الشهيد الصدر .. وفلسفة الرسالات

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

العاطفة الدينية

قد لا ياتي الباحث بشي جديد لو تحدث عن شمولية الدين لكل قضايا المجتمع واستيعابه لاحتياجات البشرية كافة، وان الاسلام منفتحا لكل قضايا الوجود (البشري والمادي).. مع الالتفات الى ان الوجود برمته سائر نحو كماله وليس البشر وحده، وذلك ضمن التخطيط العام لتربية البشرية والكون.م

وحاليا نشهد استعمال العناوين الدينية في العالم كله مقابل انحسار العنوان الإلحادي الصريح، الا ان معسكر الالحاد يحارب الدين عمليا وبعناوين دينية ايضا، ومثال ذلك: الحرب الاعلامية ثم العسكرية التي شنها الرئيس الأمريكي بوش ضد الدين عموما والإسلام خاصة، فانه استعمل العنوان الديني والعاطفة الدينية عند الشعب الأمريكي لينشر قيم غير دينية، وتجسد ذلك بتصريحاته ضد الإسلام وبتصرفاته الراقصة في المحافل الدولية.

فشل المادية:

 الا إن اضطرارهم (السياسيون) الى استعمال العنوان الديني هو إقرار منهم بفشل الأطروحة المادية شعبيا. وهو دليل على انتشار العاطفة الدينية في العالم بعد اليأس من الأطروحات الوضعية. ان التوجه الديني الحالي يجسد الاعتراض على نظرية (الكون بدون خالق) التي رفضتها البشرية بعد اختبارها.

وبالرغم من انتشار الشعور الديني عالميا في العقود الأخيرة، إلا انه من السذاجة إن نتصور إن الدين موجود حاليا في الواقع بأبعاده الإلهية، بل إن النشاط الديني عموما لا يزيد البشرية إلا بعدا عن الدين (الإلهي).. ويرى الباحث ان المرحلة الحالية هي مرحلة خروج البشرية من متاهة المادية ودخولها في متاهة الدين الى ان تجد مخرجا لها في موعد حتمي قادم، وان البشرية وصلت الى مستوى البحث عن وصفة (دينية) للحياة لتؤمن بها ولا تبحث عن معجزات (كما كانت سابقا). وتبقى اطروحتنا هذه غامضة ونحتاج إلى إيضاح مفرداتها ومقدماتها انطلاقا من فهم الباحث لأطروحات العالم الرباني والولي المقدس السيد الشهيد الصدر (قده)..

مراحل النبوات:

ومن المفاهيم الأولية هو: إن الدين نزل إلى الساحة الأرضية على شكل وجبات ومراحل، كل مرحلة تمهد للمرحلة اللاحقة كما ورد في (اليوم الموعود) من موسوعة السيد الشهيد بعنوان (التخطيط الثاني المنتج للمستوى الفكري العالي) حيث قال:

«ان التربية يجب أن تبدأ بالواقع، وتحاول الارتفاع به إلى المستوى المطلوب ولا يمكنها ان تبدأ من نقطة أعلى من الواقع، وإلا كانت فاشلة تماما، كـما لو ان طفلا صغيرا بدلا من ان تعلمه اللغة بدأت تعلمه الكتابة، أو أن طفلا أكبر منه، بدلا من أن تعلمه الكتابة بدأت تعلمه الجبر أو الفيزياء، انك ستبوء بالفشل الذريع لا محالة.

ومن هنا كانت النبوات تبدأ من الواقع وتحاول رفعه، ولهذا لا تحاول – بادئ ذي بدء – أن تعطي مضمونا أكبر منه. ومن هنا انقسمت النبوات إلى أربع مراحل:

أولا: مرحلة النبوات العقائدية أو المفهومية.

ثانيا: مرحلة النبوات التشريعية.

ثالثا: مرحلة النبوات القبلية.

رابعا: مرحلة النبوات العالمية.»

ويفهم الباحث: إن كل مرحلة من هذه المراحل يمهد للمرحلة اللاحقة وهكذا، الا ان ذلك لا يعني انقراض اتباع المرحلة الأولى وإفكارها بعد انطلاق المرحلة الثانية، ولا يعني انتهاء المرحلة الثانية بعد ابتداء الثالثة، بل لا يعني (ايضا) حصول استعداد بشري عام لأي مرحلة من المراحل الاربعة.. ويكفي حصول استعداد نسبي (غالبي) للبدء بالمرحلة اللاحقة. واليوم تعيش البشرية خليطا من تلك المراحل كلها، على المستوى الديني والعقائدي، وهذا يفسر وجود عبادة البقر والنمل ويفسر وجود أتباع بقية الأديان المنقرضة.

بعد ان توصلنا الى وجود (واقعي) لعدة مستويات من المتدينين والفهم الديني تجاه الكون والقضايا والاحداث، سنحاول الوصول الى الفهم الديني الصدري للقضايا عموما وخاصة العلاقة بين الشعب والحكومات، ايمانا من الباحث: ان ما وصل اليه السيد الشهيد يعبر عن أعلى مراحل الفكر والوعي البشري للاطروحة العادلة الكاملة. ويحتاج توضيح ذلك الى التعرض باختصار الى مواصفات كل مرحلة من مراحل النبوات الأربعة.

المرحلة الابتدائية:

المرحلة الأولى من التدين تضمنت الفات نظر البشرية إلى وجود خالق، بدلا من عبادتها للمادة والطبيعة. كما وصف اهداف هذه المرحلة السيد الشهيد في اليوم الموعود، فقال ان الهدف الاول هو:

«بثّ الروح العقائدية بمعنى إعطاء صورة محددة، بالرغم من اختصارها وسذاجتها عن وجود خالق الكون وأفعاله المهمة في الكون وإمكان مخاطبته للبشر عن طريق الأنبياء والمرسلين.»

ويضيف سماحته هدف أخر للمرحلة الأولى وهو:

«بثّ مفاهيم الأخوة والمجاملة مع الآخرين من ناحية، وتعويد الناس على إطاعة كبرائهم وموجهيهم من ناحية أخرى..»

المرحلة الشخصية:

بعد ان حصلت معرفة ساذجة لدى البشرية عن وجود خالق للكون، بدأت المرحلة الثانية لأجل ترسيخ مبدا الاستلام الثقافي من الانبياء وتكريس الهيكلية الهرمية للمجتمع البشري، وهذه  نتائج هامة ضمن التخطيط الالهي لتربية البشرية وكما يفصلها السيد الشهيد:

«النتيجة الأولى: الاعتياد على فكرة النبوة ومواجهة الأنبياء. فقد أصبح هذا الخط مشروعا ومفهوما للمؤمنين به والمتمردين عليه على السواء.

النتيجة الثانية: الاعتياد على الأفكار المعطاة من قبل هؤلاء الأنبياء، مما ييسر لهم فهم الأفكار الجديدة التي يجيء بها الأنبياء في هذه المرحلة الثانية.

النتيجة الثالثة: الاعتياد على تلقي الأوامر والنواهي، من الأنبياء خاصة ومن زعماء القبائل وكبراء الأسرة ونحوهم… مما ييسر لهم فكرة تلقي الأوامر والنواهي من قبل الله عن طريق الأنبياء.»

المرحلة العشائرية:

يفهم الباحث: ان المرحلة الاولى والثانية يختصان بالتربية والتدين على المستوى الفردي (الشخصي) ثم الأسري ويمهدان للمرحلة الثالثة، وهذه المرحلة تحاول توسيع دائرة اهتمام الفرد من دائرة اهتمامه الشخصي الى دائرة الاهتمام القبلي، اضافة الى ما اورده السيد الشهيد في اسباب اعتماد القبيلة مرحليا قبل الدعوة العالمية . فقال سماحته:

«وقد كان الواقع يومئذ قائـما على إدراك أن القبلية هي أحسن تنظيم اجتماعي يمكن القيام به لمصلحة المجموع، ومن ثم لم يكن في إمكان النبوات تغيير هذا الواقع بين عشية وضحاها. بل كانت بحاجة إلى مواكبة هذا الواقع ردحا من الزمن.

على أن إعلان النبي – أي نبي – لفكرة القبلية، ليس بمعنى جعل القبيلة شعارا ضد القبائل الأخرى. وإنما بمعنى انه ليس مكلفا بغير هداية قبيلته، ومهمته مقتصرة على ذلك، واما القبائل الأخرى فقد يوجد فيها أنبياء آخرون، بدون ان يكون هناك – من ناحية النبوة القبلية – أي داع عاطفي للنزاع بين القبائل… بل هناك داع إيماني للأخوة ولاجتماع القبائل كلها على الايمان.

والمظنون ان النبوة القبلية، استمرت بعد عهد إبراهيم (ع) إلى بعث النبي موسى عليه السلام، حيث استطاع التقدم خطوة نحو العالمية.

ولعل أهم نبي قائم على الأساس القبلي في ذلك العصر، هو يعقوب عليه السلام، حفيد إبراهيم (ع)، وجد بني إسرائيل، الأسرة التي استطاع يعقوب تربيتها ردحا من الزمن على روح الايمان، وقد كان لها في عصورها الأولى مشاركة في النبوات، كما ان لها في عصورها المتأخرة أكبر اليد في الظلم والطغيان البشري.»

المرحلة الأممية:

بالرغم من ابتداء موسى (ع) بالمرحلة القبلية، الا انه أسس الى المرحلة العالمية، وقد يفسر هذا تركيز القران الكريم على ذكر موسى (ع) ونبوته ثم رسالته. ان اول انتقالة بشرية من الحالة القبلية الى الحالة العالمية حصلت من قبل السحرة، حيث امنوا بالخالق (عز وجل) ورسالة موسى انطلاقا من فهم اممي دون اعتبارات قبلية، كما وصفهم الشهيد الصدر قائلا:

«فانه بالرغم من الزخم العاطفي القبلي الذي أكد عليه [عليه السلام]. في دعوته عند ابتدائها. وهو البدء ببني إسرائيل، وقد كانوا في ذلك الحـين الشعب المضطهد تحت الحكم الفرعوني الغاشم، وقد طالب فرعون باطلاق سراحهم من نير العبودية وجعل بيوتهم قبلة… ولكن بالرغم من كل ذلك فان دعوته كانت أوسع من ذلك. فانه دعى فرعون نفسه وبطانته للايمان، وهو عدو بني إسرائيل، ولو كان فرعون قد آمن لتغير تاريخ الدعوة الموسوية، ولكن أطماعه وسوء سريرته منعته من ذلك.

كما ان من أوائل المؤمنين: السحرة الذين كان له معهم صراع سحري عجيب، خرج موسى (ع)  بنتيجته فائزا، وأصبح السحرة مؤمنين، بالرغم من السيف الفرعوني القاطع. وهي حادثة تشترك التوراة مع القرآن في نقلها. ولم يكن السحرة من بني إسرائيل.»

الاستنتاجات:

يفهم الباحث مما سبق، وجود ذلك التخطيط الزمني للبث الديني من قبل السماء، وعلى لسان الناطقين الرسميين، وهم الرسل والانبياء. ويخضع ذلك التزريق الديني (الثقافي والاعلامي) الى مراعاة المحتوى الغالبي (الفعلي) للعقيدة التوحيدية عند البشرية عموما، مع مراعاة الاختصاص المناطقي والقبلي، وبالتالي خضوع العمل التبليغي عموما لمعادلات التخطيط العام، والذي يستهدف تطبيق الاطروحة الالهية (الدين) على مستوى الفرد ثم الاسرة والمجتمع والقارات ثم الوجود عموما، مع الالتفات الى دور الامام المهدي (ع).

ان هذا الوصف العلمي والمترابط، والذي يوضح فلسفة الرسالات وخارطة المشروع الالهي، ويتعرض الى الجدولة الزمنية للتطبيق، مثل هذه الاطروحات العلمية الفذة، لم تعرفها الحوزة العلمية قبل السيد الشهيد الصدر، حسب فهم الباحث، بل ان ربط العبادات والمعاملات بالمشروع الالهي لم يكن واردا، الا بحدود الفهم التقليدي للدين. وهذا يكشف الستار عن النهضة الفكرية العقائدية التي قادها الولي المقدس، وهي نعمة خاصة وعظيمة من بها البارئ (تعالى) على المسلمين عموما وخاصة اتباع السيد الشهيد الصدر.

المصادر: [1]  السيد محمد الصدر (قده). دستور الصدر. [2]  السيد محمد الصدر (قده). موسوعة الامام المهدي.

[1]. [email protected].

د. ناظم ألعبادي[1]