يان أصل النظريّة :
من جملة القواعد المدّعى كونها عقليّة ما يسمّى بقاعدة (قبح العقاب بلا بيان) التي اشتهرت بين الاُصوليين منذ عهد الوحيد البهبهاني (رحمه الله) (المتوفى 1206هـ)، وهي تعني حكم العقل بعدم استحقاق المكلّف للعقاب تجاه الحكم الواقعي المجهول ما لم يصل بيانه إليه بوصول قطعي، على كلامٍ في أنّ المقصود بالبيان هل هو البيان الواقعي فحسب، أو الأعمّ منه ومن الحكم الظاهري المثبت للتكليف عند الشكّ.
وقد استنتجوا من هذه القاعدة أنّ الأصل الأوّلي عند الشكّ في التكليف هي البراءة العقليّة.
وخالف في ذلك اُستاذنا الشهيد الصدر (قدس سره) إيمانا منه بأنّ هذه القاعدة تستلزم التضييق في حقّ طاعة اللّه تبارك وتعالى على خلقه، واختصاص حقّ طاعته علينا بالتكاليف القطعيّة فحسب، وهذا تعبير آخر عن ضيق مولويّته سبحانه وتعالى، بمعنى أنّ مولويّته علينا تختصّ بمجال التكاليف القطعيّة فحسب ولا تشمل مجال التكاليف الظنّية والاحتماليّة، وهذا ينافي إدراك العقل العمليّ السليم القاضي بثبوت حقّ الطاعة للّه تبارك وتعالى علينا في أوسع نطاق، وشمول مولويّته تبارك وتعالى لأوسع مجال، سواء بنينا على أنّ ملاك مولويّته وحقّ طاعته علينا عقلاً عبارة عن منعميّته تبارك وتعالى علينا ـ على أساس وجوب شكر المنعم ـ أو هو عبارة عن خالقيّته لنا ـ على أساس دعوى أنّ الخلق يوجب الملكيّة الحقيقيّة للمخلوق عقلاً ـ فإنّ أيّ واحدٍ من هذين الملاكين قَبِلْنا به في علم الكلام فهو ثابت للّه تبارك وتعالى بدرجةٍ توجب حقّ الطاعة والمولويّة له بأعلى المستويات وفي أوسع نطاق.
فالصحيح إذاً، لزوم الاحتياط عقلاً تجاه التكاليف الظنّية والاحتمالية رعايةً لحقّ طاعة اللّه تبارك وتعالى الشامل لهذا المجال، ما لم نحرز ترخيصه هو لترك الاحتياط تجاه الحكم المحتمل أو المظنون، وقد اشتهر ذلك بنظريّة حقّ الطاعة.
وهذه النظريّة ليست برهانيّة، كما صرّح به اُستاذنا الشهيد (رحمه الله)، وإنّم هي وجدانيّة ونابعة من إدراك العقل العملي، ولهذا لم يتمسّك اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) بدليلٍ أو برهان لإثبات هذه النظريّة، وإنّما اكتفى بالتوضيح الوجداني لبعض وجوه الخطأ في نظريّة المشهور وإبطال أدلّتهم وتنبيه الوجدان على صحّة هذه النظريّة، وليس إصراره (رحمه الله) على الفرق بين المولويّة الذاتيّة الثابتة للّه تبارك وتعالى وبين المولويّات المجعولة بالجعل والاعتبار لغير اللّه تبارك وتعالى إلاّ لأجل توضيح ما قد يمنع عن إدراك العقل العملي السليم في هذا البحث، أو إبطال ما قد يستدلّ به على نظريّة قبح العقاب بل بيان، لا لأجل الاستدلال على صحّة نظريّة حقّ الطاعة.
وقد تصدّى (رحمه الله) للردّ على بعض أدلّة القائلين بقبح العقاب بلا بيان في الدورة الاُولى من بحثه وأضاف إليه الردّ على بعض الوجوه الاُخرى في الدورة الثانية كما استعرض جملةً منها في الجزء الثاني من الحلقة الثالثة من كتابه دروس في علم الاُصول . وقد جمعتها جميعا مع إضافاتٍ كثيرة في مقالةٍ لي نُشرت قبل سنوات .
الاعتراض على النظريّة:
وقد يعترض على نظريّة حقّ الطاعة ببعض الشبهات والاعتراضات التي هي في أغلبها واهية وقابلة للردّ بأدنى تأمّل، ولكنّ بعضها جديرٌ بمستوىً عالٍ من الدقّة والإمعان.
ومن أهمّها الشبهة البرّاقة التي قد تزلّ فيها الأقدام، وحاصلها: أنّنا في موارد الشكّ في التكليف كما نحتمل أن يكون الحكم الواقعي حكما تكليفيّ مشتملاً على ملاكٍ اقتضائي للإلزام، كذلك نحتمل أن يكون حكما ترخيصيّ مشتملاً على ملاكٍ اقتضائي للإباحة، فلو كان الاحتمال الأوّل مقتضيا لحكم العقل بالبناء على الإلزام لضمان الحفاظ على الملاك الإلزامي المحتمل على فرض وجوده، لكان الاحتمال الثاني أيضا مقتضيا لحكم العقل بالبناء على الترخيص لضمان الحفاظ على الملاك الترخيصي المحتمل على فرض وجوده، لأنّ كليهما من الملاكات ذات الأهميّة عند المولى على فرض وجودها، ولا وجه لترجيح الأوّل على الثاني ما لم نحرز كونه أهمّ منه عند المولى إلى درجةٍ تقتضي تقديم ضمان حفظه على ضمان حفظ الثاني عند التزاحم بينهما في مقام الحفظ.
ويمكن الردّ على هذا الاعتراض نقضا وحلاًّ:
الجواب النقضي:
وذلك من خلال عدّة اُمور:
الأوّل: انّه لو أمكن قياس ملاك الترخيص بملاك الإلزام بنحوٍ يجعله صالحا لمزاحمته له، فما وجه تقديم الثاني على الأوّل ـ حتّى عند القائلين بقبح العقاب بلا بيان ـ في موارد العلم الاجمالي المشتمل على معلومين بالإجمال، أحدهما حكم إلزامي، والآخر حكم ترخيصي، حتى مع العلم بكون ملاك الحكم الترخيصي اقتضائيّا كالحكم الإلزامي ؟ فإنّهم قالوا في مثل ذلك بلزوم مراعاة ملاك الحكم الإلزامي وإن أدّى إلى الاحتياط في تمام أطراف العلم الإجمالي، ولم يقل أحد بلزوم مراعاة ملاك الحكم الترخيصي، أو لزوم مراعاة الأهمّ ملاكا منهما عند الشارع، أو غير ذلك ممّا تقتضيه ضوابط باب التزاحم.
والثاني: أنّه لو أمكن أيضا قياس ملاك الترخيص بملاك الإلزام بالنحو المذكور، فما وجه تقديم الثاني على الأوّل ـ حتّى عند القائلين بقبح العقاب بل بيان ـ في موارد وقوع التزاحم بين امتثال حكم إلزامي والتمتّع بحكم ترخيصي، حتّى مع العلم بكون الملاك الترخيصي اقتضائيّا؟ كما إذا كان فعل الواجب ملازما لترك عملٍ مباح، أو ملازما لفعل عملٍ مباح، بحيث يكون امتثال الأوّل مؤدّيا إلى سلب حرّية المكلّف تجاه الثاني، فإنهم لم يطبّقوا في مثل ذلك أحكام باب التزاحم من تقديم الأهمّ على المهمّ، ووصول النوبة إلى المهمّ عند عدم الاشتغال بالأهمّ ـ لو تعقّلنا ذلك فيما نحن فيه ـ إلى غير ذلك، بل قالوا بوجوب امتثال الحكم الإلزامي وإن أدّى إلى رفع اليد عن التمتّع بالفعل المرخّص فيه أو الترك المرخّص فيه.
والثالث: انّه لو أمكن القياس المذكور فما وجه تقديم الملاك الإلزامي المحتمل على الملاك الترخيصي المحتمل بلحاظ حسن الاحتياط عقلاً في موارد الشكّ في التكليف حتى عند القائلين بقبح العقاب بلا بيان؟ فإنّهم وإن لم يسلّموا بوجوب الاحتياط تجاه الحكم الإلزامي المحتمل عند الشكّ في التكليف، ولكنّهم سلّموا بحسن الاحتياط فيه بالبناء على الإلزام، ولم يقل أحد بحسن الاحتياط تجاه الملاك الترخيصي المحتمل بالبناء على الترخيص، وإن كان ملاكه اقتضائيّا على تقدير وجوده، كما لم يقل أحد بدوران حسن الاحتياط مدار ما هو أهمّ منهما ملاكا عند الشارع على تقدير وجوده، بل قالوا بحسن الاحتياط تجاه الحكم الإلزامي المحتمل حتى بعد مجي ء البراءة الشرعيّة في ذلك، رغم أنّ البراءة الشرعيّة تعبّر عن اهتمام المولى بحفظ ملاكات الترخيص في موارد الشكّ أكثر من اهتمامه بحفظ ملاكات الإلزام.
فبهذه النقوض يظهر إجمالاً انّ الملاك الترخيصي وإن كان اقتضائيّا لا يصلح عقلاً للمزاحمة مع الملاك الإلزامي ما لم نحرز تدخّلاً من المولى نفسه في ذلك، سواء قلنا بسعة دائرة مولويّة المولى وشمول حقّ طاعته للتكاليف الظنّية والاحتماليّة، أو لم نقل بذلك.
الجواب الحلّي:
وأمّا حلاًّ فبأنّ قياس ملاك الترخيص الاقتضائي بملاك الإلزام، وبالتالي دعوى صلاحيّته للتزاحم معه في بعض الحالات، يمكن تفسيره بأحد وجهين:
الأوّل: دعوى أنّ ملاك الترخيص الاقتضائي شأنه كشأن ملاكات الأحكام الإلزاميّة من حيث اقتضائه عقلاً إلقاء نوع من المسؤولية على عاتق العبد في مجال تحقيق ذلك الملاك وحفظه، وهذا مرجعه إلى دعوى اقتضاء المنجّزية عقلاً، فكما أنّ ملاك الحكم الإلزامي يقتضي المنجزية عقلاً على العبد، كذلك ملاك الإباحة الاقتضائيّة أو الترخيص الاقتضائي فإنّه أيضا يقتضي نوعا من المنجزيّة عقلاً على العبد، وكما أنّ الأوّل يستدعي امتثالاً مناسبا له، كذلك الثاني يستدعي امتثالاً مناسبا له أيضا، كالبناء على إطلاق العنان ـ مثلاً وعدم التقيّد بالفعل أو الترك. وهذا يعني إمكان وقوع التزاحم بينهما في مقام الامتثال.
والثاني: أن يُسلّم بأنّ ملاك الترخيص الاقتضائي لا يقتضي عقلاً إلقاء شيء من المسؤولية والإدانة على عاتق المكلّف، وإنّما يقتضي نفي المسؤوليّة والإدانة عنه، بمعنى أنّ ملاك إطلاق العنان لا يعني شيئا سوى وجود المصلحة في أن لا يكون المكلّف مسؤولاً وملزما بالفعل أو الترك، وهذ يعني أنّ ملاك الترخيص الاقتضائي لا يستدعي امتثالاً أصلاً حتى يمكن وقوع التزاحم بينه وبين ملاك الإلزام في مقام الامتثال.
ولكن بالرغم من ذلك يقال: إنّ بالإمكان وقوع التزاحم بينهما في نفس حكم العقل بالتنجيز تارةً والتعذير تارةً اُخرى ؛ وذلك لأنّ ملاك الترخيص الاقتضائي كملاك الحكم الإلزامي من حيث ترتّب حكم عقليّ عليه، وإن كان الحكم العقلي المترتّب على ملاك الحكم الإلزامي هو إثبات المسؤوليّة والإدانة، والحكم العقلي المترتّب على ملاك الترخيص الاقتضائي هو نفي المسؤوليّة والإدانة، فكما أنّ ملاك الإلزام يقتضي المسؤوليّة عقلاً كذلك ملاك الترخيص يقتضي نفي المسؤوليّة عقلاً ـ لا أنّ الأوّل يقتضي المسؤوليّة والثاني لا يقتضي المسؤوليّة ـ ولا شكّ أنّ هذين الاقتضائين متنافيان، فإذا اجتمعا في مورد واحد وقع التزاحم بينهما بلحاظ حكم العقل، ولا يتقدّم أحدهما على الآخر من حيث الحكم العقلي إلاّ إذا ثبت رجحانه عليه في نظر المولى.
وبناءً على هذا يمكن دعوى صلاحيّة ملاك الترخيص الاقتضائي للتزاحم مع ملاك الحكم الإلزامي بلحاظ حكم العقل بالتنجيز والتعذير لا بلحاظ عالم الامتثال.
وكلا هذين الوجهين قابل للنقاش :
أمّا الوجه الأوّل؛ فلوضوح أنّ الإباحة ـ حتّى ما كان منها اقتضائيّا لا تعني إلقاء شيء على عاتق المكلّف وتثبيت مسؤوليّةٍ عليه، وإنّما تعني نفي المسؤوليّة عنه، ونفيه هذا للمسؤوليّة عن المكلّف نابع عن مصلحةٍ في ذات نفي المسؤوليّة عنه، فيما إذا كانت الإباحة اقتضائيّة، وليس نابعا عن مصلحة في فعلٍ من أفعال المكلّف أو موقفٍ من مواقفه الاختياريّة.
ومن الواضح أنّ ذات نفي المسؤوليّة ليس أمره بيد المكلّف سلبا وإيجاب حتى يكون قابلاً للتنجيز. وأمّا مثل بناء المكلّف على الترخيص بمعنى عقد قلبه عليه وما شابه ذلك ممّا هو داخل تحت اختياره، فوجوبه بحاجة إلى دليل جديد، ولا يمكن استفادته من الملاك الاقتضائي للترخيص، ولهذا لو تعمّد المكلّف البناء على الوجوب أو الحرمة رغم علمه بالترخيص من قبل المولى، لم يكن بذلك مخالف لملاك الترخيص الاقتضائي، وإن كان مرتكبا للحرمة من حيث التشريع.
وهذا لا يعني أنّ مصلحة الإباحة الاقتضائيّة تكمن في جعلها الاعتباري الصادر من المولى بحيث يتمّ استيفاء هذه المصلحة بمجرّد صدور الجعل من دون أن يترتّب عليه حكم عقليّ من تنجيزٍ أو تعذير، وإنّما يعني أنّ مصلحة الإباحة الاقتضائيّة تكمن في إحساس المكلّف بالحرّية والتمتّع بإطلاق العنان، وهذا يحصل بحكم العقل بالتعذير لا بحكمه بالتنجيز، فلا يترتّب على هذه المصلحة تنجيزٌ عقليٌّ لفعلٍ أو تركٍ يقوم به المكلّف بجوارحه أو جوانحه، وحتّى اتّصاف فعله أو تركه بكونه صادرا عن حرّية واختيار ليس أمرا ينجّزه العقل على المكلّف ويلزم به ؛ وذلك لأنّ هذا الاتّصاف إن قُصد به ما يتقوّم بنيّة عدم الإلزام وما أشبهها من نشاط الجوانح فالإلزام بمثل هذه النيّة أو النشاط الجوانحي بحاجة إلى دليل جديد، ولا يكفي لإثباته الدليل الدالّ على الإباحة، وإن قُصد به واقع اتّصاف الفعل أو الترك بكونه صادرا عن حرّية واختيار ـ بقطع النظر عن مثل تلك النيّة ـ فهو ممّا يحصل بمجرّد حكم العقل بالتعذير ونفي المسؤوليّة تجاه كلّ من الفعل والترك، وهذا خارج عن اختيار المكلّف ولا معنى لتنجيزه عقلاً والمطالبة بامتثاله، وهذا يعني أنّ ملاك الإباحة الاقتضائيّة لا يقتضي تنجيز شيء على المكلّف بوجهٍ من الوجوه حتّى يستدعي امتثالاً مناسبا له. وبهذا يظهر عدم إمكان وقوع التزاحم بين ملاك الإلزام وملاك الترخيص بلحاظ عالم الامتثال.
وأمّا الوجه الثاني الذي يدّعي وقوع التزاحم بين الملاكين لا بلحاظ عالم الامتثال بل بلحاظ حكم العقل بالتنجيز والتعذير، فتوضيح الجواب عليه يبتني على تعيين المبنى المختار في تفسير ملاك الإباحة الاقتضائيّة، إذ بعد رفض التفسير المذكور في الوجه السابق لملاك الإباحة الاقتضائيّة، والتسليم بأنّ هذا الملاك ليس بنحو يدعو إلى الإلزام بشيء ولا إلى تنجيز شيء على المكلّف، وإنّما يدعو إلى الترخيص والتعذير فحسب.
سيبقى أمامنا تفسيران فنّيان لملاك الإباحة الاقتضائية، وهما:
أوّلاً ـ أن يكون ملاك الإباحة الاقتضائيّة جهتيّا، بمعنى أنّ هذا الملاك عبارة عن وجود مصلحةٍ في أن لا يكون المكلّف ملزما عقلاً بفعل هذا العمل أو تركه من جهة إلزامٍ صادرٍ من المولى في خصوص هذا العمل.
وهذا يعني أنّ المصلحة المذكورة وإن كانت تدعو إلى نفي المسؤوليّة العقليّة ولكنّها إنّما تدعو إلى نفي حصّةٍ خاصّةٍ من المسؤوليّة العقليّة وهي المسؤوليّة العقليّة الناشئة من جهة صدور إلزام من قبل المولى في خصوص ذلك العمل، ولا تدعو إلى نفي المسؤوليّة العقليّة بجميع حصصها وأنواعها.
وثانيـا ـ أن لا يكون ملاك الإباحة الاقتضائيّة جهتيّا، بل يكون مطلقا بمعنى أنّ هذا الملاك عبارة عن وجود مصلحةٍ في أن لا يكون المكلّف ملزما عقلاً بفعل هذا العمل أو تركه لا من جهة إلزامٍ صادرٍ من المولى في خصوص ذلك العمل فحسب، بل من جهة أيّ سببٍ يؤدّي إلى حكم العقل بالإلزام في ذلك الفعل المباح. وهذا يعني أنّ المصلحة المذكورة تدعو إلى نفي المسؤوليّة العقليّة تجاه ذلك الفعل من جميع الجهات، لا من جهةٍ خاصّة فحسب.
ويظهر الفرق بين هذين التفسيرين فيما إذا كان لدينا مباح بالإباحة الاقتضائيّة ولم يصدر من المولى إلزامٌ بخصوص فعله أو تركه، ولكن صدر منه إلزامٌ بفعل آخر لا يُضمن امتثاله إلاّ بالالتزام بفعل هذا المباح أو بتركه، فإنّ حكم العقل حينئذٍ بلزوم فعل هذا المباح أو تركه لأجل ضمان امتثال الفعل الآخر لا يكون منافيا لملاك الإباحة الاقتضائيّة بناءً على التفسير الأوّل، لأنّ هذا الإلزام العقلي ليس من جهة إلزامٍ صادرٍ من قبل المولى في خصوص هذ الفعل المباح، بل إنّما هو من جهة ضمان امتثال الوجوب المتعلّق بفعلٍ آخر، ولكنّه منافٍ لملاك الإباحة الاقتضائيّة بناءً على التفسير الثاني؛ لأنّه على كلّ حالٍ إلزامٌ عقليّ تجاه هذا الفعل المباح، مهما كانت جهته ومنشؤه.
ولا نقصد بهذين التفسيرين الحكم بصحّة أحدهما وبطلان الآخر بالضرورة في جميع المباحات الاقتضائيّة؛ إذ قد يصحّ التفسير الأوّل في قسم من المباحات ويصحّ التفسير الثاني في قسم آخر منها، وإن لم نميّز بين القسمين إثباتا.
ففي كلّ موردٍ صحّ التفسير الأوّل لملاك الإباحة الاقتضائيّة زالت الشبهة المذكورة نهائيّا ؛ وذلك لأنّ ما يدّعيه أصحاب مسلك حقّ الطاعة من حكم العقل بلزوم الاحتياط تجاه الحكم الإلزامي المحتمل عند الشكّ في التكليف لا ينافي ملاك الإباحة الاقتضائيّة بالمعنى المذكور في التفسير الأوّل؛ لأنّه على فرض كون هذا الفعل مباحا واقعا فليس هناك إلزام من قبل المولى في خصوص هذا الفعل ليكون حكم العقل بالإلزام ناشئا من جهته، وعلى فرض كون هذا الفعل واجبا أو حراما واقعا فليس فيه ملاك الإباحة الاقتضائيّة ليكون هذا الإلزام العقلي منافيا له.
وهذا يعني أنّنا في موارد الشكّ في التكليف التي يصحّ فيها التفسير الأوّل لملاك الإباحة الاقتضائيّة سنعلم إجمالاً بأنّ ملاك الإباحة الاقتضائيّة إمّا لا وجود له في الواقع، وإمّا أنّ له وجودا ولكنّه لا يفوت بسبب حكم العقل بوجوب الاحتياط؛ لأنّ هذا الحكم العقلي ليس ناشئا من جهة الزام شرعي متعلّق بالمباح، وعلى كلا التقديرين سوف لا يكون ملاك الإباحة الاقتضائيّة المحتملة صالحا للتزاحم مع ملاك الحكم الإلزامي المحتمل بلحاظ حكم العقل بالتنجيز والتعذير. فلا مانع إذا أمام ما يقتضيه ملاك الحكم الإلزامي المحتمل من التنجيز العقلي عند القائلين بمسلك حقّ الطاعة.
وأمّا الموارد التي يصحّ فيها التفسير الثاني لملاك الإباحة الاقتضائيّة فقد يقال فيها: إنّ ملاك الحكم الإلزامي المحتمل كما يدعو إلى حكم العقل بلزوم الاحتياط لضمان حفظه على تقدير وجوده بناءً على مسلك حقّ الطاعة، كذلك ملاك الإباحة الاقتضائيّة المحتملة لابدّ وأن يكون داعيا إلى حكم العقل بعدم لزوم الاحتياط لضمان حفظه أيضا على تقدير وجوده؛ وذلك لأنّ ملاك الإباحة الاقتضائيّة ـ بناءً على هذا التفسير ـ يدعو إلى نفي الإلزام العقلي من جميع الجهات، فلو حكم العقل بوجوب الاحتياط بأيّ سبب من الأسباب كان ذلك منافيا لهذا الملاك على تقدير وجوده، وهذا يعني وقوع التزاحم بين الملاكين المحتملين في موارد الشكّ في التكليف، بلحاظ اقتضاء أحدهما للتنجيز واقتضاء الآخر للتعذير، فيكون الحكم بالتنجيز عند القائلين بمسلك حقّ الطاعة ترجيحا بلا مرجّح.
والجواب :
أوّلاً ـ لو صحّ هذا المنطق لكان الحكم بالتعذير عند القائلين بمسلك قبح العقاب بلا بيان ترجيحا بلا مرجّح أيضا ؛ إذ كما أنّ العقل لو حكم بالتنجيز كان ذلك منافيا لملاك الإباحة الاقتضائيّة المحتملة على تقدير وجوده، كذلك لو حكم بالتعذير كان ذلك منافيا لملاك الحكم الإلزامي المحتمل على تقدير وجوده، فما هو المرجّح للحكم بالتعذير ـ أي البراءة العقليّة ـ عند القائلين بمسلك قبح العقاب بلا بيان؟
وثانيـا ـ صحيحٌ أنّ العقل لو حكم في مثل هذه الحالة بالتنجيز انحفظ به ملاك الحكم الإلزامي المحتمل على تقدير وجوده، وضاع به ملاك الإباحة الاقتضائيّة المحتملة على تقدير وجوده، ولو حكم بالتعذير انعكس الأمر، أي انحفظ به ملاك الإباحة الاقتضائية المحتملة على تقدير وجوده، وضاع به ملاك الحكم الإلزامي المحتمل على تقدير وجوده.
ولكنّ الواقع إنّ الداعي إلى حكم العقل بالتنجيز لا يمكن اجتماعه مع الداعي إلى حكم العقل بالتعذير ـ بالمعنى الذي يؤدّي إلى استحالة الترجيح بلا مرجّح ـ حتى يقع الاشكال في وجه تقديم أحدهما على الآخر عند الاجتماع؛ وذلك لأنّ الأحكام العقليّة لا تتبع الملاكات التي تحفظ بها، وإنّما تتبع موضوعاته المعيّنة لها من قبل العقل نفسه؛ لأنّ المرجع في تعيين موضوعات الأحكام العقليّة هو العقل أيضا، والموضوع الذي يعيّنه العقل لكلّ حكمٍ من أحكامه قد يقترن بنفس الملاك الذي لا يحفظ إلاّ بذلك الحكم العقلي فيحفظ به، وقد لا يقترن بذلك، بل يقترن بملاكٍ آخر لا يتمّ حفظه بذلك الحكم العقلي فيُخسر ويفوت.
مثال ذلك: لو حصل لنا القطع بحكمٍ شرعي مشتمل على ملاك الإلزام، أو وصل الينا حكمٌ ظاهري مثبت للتكليف، تمّ بذلك موضوع حكم العقل بالتنجيز وحكم العقل على أساسه بالتنجيز، حتى إذا كان القطع الحاصل للعبد أو الحكم الظاهري الواصل إليه غير مطابق للواقع، وكان الحكم الواقعي ترخيصيّ ومشتملاً على ملاك الإباحة الاقتضائيّة.
وهكذا لو حصل لنا القطع بالترخيص أو وصل الينا حكم ظاهريّ مؤمّن عن التكليف، تمّ موضوع حكم العقل بالتعذير وحكم العقل على أساسه بالتعذير، حتى إذا كان القطع الحاصل للعبد أو الحكم الظاهري المؤمّن الواصل إليه غير مطابق للواقع، وكان الحكم الواقعي إلزاميّا ومشتملاً على ملاك الإلزام، وفي الحالة الاُولى سيفوت ملاك الإباحة الاقتضائيّة، وفي الحالة الثانية سيفوت ملاك الحكم الإلزامي.
إذاً، فالداعي إلى حكم العقل بكلّ من التنجيز والتعذير ليس هو ذات الملاك الذي لا يتمّ حفظه إلاّ بالتنجيز تارةً وبالتعذير اُخرى، وإن كنّا قد نسمّي ذلك بالداعي إلى حكم العقل بالتنجيز أو التعذير على أساس أنّ حفظه منوط بذلك الحكم العقلي، ولكنّ الداعي بهذا المعنى قابل للانفكاك عن الحكم العقلي الذي يدعو إليه؛ وذلك لما قلنا من أنّ الحكم العقلي بكلّ من التنجيز والتعذير إنّما يتبع موضوعه المعيّن له من قبل العقل نفسه سواء اقترن بملاكٍ يُحفظ بنفس هذا الحكم العقلي أو اقترن بملاكٍ آخر لا يُحفظ إلاّ بحكمٍ عقليّ تابع لموضوع آخــر.
وعليه، فلابدّ من الرجوع إلى موضوع حكم العقل بكلّ من التنجيز والتعذير لنرى هل هما قابلان للاجتماع حتى يقع التزاحم بينهما أو لا، والصحيح أنّهم غير قابلين للاجتماع؛ وذلك لأنّ موضوع حكم العقل بالتعذير عبارة عن نقيض موضوع حكمه بالتنجيز، وليس لكلّ من هذين الحكمين العقليّين موضوع مستقلّ عن الآخر حتى يمكن اجتماعهما في بعض الحالات.
فإذا كان موضوع حكم العقل بالتنجيز عبارة عن خصوص الانكشاف القطعي للحكم الواقعي المشتمل على ملاك الإلزام أو للحكم الظاهري المثبت للتكليف ـ كما يعتقده أصحاب مسلك قبح العقاب بلا بيان ـ كان موضوع حكمه بالتعذير عبارة عن انتفاء هذا الانكشاف القطعي، وإن كان موضوع حكمه بالتنجيز عبارة عن مطلق انكشاف الحكم المشتمل على ملاك الإلزام سواء كان قطعيّا أو ظنيّا أو احتماليّا ما لم يرد حكم ظاهري مؤمّن عن التكليف ـ كما يعتقده أصحاب مسلك حقّ الطاعة ـ كان موضوع حكمه بالتعذير عبارة عن انتفاء مطلق الانكشاف المذكور أيضا الذي يساوي القطع بانتفاء الحكم الإلزامي أو وصول حكمٍ ظاهري مؤمّن عن التكليف.
وليس موضوع حكم العقل بالتعذير عبارة عن الانكشاف القطعي أو مطلق الانكشاف للحكم المشتمل على ملاك الترخيص على غرار كون موضوع حكمه بالتنجيز عبارة عن الانكشاف القطعي أو مطلق الانكشاف للحكم المشتمل على ملاك الالزام، حتى يقال بإمكان اجتماعهما معا على مستوى الانكشاف الاحتمالي، كما في حالات الشكّ، وعلى مستوى الانكشاف القطعي كما في حالات العلم الإجمالي المشار إليه في النقض الأوّل من النقوض الثلاثة.
والدليل على أنّ موضوع حكم العقل بالتعذير نقيض موضوع حكمه بالتنجيز وليس أمرا مستقلاً عن ذلك عبارة عن أنّ التقابل بين نفس التنجيز والتعذير العقليين تقابل النقيضين وليس تقابل الضدّين، إذ أنّنا لو عرّفن التنجيز بأمر وجودي وهو «ثبوت حقّ الطاعة أو حقّ العذاب والمؤاخذة للمولى على العبد» كان التعذير عبارة عن العدم المقابل لذلك الوجود، أعني « عدم ثبوت هذه الحقوق له عليه»، ولو عرّفنا التنجيز بأمرٍ عدميّ وهو «عدم قبح عقاب المولى ومؤاخذته للعبد عند المخالفة» كان التعذير عبارة عن الوجود المقابل لذلك العدم، أعني «قبح عقاب المولى ومؤاخذته للعبد عند المخالفة»، وعلى كلا التقديرين يكون التقابل بينهما تقابل النقيضين لا تقابل الضدّين ، فبحسب قاعدة أنّ «نقيض العلّة علّة لنقيض المعلول» لابدّ وأن يكون التقابل بين موضوعيهما ـ الذين هما بمنزلة العلّة التامّة لهما ـ تقابل النقيضين أيض لا تقابل الضدّين.
وليس هذا ثابتا بالقاعدة الفلسفيّة المذكورة فحسب، بل هو ثابت بالفهم العرفي الوجداني أيضا ؛ إذ بعد أن عرفنا أنّ المعذّريّة إمّا تعني «عدم ثبوت حقّ الطاعة للمولى على العبد عقلاً» أو تعني «قبح عقاب المولى ومؤاخذته للعبد عند مخالفته له» أو ما يقرب هذين المضمونين ممّا يرتبط بحدود دائرة حقّ طاعة المولى، إذا فالمناسب أن يكون موضوعها دائرا ـ سلبا وإيجابا حول ملاكٍ قابل للطاعة والمعصية، وقد قلنا سابقا أنّ ملاك الإباحة الاقتضائيّة غير قابلٍ للطاعة والمعصية، لأنّه لا يستدعي امتثالاً معيّنا أصلاً حتى يطاع تارةً ويعصى اُخرى، وإنّما الملاك القابل للطاعة والمعصية عبارة عن ملاك الحكم الإلزامي، فكما أنّ موضوع حكم العقل بالتنجيز يدور سلبا وإيجاب حول ملاك الحكم الإلزامي ـ سواء كان ميزانه الانكشاف القطعي لهذا الملاك فحسب أو ما يعمّ الانكشاف الاحتمالي له أيضا ـ لابدّ وأن يكون موضوع حكم العقل بالتعذير دائرا أيضا سلبا وإيجابا مدار ملاك الحكم الإلزامي بنحوٍ معاكسٍ لموضوع حكم العقل بالتنجيز، ولا يصحّ أن يكون دائرا مدار ملاك الإباحة الاقتضائيّة الذي لا يعقل فيه الطاعة والمعصية، وهذا يعني أنّ موضوع حكم العقل بكلٍّ من التنجيز والتعذير يدوران حول ملاك الحكم الإلزامي باختلاف السلب والإيجاب فيهما، وليس أحدهما يدور حول ملاك الحكم الإلزامي والآخر حول ملاك الإباحة الاقتضائية حتّى يمكن اجتماعهما ووقوع التزاحم بينهما في بعض الحالات.
إذاً، فمتى ما تمّ موضوع حكم العقل بالتنجيز تجاه الحكم الإلزامي ـ سواء على مبنى حقّ الطاعة أو على مبنى قبح العقاب بلا بيان ـ حكم العقل بالتنجيز على ذلك المبنى، ومتى ما تمّ نقيضه وهو موضوع حكم العقل بالتعذير تجاه الحكم الإلزامي ـ على كلّ من المبنيين ـ حكم العقل بالتعذير بحسب ذلك المبنى، سواء كان الملاك الثابت في الواقع عبارةً عن ملاك الإباحة الاقتضائيّة أو عبارةً عن ملاك الحكم الإلزامي.
وليس حكم العقل بالتعذير عند القطع بالإباحة الواقعيّة أو الظاهريّة ناشئ من انكشاف ملاك الإباحة، بل إنّما هو ناشئ من عدم انكشاف وجود الحكم الإلزامي الذي هو نقيض موضوع حكم العقل بالتنجيز، على الخلاف بيننا وبين المشهور في تفسير الانكشاف بخصوص الانكشاف القطعي أو بما يعمّ الانكشاف الظنّي والاحتمالي.
وعلى هذا الأساس لو أراد المولى أن يحفظ ملاك الإباحة الاقتضائيّة كان عليه أن ينظّم حكمه الواقعي أو الظاهري ثبوتا وإثباتا بنحوٍ لا يتمّ به موضوع حكم العقل بالتنجيز بل يتمّ نقيضه، وذلك بإيصال الإباحة الواقعيّة أو الظاهريّة إلى المكلّف ـ مثلاً ـ بحيث ينتفي به انكشاف الحكم الإلزامي بأحد الوجهين في تفسير الانكشاف، وإن لم يصنع ذلك بأيّ سببٍ من الأسباب فتمّ موضوع حكم العقل بالتنجيز، حكم العقل بالتنجيز وضاع به ملاك الإباحة الاقتضائيّة على تقدير وجوده، وليس ذلك بتقصيرٍ من العبد حتى يستحقّ عليه العقاب، بل إنّما هو بسبب الموانع التي منعت المولى عن رفع موضوع حكم العقل بالتنجيز، كالمانع التكويني عن إبلاغ المكلّف برفع يده عن الحكم الواقعي الإلزامي، أو المانع التكويني عن إيصال الحكم الظاهري المؤمّن إلى المكلّف، أو غير ذلك من الموانع.
وبما ذكرنا نتخلّص من مشكلة التزاحم الموهوم في عالم التنجيز والتعذير العقليّين بين ملاك الحكم الإلزامي وملاك الإباحة الاقتضائيّة سواء بنين على مسلك حق الطاعة أو على مسلك قبح العقاب بلا بيان.
وأمّا الخلاف بين هذين المسلكين فلا مرجع فيه سوى وجدان العقل العملي، إذ قلنا منذ البداية: إنّ هذه المسألة وجدانيّة وليست برهانيّة؛ لأنّ البراهين المدّعاة أو التي قد تدّعى لصالح مسلك قبح العقاب بلا بيان قد أبطله القائلون بمسلك حق الطاعة في المصادر المشار إليها في صدر هذا الحديث، والقائلون بمسلك حقّ الطاعة لا يدّعون أيضا وجود برهانٍ منطقيّ لصالح مسلكهم، فلا يبقى شيء سوى وجدان العقل العلمي، وهو قاضٍ في رأين بصحّة مسلك حق الطاعة، بمعنى أنّ موضوع حكم العقل بثبوت حق الطاعة للّه تبارك وتعالى على عباده بحسب إدراك العقل العملي وجدانا عبارة عن مطلق انكشاف الحكم الإلزامي من قبله تبارك وتعالى، سواء كان انكشاف قطعيّا أو ظنّيا أو احتماليّا، ما لم يصل الينا ترخيص ظاهريّ من قبله في ترك الاحتياط، ولدينا بعض الوجوه لتنبيه هذا الوجدان يطول بذكرها المقام.
حلّ النقود الثلاثة :
وفي ضوء ما شرحناه يمكن حلّ النقوض الثلاثة الماضية أيضا.
أمّا بناءً على التفسير الأوّل من التفسيرين اللذين ذكرناهما لملاك الإباحة الاقتضائيّة ـ وهو أن يكون ملاكها جهتيّا بالمعنى الذي شرحناه ـ فواضح جدا؛ لأنّ حكم العقل بالتنجيز في موارد النقض الأوّل والثاني وحكمه بحسن الاحتياط في موارد النقض الثالث ليس ناشئا من جهة صدور إلزام من المولى في خصوص الفعل المباح، حتى يضيع به الملاك الجهتي للإباحة الاقتضائيّة بناءً على التفسير الأوّل، بل إنّما هو ناشئ من جهة اُخرى وهي ضمان الحفاظ على ملاك الحكم الإلزامي، وهذا لا ينافي الملاك الجهتي للإباحة الاقتضائيّة كما هو واضح.
وأمّا بناءً على التفسير الثاني ـ وهو أن يكون ملاك الإباحة الاقتضائيّة مطلقا من جميع الجهات بالمعنى الذي شرحناه ـ فهو واضح أيضا في موارد النقض الأوّل والثاني من النقوض الثلاثة؛ وذلك لأنّه وإن وقع التزاحم في موارد هذين النقضين بين ملاك الحكم الإلزامي وملاك الإباحة الاقتضائيّة بمعنى عدم إمكان حفظهما معا؛ لأنّ حفظ الأوّل منوط بحكم العقل بالتنجيز، وحفظ الثاني منوط بحكمه بالتعذير، ولكن قد ذكرنا أنّ حكم العقل بكلّ من التنجيز والتعذير لا يتبع الملاك الذي يكون حفظه منوطا به، وإنّما يتبع موضوعه المعيّن له من قبل العقل نفسه، ولمّا كان التقابل بين الموضوع المعيّن من قبل العقل لكلٍّ من التنجيز والتعذير تقابل النقيضين كما ذكرنا؛ لأنّهما يدوران معا حول ملاك الحكم الإلزامي باختلاف السلب والإيجاب فيهم ولا يدوران حول ملاك الإباحة الاقتضائيّة، كما مضى توضيحه، إذا فهما غير قابلين للإجتماع معا حتى في موارد النقضين المذكورين.
وبما أنّ موضوع حكم العقل بالتنجيز متحقّق في موارد هذين النقضين سواء على مبنى حقّ الطاعة أو على مبنى قبح العقاب بلا بيان، وذلك بالانكشاف القطعي للحكم المشتمل على ملاك الإلزام ـ وإن كان هذا الانكشاف على نحو العلم الإجمالي في موارد النقض الأوّل، وعلى نحو العلم التفصيلي في موارد النقض الثاني ـ فموضوع حكم العقل بالتعذير غير موجودٍ بطبيعة الحال رغم الانكشاف القطعي الموجود لملاك الإباحة الاقتضائية ؛ لأنّ هذ الانكشاف ليس موضوعا لحكم العقل بالتعذير كما ذكرنا، وإنّما موضوع حكمه بالتعذير نقيض موضوع حكمه بالتنجيز.
فإذا أراد المولى أن يحكم العقل بالتعذير حفاظا على ملاك الإباحة الاقتضائيّة كان عليه أن يرفع موضوع حكم العقل بالتنجيز ببعض الوجوه المشار اليها سابقا، ولو لم يصنع ذلك بأيّ سببٍ من الأسباب بقي حكم العقل بالتنجيز ثابتا لثبوت موضوعه، وإن ضاع به الملاك القطعي للإباحة الاقتضائيّة، ولا محذور في ذلك ما دام المكلّف غير مقصّرٍ فيه.
وأمّا موارد النقض الثالث من النقوض الثلاثة الماضية، وهي موارد حسن الاحتياط عقلاً حتى مع ورود البراءة الشرعيّة، فقد يقال فيها بعدم كفاية الجواب السابق؛ وذلك لأنّنا قد سلّمنا بما ذكر في الجواب السابق، من أنّ المولى لو أراد أن يحفظ ملاك الإباحة الاقتضائيّة كان عليه أن يتدخّل في موضوع حكم العقل ويجعله مناسبا لحكمه بالتعذير، وإلاّ لو تمّ موضوع حكم العقل بالتنجيز لحكم العقل بذلك وإن ضاع به ملاك الإباحة الاقتضائيّة، ول محذور في ذلك، ولكنّنا نجد في موارد النقض الثالث أنّ المولى قد تدخّل في موضوع حكم العقل فعلاً، فجعل البراءة الشرعيّة في مورد الشكّ وأوصله إلى المكلّف حسب الفرض، وبذلك قد زال موضوع حكم العقل بالتنجيز حتى عند القائلين بمسلك حق الطاعة ؛ وذلك لأنّ موضوع حكم العقل بالتنجيز عندهم وإن كان عبارةً عن مطلق الانكشاف سواء كان قطعيّا أو ظنيّا أو احتماليّ ولكنّه مشروط عندهم بعدم وصول ترخيصٍ ظاهريّ في ترك الاحتياط، ولا شكّ أنّ البراءة الشرعيّة ترخيص ظاهري في ترك الاحتياط، فبوصول هذه البراءة الشرعيّة يزول موضوع حكم العقل بالتنجيز، وهذا يعني أنّ المولى قد رجّح ملاك الإباحة الاقتضائيّة المحتملة عند الشكّ على ملاك الحكم الإلزامي المحتمل بالتصرّف في موضوع حكم العقل بالنحو المذكور.
وبالرغم من ذلك كلّه قام القائلون بحسن الاحتياط بترجيح ملاك الحكم الإلزامي المحتمل على ملاك الإباحة الاقتضائيّة المحتملة بدعوى حسن الاحتياط فيه الذي مرجعه إلى حسن البناء على ثبوت الحكم الإلزامي، ولم يقل أحد منهم بحسن البناء على ثبوت الإباحة بدلاً عن حسن البناء على ثبوت الحكم الإلزامي، فما هو السرّ في ذلك ؟
والجواب: أنّ حسن البناء على ثبوت الحكم الإلزامي لا يعني لزوم البناء عليه بل يعني حسنه فحسب، وهذا الحسن ـ ما دام لم يورث اللزوم العقلي لا ينافي ملاك الإباحة الاقتضائيّة على تقدير وجوده، فإنّ ملاك الإباحة الاقتضائيّة قد حُفظ تماماً على تقدير وجوده بحكم العقل بالتعذير بعد تدخّل الشارع في موضوع حكم العقل بالنحو المذكور، ويمكن لهذا الحسن العقلي أن يحفظ ملاك الحكم الالزامي المحتمل على تقدير وجوده ـ حفظا نسبيّا طبع ـ من دون أن يضيع به ملاك الإباحة الاقتضائيّة المحتملة على تقدير وجوده ؛ وذلك لأنّ المكلّف لو بنى على ثبوت الحكم الإلزامي المحتمل وأطاعه احتياط بمحض اختياره وتبرّعه ـ أي بدون إلزامٍ عقلي بذلك ـ لحفظ به ملاك هذ الحكم على تقدير وجوده من دون أن يضيع به ملاك الإباحة الاقتضائيّة المحتملة على تقدير وجوده، ولا شكّ في حسن ذلك عقلاً، بخلاف العكس؛ إذ لو بنى على ثبوت الإباحة ولم يتبرّع بالالتزام بالطاعة للحكم الإلزامي المحتمل لضاع به ملاك الحكم الإلزامي المحتمل على تقدير وجوده، ولهذا قالوا بحسن الاحتياط تجاه الحكم الإلزامي المحتمل، ولم يقل أحدٌ بحسن البناء على الإباحة.
الاُستاذ السيّد علي أكبر الحائري
مجلّة فقه أهل البيت (ع) / 34