المخاطرة في بحث الأستاذ حسن الجواهري بعنوان: (بيع التقسيط)

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

المخاطرة

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، فأني سأعلق، بعون الله، على ما جاء في ورقة الأستاذ حسن الجواهري بعنوان (بيع التقسيط)، مما يتعلق بالمخاطرة فقط.

رأي الأستاذ الصدر والأستاذ الجواهري في المخاطرة

في الصفحة 23 من الورقة [1] ذهب الأستاذ حسن إلى أن المخاطرة ليست من عوامل الكسب في النظرية الإسلامية، حيث أنها ليست سلعة إقتصادية حتى يطلب ثمنها، وليس عملاً أنفق على مادة ليكون من حقه تملكها أو المطالبة بأجر على ذلك من مالكها.

ومرجعه في ذلك ما رآه الأستاذ محمد باقر الصدر في كتابه المعروف (اقتصادنا) فالمخاطرة، كما صورها الصدر هي: (حالة شعورية خاصة تغمر الإنسان، وهو يحاول الإقدام على أمر يخاف عواقبه، فإما أن يتراجع إنسياقاً مع خوفه، وإما أن يتغلب على دوافع الخوف، ويواصل تصميمه، فيكون هو الذي رسم لنفسه الطريق واختار بملء إرادته تحمل مشاكل الخوف، بالأقدام على مشروع يحتمل خسارته مثلاً، فليس من حقه أن يطالب بعد ذلك بتعويض مادي عن هذا الخوف ما دام شعوراً ذاتياً، وليس عملاً مجسداً في مادة ولا سلعة منتجة.

صحيح أن التغلب على الخوف بعض الأحيان قد يكون ذا أهمية كبيرة من الناحية الفلسفية والخلقية، ولكن التقييم الخلقي شيء، والتقييم الإقتصادي شيء آخر)[2].

وظن الأستاذ الصدر أن الإعتراف بالمخاطرة ضرب من التأثر بالفكر الرأسمالي (الذي يتجه إلى تفسير الربح وتبريره على أساس المخاطرة)[3] وانتقد الرأسماليين (الذين يحاولون أن يضفوا على المخاطرة سمات البطولة، ويجعلوا منها سبباً للحصول على كسب في مستوى هذه البطولة)[4].

وخطأ الصدر قول الذين قالوا: (أن الربح المسموح به لصاحب المال في عقد المضاربة، يقوم على أساس المخاطرة)[5] ثم قال: (ولكن الحقيقة… هي أن الربح الذي يحصل عليه المالك، نتيجة لاتجار العامل بأمواله، ليس قائماً على أساس المخاطرة، وإنما يستمد مبرره من ملكية صاحب المال للسلعة التي اتجر بها العامل)[6].

ثم ذهب الأستاذ الجواهري ـ مثل الصدر ـ مضيفاً أن في الشريعة الإسلامية عدة ظواهر تبرهن على الموقف السلبي من المخاطرة في تسويغ الكسب، فمن ذلك حرمة القمار، وحرمة الشركة في الأبدان، فإن القمار يرتكز على أساس المخاطرة وحدها…

وفي الصفحة 21 من الورقة[7]، ذكر الأستاذ الجواهري أن الإسلام لم ير للمخاطرة قيمة اقتصادية، فلم يجعلها طريقاً من طرق الكسب التجاري، حيث أن طرق الكسب في التشريع الإسلامي هي إما العمل المباشر من الأفراد، أو العمل المختزن الذي هو بصورة سلعة أو عين أنفق عليها عمل من الآخرين، لذا حرم القرآن والسنة النبوية أخذ الفائدة على الفرض الذي هو ليس إلا احساناً أو مخاطرة بالمال، بتعريضه للتلف، أو إيثار الآخرين على النفس، وإنما المخاطرة حالة شعورية ذاتية تستحق التقدير والإعجاب في أكثر الحالات، فيستحق صاحبها ثواباً من الله تعالى.

خلاصة رأي الصدر والجواهري

العلم والمال ـ في غير صورة القرض ـ في الإسلام لهما قيمة اقتصادية، وهما من عوامل الكسب.

أما المخاطرة فعلى العكس: ليس لها قيمة إقتصادية، وليس من عوامل الكسب. مستندهما في ذلك:

1ـ القمار.

2ـ شركة الأبدان.

3ـ شركة المضاربة.

4ـ ربا القرض.

مناقشة هذا الرأي

أولاً ـ المخاطرة الأصل فيها أنها حلال

1ـ مخاطرة القمار:

الأصل في القمار أنه محرم في الإسلام، دلت علي ذلك الآية 219 من سورة البقرة، والآية 90 من سورة المائدة. ومن ثم فالمخاطرة التي في القمار حرام مثله. غيرأن الفقهاء استثنوا من القمار المحرم: السباق والنضال والقرعة (في حالات محددة).

المهم هنا أنه حتى مخاطرة القمار ليست كلها حرماً في الإسلام، وقد يكون السبق على مال، فتفيد هذه المخاطرة كسباً.

2ـ المخاطرة في شركة الأبدان:

شركة الأبدان، كما عرفها الأستاذ الجواهري (ص23 من الورقة)، هي اتفاق بين اثنين أو أكثر على ممارسة كل واحد منهم عمله الخاص، والإشتراك فيما يحصلون عليه من مكاسب. ومثل لها بطبيبين يمارس كل منهما عمله في عيادته الخاصة، ويتقاسمان في نهاية كل شهر ـ مثلاً ـ مجموع الأجور التي حصلا عليها معاً.

ويبدو أن تحريم هذه الشركة عند من جرمها (الشافعية، والظاهرية، والإمامية) يأتي من أن عمل كل من الطبيبين منفصل عن الآخر، فأين العمل المشترك، أو المال المشترك، الذي يسوغ الإيراد المشترك، أو الربح المشترك؟ فالكسب الإضافي الذي قد يحصل عليه أحد الشريكين، نتيجة هذه الشركة، مرده الغرر أو القمار، أي المخاطرة المحرمة.

وأيا ما كانت الحال، فإن تحريم الكسب بالمخاطرة التي في شركة الأبدان لا يعني تحريم الكسب بمخاطرات أخرى مشروعة.

3ـ المخاطرة في شركة المضاربة:

شركة المضاربة هي اتفاق بين رب مال وعامل على اقتسام الربح بنسبة معلومة. وفي هذه الشركة يقدم رب المال مالاً ويتحمل مخاطرة خسارة ماله، كله أو بعضه، ويقدم العامل المضارب عملاً ويتحمل مخاطرة خسارة عمله، كله أو بعضه.

ومن هنا فإن رب المال يكسب الربح بماله ومخاطرته، والعامل يكسب الربح بعمله ومخاطرته. ولا نتفق مع الذين قالوا بأن رب المال يكسب الربح بمخاطرته، ولا مع الذين قالوا بأن رب المال يكسب الربح بماله، إنما كسب الربح هنا من العنصرين معاً: المال، والمخاطرة. ومن قال أن رب المال يكسب الربح بماله فإنما يعني ضمناً أنه يكسب الربح بمخاطرته أيضاً، لأن رب المال يملك المال ويتحمل مخاطرة الملك.

كذلك العامل يكسب ربحه من عنصري العمل والمخاطرة، ولا ريب أن هذه المخاطرة تعطيه حقاً في زيادة كسبه. فلو عمل عامل بأجر شهري مضمون قدره 5000 ريال، فإنه لا يرضى بأن يعمل مضارباً مخاطراً إذا توقع أن يكون عائدة الشهري 5000 ريال فقط، ويرضي إذا زاد العائد المتوقع على هذا المبلغ زيادة مرضية.

4ـ المخاطرة في القرض الربوي:

القرض الربوي حرام في الإسلام، فلا يجوز التذرع بالمخاطرة التي يتعرض لها المقرض، لاستباحة الربا على القرض. فالمخاطرة هنا ليست مصدراً للكسب، لأن الربا حرام. ولكن حرمة الربا كحرمة القمار لا تعني أن كل مخاطرة حرام، ولا أن كل مخاطرة لا تفيد كسباً.

ثانياً ـ رأينا في المخاطرة: منتجة ولها عائد

1ـ المخاطرة لا غنى عنها في كل الأنشطة الإقتصادية النافعة، من زراعة وصناعة وتجارة ونقل… الخ، بل هي مهمة جداً في الإنتاج والتنمية. وكلما زادت المخاطرة في المظروعات وجب أن تزيد أرباحها المتوقعة، وإلا احجم الناس عنها، ولو عظمت منفعتها العامة.

2ـ المال والعمل من عوامل الإنتاج، ولكن في حين أن المال والعمل هما من عوامل الإنتاج المستقلة، فإن المخاطرة من عوامل الإنتاج التابعة، أعني بهذا أن المخاطرة لا تستقل في الكسب، بل تنضاف إلى مال أو عمل، فتزيد في الكسب. فمن أجر مالاً (آلة مثلاً) بأجر مضمون، فإنه إذا أجره بحصةٍ من الايراد أو من الربح، فإنما يتوقع الحصول على عائد أكبر من العائد المضمون. وكذلك العامل بأجر مضمون، والعامل بأجر احتمالي غير متيقن.

3ـ يؤيد هذا قول الفقهاء بأن الربح يستحق بالمال والعمل والضمان. ويجب الإنتباه هنا إلى أن الضمان يعني المخاطرة. ولكن الضمان كما قلنا لا يستحق الربح على وجه الإستقلال، بل على وجه التبعية للمال أو للعمل.

4ـ جاء في النصوص الشرعية النهي عن ربح ما لم يضمن (رواه أحمد وأصحاب السنن). والضمان هنا هو المخاطرة أيضاً. ويستفاد من هذا أن الربح يستحق بالضمان، وهذا هو أصل القاعدة التي ذكرها الفقهاء: يستحق الربح بالمال والعمل والضمان.

ومرة أخرى تقول أن الضمان لا يستقل في الربح، إنما هو تابع للمال أو للعمل، فيزيد في مقدار الربح المحتمل.

5ـ كذلك قوله(رض): (الخراج بالضمان) (رواه الشافعي وأحمد وأصحاب السنن) يفيد أن الغلة يستحقها المالك، لأنه يملك المال ويضمنه، أي يتعرض لمخاطرة الملك. فهذا ضمان ملك، وليس ضماناً محضاً. المهم هنا أن مالك الشيء يملك خراجه، لأنه مالك ومخاطر، يتحمل مخاطر ملكه.

ثالثاً: علماء قدامى صحت آراؤهم في المخاطرة

1 العز بن عبد السلام (660هـ)

قال(رض): (من قتل قتيلاً له عليه بينه، فله سلبه)، رواه الشيخان وغيرهما.

قال العز: (كذلك جعل الأسلاب للقاتلين المخاطرين، لقوة تسببهم إلى تحصيلها، ترغيباً لهم في المخاطرة بقتل المشركين)[8]

2ـ ابن تيمية (728هـ)

قال: (المجاهدة في سبيل الله عز وجل فيها مخاطرة، قد يغلب وقد يغلب.وكذلك سائر الأمور، من الجعالة والمزارعة والمساقاة والتجارة والسفر)[9].

وقال أيضاً: (ليس في الأدلة الشرعية ما يوجب تحريم كل مخاطرة)[10]

3ـ ابن القيم (751هـ)

قال: (المخاطرة مخاطرتان: مخاطرة التجارة، وهو أن يشتري السلعة بقصد أن يبيعها ويربح ويتوكل على الله في ذلك، والخطر الثاني هو الميسر (القمار)، وهو بخلاف التجارة…)[11].

4ـ ابن خلدون (808هـ)

قال: (كذلك نقل السلع من البلد البعيد المسافة، أو في شدة الخطر في الطرقات، يكون أكثر فائدة للتجارة وأعظم أرباحاً…، لأن السلعة المنقولة تكون حينئذ قليلة معوزة (عزيزة، نادرة)، لبعد مكانها، أو شدة الغرر     (الخطر) في طريقها، فيقل حاملوها (ناقلوها)، ويعز وجودها، وإذا قلت وعزت غلت أثمانها)[12].

رابعاً: معاصرون نبهوا على مسألة المخاطرة

سبق لي أن نبهت على أن المخاطرة مخاطرتان: حلال وحرام، وعلى أهمية المخاطرة في الأنشطة الإقتصادية، وعلى إدراجها ضمن عوامل الإنتاج (التابعة)، وعلى دورها في الكسب والتوزيع، خلافاً للأستاذ الصدر، وذلك في موضعين:

1ـ في كتابي (أصول الإقتصاد الإسلامي) (1409هـ ـ 1989م) ص97 وص218.

2ـ في ورقتي المقدمة إلى ملتقى الفكر الإسلامي الرابع والعشرين في الجزائر، (1411هـ 1990م)، بعنوان: (الإدخار المصر في والإستثمار في اقتصاد إسلامي) ص7.

هذا ما بدا لي التعليق عليه، وبالله التوفيق.

تعليق

د. رفيق يونس المصري

مركز أبحاث الإقتصاد الإسلامي

[1] المقصود الصفحة 23 من النسخة الأصلية من بحث بيع التقسيط أما في هذا الكتاب فقد تغيرت الصفحة وأصبحت الصفحة 68.

[2] اقتصادنا: ص633

[3] اقتصادنا: ص634

[4] اقتصادنا: ص635

[5] اقتصادنا: ص634.

[6] اقتصادنا: ص634

[7] المقصود الصفحة 21 من النسخة الأصلية من بحث بيع التقسيط، أما في هذا الكتاب فقد تغيرت الصفحة، راجع بحث بيع التقسيط في هذا الكتاب.

[8] قواعد الأحكام في مصالح الأنام 2/ 99 ـ 100

[9] مختصر الفتاوى المصرية ص535

[10] مختصر الفتاوى المصرية ص532

[11] زاد المعاد 3/ 263

[12] المقدمة 2/ 930.