استقلّ للشهيد الصدر (قدس سره) الرأي في علم الاصول، وامتاز له المسلك في مفردات هذا العلم، مما شكّل معلماً خاصّاً بمدرسته الاصولية، وبعداً يعبر عن جانب الحداثة والابداع فيها؛ فقد امتاز في تفسيره لكيفية الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي على اساس أنّ الأحكام الظاهرية جعلت من قبل الشارع؛ لأجل حفظ ملاكات الأحكام الواقعية، وترجيح بعضها على بعض في دائرة ما أسماه بالتزاحم الحفظي، والذي يعني به التزاحم في مقام حفظ ملاكات الأحكام الواقعية الأهم، حالة شك المكلّف وحيرته.
وقال الشهيد الصدر (قدس سره) بمسلك خالف فيه ما اشتهر لدى الاصوليين من القول بقاعدة قبح العقاب بلا بيان كقاعدة اوّلية مؤمّنة عقلاً عن كل تكليف لم يتم البيان عليه، أسماه بمسلك (حق الطاعة) والقائل بلزوم الاحتياط عقلاً تجاه كل تكليف محتمل لم يرد الترخيص من الشارع بترك التحفّظ بشأنه، وذلك على ضوء ما حققه في معنى حجيّة القطع.
وامتاز ايضاً بنظرية حديثة تعدّ من اهم ابداعاته العلمية في علم الاصول، وهي نظرية (القرن الأكيد) التي فسّر على ضوئها عملية الوضع في بحث الدلالة، وله إبداعه في بحث العلم الإجمالي الذي انتهى به الى نتائج لم يتوصّل اليها الأصحاب ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ ، من قبيل امكانية ورود الترخيص في جميع أطراف العلم الإجمالي، والتوفيق بين ثلاثة مسالك مطروحة في تفسير حقيقة العلم الإجمالي وخروجه بنتيجة مبتكرة في ذلك.
وله أيضاً إبداعه في تعريف علم الاصول وتحليله الفنّي في تفسير حقيقة المعاني الحرفية، الى غير ذلك من التحقيقات الفريدة في هذا العلم. والى جانب ذلك برزت اصطلاحات خاصّة بمدرسته الاُصولية من قبيل (العناصر الخاصّة) و(العناصر المشتركة) و(الأدلّة المحرزة) و(التزاحم في مقام الحفظ التشريعي) و(ترك التحفظ) و(تنوين التنكير) و(تنوين التمكين) و(التعارض غير المستقر) وغير ذلك من الاصطلاحات التي لم تكن مألوفة على ألسن الاُصوليين.
وسنحاول الحديث حول ثلاثة محاور امتازت بها المدرسة الاُصولية للشهيد الصدر (قدس سره). والتي تعبر عن جانب من جوانب التجديد والحداثة لهذه المدرسة:
الأوّل: نظرية (القرن الأكيد)، وهو ما اختصّت به الحلقة الاُولى من المقالة.
الثاني: مسلك (حق الطاعة).
الثالث: حول اصطلاحين خاصّين بلغة هذه المدرسة، وهما (تنوين التنكير) و(تنوين التمكين)…
وهذان المحوران سيأتي البحث عنهما في الحلقة الثانية من المقالة إن شاء الله تعالى.
المحور الأوّل ـ نظرية (القرن الأكيد):
وقع البحث لدى علماء الاصول في موضوع تحديد دلالات الدليل الشرعي اللفظي حول تفسير حقيقة الوضع الذي أوجد ماندركه بالوجدان من العلاقة السببية بين تصوّر اللفظ وتصوّر المعنى، وتؤثّر نتيجة هذا البحث في أبحاث اصولية اخرى من قبيل بحث (الوضع التعييني والتعيّني) و(الاشتراك والترادف) و(حقيقة المعنى الحرفي) و(الدلالة التصورية والتصديقية)، فمن الاصوليين من فسّر الوضع بكونه نوع اعتبار يصدر من الواضع وان اختلف المحققون في نوعية المعتبر؛ فالمحقق الإصفهاني(رحمه الله) مثلاً ذهب الى أنه اعتبار اللفظ علامة على المعنى كما يوضع العلم دالاًّ على رأس الفرسخ . ومنهم من فسّر الوضع كالسيد الخوئي (رحمه الله) بكونه عملية تعهد والتزام نفساني بإبراز المعنى الذي تعلّق قصد المتكلّم بتفهيمه بلفظ مخصوص ، لذا رتّب عليه اختصاص الدلالة الوصفية بالدلالة التصديقية.
أمّا السيد الشهيد(رحمه الله) فقد كان له مختاره في حقيقة الوضع، حيث يرى أنه يقوم على أساس قانون فطري أودعه الله تعالى في ذهن الانسان على ضوء نظرية أبدعها في ذلك تسمّى بنظرية (القرن الأكيد)، وتوضيحها:
انّ هناك نظاماً تكوينياً فطرياً يحكم الذهن الانساني، وهو انتقال الذهن الى تصور الشيء عند الاحساس المباشر به، كانتقال الذهن الى تصوّر الأسد عند وقوعه تحت رؤية الانسان… ويوجد ايضاً الى جانب هذا النظام نظامان تكوينيان ثانويّان كأنّهما يشكّلان توسعة في النظام الأوّل:
أحدهما: إنّ الاحساس بأحد الشبيهين سبب لتبادر صورة الشبيه الآخر الى الذهن، كالإحساس البصري بصورة الأسد المنقوشة على الورق مثلاً الذي هو سبب لانسباق صورة الاسد الواقعي الى الذهن، لأجل المشابهة بين الصورة المنقوشة على الورق وصورة الأسد نفسه، وكالإحساس السمعي بصوت مشابه لصوت حيوان معيّن مثلاً الذي هو سبب لانسباق الذهن الى تصوّر صوت ذلك الحيوان، لأجل التشابه الموجود بين الصوتين.
والثاني: انّ إشراط شيئين بصورة متكررة واقترانهما الأكيد أمام الذهن سبب لانسباق أحدهما الى الذهن عند الاحساس بالآخر، كانسباق صورة الأسد الى الذهن عند سماع صوت الزئير، لأجل الاقتران البليغ الحاصل لدى الذهن بين الأسد وصوت الزئير.
وتأكّد الاقتران وتركّزه الذي يوجب الانتقال المذكور يحصل إما بتكرار الاقتران عدداً أمام الذهن، أو حصوله في ظرف مؤثّر ولو مرّة واحدة.
واستطاع الإنسان وقبل وجود ظاهرة اللغة في حياته أن يستفيد من النظامين الثانويين في تفهيم مقاصده، فاذا أراد تفهيم معنى الأسد أحدث للسامع صوتاً مشابهاً لزئير الأسد، فينتقل ذهن السامع الى تصوّر صوت الزئير بحكم النظام الثانوي الأوّل، ومن ثم ينتقل ذهنه الى معنى الأسد بحكم النظام الثانوي الثاني… وهكذا ـ بمرور التجربة ـ اهتدى الى الاستفادة من هذين النظامين التكوينيين وتوسعة دائرة استثمارهما، فأخذ يقرن بين بعض الأصوات والمعاني قراناً أكيداً بنحو يمكنه من نقل ذهن المخاطب الى المعنى عند إحداث الصوت الذي قرنه به، وهكذا تدريجاًدخلت اللغة واستخدام الالفاظ في مقام تفهيم المقاصد في حياة الإنسان الاجتماعية، وأخذ يقرن بين وليده مثلاً ولفظ مخصوص بنحو يكتسب اللفظ صلاحيةً لتفهيم معنى الوليد عند اطلاقه، وبهذه ظهرت اسماء الاعلام في حياة المجتمع الانساني.
ولعلّ تشابه الاصطلاحات التي استخدمها السيد الشهيد (رحمه الله) في تصوير نظريته مع اصطلاحات العالم الفسيولوجي ليفان بيتروفيتش بافلوف (1849 ـ 1936م) في نظريته المعروفة بـ (الانعكاسات الشرطية) من ناحية، وعدم وضوح الفرق الدقيق بين هذه النظرية ونظرية (القرن الاكيد) من ناحية ثانية أدى الى قول بعضهم بأن نظرية (القرن الاكيد) تطبيق من تطبيقات نظرية بافلوف في المنبّه الشرطي على مجال اللغة، وانّ السيد الشهيد (رحمه الله) متأثر بهذه النظرية.
فلأجل بيان ما هو الحقّ في المقام لا بدّ من عرض الخطوط الرئيسة لنظرية (الانعكاسات الشرطية) والتي تسمّى أيضاً بنظرية (المنبّه الشرطي) للعالم الروسي بافلوف لنستطيع من خلال ذلك تسليط الأضواء على النسبة بينها وبين (القرن الاكيد).
من المعلوم ان بافلوف عالم فسيولوجي درس الآثار المادية المنعكسة عن اعضاء الانسان بفعل المنبهات الطبيعية او الشرطية، منطلقاً من تجربته الشهيرة على الكلب، حيث لاحظ أن تقديم الطعام الى الكلب يحدث فيه استجابة معيّنة وهي سيلان اللعاب لديه عند رؤية الطعام، بعد أن كانت عملية مضغ الطعام موجبة لهذه الاستجابة، ثم وجد أن دق الجرس المقترن برؤية الطعام مراراً يحدث نفس الاستجابة التي كانت تحدثها رؤية الطعام… وغاية ما توصّل اليه عبر تجاربه أنه اذا اقترن شيء بمنبه طبيعي مراراً اكتسب منه تأثيره، وأحدث نفس التأثير والاستجابة التي كان يحدثها المنبه الطبيعي، وعلى ضوء ذلك حاول وضع الأساس الفسيولوجي لعلم النفس، ومن ثم حاول بعضهم استغلال هذه النتيجة لتفسير العمليات الفكرية والنشاطات العقلية تفسيراً مادياً، بارجاعها الى نشاطات عضوية مادية يقوم بها المخ بتأثير من المنبّهات الخارجية التي تستثير استجابات طبيعية او شرطية معيّنة كما هي عملية سيلان لعاب الكلب تماماً…
والمقصود بالمنبّه الطبيعي في هذه النظرية هو المنبه الأوّلي الذي يثير استجابة معيّنة كوضع الطعام في الفم ـوهو منبّه طبيعي ـ الذي يستثير حالة سيلان اللعاب لدى الكلب والتي تسمى بالاستجابة الطبيعية في تجارب بافلوف.
أمّا المنبه الشرطي، فيراد به ما كان علامة على المنبّه الطبيعي بحيث يستثير نفس الفعل المنعكس (وهو سيلان لعاب الكلب في المثال) بسبب اشراطه المتكرر به، كرؤية الطعام أو دق الجرس اللذين اقترنا مراراً بالمنبه الطبيعي، ويسمّى الفعل المنعكس (وهو سيلان اللعاب الحاصل بسبب سماع دقّ الجرس) بالاستجابة الشرطية.
ثم انّ المنبهات الشرطية بحسب مصطلحات نظرية (المنبّه الشرطي) تنقسم بدورها الى قسمين:
الاوّل: وهو ما كان مشروطاً بالمنبه الطبيعي وعلامةً عليه، بنحو يكون صالحاً لاستثارة الفعل المنعكس الشرطي، وهي التي تشكّل النظام الإشاري الأوّل.
الثاني: وهو ماكان مشروطاً بمنبّه شرطي من النظام الإشاري الأوّل بتجارب متكررة، بحيث اصبح من الممكن الحصول على الاستجابة أو الفعل المنعكس الشرطي بواسطته. وهذه اشارات ثانوية تشكّل النظام الإشاري الثاني. فصلاحية الإشارة الثانوية للتنبيه كانت بسبب إشراطها بالإشارة الأوّلية، كما انّ الاشارة الأوّلية كانت صالحة للتنبيه بسبب اشراطها بالمنبّه الطبيعي.
وتعد مفردات اللغة على هذا التقسيم من الإشارات الثانوية والنظام الإشاري الثاني .
وبغض النظر عن صحّة وسقم النتيجة المفترضة لنظرية (المنبّه الشرطي) فقد أبرز سماحة آية الله السيد كاظم الحائري ـ مد ظلّه ـ في مجلس درسه صياغتين لبيان الفرق بين النظريتين:
«الاُولى: انّ نظرية (القرن الأكيد) تنظر الى جانب سيكولوجي، بينما نظرية بافلوف تنظر الى جانب فسلجي عضوي، فيرى أن العمل العضوي الذي يقوم به المخ ـ وهو ما يصطلح عليه المادّيون بالفكرـ يشابه عملية إفراز اللعاب لدى الكلب، فهو كما يحصل من مضغ الطعام يمكن أن يحصل بدق الجرس مثلاً، فكذلك الفكر… بينما يرى اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) أنّ هناك شيئاً غير مادي وراء تلك الحالة العرضية المادية والنشاط العضوي الذي يقوم به المخ هو الذي أوجد سيلان اللعاب لدى الكلب، وهو الفكر، وبما أن دق الجرس يثير نفس العملية الفكرية التي يثيرها تقديم الطعام، كان دق الجرس صالحاً لأن يثير سيلان لعاب الكلب.
الثانية: ان بافلوف يرى أنّ الأثر ينتقل من أحد المنبّهين الى الآخر بسبب الاقتران، كما هو الحال في تقديم الطعام ودق الجرس في تجربته على الكلب، فلأجل اقتران أحدهما بالآخر انتقل أثر تقديم الطعام الى دق الجرس، بينما لا يرى اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في نظريّته انتقال أي أثر من أحد القرينين الى الآخر وإنّما يرى ان الاقتران يوجب انتقال الذهن من احد القرينين الى الآخر.
توضيح ذلك: انه تارةً نفترض وجود شيئين يقع الاقتران بينهما في الاحساس والتصوّر ـ كالطعام والجرس ـ، ويوجد هناك شيء ثالث يكون أثراً واستجابةً لأحد ذينك القرينين ـ كسيلان اللعاب ـ ، فبسبب تكرار الاقتران يسري هذا الاثر منه الى قرينه، وهذا ما يقوله بافلوف. وتارةً اُخرى نفترض وجود شيئين يقع الاقتران بينهما في التصوّر كاللفظ والمعنى، ولا يوجد هناك امر ثالث يسري من احدهما الى الآخر، إلاّ أنّ تكرار الاقتران بينهما وتأكّده يؤدي الى حصول السببية والتلازم بين نفس هذين الشيئين في عالم الذهن بحيث متى ما وجد أحدهما وجد الآخر، وهذا ما يقوله السيد الشهيد (رحمه الله).
وانت ترى أنّ النظرية الاولى تستدعي افتراض ثلاثة اشياء، يقع الاقتران بين اثنين منها، ويكون الثالث أثراً تابعاً لأحدهما فيسري الى الآخر، بينما النظرية الثانية لا تستدعي إلاّ افتراض أمرين يقع الاقتران بينهما في عالم الذهن وبهذا الاقتران تحصل علاقة السببية والتلازم بينهما في هذا العالم.
وعلى ضوء ذلك تكون الألفاظ والمفردات اللغوية لدى نظرية (المنبّه الشرطي) إشارات ثانوية ومنبّهات شرطية، بمعنى أنها بسبب اقترانها بمعانيها أصبحت تستثير شيئاً ثالثاً ـ كبهجة وسرور أو حزن وأسىً أو غير ذلك ـ وهو المنعكس الشرطي، فمثلاً تقوم الدوال اللفظية التي تحكي وتري المناظر التي تثير في النفس البهجة والسرور بإثارة نفس الإحساس الذي تثيره تلك المناظر فيما لو وقعت تحت الاحساس العضوي المباشر، لاجل الاقتران الحاصل بين واقع تلك الدوال اللفظية وبين هذه المناظر. وكذا تثير المفردات اللفظية التي تحكي المناظر التي تثير في النفس الحزن والاسى نفس الاحساس الذي تثيره تلك المناظر فيما لو وقعت تحت الإحساس العضوي المباشر لنفس السبب وإن اختلفت إثارة المنبّهين شدة وضعفاً في الحالين… بينما في نظرية القرن الأكيد لا يراد من اللفظ أن يكون مثيراً لهكذا منعكس من الأفعال والاستجابات، لان هذه الافعال من النشاطات العضوية وانما يراد به نقل الذهن ـ عند تصوّره ـ الى تصوّر المعنى الذي شرط به، فكان اشراطه الاكيد بالمعنى سبباً لانتقال الذهن الى تصوّره عند سماع اللفظ تطبيقاً للنظام التكويني الثانوي الثاني الذي يحكم الذهن.
ثم على ضوء نظرية (المنبّه الشرطي) كان من المناسب جداً أن تكون الدوال اللفظية من صنف المنبّهات الشرطية الثانوية، أي من النظام الإشاري الثاني ما دام محور البحث في هذه النظرية يتركّز على نوع أو درجة استثارة الفعل المنعكس الشرطي، بينما لا محلّ لهذا التصنيف على ضوء نظرية (القرن الاكيد)، لأنّ الغرض المراد تحقيقه هو صلاحيّة تصوّر اللفظ لاستلزام تصور المعنى من خلال عملية القرن المتركّز لدى الذهن بين التصوّرين، وليس الغرض استثارة امر ثالث غير طرفي هذا القرن.
وعلى ضوء ذلك نتبيّن أنه وإن اشتركت النظريتان في استعمال اصطلاح (القرن) في مجال البحث اللغوي، إلاّ أنّ المعنى المستعمل فيه مختلف، فنظرية (القرن الأكيد) تستعمله بمعنى القرن بين تصوّر اللفظ وتصوّر المعنى لغرض الانتقال من احدهما الى الآخر، بينما نظرية (المنبّه الشرطي) تستعمل القرن بمعنى ايجاد الربط بين ذات اللفظ وذات المعنى حال كونهما أمام الإحساس لغرض استثارة أمر ثالث، واذا استعمل اصطلاح (المنبّه الشرطي) و(الاستجابة الشرطية) في نظرية (القرن الأكيد) كان المراد بالأوّل تصوّر الدال اللفظي، وبالثاني انتقال الذهن الى تصوّر المعنى، وهذا يختلف تماماً عمّا هو المراد بهما في نظرية (المنبّه الشرطي)، حيث يراد بالأوّل الإحساس بالمؤشر الثانوي كالاحساس بواقع الدال اللفظي، وبالثاني حصول الاثر العضوي المطلوب كحالة الفرح أو الحزن مثلاً.
وقد يقع الخلط بين النظامين الذهنيين الثانويين في نظرية السيد الشهيد (رحمه الله) والنظام الإشاري في نظرية بافلوف، بسبب وحدة المصطلح في النظامين بقياس احدهما على الآخر، فيقال مثلاً: إنّ «السيد الشهيد يصرّح بأنّ قانون انتقال صورة الشيء الى الذهن عن طريق تصوّر ما وجد مقترناً به بنحو اكيد هو قانون المنبّه الشرطي، ويلاحظ ايضاً التشابه بين ما ذكره هنا وما ذكره عن بافلوف من تقسيمه النظام الإشاري الى ثلاثة انظمة، وهي:
أوّلاً: النظام الإشاري الذي يتكوّن من مجموعة المنبّهات الطبيعية، ويقابله في كلام الشهيد الإحساس بالشيء مباشرة.
ثانياً: المنبّهات الشرطية التي لا تدخل فيها الألفاظ، ويقابله في كلام الشهيد رؤية رسم الشيء وصورته.
ثالثاً: المنبّهات الشرطية المشتملة على الالفاظ والأدوات، ويقابله في كلام الشهيد جعل لفظ أو صوت مخصوص مقترنا ومشروطاً بمعنى مخصوص» .
وهذا ناتج عن عدم وضوح أنّ الانظمة المذكورة في نظرية (القرن الأكيد) تعالج مسألة تعود الى عالم الذهن والتصوّرات وكيفيّة الانتقال الذهني من احد الشبيهين الى الآخر، أو من أحد القرينين الى الآخر، وأمّا تقسيمات النظام الإشاري فتعالج مسألة فسلجية تعود الى أمر ثالث غير الشبيهين أو القرينين، كظاهرة تحلّب اللعاب لدى الكلب مثلاً، وتتحدّث عن كيفية نقل التأثير الفسلجي المادي لأحد المنبهات الى منبّه آخر، فلكل من النظريتين غرضها وميدانهاالخاص بها، وتشابه الاصطلاحات المستعملة في لغة النظريتين لا يعني تشابه المعاني المقصودة بها أيضاً كما هو واضح.
هذا إضافة الى أنّ ما ذكره السيد الشهيد (رحمه الله) في رؤية رسم الشيء وصورته إنّما يعتمد على (التشابه) بين أمرين محسوسين ـ كما مضى توضيحه ـ ولا يعتمد على (الإشراط والاقتران) بينهما، فلا علاقة له بالمنبّهات الشرطية التي لا تدخل فيها الألفاظ، ولا يصح أن يجعل ـ كما في النصّ الذي نقلناه ـ في مقابلها.
وبمجموع ما ذكرنا يظهر أنّ جملة الفوارق الجوهرية بين النظريتين أنّ نظرية (المنبّه الشرطي) ترى وقوع الاشراط بين مناشىء الاستجابة، اي بين (الماء المحسوس) وسماع كلمة (ماء) لتحصيل نفس الاستجابة المثارة من قبل المنبّه الأوّل، بينما نظرية القرن الأكيد ترى وقوع الاقتران بين تصوّر الماء الخارجي وتصوّر كلمة (ماء) لحصول علاقة السببية والتلازم بينهما.
فإننا نرى مثلاً ـ في اوساط علم الرجال والحديث ـ أنّ اسم كل من (السكوني) و(النوفلي) يؤدي الى تصوّر الآخر رغم اننا لم نرَ السكوني بشخصه مقترناً بالنوفلي، لعدم معاصرتنا لهما، إلاّ أنه كلّما ذكر (السكوني) في سند رواية ذكرت رواية (النوفلي) عنه، وذلك صيّر تصوّر أحدهما صالحاً لإثارة تصوّر الآخر في الذهن عند سماعه وفق نظرية (القرن الأكيد). وهذا بخلاف ما لو كنّا نريد تحصيل آثار نظرية (المنبّه الشرطي)، حيث يكون من اللازم معاصرة ذينك الشخصين لنقل تأثير احدهما ـ إن وجد ـ الى الآخر.
ولا يمكن ابطال هذا الفارق الجوهري بدعوى: «انّ الاشراط والقرن يتمّ دائماً بين الصور المنطبعة في الذهن عن الشيء وبين صورة اللفظ، وما إراءة الشيء الخارجي نفسه إلاّ بهدف طبع صورته في الذهن حتى تتيسّر عملية قرنها وإشراطها بصورة اللفظ، وهذا لا يفرّق فيه بين النظريتين معاً اذا سلّمنا بأنّهما نظريتان» ، ذلك لأنها دعوى مبنيّة أوّلاً: على عدم وضوح الفرق الدقيق بين النظريتين، إذ ما دامت نظرية (المنبّه الشرطي) تروم نقل استجابة معيّنة من منبّه الى آخر بواسطة إشراط أحدهما بالآخر والمنبه عبارة عن شيء محسوس خارجي فلا يعقل أن يتم ذلك عن طريق اشراط تصوّر احدهما بالآخر بدون ان يقفا ـ بوجودهما الخارجي ـ أمام الحس.
وثانياً: على عدم إدراك ما هو المقصود بمنشأ الأثر او الاستجابة، فقد تخيّل أنّ المقصود بوقوع الاشراط بين مناشىء الاستجابة هو الاشراط والقرن بين الوجودات الخارجية بغض النظر عن إدراك الذهن لها، بل أنّ المقصود من اقترانها في ظرف وقوعها تحت الاحساس وبما هي موجودات مدرَكة للذهن، وإلاّ فكيف يعقل إمكان نقل تأثير رؤية الطعام مثلاً الى دقّ الجرس بلا أن يكون الطعام مرئياً، وصوت الجرس مسموعاً لدى الكلب وواقعاً تحت إحساسه. وما أكثر الموجودات الخارجية المقترنة في أطرافنا منذ أمد بعيد مّما لم تقع تحت الإحساس ولم نجد انتقال تأثير أحدهما الى الآخر، ولا حدوث نفس الاستجابة التي كان يحدثها الآخر.
والثمرة العملية التي تترتب على هذا الفارق بين النظريتين هي:
أنه بناءً على نظرية (القرن الأكيد) بإمكان أي شخص أن يجلس في غرفته بعيداً عن العالم ويضع اي لفظ شاء لأي معنىً يختاره بتكرار عملية القرن بين تصوّريهما في ذهنه حتى يحصل الربط الأكيد بينهما، في حين لا يكون هذا الامر ممكناً بناءً على نظرية (المنبّه الشرطي) لأنّها ترى ضرورة وقوع الاقتران بين الاحساس بالشيء الخارجي وبين سماع ذات اللفظ.
وقد يعترض على هذه النتيجة العملية ببيان: أنّ السيد الشهيد (رحمه الله) إنّما كان يريد أن يفسّر دلالة الألفاظ على المعاني، بمعنى انتقال ذهن السامع من سماع اللفظ الى المعنى، وأين ذلك من جلوس شخص في غرفته بعيداً عن العالم ليمارس عملية وضع أي لفظ شاء لأي معنىً شاء؟ فهل نظرية القرن كانت بصدد تفسير دلالة اللفظ على المعنى في ذهن الواضع نفسه؟
إلاّ أنّ هذا الاعتراض مبني على عدم وضوح أنّ تفسير منشأ سببية تصوّر اللفظ تصوّرالمعنى لا تختص بالسببية الحاصلة في ذهن خصوص السامع، وإنّما يراد تفسير ذلك في ظرف أي ذهن كان، وما دام منشأ السببية الى قانون تكويني عام يتمثّل في اشراط مخصوص بين تصوّر اللفظ وتصوّر المعنى أمكن تحقيقه في اي ذهن كان حتى بالنسبة للواضع نفسه، بل قد يكون حصول العلقة اللغوية في ذهن الشخص منبّهاً له للتصدّي لممارسة عملية الوضع وايجادها في ذهن الآخرين، كما هو الحال في المراحل الاولى من بدء ظهور اللغة، فلا غرابة من انعقاد العلقة اللغوية في ذهن الواضع أوّلاً ولو بفعل نفسه، وهذا ما أفاده السيد الشهيد (رحمه الله) في الحلقة الاولى حيث شبّه عمليّة الوضع «بما تصنعه حين تسأل عن طبيب العيون فيقال لك: هو (جابر)، فتريد أن تركّز اسمه في ذاكرتك وتجعل نفسك تستحضره متى أردت، فتحاول أن تقرن بينه وبين شيء قريب من ذهنك، فتقول مثلاً: أنا بالامس قرأت كتاباً أخذ من نفسي مأخذاً كبيراً، اسم مؤلّفه (جابر)، فلأتذكر دائماً أنّ اسم طبيب العيون هو اسم صاحب ذلك الكتاب. وهكذا توجِد عن هذا الطريق ارتباطاً خاصاً بين صاحب الكتاب والطبيب جابر» وأضاف: «وهذه الطريقة في إيجاد الارتباط لا تختلف جوهرياً عن اتخاذ الوضع كوسيلة لايجاد العلقة اللغوية»، وذلك أن كلا الأمرين يرجعان في واقعهما الى تطبيق قانون تكويني واحد، وهو القانون الثانوي الثاني الذي يحكم الذهن.
وبعد هذا الفرق الواسع بين نظرية السيد الشهيد في تفسير عملية الوضع ونظرية بافلوف في (المنبه الشرطي) يتجلّى بوضوح جانب الحداثة والتجديد والابداع في نظرية السيد الشهيد. ويصبح الرأي بأن نظرية (القرن الأكيد) تطبيق من تطبيقات نظرية بافلوف في مجال اللغة بعيداً عن الصواب.
الشيخ حامد الظاهري