تمهيد:
نشرت مجلّة «الغدّ» في عددها «14» لشهر آذار عام 1983م مقالاً تحت عنوان «ملاحظات حول كتاب فلسفتنا للشهيد محمّد باقر الصدر.. » كتبه السيّد ماجد رحيم.
وقد سبقت «الغدّ» مجلّةُ «الثقافة» العراقيّة بنشر مقالٍ لـ «مهدي النجّار» تناول فيه كتاب «فلسفتنا» بالنقد والتشويه. رغم ما نجده من اختلاف أساسيٍّ في أخلاقيّة كلا المقالين، ورغم إكبارنا لأخلاقيّة السيّد «ماجد» وما أبداه من أدب ودماثة في مواجهة «فلسفتنا»، إلاّ أنّنا نجد أنفسنا منذ البدء ملزمين بإيضاح الدافع الذي يحدونا لتحديد موقف إزاء الملاحظات، كما نجد أنفسنا ملزمين لإيضاح مسألة أساسيّة تتعلّق بطبيعة المقال وأسلوب معالجته للفكر الفلسفيّ عامّة ولمدرسة الشهيد الصدر! الفلسفيّة بشكلٍ خاصّ.
أوّلاً: [الدافع لتحديد الموقف:]
الدافع لتحديد الموقف يدفعنا لتناول ملاحظات «الغدّ» بالنقد وإدامة الحوار من أجل الكشف عن الحقيقة،
فالحوار الموضوعيُّ كفيلٌ بإزالة الضباب الذي يلفّ جملةً من المواقف.
نعم، إدامة الحوار وتقديرُ جهدٍ لمسنا فيه روح طلب الحقيقة، وإلاّ ففي متابعة جادّة ومتدبّرة لكتاب «فلسفتنا»
ما يغنينا عن الدفاع عنها.
ثانياً: مسألة أساسيّة:
لقد أشار السيّد «ماجد» في مستهلّ مقاله إلى عدم ضرورة الاختصاص الفلسفيّ في إبداء الرأي وتحديد الموقف الفلسفي.
ولا نختلف مع الناقد المحترم في امتلاك كلٍّ منّا وجهات نظر فلسفيّة، بمعنى أنّ مختلف مستويات البشر له وجهةُ نظر للعالم والوجود وأسلوبٌ في التعامل مع الأشياء. إلا أنّنا نرى أنّ مواجهة بحثٍ فلسفيٍّ على مستوى «فلسفتنا» بالنقد والتحليل بحاجة إلى تخصّص ومعاناة في مجال هذا البحث.
لاحظنا عبر مقالة السيّد «ماجد» فجوتين منهجيّتين أساسيّتين:
أ ـ تداخلات مستمرّةٌ في معالجة مشاكل الفكر الفلسفيّ، رغم أنّ هناك وحدةً واقعيّةً بين مسائل المعرفة البشريّة بشكلٍ عام وبين مشكلات الفلسفة بشكل خاص، إلا أنّ هناك أيضاً تمييزاً منهجيّاً لا بدّ من رعايته في معالجة أبحاث الفلسفة. وقد أشرنا إلى نماذج هذه المداخلات خلال عرضنا لتفاصيل ملاحظات الناقد.
ب ـ الحماسُ واستخدامُ الشعارات والاتّجاهُ صوب عدم التحديد سببٌ رئيسٌ لضياع الحقيقة. إنّ تناول قضايا العلم والفلسفة تناولاً موضوعيّاً بأناة ودقّة مسألةٌ ضروريّة، وهي الطريق الطبيعيّ للخروج برؤية صائبة إزاء مواقف المعرفة المختلفة.
وأودُّ أن أشير في نهاية هذا الافتتاح إلى أنّ السيّد «ماجد» لم يفلح في مواجهة شاملة مع أشمل نقد للفكر الماركسيّ: فقد تحرّى مواضع ليست بأساسيّة في معالجة قضايا الماركسيّة، كما أغفل مواضع أخرى كبحث «الإدراك» الذي يعدّ التبرير الرئيس لعلميّة الماركسيّة.
وتحسن الإشارة أيضاً إلى أنّ «فلسفتنا» كتابٌ عقائديٌّ دافع فيه الشهيد الصدر) عن أسس العقيدة الإسلاميّة في ظروف هجمة الفكر الغربيّ سواء الماركسيّ منه أم غيره من اتجاهات الأرض الأوربيّة.
أما تلمّس الصدر الفيلسوف واستكشاف أبعاد مدرسته الفلسفيّة، فمسألة تحتاج إلى متابعة عميقة في تراث أحد عباقرة هذا القرن. وقد كتبنا مقالاً يمثّل إطلالة عامّة وخطوةً أولى تضع منهج هذه المتابعة التي تنتظر من يشرع بها، ومن اللّه نستمدّ العون[1].
نتابع الملاحظات التي سجّلها السيّد «ماجد رحيم» في مقاله على التوالي حسب تسلسلها في نفس المقال.
1ـ الملاحظة الأولى:
يقول الكاتب:
«ويشير الكاتب (يعني السيّد الصدر) إلى أنّ الفيلسوف الإنجليزيّ المرموق «جون لوك» (1632 ـ 1704م) هو المبشّر الأوّل بالنظريّة الحسّية. ولكن تجدر الإشارة إلى أنّ مؤسِّس المدرسة الماديّة الإنجليزيّة هو «فرانسيس بَيْكُن» (1651 ـ 1626م) وتلاه «توماس هابز» (1588 ـ 1679م). إلا أنّ «جون لوك» قام بتطوير المدرسة الماديّة وفنّد مفاهيم…»[2].
رغم أنّ هذه الملاحظة ليست بملاحظة جوهريّة، إلاّ أنّ إزالة التشويش الذي يثيره هذا النصّ مسألة ضروريّة. ويمكننا تلخيص ثغرات هذه الملاحظة في النقاط التالية:
أ ـ كان الأجدر بالأخ «ماجد» أن يلتزم الأمانة في نقل النصّ الذي ورد في «فلسفتنا»، حيث جاء فيها «ولعلّ المبشّر الأوّل»[3]، ومن الواضح أنّ دلالة هذا السياق لا تعطي نفس المضمون القطعيّ الذي ينسبه السيّد «ماجد» إلى «فلسفتنا».
ب ـ هناك خلطٌ واضحٌ في استخدام المصطلحات، فالنظريّة الحسيّة والمدرسة الماديّة مصطلحان يشيران إلى مفهومين مختلفين، وإن كان هناك تلاحمٌ ولقاءٌ كبيرٌ بين الفلاسفة والحسيّين والماديّين، إلاّ أنّ الحسيّة تبقى مشيرةً إلى اتجاه في تفسير الإحساس البشريّ، وتظلّ الماديّة مذهباً عاماً في تفسير الوجود والمعرفة البشريّة.
ج ـ كان «فرنسيس بَيْكُن» حسيّاً، ولكنّه لم يكن مبشّراً بالحسيّة كاتجاه، وإنّما انصبّ جهده على مقارعة القياس الأرسطيّ والتأكيد على مبدأ الاستقراء.
أمّا «جون لوك» الذي «جاء بعد «هابز» و«بَيْكُن» وكان أعمق منهما في توضيح المذهب الحسيّ والدفاع عنه، فاستحقّ أن يدعى زعيمه في العصر الحديث»[4].
2ـ الملاحظة الثانية:
يقول السيّد «ماجد رحيم»:
«وفي مجال شرحه للنظريّة الحسّية والمذهب التجريبيّ، يستعرض ويفنّد الكاتب آراء الفيلسوف الاسكوتلنديّ «دَيْڤِد هيوم» ولكنّه لا يميّزها بشكل دقيق عن الفهم الماركسيّ للنظريّة الحسّية وللتجريبيّة. فمن المعروف أنّ تفسير «هيوم» للإحساس تفسيرٌ يستند في جوهره على الفلسفة «اللاأدريّة» «Agnosticism» والفلسفة المثاليّة وليس على الفلسفة الماديّة»[5].
نعود لنجد في هذا النصّ خلطاً أدّى بالكاتب إلى عدم التمييز بين حسيّة «هيوم» و«لا أدريّته» التي عصفت بالمعرفة البشريّة.
ويكمن الخلط في عدم الالتفات إلى التمايز الجوهريّ والمنهجيّ الذي طرحه كتاب «فلسفتنا» منذ البدء. حيث إنّ للمعرفة البشريّة مستويين:
أوّلهما: مستوى الإدراك الساذج البسيط الذي تمثّله التصوّرات البشريّة التي تنمو بشكل أساس على أساس المعطيات الحسيّة المكتسبة من الواقع الخارجي، والتي تتناولها الحواس البشريّة.
وثانيهما: مستوى الإدراك والعمليّات العقليّة العليا ـ على حدّ تعبير «بافلوف» ـ وما أطلق عليه «فلسفتنا» بـ «التصديق» الذي يعبّر عن المعرفة والأفكار التي تستبطن حكماً. وحينما نقوم في دراسة نظريّة المعرفة، لا بدَّ وأن نميّز بين هذين المستويين بوصفهما حقلين تتصارع فيهما آراء الفلاسفة رغم وجود التأثير المتبادل لسياق ونتائج التحليل بينهما.
في هذا الضوء يتّضح أنّ «هيوم» الحسيّ على مستوى التصوّر البشريّ، يشاطر الحسيّين همومهم ويلتقي معهم في إرجاع كل التصوّرات البشريّة إلى أصولها الحسيّة.
ثم يعود ليصارع فلاسفة حسيّين، ولكن على مستوى الإدراك التصديقي وفي تفسير الأحكام التي يطلقها الذهن البشريّ من حيث قيمتها الموضوعيّة ومقدار كشفها عن الواقع الموضوعيّ لحقائق الأشياء.
فـ«هيوم» الارتيابي لم يكن ارتيابيّاً على مستوى الحسّ وتفسير مصدر التصوّرات البشريّة، بل الارتيابيّة مذهبٌ على مستوى التصديق البشريّ ليقابل مذاهب الاحتمال واليقين. إذ إنّ الاحتمال والارتياب واليقين والحقائق النسبيّة والمطلقة لا مجال لها على مستوى التصوّرات البحتةـ إذ تستبطن هذه المفاهيم أحكاماً ونسباً تصديقيّة.
على هذا الأساس فليس هناك خلطٌ في فهم حسيّة «هيوم» في «فلسفتنا»، بل ميّز الكتاب بشكل واضح بين «هيوم» في تفسير مصدر التصوّر البشريّ حيث مذهبه الحسيّ، وبين «هيوم» ومذهب الشكّ الحديث على مستوى المعرفة التصديقيّة.
3ـ الملاحظة الثالثة:
يقول السيّد ماجد:
«ويبدو للوهلة الأولى أنْ لا فرق بين ما يطرحه الكاتب أعلاه وما تطرحه الماركسيّة حول مصدر المعرفة واستنباط المعاني الجديدة من المعطيات الحسّية المباشرة. إلا أنّ هذا التقارب سرعان ما يتلاشى ـ كما سنرى لاحقاً ـ عندما يستعرض الكاتب إيمانه «بالمعارف العقليّة الأوّليّة أو الضروريّة» الخارجة عن نطاق الإحساس والتجربة والممارسة، وعندما يشرح مفهومه عن تصوّرات الحسّ وعلاقتها بالواقع الموضوعيّ.
وللأسف أنّ الكاتب لا يشرح مفهوم الانتزاع بما يكفي لاستيعابه من قبل القارئ، خاصّةً لأنّ «الانتزاع» له علاقةٌ تظلّ غير واضحة بالمعارف «العقليّة الأوّليّة» التي لها مقامٌ مرموقٌ في النظرة الفلسفيّة العامّة للكاتب…»[6].
ثمّ يقول:
«إنّ عدم تفسير مفهوم الانتزاع يترك هوّةً كبيرة في شروحات الكاتب لنظريّة المعرفة التي يؤمن بها، خاصّةً وأنّه يعالج ويخطّئ نظريّات المعرفة الأخرى بشكل تفصيليّ، وفي الغالب على أساس أنّها لا تتبنّى ولا تفهم نظريّة الانتزاع هذه»[7].
الذي يبدو لي أنّ مشكلة الأخ «ماجد» ليست هي أنّ «فلسفتنا» لم تشرح مفهوم الانتزاع بما يكفيه استيعابه، بل المشكلة تكمن في أنّ الناقد لا يزال يخلط بين نظريّة المعرفة على مستوى التصوّر البشري ونظريّة المعرفة على مستوى عمليّات التصديق والأحكام.
وأظنّ أنّ المتابعة الجادّة لكتاب «فلسفتنا» تكفي وحدها للخروج برأيٍ إيجابيٍّ واضحٍ حول جلّ الاستفهامات التي يطرحها الكاتب هنا. فقد أماطت «فلسفتنا» اللثام عن مشكلة الفكر الفلسفيّ الأساسيّة بشأن قضيّة المعرفة التصوّرية، وهي أنّ اتجاهات الفلسفة الأوروپيّة أدركت ثغرةً في إرجاع كلّ التصوّرات البشريّة إلى معطيات الحسّ المباشرة، كما جاء عند «المدرسة الحسيّة»، حيث إنّ هناك تصوّراتٍ بشريّةً لا يمكن إرجاعها وتفسيرها على أساس معطيات الحسّ المباشرة. من هنا طرح «أمانويئل كانت» فكرة الأوليّات البديهيّة التي حصرها في المقولات الاثنتي عشرة.
وقد أشارت «فلسفتنا» إلى أنّ الفلاسفة المسلمين استطاعوا تجاوز هذه المشكلة عبر ما انتهوا إليه من قدرة الذهن البشريّ على الخلاقيّة وابتكار الصور الذهنيّة على أساس رأس مالٍ ابتدائيٍّ تموّنه به المعطيات الحسيّة المباشرة. فالتصوّرات البشريّة تبتدئ بمعطيات عالم الحسّ لتنمو على أساسها تصوّرات أخرى ينتزعها الذهن البشريّ على مستوى فسحة اختياره وحركته.
وعند هذا النسق من التفكير، لسنا بحاجة إلى تعقيد المشكلة بالخلط بين مصادر وأساس الأحكام التصديقيّة الذي تمثّله (الأوّليّات البديهيّة) وبين قضية تفسير التصوّر البشريّ التي تستغني عن هذه الأوّليّات كما أشارت «فلسفتنا».
والسؤال الذي نطرحه على السيّد «ماجد» هو: كيف عرفت أنّ هناك علاقةً بين «المعارف الأوّليّة» وبين الانتزاع، في حين أكّد كتاب «فلسفتنا» على عدم وجود هذه العلاقة؟!
ثم أين الهوّة التي يتركها عدم وضوح فكرة الانتزاع عند السيّد «ماجد»؟ فليأتِ بشاهد واحد على ذلك!
والذي نوّد أن نقوله للسيّد «ماجد» هو: إنّ رفض نظريّات عديدة في طيّات كتاب «فلسفتنا» لا يبتني على أساس عدم فهمها لنظريّة الانتزاع لسببين رئيسين:
أوّلاً: نظريّات المعرفة على مستوى التصوّر إنّما رفضت لأنّها غير وافية ولا تمتلك الأساس المنطقيّ السليم، بغضّ النظر عن نظريّة الانتزاع.
ثانياً: إنّ رفض النظريّات المعرفيّة على مستوى التصديقـ إنّما جاء لأنّها لم تستطع أن تقدّم تفسيراً منسجماً للعمليّات العقليّة على مستوى التصديق، سواء أكانت «فلسفتنا» مؤمنةً بنظريّة الانتزاع أم لا.
ثمّ إنّ الطريف في الموضوع هو أنّ السيّد «ماجد» ينقل نصّاً عن «لِنِنْ» ليدافع به عن الماركسيّة التي لم تقع ـ في ظنّه ـ بما وقعت به الاتجاهات الحسيّة المبتذلة من قصور فهم التصوّر البشريّ.
ولدينا ملاحظتان بهذا الصدد نودّ أن نلفت نظر الأخ «ماجد» إليهما، وهما:
أوّلاً: إنّ النصّ الذي ينقله عن «لِنِنْ» أعقد كثيراً من فكرة الانتزاع التي طرحها كتاب «فلسفتنا» بشكل مبسّط، رغم تعقيداتها في متون الفكر الفلسفيّ الإسلاميّ.
والذي أعتقده هو: إنّ تحليل مفهوم الانتزاع ـ كما جاء في «فلسفتنا» ـ يفي تماماً بالغرض الذي جاء الكتاب لأجله، وهو إيضاح الموقف الفلسفيّ الإسلاميّ إزاء تيّارات الفلسفة الأخرى.
ثانياً: إنّ «لِنِنْ» ومن قبله «إنجلز» و«ماركس» لم يستطيعوا تجاوز العقدة الأوروپية في تفسير مشكلة التصّور البشريّ التي أشرنا إليها.
فحسيّة التفكير الماركسيّ بشكل عام تنبثق من خلال نظرته الماديّة للفكر، وتفسيره الجدليّ لحركة هذه العمليّة الإنسانيّة. فهي حسيّةٌ لازمةٌ لا يمكن أن تتخلّف، في حين وجد الروّاد الأوائل للتفكير الماركسيّ ابتذال المدارس الماديّة في تفسير الفكر على مستوى التصوّر والتصديق معاً، والتصوّر محلّ بحثنا.. ممّا حدا بهم إلى افتراض فعاليّة عليا للذهن على مستوى التصوّر تتجاوز المعطيات الحسيّة المباشرة، وتمضي وفق حركة قوانين الديالكتيك.
ويبقى الاستفهام مطروحاً والإشكال قائماً، إذ إنّ الماركسيّة الماديّة وقعت هنا في مشكلة افتراض عمليّات غير ماديّة على مستوى الذهن البشري!
والذي نودّ الإشارة إليه هنا أنّ الأساس ذا السمة العمليّة لتفسير التصوّر البشري لم يمتلكه «كارل ماركس» ولا «إنجلز» ولا «لِنِنْ». وإذا أردنا لأنفسنا أن نكون علميّين مع الماركسيّة، فعلينا أن نتلمّس التفسير الماركسي عبر «پافلوف» والمدرسة الشرطيّة في تفسير الإدراك البشري، حيث استطاع «پافلوف» أن يعطي جرعة حياة لتكهّنات «لِنِنْ» ومن قبله «ماركس» و«إنجلز»، فيقدّم تفسيراً ذا طابع فسلجيّ مختبريّ ليطبّق قوانين الديالكتيك والمادة على العمليّة الذهنيّة، دون أن يقع في إشكال المدارس الحسيّة المبتذلة رغم الهفوات العلميّة التي تعاني منها النتائج الفلسفيّة في تفسير الإدراك على ضوء فسلجة «باڤلوف»[8].
من هنا فلا يحقّ للأخ «ماجد» أن يلقي اللّوم على «فلسفتنا» بأنّها لم تميّز بين المذاهب الحسيّة المبتذلة وبين الماركسيّة العلميّة! إذ إنّ «فلسفتنا» ناقش المذهب الحسيّ بشكل عام، ثمّ عكف في نهاية الكتاب على دراسة مفصّلة لمبادئ «باڤلوف» والقوانين الشرطيّة في تفسير الإدراك البشري.
4ـ الملاحظة الرابعة: مسألة «العام والخاص»:
ينقل السيّد «ماجد» نصّاً عن «فلسفتنا»[9]، ثم يأخذ في التعليق عليه ليثير مسائل جانبيّة عبر هذا التعليق، كما يحاول إغفال الإشكال الأساس الذي أثارته «فلسفتنا» في وجه الماركسيّة ليتّخذه ذريعةً للإشكال على «فلسفتنا»! فمضافاً إلى أنّ الملاحظات التي نلتقي بها في عرض هذا المقطع تدعو للإشفاق والألم، فهي تحتاج إلى تنظيم ومنهجة، نحاول هنا أن نلقي الضوء عليها ملخّصين الموقف في النقاط التالية:
أ ـ النقطة الأولى: «حركة الفكر من العام إلى الخاص»:
سجّلت «فلسفتنا» فرقاً جوهريّاً بين المدرسة العقليّة في تفسير الأحكام الذهنيّة وبين المدرسة التجريبيّة.. ويتلخّص هذا الفرق الجوهريّ في كون المدرسة العقليّة تجد أنّ حركة الذهن تنطلق دائماً من مسلّمات ومصادرات بديهيّة لتنتهي إلى النتائج الجديدة. في حين ترى المدرسة التجريبيّة بأنّ حركة الذهن تنطلق دائماً من الجزئيّات لتنتهي إلى أحكام عامّة، دون افتراض أيّة معرفة قبليّة تسبق التجربة، ومن هنا صحّ أن يقال: إنّ التجربة مقياسٌ أعلى للمعرفة لدى التجريبيّين.
وقد شدّدت بعض الاتجاهات التجريبيّة على سلب الذهن أيّ دور حتى في عمليّة تكوين وصياغة الأحكام العامة، فذهبت إلى أنّ الأحكام العامة لا تمثّل سوى تجميع للجزئيّات المستقرأة عبر التجربة والملاحظة.
أدركت الماركسيّة ابتذال هذا اللون من التفكير، فأعطت للذهن بعد التجربة دوراً في تشكيل وصياغة الإطار النظري، وصاغت صورة جدليّة للتأثير المتبادل بين الجزئيّات التي تصعد من عالم الخارج إلى جوف الذهن، والإطار النظري الذي ينـزل من سطح الذهن إلى واقع التطبيقات الجزئيّة.
جاءت «فلسفتنا» لتؤكّد على أنّ حركة الذهن البشريّ من العيّنات المستقرأة على مستوى الملاحظة والتجربة إلى الإطار النظري تتوقّف على دعامة لا يمكن دونها من الركون والتسليم بأيّ إطار نظري، سواء بقينا على مستوى الاتجاه العام للمدرسة التجريبيّة أم طعّمنا المفهوم التجريبيّ بسياق التوجّه الماركسي، وتمثّل هذه الدعامة بضع مبادئ أوّليّة تشكّل جزءاً من تكوين الذهن البشري.
وهنا يسجّل السيّد «ماجد» ملاحظته على «فلسفتنا» قائلاً:
«والسؤال الذي يُطرح على الكاتب هو: إذا كان الفكر دائماً يتحرّك من العام إلى الخاص، فكيف إذا تمّ اكتشاف أيّة قاعدة علميّة عامة أو نظريّة ما؟ فالنظريّة في جوهرها تعني التعميم واستخلاص الاستنتاجات العامة المجرّدة بعد دراسة خصائص وظواهر محدّدة. فالبدء دائماً من العام يعني الوجود الأبديّ لنظريّات أبديّة عن الكون بكلّ تفاصيله»[10].
وقد جرّ السيّدَ «ماجد» إلى تسجيل هذه الملاحظة وأخواتها عدمُ وضعه لمشكلة البحث في إطارها السليم. فالمذهب العقليّ لا يدّعي أنّ الذهن البشري لا يعتمد التجريبيّة ولا يستخدم التجربة بل للتجربة دورٌ كبيرٌ في إثراء المعرفة البشريّة، كما أشارت «فلسفتنا» إلى ذلك.
لكنّ المشكلة الأساسيّة بين التجريبيّين والعقليّين هي: هل إنّ المعرفة والأحكام التي يصدرها الذهن البشري جاءت معتمدة على نتائج التجربة الأوّليّة فحسب؟ أم اتّكأت على مبادئ أوّليّة عامة؟
فحركة الفكر من العام إلى الخاص لا تعني حركته من النظريّة إلى التطبيق كما توهّم السيّد «ماجد»، بل تعني أنّ استنتاج القاعدة العامة والنظريّة الجديدة تعتمد على مبادئ عامة شاملة لها، طابعها القبلي الذي بدون هذا الطابع القبلي يستحيل أن تنتهي التجربة البشرية إلى أيّ قاعدة عامة.
فبدون الاتّكاء على مبدأ «عدم التناقض» يستحيل أن ننتهي إلى نتيجة، سواء اعتمدنا مبادئ حساب الاحتمال في استنباط القاعدة على أساس التجارب أم اعتمدنا قياس «أرسطو». «وذلك لأنّنا إذا لم ننطلق منذ البداية من افتراض مبدأ عدم التناقض، فكيف يمكن تجميع القيم الاحتماليّة في محورٍ واحد، لأنّ هذا التجميع يتوقّف على أن يكون لكلّ احتمال من الاحتمالات قدرةٌ على نفي نقيضه. فإذا لم نفترض منذ البدء عدم التناقض، كان من المحتمل في أيّ احتمال أن لا ينفي نقيضه، وبالتالي يصبح من المستحيل استخدامه كأداة لإثبات أيّ شي»[11].
إذن، فحركة الذهن البشري من العام لا تعني وجود نظريّات أبديّة عن الكون بكلّ تفاصيله كما ظنّ السيّد «ماجد».
وأودّ أن أضيف إلى أنّ أكثر الفلاسفة الأرسطيّين تطرّفاً ليس لديه ادّعاء يتضمّن وجود نظريّات أزليّة في الذهن البشري، كما ليس لدى هؤلاء ادّعاءٌ بأنّ اليقين النظريّ ـ الذي يحصل جرّاء الاستنباطات المختلفة للذهن البشري ـ يقينٌ أبديٌّ لا يمكن زعزعته.
فمثل هذا الادّعاء لا يمكن أن يصدر من عاقل راقب تجربته الشخصيّة عبر بضع شهور أو سنين فضلاً عن فيلسوف يحاول تأمّل واستيعاب التجربة البشريّة عبر رؤية كونيّة شاملة.
ب ـ النقطة الثانية:
يقول:
«للتدليل على مواقف الفلسفة الماركسيّة، يشير الكاتب إلى «ماركس» و«إنجلز» و«لِنِنْ» و«ماو» ويقتطف من كتاباتهم، ويستشهد أيضاً بـ «روجيه گارودي» و«جورج پولتيزر» وغيرهم من مفسّري الماركسيّة، ولكنّ بعض هذه الاستشهادات غير دقيق في وصف الفلسفة الماركسيّة ودور التجربة والممارسة في استنباط المعرفة والنظريّة»[12].
وكان الأجدر بالسيّد «ماجد رحيم» أن يقدّم شاهداً واحداً على بعض هذه الاستشهادات غير الدقيقة!
ثم يأتي ليقول:
«ولكنّ الكاتب محقٌّ ودقيقٌ في تحديدات أخرى عن الفلسفة الماركسيّة، فهو يؤكّد مثلاً بأنّ الماركسيّة تقرّ بوجود مرحلتين في عملية اكتساب المعرفة: مرحلة التجربة (الخطوة الحسّية) ومرحلة المفهوم والاستنتاج (الخطوة العقليّة). ويضيف قائلاً إنّ الماركسيّة:
«لاحظت أنّ هذا الرأي سوف ينتهي بها بصورته الظاهرة إلى المذهب العقليّ، لأنّه يفرض ميداناً ومجالاً للمعرفة الإنسانيّة خارج حدود التجربة البسيطة، فوضعته على أساس وحدة النظريّة والتطبيق وعدم إمكان فصل أحدهما عن الآخر، وبذلك احتفظت للتجربة بمقامها في المذهب التجريبيّ، واعتبارها المقياس العام للمعارف البشريّة»[13]»[14].
ويتجاوز هذا المقطع لينتقل بلباقة إلى ملاحظة أخرى، وكأنّه أراد أن يستخدم هذا الإطراء الذي أسداه لمؤلّف «فلسفتنا» شاهداً على سلامة التفكير الماركسيّ دون أن يدافع عن الماركسيّة أمام هجوم «الصدر» على نظريّتها في هذا المجال!!
صحيحٌ أنّ الماركسيّة أدركت ـ كما أشرنا ـ الفجوة في إلغاء فعاليّة الذهن البشري اعتماداً على مبادئ التجريبيّة المبتذلة، ولكنّها تجريبيّةٌ في النهاية. فإذا قبلت الماركسيّة أنّ الخطوة العقليّة تعتمد مبادئ أوّليّة، فهذا يعني أنّها ألغت طابعها التجريبيّ الماديّ، وارتمت في أحضان المذهب العقلي. أما إذا بقيت الماركسيّة مصرّةً على أنّ فعاليّة الذهن البشري لا تتجاوز إطار ترتيب نتائج التجريب دون الاتّكاء على مبادئ أوّليّة، فهذا يعني أنّ الإشكال السابق الذي يُسجّل على المذهب التجريبيّ عموماً سوف يتسجَّل على الماركسيّة أيضاً.
ج ـ النقطة الثالثة:
يقول السيّد «ماجد»:
«إنّ الأمر بالنسبة للماركسيّة لا يكمن في قضيّة الاعتراف أو عدم الاعتراف بالقوّة (الكامنة)، فالسؤال المهمّ هو كيف ولماذا استقرّت هذه المعارف الأوّليّة الخطيرة في النفس سواء بشكل كامن أو فعليّ ومكشوف؟ الكاتب لا يجيب على هذا السؤال. وعلى غير عادته يفسّر الأمر بالقدرة الإلهيّة، بينما يستخدم أساليب المنطق والمحاججة الفلسفيّة في كلّ الأمور والنقاشات الأخرى المطروحة في فصول كتابه. والتفسير الإلهيّ للأمر يأتي في مكان آخر من الكتاب عندما يردّ الكاتب على المفهوم الجدليّ للحركة:
«أما التفسير الإلهيّ للحركة، فيبدأ مستفهماً عن تلك المتناقضات التي يزعم الديالكتيك احتواء المادّة عليها، فهل هي موجودةٌ في المادّة جميعاً بالفعل، أو إنها موجودةٌ بالقوّة؟… فلا بدّ ـ إذن ـ من التفتيش عن سبب الحركة الجوهريّة للمادّة، ومموّنها الأساسيّ خارج حدودها، ولا بدّ أن يكون هذا السبب هو الله تعالى، الحاوي ذاتيّاً على جميع مراتب الكمال»[15]»[16].
إنّ النـزاهة والموضوعيّة لا تقتصر على تهذيب ألفاظ الحوار، وإنّما تعني بالأساس الأمانة والحرص على إيضاح ونقل فكرة الخصم كما جاءت في سياق العرف الذي قدّمه. فقد حاول السيّد «ماجد» أن ينعى على «الصدر» إلهيّته خالطاً بين بحث نظريّة المعرفة وبحث الوجود والنظرة للعالم.
والذي نقوله بدواً للسيّد «الناقد»: إنّ شرف «الصدر» العظيم هو أنّه عاش بيننا إلهيّاً يستعصي على الخضوع لقيم المادة الزائفة وحاز فخر الشهادة بفضل إلهيّته طوداً شامخاً، لم يداهن ولم يدخل في تحالفات مع نظامٍ فاشيٍّ تحالفت معه جلُّ قوى الماركسيّة اللِنِنيّة؟
ثم إنّ تفسير ظهور المبادئ الأوّليّة عند سطح الواقع على أساس الحركة الجوهريّة للذهن البشري هل يعني تفسيراً ميتافيزيقيّاً؟
إنّ تفسير بروز المبادئ الأوّليّة على أساس التطوّر الخلاق للذهن البشري ينسجم مع مبادئ العلم، ويقوم على أساس أضخم نظريّة فلسفيّة في تاريخ الفكر الفلسفيّ بأسره، وهي نظريّة «الحركة الجوهريّة» التي قامت على أساس منطق وحجج فلسفيّة بلغت ذروة العمق والنباهة. فهل يحقُّ للناقد أن يقول: إنّ «فلسفتنا» تركت المنطق والحجّة في تفسيرها لظاهرة المبادئ الأوّليّة؟! ومن حقِّنا أن ننعى على السيّد «ماجد» أسلوبه في النصّ السابق عن «فلسفتنا»، فقد حذف بالنقاط الأربع التي رسمها مجمل البرهان والدليل الذي انتهت «فلسفتنا» من خلاله لإثبات التفسير الإلهيّ للحركة!!
ثم نقوم بدورنا بطرح التساؤل على السيّد «ماجد» قائلين له: لماذا وكيف استقرّ مبدأ التناقض قانوناً لحركة الأشياء ومنهجاً للفكر؟ ونحن نمتلك الإجابة على كلا السؤالين، لكنّنا ننصح السيّد «ماجد» بإعادة قراءة نظريّة الوجود والعالم في كتاب «فلسفتنا»، ليجد الإجابة الواضحة على هذا اللون من التساؤلات التي طرحها الفكر الفلسفيّ منذ نشأته.
ثم يقول:
«وفي الإجابة على سؤالنا حول المعارف الأوّليّة، فإنّ الماركسيّة تحكّم العقل والممارسة. فحتّى لو أخذنا بصحّة جميع هذه المعارف التي أشار إليها الكاتب، فهل باستطاعتنا عزلها عن الممارسة البشريّة لعشرات الآلاف من السنين؟ وكيف يستطيع الكاتب الجزم بأنّها مستقلّة عن التجربة التي خاضتها الأجيال السابقة؟»[17].
بعد التسليم بصحّة هذه المعارف، فالكاتب يجد ارتباطها الأساس بالتجربة، حيث إنّ التجربة البشريّة تقوم وتبني صرحها على أساس هذه المعارف.
والسؤال المطروح على الماركسيّة منذ البدء هو: هل يستطيع العقل والممارسة من مباشرة دورهما في استنتاج الحقائق دون بداية معرفيّة واضحة؟
هل تستطيع الخبرة الحسيّة أن تتراكم دون الإيمان القبليّ بواقع الخبرة وموضوعيّتها؟
ونودّ أن نشير هنا إلى أنّ الفيلسوف الشهيد أوضح عبر كتابه «الأسس المنطقيّة للاستقراء» ألوان المعارف الأوّليّة، وكيف أنّ بعضها لا يمكن أن تنطلق التجربة إلاّ بعد التسليم به، وأنّ بعضها الآخر يمكن إثباته تجريبيّاً.
د ـ النقطة الرابعة:
يقول السيّد «ماجد»:
« ونلاحظ كيف يحصر كتاب «فلسفتنا» عمليّة المعرفة فقط بنطاقها الفرديّ من مثال يسرده الكاتب للتدليل على أنّ الإنسان «دائماً وأبداً» يبدأ بالقوانين الأوّليّة الأزليّة، ومن العام إلى الخاص:
«إنّ التجربة بمفردها لم تكن تستطيع أن تقوم بهذا الدور الجبّار لأنّها تحتاج في استنتاج أيّة حقيقة علميّة منها إلى تطبيق القوانين العقليّة الضروريّة ـ أي أن يتمّ ذلك الاستنتاج على ضوء المعارف الأوّليّة، ولا يمكن أن تكون التجربة بذاتها المصدر الأساسيّ والمقياس الأوّل للمعرفة، فشأنها شأن الفحص الذي يجريه الطبيب على المريض، فإنّ هذا الفحص هو الذي يتيح له أن يكشف عن حقيقة المرض وملابساته، ولكنّ هذا الفحص لم يكن ليكشف عن هذا لولا ما يملكه الطبيب قبل ذلك من معلومات ومعارف، فلو لم تكن تلك المعلومات لديه، لكان فحصه لغواً ومجرّداً عن كلّ فائدة، وهكذا التجربة البشريّة بصورة عامة لا تشقّ الطريق إلى نتائج وحقائق إلاّ على ضوء معلومات عقليّة سابقة»[18].
والماركسيّة بطبيعة الحال تؤكّد على الدور الخطير والأساسيّ للفكر والمعلومات العقليّة، إلاّ أنّ اختلافها مع الكاتب في مجال نظريّة المعرفة هو حول مصدر هذه المعلومات: هل هي خارجة عن المادة والطبيعة والمجتمع أم هي في التحليل النهائيّ نابعةٌ من التجربة الإنسانيّة بكلّ جوانبها؟ فكيف استحوذ ذلك الطبيب على معلوماته التي قادت فحوصاته إلى تشخيص المرض؟ ألم يمارس الطبّ كتلميذ ويستحوذ على المعلومات الطبيّة المتراكمة من الأجيال السابقة؟ فمعلوماته ليست بمعزل عن تجربة الأجيال السابقة»[19].
إنّ المسألة الأساسيّة المطروحة هنا هي: كيف يبتدئ الإنسان في جني محصّلة تجاربه وملاحظاته؟
«فلسفتنا» تذهب إلى أنّ الذهن البشريّ يبتدئ رحلته المعرفيّة على أساس مبادئ أوّليّة يمتلكها بحكم طبيعة تكوينه، وتشكّل هذه المبادئ رأس مال العلوم والمعرفة.
في حين تلاحظ الماركسيّة أنّ كلّ المعارف البشريّة تعود إلى عوامل ماديّة. من هنا فهي تنكر قبليّة أيّة معرفة وأيّ قانون على حركة المادة، بل الفكر هو إنتاجٌ أعلى لحركة المادة في التصوّر الماركسيّ.. من هنا تجد الماركسيّة إمكانيّة الاستفادة من التجربة والممارسة وبدايتها دون الاعتماد على أيّة معرفة قبليّة!
وقد ساقت «فلسفتنا» مثالاً توضيحيّاً استغلّه الناقد استغلالاً غير مشروع في عرف البحث العلميّ النـزيه.
فنحن لا نجد أيّ شكٍّ في كون التجارب البشريّة السابقة دعامةً أساسيّةً لبناء الخبرة الإنسانيّة، ولا يشكّ مفكّرٌ مسلمٌ في دور التجربة والممارسة في بناء نظريّة العلم وتطوير حركة المجتمع والتاريخ. بل تتمتّع هذه المفاهيم بدرجة من الوضوح في العقل الإسلاميّ، حيث نستغني بها عن ذكر مئات النصوص والشواهد التي تحفل بها مصادر التفكير الإسلامي.
فحينما نطلّ على المعرفة الإنسانيّة العامة، نجدها حركةً تكامليّةً تثرى المعارف بها على أساس الإنجازات المتوالية التي يحقّقها العقل البشري. وليس هناك أيّ شكّ في أنّ معلومات الطبيب ليست منفصلةً عن تجارب الأجيال السابقة، كما لا شكّ في أنّ معلوماته الطبيّة نشأت جرّاء بحث ودراسة!
ولكن، هل إنّ الإنصاف والموضوعيّة تدعو للتعامل مع مثال تقريبيّ بهذه الطريقة؟!
نعود لنؤكد أنّ الممارسة لها دورٌ كبيرٌ في تبلور المعرفة البشريّة وبناء نظريّة العلم، غير أنّ السؤال الفلسفيّ المطروح هنا هو: هل تقوم المعرفة التجريبيّة وتنهض دون وجود معرفة قبليّة؟
ومن الطبيعيّ أن تنطلق في الإجابة على هذا السؤال من تجربة فرديّة كانت لنرى عبرها: هل تستطيع المعرفة التجريبيّة أن تجني ثمارها دون أن تتّكئ على مبادئ قبليّة؟
فالتجربة البشريّة المتراكمة تعود إلى تجارب فرديّة، والخلاف مع المدرسة التجريبيّة يقوم على قاعدة أنّ كلّ تجربة بشريّة لا يمكن أن تنتهي إلى إطارها النظريّ دون الاتّكاء على مبادئ أوّليّة واضحة.
5ـ الملاحظة الخامسة:
أ ـ تحت عنوان «صواب أم خطأ»، يعلّق على نصٍّ لـ«فلسفتنا» بقوله:
«وهذا يعني بأنّ عمليّة المعرفة يجب أن تبدأ بفكرة أوّليّة وتنجب من نفس هذه الفكرة نظريّات جديدة يتم اكتشاف صحّتها بمقارنتها بنفس الفكرة الأوّليّة التي أنجبتها. وبطبيعة الحال، فإنّنا بهذه الطريقة قد بدأنا بفكرة وانتهينا بفكرة مطابقة لها. أمّا الظواهر المحسوسة الوسطية، فقد فقدت مفعولها وأهميّتها لأنّنا قد حكمنا عليها مسبقاً بأن تأتي بنتائج مطابقة للفكرة التي ابتدأنا بها. وهذا يعني أيضاً نبذ الظواهر المحسوسة التي لا تنسجم والقوانين الأوّليّة أو إلواء عنق بعضها لكي تنسجم مع هذه القوانين (مثل «قانون عدم التناقض» الذي يؤمن به الكاتب)»[20].
لا تدّعي «فلسفتنا» أنّ المعارف الأوّليّة رحمُ إنجابٍ لكلّ ألوان الفكر البشريّ يا سيّد «ماجد»! بل إنّ الاعتقاد قائمٌ على أنّ المعرفة البشريّة تقوم على أساس دعائم تتمتّع بالوضوح الذاتي، ودون الاتكاء على هذه الدعائم فليس في وسع الذهن البشريّ أن ينتهي إلى استخلاص نتائج التجربة والملاحظة والاستنتاج من خلال الظواهر الوسطيّة التي تساهم بشكل مباشر في تحديد نتائج البحث.
نحن نقول إنّ الحقيقة التي تنتهي إليها كلّ تجربة بشريّة يجب أن تركن بشكل قبليّ على بضع مبادئ محدودة، منها مبدأ «عدم التناقض». ومع الإيمان بالتناقض اللبيّ في حقائق الأشياء، لا يمكن أن تنتهي إلى أيّة نتيجة، لأنّ هذه النتيجة تنطوي بالفعل على نقيضها، فلا هي بالصواب ولا هي بالخطأ!
وهذا هو أساسُ ما أشارت إليه «فلسفتنا» من تعذّر تخطّي الإحساس والتجربة إلى النظريّة والاستنتاج الذي يقول السيّد «ماجد عنه»:
«ولكنّه لا يشرح لِمَ هذه الاستحالة في تخطّي دور الإحساس؟ خاصّة أنّه قد أشار سابقاً إلى أنّ الماديّة الجدليّة تقرّ بخطوتَي المعرفة (الإحساس واستنتاج المفاهيم)،..»[21].
لكنّ «فلسفتنا» قد أشبعت ذلك الإحساس بالبحث!
ونودّ أن نلفت نظر السيّد الناقد إلى أنّ مشكلة الماركسيّة الأساس هي التناقض القائم بين مفهومها المادي للفكر، وبين إيمانها بدور العقل وفاعليّته ووسم النشاط الذهني بأنّه ظاهرةٌ أرقى من المادة التي ينبثق منها هذا النشاط. فكيف تجمع الماركسيّة بين إيمانها بماديّة الفكر، وبين اعتقادها بأنّ حركة الذهن البشري تنتج ظواهر أرقى من المادة؟
فخصوصيّة إشارة «فلسفتنا» إلى أنّ الماديّة الجدليّة تقرّ بخطوتي المعرفة، تزيد معاناة الباحث في تفسير نسيج الفكرة الماركسي المرتبك.
وأخيراً نحن نطالب السيّد «ماجد» بأن يأتي لنا بمثال واحد لا تنسجم فيه ظاهرة حسيّة ما مع مبدأ «عدم التناقض»!
ب ـ يقول الناقد:
«على أيّ حال، فإنّ الماديّة الجدليّة ترى بأنّ أفكار الإنسان مصدرها الطبيعة والمجتمع. وهي لكي تكون متّسقة المنطق ترجع إلى هذا المصدر ذاته لكي تتحقّق من صحّة هذه المفاهيم. والانتقال من النظريّة إلى الممارسة كجواب على مسألة إثبات المفاهيم، هو ما يسمّى في المفهوم الفلسفيّ بالقفزة المنطقيّة. فلقد حاول الفلاسفة (وحتّى الكثير من الماديّين منهم) لمئات السنين أن يصلوا إلى حلّ للمعضلة بواسطة المحاججة النظريّة والأطروحات الفلسفيّة، إلاّ أنّ الماركسيّة ترى بأنّ المعضلة قد وجد لها الإنسان حلاً حتّى قبل الأفكار والفلسفات التي شخّصت المسألة»[22].
ثم يخلص إلى القول: «والممارسة في التحليل النهائيّ هي السبيل الوحيد لإثبات مدى صحّة النظريّة وفاعليّتها»[23].
إنّ تغيير الألفاظ والصياغات لا يؤثّر على المضمون بشيء، فالممارسة تعني التجربة العمليّة؛ وعندئذ نرجع إلى ما تجاوزناه في البحث، وهو أنّ التجربة مقياسٌ أعلى للمعرفة البشريّة وتعود الإشكالات السابقة تواجه هذا المبدأ.
ونودّ التأكيد هنا على أنّ الفكر الإسلامي عامة يقدّر دور التجربة العملاقة في بناء الخبرة الاجتماعيّة. وتطوير حركة العلم والتقنيّة، لكنّ الخلاف مع الماركسيّة وسائر المذاهب التجريبيّة الأخرى ينصبّ على تفسير مضمون التجربة وفهم خطواتها العلميّة، فهل إنّ الممارسة والتجربة تنطلق من مبادئ أوّليّة وبديهيّات محدّدة؟ أم إنّ كلّ معدّات الممارسة والتجربة.. إنّما هي وليدة الممارسة والتجربة لتنتهي إلى لا متناهية أزليّة!
ونشير هنا إلى أنّ كون الإنسان قد وجد حلاً للمعضلة قبل الفلسفة أمرٌ لا يختلف حوله اثنان، ولكنّ الخلاف القائم بين مذاهب الفلسفة يدور حول أسلوب الذهن البشريّ في الاستفادة من التجارب المختلفة لتحديد المقياس الذي تحدّد على ضوئه قيمة المعرفة وتمييز سقمها من صوابها.
ج ـ يقول:
«أمّا إذا أخذنا بمنطق أنّ فكرةً ما إمّا أن تكون حقيقة أم خطأ بشكل مطلق على ضوء نظريّة عدم التناقض الميتافيزيقيّة، فكيف نفسّر ظاهرة تعديل النظريّات وتغييرها ونقضها. فإذا تصوّرنا بأنّ نظريّة ما صحيحة بشكل مطلق (كما يقول الكاتب: النفي والإثبات لا يصدقان معاً في شيء واحد) استبعدنا بشكل مطلق إمكانيّة تغييرها على ضوء الحقائق الجديدة أو التي لم تكتشف سابقاً. أمّا المنطق الماديّ الجدليّ، فيرى بأنّ أيّة نظريّة عرضة للخطأ. فهي تثبت صوابها (وللصواب درجات) عندما تنسجم والواقع أو مع جوانب منه. فهي إذاً صحيحة وخاطئة في آن واحد. وهذا الاستنتاج مستنبطٌ من تاريخ كلّ العلوم»[24].
إنّ سمة التفكير الماركسي الأساسيّة هي كونه يؤمن بموضوعيّة الواقع الخارجي، ويتميّز عن الاتجاهات المثاليّة بجزمه بحقيقة عالم الواقع وقيامه خارج الوعي والذهن البشري.
وأيّ ترديد في هذه الحقيقة؟ وعلى أيّ مستوى كان يعني جرّ المدرسة الماركسيّة صوب المثاليّة؟
وحينما نطبّق منطق الجدل الذي يشير إليه السيّد «ماجد» على هذه المقولة، ونقول إنّها صحيحةٌ وخاطئةٌ في آن واحد، فهذا يعني أنّ واقعيّة الماركسيّة تتعرّض لهزّة عنيفة، وتفقد معها الماركسيّة كلّ مبرّرات حماسها واتّهاماتها التي حرصت على توجيهها لسائر النظريّات التي وسمتها بالمثاليّة.
ولأجل إيضاح ما يلفُّ هذا السياق من غموض نقول:
إنّ النظريّة التي تقع في ساحة المعرفة التصديقيّة للذهن البشري لها درجة من درجات اليقين (الاحتمال) بدءاً من [«51%» إلى «100%»].
فحينما نقول إنّ درجة احتمال تمدّد الحديد بالحرارة على ضوء العيّنات التجريبيّة تساوي «99%»، فأمامنا حقيقةٌ وهي: «إنّ نسبة احتمال تمدّد الحديد بالحرارة تساوي 99%».
وإذا طبّقنا مبدأ التناقض في لبّ وجوهر الحقيقة على هذه المقولة، فهذا يعني أنّ درجة التصديق بهذه الحقيقة لا تحتفظ بالنسبة أعلاه، إذ مع احتمال النقيض ـ وهو عدم تمدد الحديد بالحرارة ـ بنسبة «99%»، كيف يمكن أن [نحافظ] على درجة التصديق أعلاه!
أمّا «1%»، فهي حالةٌ ذهنيّةٌ أخرى تتعلّق بحقيقة تمدّد الحديد بالحرارة. وتمدّد الحديد بالحرارة موضوعٌ لحكمين ونسبتين احتماليّتين:
أحدهما: إنّ درجة تمدّده «99%».
وثانيهما: إنّ درجة عدم تمدّده تعادل «1%»، وحينما نقول إنّ واقعيّة العالم الخارجي حقيقةٌ تتمتّع بنسبة اليقين الكامل وهي «100%»، فتكون لدينا حقيقةٌ مفادها أنّ واقعيّة العالم الخارجي موضوعٌ ليقيننا الكامل.
وإذا طبّقنا مبدأ التناقض على هذه الحقيقة، فهذا يعني أنّنا لا نجزم إطلاقاً بواقعيّة العالم الخارجي، إذ مع قيام النقيض في بطن هذه الحقيقة، كيف يمكن التصديق بها؟!
يبقى أن نشير إلى أنّ تعديل النظريّات ونقضها وتفسيرها لا يعني أنّ هناك تناقضاً داخليّاً في بطن الحقيقة الواحدة، إذ مع تطابق النظريّة مع الواقع الموضوعيّ كما تتطابق الماركسيّة الجدليّة بزعمهم مع حركة الواقع الجدليّ، فلا مجال للنقض. أمّا مع عدم تطابق النظريّة مع الواقع، فهذا يعني خطأ النظريّة أو عدم شمولها، والذي يحضّ على الاندفاع نحو إعادة البحث باتجاه تطوير وتعديل النظريّات الإنسانيّة إنّما هو مجمل الرؤية العقائديّة للإنسان وللعالم.
فحينما يوافق الإسلام بأنّ حركة العلم حركةٌ تكامليّةٌ، وأنّ الإنسان عرضةٌ للخطأ والصواب في نظريّاته، وأنّ الكمال المطلق حريمٌ لا يستطيع أن يدّعيه الإنسان، فهذا يعني أنّ حركة العلم تبقى مستمرّةً في متن حركة الأمّة الإسلاميّة دون انغلاق أو تكلّس.
ويحسن بنا أن نشير أيضاً إلى أنّ الماركسيّة التي أقامت دعائهم فلسفتها على أساس «الواقعيّة» وادّعاء قيام واقع موضوعيّ خارج إطار الوعي والشعور البشري، لم تستطع أن تقيم برهاناً علميّاً على صحّة هذا الأساس.
في حين استطاع الفكر الفلسفيّ الإسلاميّ أن يلتفت إلى هذه المسألة قبل قرون، ويشير إلى أساس الاستدلال على موضوعيّة الواقع الخارجي. وقد دبج يراع فقيد الفكر العالمي المعاصر الشهيد «الصدر») أروع أساليب الاستدلال العلمي على هذه المقولة في كتابه «الأسس المنطقيّة للاستقراء» حيث أقام منطق الاستدلال على واقعيّة العالم وفق الأساس الرياضيّ «حساب الاحتمال»: «الطريقة الاستقرائيّة».
وأخيراً، فقد أماطت «فلسفتنا» اللثام عن التهافت الذي وقعت فيه الماركسيّة في فهم تعديل وتطوير النظريّة، وكان الأجدر بالسيّد «ماجد» أن يبتدئ من حيث انتهت «فلسفتنا» في ردّها على «إنجلز» وإسدائها النصح للماركسيّين ليفرّقوا بين القضيّة البسيطة (مثل: «مات أرسطو»، «جرع سقراط السمّ»، «الحديد يتمدّد بالحرارة»)، وبين القضيّة المركّبة (مثل: «الفلزّات تتمدّد بالحرارة»).
فالقضيّة البسيطة لا تحتمل الخطأ والصواب في آن واحد، في حين تحتمل القضيّة المركّبة ذلك بحكم كونها مجموعة قضايا، فبعضها يصيب والبعض الآخر يخطئ، إذ ترجع هذه القضيّة إلى: «الحديد يتمدّد بالحرارة»، «النحاس يتمدّد بالحرارة»، «الفضّة تتمدّد بالحرارة»… إلخ.
6ـ الملاحظة السادسة:
تحت عنوان «ما هو دور الفلسفة؟»:
أ ـ يؤكّد السيّد «ماجد» مفهوم الماركسيّة عن الفلسفة فيقول:
«ومطالبة الكاتب بالحفاظ على استقلاليّة الفلسفة ودورها الخاص، تستجيب له مدارس فكريّة وفلسفيّة عديدة. ولكنّ الماركسيّة ترى بأنّ المجتمع والطبيعة هما مصدر جميع الآراء، فلسفيّةً كانت أم غيرها. فإذا كانت الفلسفة هي نتاج الحياة، فلِمَ الموقع المستقلّ لها فوق قوانين الطبيعة والمجتمعات؟ وإذا كان واقع الأمور ماديّاً وجدليّاً، فما للفلسفة إلاّ أن تعكس وتفهم هذا الواقع من خلال جميع حقول العلم الطبيعي والاجتماعي، ولكي تقوم بهذا الدور فعليها أن تكون بذاتها ماديّةً جدليّة، وبهذا ينتفي استقلالها واحتجابها عن العالم المادي»[25].
ويأتي هذا التأكيد دون دفاعٍ أمام النقد الذي وجّهته «فلسفتنا» للادّعاء الماركسيّ في هذا المجال، حيث تقول «فلسفتنا»:
«وبالرغم من إصرار الماركسيّة على الطابع العلمي لفلسفتها، ورفض أيّ لون من التفكير الميتافيزيقي، نجد أنّ الماركسيّة لا تتقيّد في فلسفتها بالحدود العلميّة للبحث، ذلك أنّ الفلسفة التي تنبع من الخبرة العلميّة يجب أن تمارس مهمّتها في الحقل العلمي ولا تتجاوزه إلى غيره. فالمجال المشروع لفلسفة علميّة كفلسفة الماركسيّة في زعمها، وإن كان أوسع من المجال المنفرد لكلّ علمٍ لأنّها تستهدي بمختلف العلوم، ولكن لا يجوز بحال من الأحوال أن يكون أوسع من المجالات العلميّة مجتمعةً، أي المجال العلميّ العام، وهو الطبيعة التي يمكن إخضاعها للتجربة أو الملاحظة الحسيّة المنظّمة. فليس من صلاحيّة الفلسفة العلميّة أن تتناول في البحث مسائل ما وراء الطبيعة وتحكم فيها بشيء إيجابيٍّ أو سلبيّ، لأنّ رصيدها العلميّ لا يمدّها في تلك المسائل بشيء، فالقضيّة الفلسفيّة القائلة «للعالم مبدأٌ أوّل وراء الطبيعة» ليس من حقّ الفلسفة العلميّة أن تتناولها بنفي أو إثبات، لأنّ محتواها خارجٌ عن مجال التجربة»[26].
ب ـ يقول السيّد الناقد:
«والكاتب يلوم الماركسيّة على هذا الانحياز السياسيّ في «فلسفتنا» ويعتبره سقوطاً في النزعة الذاتيّة التي ينتقدها كما تنتقدها الماركسيّة أيضاً. فيقول تحت عنوان «انتكاس الماركسيّة في الذاتيّة»:
«إنّ الماركسيّة بالرغم من إصرارها على رفض النسبيّة الذاتيّة بترفّع، وتأكيدها على الطابع الموضوعيّ لنسبيّتها وأنها نسبيّةٌ تواكب المتطوّر وتعكس نسبيّته، بالرغم من ذلك كلّه ارتدّت الماركسيّة مرّة أخرى، فانتكست في أحضان النسبيّة الذاتيّة حين ربطت المعرفة بالعامل الطبقيّ وقرّرت أنّ من المستحيل للفلسفة مثلاً أن تتخلّص من الطابع الطبقيّ والحزبيّ… وواضحٌ أنّ هذا الاتجاه الماركسيّ يطبع كلّ معرفة بالعنصر الذاتيّ، ولكنّها ذاتيّةٌ طبقيّةٌ لا ذاتيّةٌ فرديّةٌ كما كان يقرّر النسبيّون الذاتيّون، وبالتالي تصبح الحقيقة هي مطابقة الفكرة للمصالح الطبقيّة للمفكّر….»[27].
وفي هذا النقد سوء فهم شائع ومنتشر بين المثقفين في الغرب والشرق. فالماركسيّة حين تعلن انحيازها التام للطبقة العاملة لا تعني بهذا أنّ العامل يمتلك كلّ الحقيقة وليس لغيره أن يمتلك نطفة منها، فلا «ماركس» ولا «إنجلز» ولا «لِنِن» كانوا عمّالاً. بل المقصود بالأمر هو أنّ تحليل الواقع الموضوعيّ على ضوء الماديّة الجدليّة يؤدّي إلى كشف الأمور وفهم طبيعة المجتمعات على حقيقتها».
لنتجاوز الشعارات يا سيّد «ماجد»، ولنكن أكثر علميّة مع الماركسيّة، ولنتسائل:
ألم يكن تحليل الواقع الموضوعيّ وفهم حركة المجتمعات على حقيقتها في ضوء «الماديّة الجدليّة» قد انتهى بالماركسيّة إلى القول بأنّ الفكر والشعور انعكاسٌ لواقع الصراع الطبقي، وأنّ الفكر الإقطاعي والبرجوازي والعمّالي يعكس أماني ومصالح طبقيّة خاصّة؟
وهذا يعني بوضوح أنّ ربط جدليّة الفكر بجدليّة الصراع الطبقي يحدّد مضموناً نسبيّاً للمعرفة، إذ سوف تبصر كلّ طبقة ثقافتها وفكرها على ضوء مصالحها الطبقيّة، وبالتالي يكون المقياس الطبقيّ الذي يمثّل الواقع الموضوعي حاكماً على الفكر والإدراك البشري.
إنّ الإيمان بحتميّة مراحل التاريخ، وبناء هذه المراحل على أساسها المادي بوصف هذا الأساس القاعدة التي تشيّد على هديها كلّ القيم المعرفيّة يعني ربط المعرفة بشكل حتميٍّ مع حركة المادة وشكلها الاجتماعي الذي تمثّله مصالح الطبقات المتصارعة. وهذا ارتماءٌ صريحٌ في أحضان الذاتيّة الطبقيّة، سواء قصدته الماركسيّة في متن تصوّراتها المعرفيّة أم لم تقصده.
7ـ الملاحظة السابعة:
أثار الناقد حواراً مع «فلسفتنا» تحت عنوان «عدم التناقض والجدليّة»، نلخّص ملاحظاتنا حول ما جاء في هذا الحوار ضمن النقاط التالية:
أ ـ يقول:
«ولسنا هنا في صدد سرد الأمثلة حول وجود التناقض في مسألة ما في نفس المكان والزمان وتحت نفس الشروط، ولكنّنا سنشير هنا إلى مثال واحد يسرده الكاتب ذاته في مكان آخر من الكتاب للتدليل على أنّ التطوّر لا يتمّ بالضرورة بالقفزات، بل قد يتمّ بشكل تدريجيّ:
«فالشمع ـ مثلاً ـ ترتفع حرارته أثناء عمليّة الانصهار، حتّى إذا بلغت درجة معيّنة خفت فيه صلابة الشمع، وبدأ يلين ويسترخي بصورة تدريجيّة مستقلّة عن سائر الأشياء الأخرى، ويتدرّج في حالة الليونة، فلا هو بالصلب ولا هو بالسائل، حتّى يستحيل مادة سائلة»[28].
فلا هو بالصلب ولا هو بالسائل! أليس هذا ظاهرة تشير للإمكان في آن واحد أن يجتمع النفي والإثبات، السلب والإيجاب، وجود أمر وعدمه، في عملية واحدة وفي نفس المكان والزمان؟ فهل الشمع في تلك الدرجة من الحرارة سائلٌ؟ نعم وكلا. وهل الشمع في تلك الدرجة من الحرارة صلدٌ؟ نعم وكلا»[29].
إنّ عجبي لشديدٌ من لوي عنق الحقيقة الذي يأباه السيّد «ماجد»! فالشمع يا سيّد «ماجد» لا هو بالسائل ولا هو بالصلد، وإنّما هو في حالة ثالثة وسيطة. فكيف تسنّى لك أن تثبت أنّه «لا سائلٌ» و«سائلٌ»، و«صلبٌ» و«غير صلب»؟!
وأجد هنا حاجةً إلى إيضاح بعض مبادئ المنطق، لنقف مع السيّد «ماجد» على حقيقة المغالطة التي وقع فيها:
إنّ حالة الشمع بين السيولة والصلادة هي ضدٌّ ثالثٌ لحالتَي السيولة والصلادة المتضادّتين. وحينما يكون الشمع على هذه الحالة فهنا يجتمع نفيان على الشمع: النفيُ الأوّل أنّه ليس بسائل، والنفي الثاني أنّه ليس بصلد. وليس هنا أيُّ إثبات إلاّ للحالة الثالثة.
فمن أين جاء الناقد المحترم بالإثبات والنفي؟!
إنّ شيئاً من الملاحظة الدقيقة تدعونا لشجب مثل هذه المغالطات والاستغناء عنها لإثبات نظريّة تحمّسنا لعمليتها وموضوعيتها!
ب- يقول الناقد:
«ويحاول الكاتب دحض الجدليّة لأنّها بحكم منطقها تقع في تناقض يستعصي عليها الخروج منه:
«…إنّ الطبيعة البشريّة لا يمكن أن توفّق بين السلب والإيجاب معاً، بل تشعر ذاتيّاً بالتعارض المطلق بينهما، وإلاّ فلماذا رفضت الماركسيّة مبدأ عدم التناقض، واعتقدت ببطلانه؟! أليس ذلك لأنها آمنت بالتناقض ولا يسعها أن تؤمن بعدمه، ما دامت آمنت بوجوده؟! وهكذا نعرف أنّ مبدأ عدم التناقض هو المبدأ الأساسيّ العام الذي لم يتجرّد عنه التفكير البشريّ، حتّى في لحظة التحمّس للجدل والديالكتيك»[30].
إنّ الماركسيّة بطبيعة الحال لم تؤمن بالتناقض، بل شاهدته ودرسته في تطوّر الأفكار والمجتمعات والطبيعة. شاهدت أنّ كلّ شيء في حركة وتطوّر دائمين رغم أنّ بعض الظواهر تبدو جامدة. ولاحظت أيضاً بأنّ لأشكال الحركة المختلفة قوانينها المختلفة، وبأنّ حركة المادة تكمن في الصراعات الموجودة في عالم المادة ذاتها.
والقول أعلاه للكاتب إنّ «الطبيعة البشريّة تشعر ذاتيّاً بالتعارض المطلق» بين السلب والإيجاب هو بذاته منطقٌ جدليّ. إنّ الجدليّة ترى هذا التناقض المطلق، ولكنّها ترى أيضاً بأنّ هناك وحدة بين السلب والإيجاب، فلا سلب بدون إيجاب ولا إيجاب بدون سلب.. والأوّل قد يتحوّل إلى الثاني والعكس بالعكس» [31]
1ـ إنّ الماركسيّة لم تشاهد التناقض في عالم الواقع، ولتقدّم شاهداً واحداً على هذه المشاهدة، فحقائق الواقع لا تستبطن أيّ تناقض بالبداهة، ولولا هذه البداهة لم يكن حظُّ البشريّة سوى أن تركن إلى ارتيابيّةٍ وشكٍّ مطلق.
2ـ إنّ الماركسيّة يا سيّد «ماجد» لا ترى التعارض المطلق بين السلب والإيجاب، بل خالفت الموقف الطبيعيّ والفطريّ للعقل البشري، فادّعت الوحدة، ولا تلاحم ولا تعاصر بين السلب والإيجاب!
ج ـ يقول السيّد الناقد:
«فحتّى الخطّ على الورقة شديد التعرّج إذا ما نظرنا إليه بالمهجر الذي يرينا دقائق «الكاربون» المتناثرة، والتي سطّرناها بالقلم على الورق. فأين هو خطّنا المستقيم إذاً؟ إنّ الذهن لجأ إليه لكي يعبّر بصورة تقريبيّة ونسبيّة عن العالم المادي. أليست المقولة الجدليّة في هذه الحالة بأنّ «الخطّ مستقيمٌ ومتعرّجٌ في آن واحد» تعبيراً صحيحاً عن واقع الأمر؟»[32].
لا مجال للمقولة الجدليّة في هذا المثال كما في غيره، إذ إنّ الخطّ الذي نراه على الورقة خطٌّ متعرّجٌ في واقعه، يبدو للعين المجرّدة بأنّه خطٌّ مستقيم. فمع اختلاف شروط الرؤية، يحكم على الخطّ الواحد بحكمين متضادّين، ومثل هذه الأحكام يقبلها المنطق الميتافيزيقي ولا تستبطن أيّ تناقضٍ لبّيٍّ لكي تصاغ مقولة جدليّة منها، إذ إنّ الديالكتيك يعني قيام التناقض والصراع بين النفي والإثبات داخل الحقيقة الواحدة في نفس الظروف الزمانيّة والمكانيّة ومع اتحاد الشروط والملابسات.
د ـ حاول الناقل المحترم[33] أن يعرض من جديد مفاهيم الماديّة الجدليّة حول المادة والفكر وجدليّتهما، دون أن يدافع عن النقود التي وجّهتها «فلسفتنا» لمفاهيم الماركسيّة في هذا المجال، مشيراً في بعض الأحيان إلى بعض تلك النقود، ليقفز عليها مسهباً في حديث أمجاد الفكر الماركسي.
ولا يسعنا هنا إلاّ أن نشير إلى نموذجين في هذا المجال:
1 ـ النموذج الأول:
ما أشار إليه الناقد في الصفحة[34]، حيث نقل جزءاً من نقد وجّهته «فلسفتنا» للماركسيّة، دون أن يقدّم شيئاً جديداً في معالجة هذا النقد، وإليك النصّ الكامل كما جاء في «فلسفتنا»:
«فماذا تعني الماركسيّة بتطوّر المفهوم الذهني أو الحقيقة ديالكتيكيّاً طبقاً لتطوّر الواقع؟
فإن كانت تعني بذلك أنّ نفس مفهومنا العلميّ عن (اليورانيوم) يتطوّر تطوّراً ديالكتيكيّاً وطبيعيّاً تبعاً لتطوّر (اليورانيوم) نفسه، فيشعّ أشعّته الخاصة، ويتحوّل في نهاية المطاف إلى رصاص، فهذا أقرب إلى حديث الظرف والفكاهة منه إلى الحديث الفلسفيّ المعقول.
وإن أرادت الماركسيّة أنّ الإنسان يجب أن لا ينظر إلى (اليورانيوم) كعنصر جامد لا يتحرّك، بل يتابع سيره وحركته ويكوّن مفهوماً عنه في كلّ مرحلة من مراحله، فليس في ذلك موضع نقاش ولا يعني حركةً ديالكتيكيّةً في الحقائق والمفاهيم، فإنّ كلّ مفهوم نكوّنه من مرحلة معيّنة من مراحل تطوّر (اليورانيوم) ثابتٌ ولا يتطوّر ديالكتيكيّاً إلى مفهوم آخر، وإنّما يضاف إليه مفهومٌ جديد، وفي نهاية المطاف نملك عدّة من المفاهيم والحقائق الثابتة يصوّر كلٌّ منها درجةً خاصة من الواقع الموضوعي. فأين الجدل والديالكتيك في الفكر؟ وأين ذلك المفهوم الذي يتطوّر طبيعيّاً تبعاً لتطوّر الواقع الخارجي؟!»[35]
2ـ النموذج الثاني:
ينقل السيّد «ماجد» نصّاً عن «فلسفتنا» ويعلّق عليه، وإليك النصّ والتعليق:
فالديالكتيك الذي يراد إجراؤه على الحقائق والمعارف البشريّة، ينطوي على تناقض فاضح وحكم صريح بإعدام نفسه في كلا الحالتين. فهو إذا اعتبر حقيقة مطلقة انتقضت قواعده… وإذا اعتبر حقيقة نسبيّة خاضعة للتطوّر والحركة بمقتضى تناقضاتها الداخليّة، فسوف تتغيّر هذه الحقيقة ويزول المنطق الديالكتيكي..»[36].
ويعلّق السيّد «ماجد» قائلاً:
«وليس في هذا أيّ شكّ! فالماركسيّة لا ترى في الماديّة الجدليّة قمّة أبديّة لكلّ ما سيتوصّل إليه الفكر الإنسانيّ، فهي أيضاً قابلة للتطوير والتغيير وحتى النقض في حالة اكتشاف نظريّة جديدة تفسّر الواقع الموضوعيّ بطريقة أعمق وأكثر شمولاً. وهذا هو أحد أسرار حيويّتها وانتصاراتها وتغلغلها في جميع حقول العلم، سواء أقرّ بها بعض العلماء أو لم يقرّوا…»[37].
في أيّ شيءٍ لا تشكّ يا سيّد «ماجد»؟
هل لا يتطرّق الشكّ إلى كون الماركسيّة تحكم على نفسها بالنفي؟ إذن فما فائدة ادّعائها أنّ قانونها الجدليّ قانونٌ مفتوحٌ وقابلٌ للتطوير؟
إنّ ادّعاء الماركسيّة بكونها ليست نظريّةً أبديّة، ونزوعها إلى التواضع العلميّ الذي يزعمه السيّد «ماجد» لا يعالج المشكلة التي واجهتها بها «فلسفتنا».
ثمّ ألم يكن من الانسجام مع سياق الفكر الماركسي أن لا ينفي السيّد «ماجد» كلّ شكّه في حقيقة كون الماركسيّة مدرسة منفتحة ما دامت حقائق الفكر بأسرها تستبطن التناقض الداخلي؟!
وبقي أن نشير أخيراً إلى قوله:
«وكما قادت النظريّات النسبيّة إلى نبذ إمكانيّة معرفة الواقع الموضوعيّ وإلى الشكّ المطلق، قادت «لِنِن» إلى شرح مفهوم الحقيقة النسبيّة والحقيقية المطلقة على أساس الماديّة الجدليّة. وأشار إلى أنّ الاعتراف بالواقع الموضوعيّ المستقلّ عن الذهن يقود بشكل أو بآخر إلى الاعتراف بوجود الحقيقة المطلقة التي هي ذاتها الواقع الموضوعيّ الذي يحاول الإنسان الوصول إليه واحتيازه. فالحقائق التي يتوصّل إليها الأفراد نسبيّةٌ، ولكنّ الذهن البشريّ بمجموعه وتعاقب أجياله لا نهاية لقدرته على التوصّل إلى مختلف جوانب الحقيقة الموضوعيّة»[38].
وهنا نودّ أن نلفت نظر السيّد «ماجد» إلى ما يلي:
1ـ من أين استطاع «لِنِنْ» أن يثبت للذهن البشري قدرة لا نهائيّة؟ فهل قام هذا الإثبات على أساسٍ تجريبي؟ وكيف تكون للذهن البشري بمجموع أجياله قدرةٌ لا نهائيّةٌ ما دامت نشاطات الذهن البشري ومجمل الأفكار والصور الذهنيّة خاضعةً لإشراطات الواقع المحدود كما تزعم الماركسيّة؟
2ـ نريد أن نعرف هل إنّ «لِنِنْ» كان مدركاً لوجود واقعٍ موضوعيٍّ أم لا؟
فإذا كان «لِنِنْ» مدركاً لوجود هذا الواقع، فهل كانت حقيقةُ إدراكه محكومةّ بقانون أنّ «الحقائق التي يتوصّل إليها الأفراد نسبيّة» أم لا؟ فإذا كانت محكومةً بنفس هذا القانون فهذا يعني أنّ «لِنِنْ» لم يكن على يقينٍ بموضوعيّة العالم الخارجي الذي تعامل معه ودافع عنه بوصفه داعيةَ لفلسفة واقعيّة، وبهذا ينهار الأساس الفلسفيُّ لواقعيّة الفلسفة الماركسيّة.
وإذا كانت غير محكومة بهذا القانون، فهذا يعني وجود حقائق يقينيّة ومطلقة أدركها «لِنِنْ» وبنى فلسفته الواقعيّة على أساسها!
وأخيراً نتمنّى للأخ «ماجد» مزيداً من التقدّم والنموّ على طريق الكشف عن الحقيقة.
[1] انظر المقال المذكور في هذا المجلّد تحت عنوان «إطلالة على مدرسة الشهيد الصدر! الفلسفيّة». (م)
[4] تاريخ الفلسفة الحديثة، يوسف كرم: 141.
[8] وقد قمنا بدراسة تفصيلية لمبادئ «بافلوف» في بحث شامل عن الإدراك البشري، نأمل أن يرى النور. اهـ. وقد صدر البحث المذكور عن مؤسّسة أمّ القرى تحت عنوان «الإدراك البشري». (م)
[9] نصّ «فلسفتنا» هو:«فبينما كان المذهب العقليّ يؤمن…» (فلسفتنا: 75). ونصّ الأستاذ «ماجد»: «وفي الحقيقة إنّ الكاتب..». (انظر هذا المجلّد: []). (م)
[11] الأسس المنطقيّة للاستقراء: 474.
[19] انظر هذا المجلّد: [37 ـ 38].
[20] انظر هذا المجلّد: [38 ـ 39].
[31] انظر هذا المجلّد: [48 ـ 49].
[33] بدءاً من نهاية الصفحة [9] حتّى خاتمة المقال.