساب.

يكتب أحدهما: “يمكن لمجتهد أن يحرم حلالاً شرعياً منصوصاً لمفسدة اكتشفها عقله، بل ويمكنه أيضاً أن يحرم واجباً أو يوجب حراماً لمصلحة لازمة اكتشفها عقله بالفعل”[31].

إن القول بمثل هذا الموقع للعقل، وتوفر مثل هذه الطاقة لعلماء الإسلام في الإفادة من العقل وتثميره، هو أمر ينطوي على شأن خطير جداً، يستحق البحث الدقيق في مجاله، لما ينطوي عليه من توفير الضمان لخلود الإسلام وأدائه لدوره الفاعل البناء في كل عصر وزمان، بحيث تبقى أحكامه ومعارفه وقيمه في القمة دائماٍ.

5_ الرصد والحراسة: مثل العالم الديني مثل الراصد اليقظ، الذي يراقب تحركات الأعداء، ويكون يقظاً حتى لا يتسلل العدو إلى حدوده. وكذا الحال في الساحة الفكرية، فهو يقظ منتبه دائماً إلى تيارات الفكر المهاجم التي لا تتسق متع فكره الخاص، يرصدها ويتابعها باستمرار وبملء وجوده، حتى إذا ما نفذ بعضها أحياناً، تراه يهجم عليها سريعاً، ويسد الطريق عليها بقوة المنطق ومتانة الاستدلال. [لا بالمنع والقمع!].

لم تكن الأفكار الغريبة تعبر عن نفسها في العصور، كما هي اليوم، حيث تظهر _في أوساطنا الإسلامية_ وهي تتحلى بهالة تأخذ بالأبصار، كما لم تكن الأفكار جسراً إلى السلطة وطريقاً لها كما هي في عصرنا، ولم تكن القوى تعيش إحساس الحاجة إلى تظهير الفكر وإبرازه كما هي اليوم، إذ كان عنصر الإغواء الغالب في السابق هي قوة الإرعاب والترغيب، عبر الاضطهاد والمال.

اليوم أصبح للفكر شأن آخر، يشبه إلى حد كبير المواد المخدرة، حيث يقتطع _ الآخر _ حصة من الأرض يضعها في دائرة نفوذه، من خلال إخضاع شعبها للاستلاب وفقدان الذات، حتى إذا ما افتقدت الأمة المعنية إحساسها بذاتها وسقطت في دائرة الاستلاب، يهجم جيش العدو على تلك الأرض وينتهبها، ولكن ليس بالمدفع والدبابة، وإنما بوسائل تبدو عمرانية في ظاهرها، إضافة إلى توظيفه للصناعة والتقنية.

دور الفكر الآن، أنه يجعل الطريق مفتوحاً، والأرضية مهيأة، وفي ظلال الفكر ينصرف العدو لشأنه، ويتفرغ لأهدافه في التخطيط للحصول على المنافع وحفظ مصالحه.

والمشكلة اليوم أن أفكار وثقافات الغالب لا تحتاج إلى باب محدد تنفذ من خلاله إلى عالم المغلوبين والضعفاء، كي تُبقيهم على ضعفهم، وعلى تخلفهم من اللحوق بركب التقدم التكنلوجي والصناعي، كما ليس بمقدور أحد أن يحزر النافذة التي تنفد هذه الأفكار من خلالها، فهي تأتي على بساط الأمواج، تمتطي الريح، تتجاوز الأسوار والجدارن، والأبواب المغلقة، والغرف المحكمة، ولا توفر في مدى نفوذها حتى زوايا البيوت وأشد المخابئ احترازاً، تصل إلى جميع أعضاء الأسرة، وهي تحمل الرسالة التي تبغيها، فتلقيها بشكل كامل غير منقوص.

والعدو يعمل بآلية معقدة في سبيل إيصال رسالته، بحيث يرمي بشباكه بصورة خفية لا يُحَسُّ بها، حتى لا يكاد الإنسان يصدق أنه يسير بالاتجاه الذي يعزف عليه العدو، ليقع في حبال صيده.

في عصر مثل هذا من الصعب جداً إنقاذ المجتمع من سلطة الأمواج والشراك الخفية غير المرئية. والصعوبة تكمن في: أولاً أنه من غير السهل إقناع الإنسان المبتلى بأنه مصاب وأنه عرضة لشباك العدو. فهو يرفض ذلك ويثور، ويعتبر أن المبلغ لمثل هذا القول يبغي سلبه راحته واستقراره، ويريد أن يهدد ثبات حياته، ويرمي به بعيداً عن خط الكمال والرقي.

وثانياُ، لأن الموعظة والنصيحة لا تنفع في مثل هذه المواطن، خصوصاً وهي تكتسب صيغة مباشرة. فالنصيحة هنا حالها كمن يوجه لإنسان يحترق وسط النيران، قواعد توقي الحريق وإرشادات صيانة النفس من مخاطره!

وثالثاُ، لأن عملية التمييز بين الفكر السليم وغيرالسليم، هي مهمة معقدة جداً. خصوصاً حين يكتسب الفكر الضار ظاهراً سليماً، ويعبر عن نفسه من خلال القنوات والألبسة متنوعة.

إن الإحاطة بنبضات الفكر الظار ومعرفة خصائصه، وكيفية نفوذه، والقنوات التي يتحرك من خلالها، والجماعات التي يحط عندها، وما يستخدمه من وسائل ويوظفه من أدوات، والنخب التي ينفذ من خلالها، هي جميعها عوامل لا ينهض بوعيها وإدراكها إلا إنسان خبُر جيداُ تعقيدات العدو، له إحاطة كاملة بالأفكار وبجذور الأفكار، ودراية عميقة بمخططات أولئك ورؤاهم حول الإنسان والمجتمعات.

ورابعاً، لأن الدفاع عن الدين هي مهمة لا تتحاح في مثل أوضاعنا المعاصرة لأي إنسان. ففي علام يحسب لكل شيء حسابه، وكل كلمة فيه تستبطن معنى، وكل رؤية تتحرك نحو غاية يحتاج الدين في الدفاع عن حياضه إلى لغة خاصة، لا تتاح لإي إنسان.

فمن شروط الدفاع الإحاطة بجميع أبعاد الدين، والتعبير عن ذلك بلغة خاصة (معاصرة)، ولو لم تستخدم اللغة المعاصرة في الدفاع عن الدين في مثل هذه الأوضاع، ولم ترع الشروط المطلوبة في هذا المجال، لأنقلب الدفاع إلى ضده، وأتى على هدم الأفكار من أصولها.

وخامساً، لأن تمييز العدو عن غير الغدو، ووضع الحدود الفاصلة بين الأعداء، وبين من يتحرك بدوافع أخرى_كالجهل وافتقاد الرؤية، أو الوقوع أحياناً في أحابيل العدو_هي مهمة لا تتيسر لأي إنسان.

والذي يزيد في تعقيد الحال أن العدو يبادر بنفسه أحياناً إلى تضخيم أدوار بعض الأشخاص الهامشيين واسباغ مظهر العدو عليهم، لكي يفتح السبيل لنفوذ أفكاره وامتدادها من جهة، ولكي يحرف من جهة ثانية مسار المدافعين عن حياض الدين، عن اتجاهاته الأصلية، وخططه الأساسية، ويستهلك جهودهم في الهوامش والفروع.

الشهيد الصدر والشهيد مطهري انطلاقاً في ساحة حماية الدين وإرساء قواعد الدفاع، وهما على وعي عميق بجميع هذه المنحنيات، ودراية كاملة بهذه المنعطفات والعقبات.

كانا من طراز الحراس اليقظين الذين يتحلون بذكاء حاد ونباهة حاضرة، وكانا يعرفان أبسط حركات العدو مهما كان شكلها والوجه الذي اندست فيه، ولهما من البصيرة والوقادة ما يضربان به الباطل المتلبس بالحق. هما على خطى أمير المؤمنين وهداه، وهو يقول: وإيم الله لأبقرن الباطل حتى أخرج الحق من خاسرته[32].

لقد استوعبا الساحة من حولهما جيداً فيما تموج به ميادين الفكر من اتجاهات ثقافية ومدارس فكرية، وكان معينها في ذلك استعداد العون من البصيرة الملكوتية والفرقان الإلهي وعدتهما فراسة المؤمن وفطنته، والمعرفة الواعية بالعصر والإدراك الدقيق للزمان.

وعلى هذه الأرضية نفذا إلى الباطل وهو يدس نفسه في أكثر الوجوه ثورية، ويخفي أزاميره في تعييرات وأشكال ووجودات ممعنة بالتقديس والتظاهر بالتدين، فضربا على عروق الفكر المادي في بنيانه، بعد أن استخرجاها من طيات السطور وخفايا الكلمات والأقوال. لقد أدركا جيداً أن الفكر المعاصر لا يكتفي بمواجهة الدين ومعارضته وحسب، بل هو يروم إلى أن يأخذ مكانه ويحل في محله. فقد أخذت المدارس الفكرية الجديدة تعرض نفسها وكأنها “أديان” جديدة جاءت لإنقاذ الإنسان وتحريره. وعلى هذا الاتجاه تحركت هذه المدارس بطريقة أخذت تملأ ذهن الإنسان وفكره وتحيط بسلوكه وممارسته الحياتية، حتى أخذت الأديان تزوى في جوانب هامشية مهملة.

في مثل هذه الأوضاع دخل هذان الرمزان الكبيران الميدان، وبدءا صولتهما في مقارعة تلك المدارس والاتجاهات على أساس منطقي عقلاني، وبصيغة طرح منظومات  فكرية مترابطة تقوم على أساس قواعد محكمة وتخطيط أصيل. لقد توفرا في الوهلة الأولى على تحليل أفكار العدو واطروحاته، ثم ارتكنا إلى مصادر الإسلام ومنابعه، وغاصا في الأعماق، وتمخضا بالبحث، حتى إذا ما أخذا نصيبهما من هذا النبع، استلهما رأي الإسلام وموقفه في الموضوعات نفسها التي أثارتها الجبهة المعادية، وعبرا عن هذا الرأي في إطار منظومة تقوم على أساس منطقي عقلاني، عدتها البحث والتحليل والدليل.

وكان من ثمار عقليهما ومسعاهما على هذا الخط كتابات في الرؤية الكونية الإلهية، موقع الإنسان في الوجود، نظرية المعرفة، الفلسفة، الاقتصاد،  الإنسان والمجتمع، وغير ذلك.

الحرية وحرية التفكير

التفكير الحر هو ثمرة للحرية. وإلا متى يستطيع الإنسان أن يتحرى طريقة التفكير الحر، ويعبر عن الحق و”الحق مر ثقيل” بعيداً عن ضوضاء عامة الناس وضجيجها، وتكفير الخواص، إذا كان أسيراً لقيود “الاحتياطات” (من الاحتياط) التي لا معنى لها، مبتلى، بوساوس قاتلة، خائفاً يترقب على مكانته وجاهه وموقعه، طامعاً في الناس أسيراً لأهوائهم خاضعاً لأقوالهم متوجساً لما يدور في خلدهم؟

لقد عاش أحرار العالم في مهد الحرية وارتضعوا معينها، حتى أصبح بمقدورهم أن يحملوا راية تحرير المجتمعات وإنقاذ البشرية من الأسر.

وقد كان الشهيدان مطهري والصدر من هذا الطراز من الرجال، فقد ذوبا ذاتيهما ولم ينظرا إلى نفسيهما في المهمة التي نهضا بها لحفظ الإسلام الواقعي وصيانته، وتبيين الحقائق الإسلامية، ومقارعة الجمود. كانا من ذلك الطراز من العلماء الذي يحس بوظيفته ويستشعر المسؤولية. كان الذي يشغل بالهما ويؤرقهما حماية الإسلام وإظهار طاقاته المخزونة المكتنزة فيه. لقد انطلقا في مقارعة الأفكار ومواجهتها، بعدةٍ، من ملاكاتها، العمق الفكري، التخصص في العلوم الإسلامية، التبحر بكتاب الله، التطواف في نهج البلاغة، التمعن في المدونات الروائية، كما انطلقا على خط هذه المواجهة بحرية كاملة، وكان رائدها في ذلك قول الله تعالى: الذين يستمعون القول ويتبعون أحسنه.

كان أشد ما يؤلمهما أن يكبل الفكر بإيحاءات العوام ورغباتهم، وبتأثيرات المحيط، وأن يكون أسيراً للأعراف والتقاليد والعادات. يكتب أحدهما: “المسألة الأخرى، هي حرية العقل وتحريره من سلطة التلقين، وتأثيرات المحيط والعرف والعادات، أو من نفوذ العادات والتقاليد الاجتماعية إلى ساحته ؛ وبالتعبير العربي المعاصر، من الإيقاعات الاجتماعية”[33].

كانا يرفضان النهج الذي يعمد في الممارسة الفكرية إلى قمع آراء الآخرين، ليغطي بهذا الأسلوب على ضعفه وهزاله، ويريان أن الصراط المستقيم والطريق السليم للثورة يتمثل بفتح فضاء الحرية للأفكار.

“يجب أن يكون كل إنسان حراً في فكره وقلمه وبيانه، ومن خلال هذه الحرية يمكن أن تستمر ثورتنا الإسلامية بشكل سليم، في طريق النصر. والذي أثبتته تجارب الماضين أن النتائج تنتهي لصالح الإسلام ولا تكون بضرره، في كل مرة يحصل فيها المجتمع على نوع من الحرية الفكرية، حتى لو كان الباعث إلى منح هذه الحرية، هو سوء النية”[34].

كانا يؤمنان بأن حرية التفكير، وطرح الأسئلة والاشكالات هما رمزان لتقديم الثقافة الإسلامية وتفتح المعارف الدينية، وكانا يعتقدان بأهمية التساهل في هذا المجال.

إصلاح الحوزات

كانا ولهان بحب العلماء والمؤسسة الدينية (الحوزة) لذلك لن يطيقا أبداً أن يريا في هذا الوجود أي أثر ولو كان صغيراً، للانحراف.

كانا على دراية بما قدمه العلماء وبما يتحلون به من سابقة تبعث على الفخر والاعتزاز، وهما محيطان جيداً بما تجشمه العلماء من آلام وغصص ومطاردة وجوع، وتعذيب ومصائب.

كما كانا على وعي بما قدمه العلماء والمؤسسة الدينية من مكاسب للإسلام وللبلدان الإسلامية، ويعرفوها واحدة واحدة، كما كانا يفخران بما قدمه العلماء في هذه المؤسسة من ذخائر علمية، تصدوا لنشرها على الملاء العام من خلال التوفر على درسها وبيانها.

بيد أنهما مع ذلك كانا يألمان من الأوضاع الراهنة، وكانا يعبران عن معاناتهما بشكل دقيق بحيث لا يستفيد العدو من وجود النواقص، فيهجم على هذا الوجود ويسيطر على الإنجازات الكبيرة اللامعة التي نهضت بها المؤسسة الدينية.

لا ريب في أن التشخيص الصحيح للداء وعرضه بصورة سليمة هو نصف الدواء. ولأن هذين الكبيرين كانا بصدد العلاج، فقد دأبا في الحديث عن الداء، وتوفرا على بيان أبعاده بشكل صحيح، لكي تتاح لهما الفرصة لعلاج على نحوٍ أفضل، ويقفا بشكل جيد على النقاط العمياء، وهذا هو فعل المصلح.

لقد توفر الشهيد مطهري على نظرة للعلماء وللحوزة، جاءت تتحلى بأعلى مواصفات الواقعية والمنطقية والإنصاف. فقد كان يرى النقائص ويؤاخذ على العيوب من دون أن يهدم البناء، وإذا كان يتحدث عن العيوب، فهو لم يسكت عن المكاسب والإنجازات البناءة. وإذا كان يتحدث بلغة النقد، فلأنه كان يريد أن يدفع معجلة الإصلاح بسرعة أكبر.

وعلى هذا قامت فاعلية الحوزة، ومن الواضح أن وجوداً مثل هذا لا يمكن أن يكون بدون آفات ونواقص.

“قلت ذلك دائماً وأقوله مكرراً أن حوزتنا بمثابة الشجرة الأصيلة المثقلة بالثمار، وقد أصيبت بآفة (مرض) والواجب يدعونا إلى المحافظة على الشجرة ومكافحة آفتها”[35].

كانا يعتقدان أن أطروحة الإسلام من دون علماء، هي مشروع استعماري. كما كانا يعتبران هروب العلماء من السياسة وانزواءهم في الهوامش المهملة بعيداً عن الميدان الاجتماعي، هو ضرب من ضروب الجهل وضيق الأفق، يحكي الابتعاد عن روح الإسلام.

وفي مضمار الإصلاح الحوزوي والنهوض بالمرجعية قدم الشهيد الصدر مشروعاً، كان بنفسه رائداً في تنفيذه.

فعلى صعيد خطة المشروع في إحداث تغيير في نمط الرسائل العملية كتب “الفتاوى الواضحة” التي جاءت تنطوي على تقسيم جديد ونظرة مبتكرة، واتجاه آخر يختلف مع السائد المألوف. وفي دراسته عن “المحنة” وتوفر على بيان طرح جديد حول المرجعية.

نتبين مما مر أن العمل الإصلاحي الذي نهض به هذان المصلحان وتنامى في الحوزة وطال، كان من نوع آخر. لذلك لا ينبغي توظيف جهدهما سلبياً، واستخدام مقولاتهم النقدية كحرية في ضرب البنية العلمانية الأصيلة، ذات النفس التغييري والنهج الثوري، التي آلت على نفسها، أن يكون لها حضورها الجاد في ميدان السياسة، وأن تكون في خط الدفاع المثابر عن استقلال جميع البلدان الإسلامية في أرضها وكرامتها.

كان هذان الكبيران حرباً على المعممين المنحرفين، الهاربين من السياسة وهموم تغيير المجتمع، والآكلين باسم الدين، ولم يكونا في مواجهة مع العلماء الذين أوقفوا جميع حياتهم للدين، ووهبوها للناس، وأمضوها لحظة لحظة في طريق إصلاح المجتمع وتغيير واقع الناس فمثل هؤلاء لا يأكلون باسم الدين ولا يعيشون عليه، بل يتغذون من معاناتهم.

وقد كان مطهري والصدر يعشقان أمثال هؤلاء، ويبذلان ما يسعهما من جهد في تربية حوزويين على طرازهم، يشمرون عن ساعد الجد في خدمة خلق الله، ويبذلون الحقوق الشرعية في مسالكها الصحيحة، كما عليه عقيدة المراجع الكبار، من أن الحقوق الشرعية لا يستحقها إلا من كان في خط خدمة دين الله وخلق الله.

[1]– تتمتع محاولة الباحث الأردني د. فهمي جدعان “أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث” بأهمية خاصة في محتواها وإطارها المنهجي المنتخب، كونها جاءت رداً على المنهج العلماني القائم على إقصاء جهد الإسلاميين أو تشويهه، بيد أن المؤسف أنها وقعت بإلغاء آخر، حين أقصى كاتبها الأسماء الفكرية التي تنتمي إلى التشيع بحيث لم يتناولها بأدنى إِشارة، رغم امتدادها على رقعة جغرافية تشمل العراق والخليج ولبنان وسوريا، وبالرغم أيضاً من أهمية مساهمتها في الموضوع الذي يبحثه الكاتب، وسيكون الإقصاء فاضحاً لانحياز الباحث وانغلاقه وتعصبه حين يهمل آثار مهمة كتلك التي ساهم بها السيد هبة الدين الشهرستاني والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء والسيد محسن الأمين العاملي والسيد عبدالحسين شرف‌الدين والشيخ محمد جواد البلاغي والسيد محمد باقر الصدر، والشيخ عبد الحسين الأميني _ إيراني بيد أنه عاش وتوفي في النجف الأشرف _ ومجموعة منتدى النشر، ومجموعة مجلة الأضواء وغيرهم كثير.

لقد امتد الإطار الزمني للدراسة إلى ما بعد السبعينيات حين استوعب مالك بن نبي (ت: 1973م) ومع ذلك نراه أغفل بإصرار مذهل أسس الفكر الهضوي ومرتكزات التقدم في فكر محمد باقر الصدر، وهي كبيرة باهضة الثراء. وهذا مثال واحد – والشواهد كثيرة – على ما نطلق عليه بالإقصاء أو في الحقيقة الإلغاء على أساس الانتماء المذهبي، وهذا مثال واحد – والشواهد كثيرة – على ما نطلق عليه بلإقصاء أو في الحقيقة الإلغاء على أساس الانتماء المذهبي، وهذا اللون من الإقصاء يعبر في واقعه عن أبشع ضروب الطرد والإلغاء!

[2]– في دراسته عن “نظريات الدولة في الفكر العربي الإسلامي المعاصر” المنشورة في كتابه “نظرية التراث” (الأردن/1985)، لجأ د. فهمي جدعان إلى أسلوب الإلغاء ذاته الذي كان قد مارسه على أسس مذهبية في كتابه “أسس التقدم عند مفكري الإسلام” فأنكر وجود أية مشاركة في موضوع الدولة من قبل باحث إسلامي شيعي عربي، وزعم أن جميع الكتابات في هذا المجال مغلقة للمسلمين العرب السنة، وبذلك أسقط محاولات مبكرة كتلك التي كتبها محمد مهدي شمس الدين (لبنان)عن النظام السياسي في الإسلام، وباقر شريف القرشي ومحمد عبد الساعدي (العراق) عن الموضوع نفسه، وما كتبه في المجال نفسه عبد الهادي الفضلي (السعودية) وجميع هؤلاء – وثمة غيرهم أيضاً – هم كتاب عرب شيعة!

أما مع محمد باقر الصدر وكتابه عن الدولة، فالكتاب وأن اعترف بها وسجل اطلاعه ليها، إلا أنه عاد لتجاوزها والقفز عليها بأسلوب “سهل مريح!” حين درج الصدر في قائمة الكتاب الإيرانيين!

[3]– آية الله الصدر المفكر الإسلامي العالمي، لقاء مع العلامة شمس الدين، صحيفة القرار البيروتية، العدد الصادر في 12/نيسان؟1985. ويذكر أن هذه المقابلة كانت قد نشرتها مجلة المنطلق البيروتية قبل ذلك في عدد خاص صدرت به عن الشهيد الصدر.

[4]– نفس المصدر السابق.

[5]_ صحيفة القرار، المصدر السابق.

[6]– تفرج صنع، عبد الكريم سورش، مؤسسة فرهنكي صراط، الطبعة الثالثة 1373 (فارسية)، ص426 (باللغة الفارسية).

[7]– مقدمة في علم الاستغراب د. حسن حتفي، القاهرة، الدار الفنية، 1991، ص751.

[8]– يعدُّ د. محمد النويهي من أوائل وأفضل من نظر لهذه المسألة في نطاق التيار العلماني، بحيث تحولت أفكاره إلى ساس لجيل من الكتاب العلمانيين الذين شرحوا أفكار النويهي أو أسسوا على مقولاته أو أعادوا إنتاجها بثوب جديد.

ومحاولة النويهي التي نعنيها صدرت أولاً في سلسلة من المقالات في مجلة “الآداب” سنة 1970م، ثم ضمها كتاب صدر 1983م بعنوان “نحو ثورة في الفكر الديني”.

[9] فعل الشهيد الصدر ذلك في:

  1. الاتجاهات المستقبلية لحركة الاجتهاد، سلسلة اخترنا لك، ص73.
  2. الفهم الاجتماعي للنص في فقه الإمام الصادق، المصدر السابق، ص 90.
  3. وثم لمحات مهمة في مقدمة رسالته العملية “الفتاوى الواضحة”.
  4. يضاف لما سل مؤشرات نقدية ومنهجية مهمة في مقدمات الجزء الثاني من كتاب “اقتصادنا”.
  5. كما عرض للفكرة ذاتها في الدرسين الأول والثاني من محاضراته القرآنية المنشورة في كتاب “المدرسة القرآنية”.

[10]– يلاحظ الباحث الإيراني مجيد مجيدي، آسيب شناسي ديني (بالفارسية)، ص103.

[11]– يلاحظ المنحى النقدي في الكتابات المتكاثرة للشيخ محمد إبراهيم جناتي (بالفارسية) وتلاحظ أيضاً البحوث المقدمة إلى المؤتمر الفكري التاسع الذي دار حول أفكار الإمام الخميني، كما تلاحظ الأعمال الفكرية لمؤتمر “الأسس الفقهية في الاجتهاد ودور الزمان والمكان عند الإمام الخميني”، كما تلاحظ أخيراً وبشكل خاص الدورة التي تصدر فصلياً عن المركز الإعلامي التابع للحوزة العلمية في قم تحت عنوان “نقد ونظر”. وثم غير ذلك كثير.

[12]– الاتجاهات المستقبلية لحركة الاجتهاد، سلسلة اخترنا لك، الكتاب الأول، دار الزهراء، الطبعة الأولى، بيروت، 1975م، ص75.

[13]– يلاحظ تفسيره الذي صدر تحت عنوان “بيام قرآن” (بالفارسية) إذ صدرت منه للآن عشرة مجلدات.

[14]– تلاحظ سلسلة دراساته المهمة التي نشرت في كتاب حمل عنوان.

[15]– موسوعة “فقه سياسي” بالفارسية، صدر منها للآن ثلاثة مجلدات كبيرة، ورابع ضخم بعنوان كونه مدخلا لها.

[16]– انقلاب إسلامي وريشه‌هاي آن، المجلد الثاني، ص359_395، وقد أعد الدراسة محمد حسين جمشيدي الذي يشتغل على إنجاز شهادته للدكتوراه في العلوم السياسية، (بالفارسية).

[17]– الفكر الجديد، عدد خاص عن الشهيد الصدر، محرم 1414هـ، تموز، 1993م، نظرية الدولة عند الإمام الشهيد الصدر، عقيل سعيد، ص164.

[18]– بحثي در باره مرجعيت وروحانيت، بقلم العلامة الطباطبائي السيد أبو الفضل موسوي، مجتهد زنجاني، مرتضى مطهري، المهندس مهدي بازركان، السيد محمد بهشتي، السيد محمود الطالقاني، والسيد مرتضى الجزائري (بالفارسية).

[19]ـ بحثي در باره مرجعيت وروحانيت، بقلم العلامة الطباطبائي السيد أبو الفضل موسوي، مجتهد زنجاني، مرتضى مطهري، المهندس مهدي بازركان، السيد محمد بهشتي، السيد محمود الطالقاني، والسيد مرتضى الجزائري (بالفارسية).

[20]– تفسير وتفاسير جديدة، بهاء الدين خرمشاهي (بالفارسية)، ص48. وكذلك يلاحظ: تشيع، سيري در فرهنك وتأريخ تشيع، ص66.

[21]– تشيع مولود طبيعي إسلام (بالفارسية)، ص123_157.

[22]– صحيفة القرار، مصدر سابق.

[23]– قدم السيد محمد باقر الصدر اطروحته في محاضرة ألقاها بتاريخ 27/رجب/1388 هـ. بعنوان “التغيير والتجديد في النبوة”، وجميع نصوص الصدر اقتبسناها من هذه الدراسة المنشورة في كتاب الشهيد الصدر “أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف”.

[24]– أصول الكافي، الجزء الثاني، ص91.

[25]– اقتبسنا جميع النصوص من كتاب الشهيد مطهري “ختم النبوة”.

[26]– يؤيد ذلك أن أطروحات هؤلاء الكبار جاءت في إطار محاضرات عامة، كما هو شأن الصدر ومطهري وإقبال، أما الطباطبائي فقد كتب بحثه في الموضوع للإجابة عن سؤال سائل.

[27]– ونصه: “إنما مثلي في الأنبياء كمثل رجل بنى داراً فأكملها وحسنها إلا موضع لبنة، فكان من دخل فيها نظر إليها، قال: ما أحسنها إلا موضع هذه اللبنة! فأنا موضع هذه اللبنة، ختم بي الأنبياء” نقلاً عن مجمع البيان، في ظلال الآية (40) من سورة الأحزاب.

[28]– قدم السيد محمد حسين الطباطبائي بحثاً حول الخاتمية بعنوان “مسئلة خاتمية” في كتابه “مجموعة مقالات” ج1، ص299 (بالفارسية).

[29]– مجلة “حوزة” (بالفارسية)، العدد 67، 1374 (فارسية)، دو احياكر، ص3_22، عبد الرضا ايزدبناه رئيس تحرير المجلة.

[30]– إسلام ومقتضيات زمان (بالفارسية) مرتضى مطهري، ج2، ص18.

وبالنسبة إلى الشهيد الصدر فقد توفر على بحث عميق للفطرة في كتاب “اقتصادنا” أثناء سوقه للمقدمات التأسيسية التي مهد بها لاكتشاف المذهب الاقتصادي في الإسلام، خلال بحثه للتعارض بين الدوافع الذاتية للإنسان وبين المصالح الاجتماعية، حيث استند في حل التعارض إلى الفطرة، وإلى رسالة الدين القائمة على الفطرة. يلاحظ : اقتصادنا، ص325_329.

كما بحث المسألة ذاتها وبنفس خطوطها العريضة في مبحث “رسالة الدين” من كتاب المدرسة الإسلامية، ص90_98.[ج.ع]

[31]– إسلام ومقتضيات زمان، مرتضى مطهري (بالفارسية) ج2، ص30.

[32]– نهج البلاغة، صبحي الصالح، الخطبة (104)

[33]–  تعليم وتربيت، مرتضى مطهري، ص27.

[34]– بيرامون انقلاب إسلامي، مرتضى مطهري، ص44.

[35]– ده ﮔفتار، شهيد مطهري، ص275.